الأمير شكيب أرسلان السياسي التوفيقي

الأمير شكيب أرسلان السياسي التوفيقي

نحو عام 1930 أقيم في باريس احتفال بشاعرية أمير الشعراء أحمد شوقي، فقال المفكر الفرنسي توسين: «إن الحرب العامة أثبتت فساد نظريات الغرب، وأوضحت أن المدنية المبنية على المادة وحدها قاصرة عن الوفاء بحاجة الإنسانية»، وأضاف: «إن أمراض المدنية الغربية الحادثة بدأت تسري إلى الشرق». فأجابه الأمير شكيب أرسلان: «لست متفقًا مع المسيو توسين في كل ما ذكره عن مدنية الغرب، فالشرق مديون للغرب بكثير من أسباب المدنية، لا سيما فيما يتعلق بالرفاه وتدبير المنزل ونظام الاجتماع وفنون الصناعة وجرّ الأثقال. كما أن الغرب مديون للشرق بمبادئ الإنسانية العليا، وبالإجمال المدنيات ثلاث؛ إحداها تكاد تكون روحية صرفة، وهي مدنية الصين والهند، والثانية تغلب عليها المادة الصرفة، وهي مدنية أوربا وأمريكا، والثالثة وسط بين الاثنتين، وهي المدنية الإسلامية، فالواجب أن يُستفاد من المدنيات الثلاث ليؤخذ من ذلك مجموع لا شك في أنه يكون في تحقيقه سعادة المجتمع البشري». يُفصح هذا الرأي عن نظرة الأمير المتوازنة وربما التوفيقية إلى المدنية الإسلامية، ويبدو أن هذه النظرة كانت في أساس مواقفه السياسية كما الفكرية، كما سنحاول أن نظهر في هذا المقال.

كان شكيب أرسلان (1869 - 1946) سليل أسرة درزيَة بارزة في جبل لبنان، وعُرف بأنه اعتنق الإسلام السنّي دون التخلي عن درزيته، لاعتباره أن الدرزية هي مذهب إسلامي، وأنَ بينها وبين المذهب السنّي الكثير من الأمور المشتركة، فقد كان الأمير شكيب يمارس فرائض الإسلام الرئيسية (كالصوم والصلاة والحج).
كان عمل أرسلان، قبل الحرب العالمية الأولى، يدور ضمن الإدارة العثمانية في جبل لبنان وسورية. ففي عام 1902 عُيَّن قائمقام لمنطقة الشوف في جبل لبنان لفترة قصيرة، ثم عيَّن مجددًا في المنصب ذاته في 1908 وشغله حتى 1910. وعلى العكس من صديقه اللاحق، الشيخ رشيد رضا، لم يكن أرسلان قبل عام 1908، حين أجبر ضباط «تركيا الفتاة» السلطان عبدالحميد الثاني على العودة إلى دستور عام 1876، لم يكن من نُقَّاد السلطان، لكنّه تحالف بعد انقلاب 1908 مع «جمعية الاتحاد والترقي» وانتُخِبَ نائبًا في بداية عام 1914 في «مجلس المبعوثان» العثماني (البرلمان) عن حوران، وهي منطقة سورية خارج جبل لبنان وذات أكثرية درزية.
وكان قبل بضعة أشهر قد انضم إلى حزب عربي شكّل في دمشق باسم «حزب الإصلاح الحقيقي»، الذي هدف إلى دعم الحكومة العثمانية «في صراعها مع الأخطار الخارجية دون إزعاجها بالخلافات الداخلية». والواقع أنَ الغاية من هذا التجمع كانت الوقوف في وجه حزب عربي آخر هو «حزب اللامركزية الإدارية العثماني»، الذي كان قد أُسس في القاهرة أوائل 1913، وكان الشيخ رشيد رضا كان أحد قادته الأوّلين. سعى ذلك الحزب لتحقيق الإصلاح عبر المطالبة بحصول الولايات العربية على حكم ذاتي وعلى اللامركزية، في حين بدت «جمعية الاتحاد والترقي» الحاكمة مصممة على المركزية الشديدة وعلى التتريك الإداري والتعليمي. من هنا يبدو أنّ أرسلان ورضا كانا آنذاك ينتميان إلى معسكرين سياسيين متناقضين.
  بعد انتخابه عضوًا في البرلمان العثماني، نشر أرسلان كتابًا «إلى العرب... بيان للأمة العربية عن حزب اللامركزية»، هاجم فيه كل ما دعا إليه «حزب اللامركزية الإدارية العثماني». 
وكان الكتاب ردًا على كتاب «وقائع المؤتمر العربي الأول... بيان إلى الأمة العربية من حزب اللامركزية الإدارية العثماني»، الذي انعقد في باريس عام 1913، وحرّره رئيس المؤتمر الشيخ عبدالحميد الزهراوي».

 جمعية الاتحاد والترقي
في رأي أرسلان ذاب الرابط القومي العربي، أو الرابط العرقي (العصبية الجنسية) في الرابط الديني الأوسع (العصبية الدينية) منذ أيام الإسلام الأولى، وكانت نتيجة هذا الرابط الديني المثالي أن استطاع المسلمون العرب الانتصار على الفرس والبيزنطيين. وكان رضا يقبل بهذا الموقف؛ لأنّ غاية فكره السياسي النهائية كانت قيام دولة إسلامية حقيقية، وكونه «يعارض جميع المحاولات الرامية إلى قيام دولة في العالم الإسلامي يكون أساس الترابط فيها غير الدين». لكنّ الرجلين اختلفا على كيفية تحقيق هذا الهدف، ذلك أن رضا أعطى الأولوية للغة والحضارة العربيتين وللدفاع عن سورية في وجه خُطط فرنسة المعروفة آنذاك، الرامية إلى استعمارها. وعندما أصرت «جمعية الاتحاد والترقي» القومية التركية الحاكمة على اتّباع سياسات التتريك تغلّب على تردده السابق، وذهب إلى حد التحالف مع «دولة أوربية مسيحية (بريطانيا) للدفاع عن سورية، لا في وجه التتريك فحسب، بل في وجه «دولة أوربية مسيحية (فرنسا) أخرى» للدفاع عن الحضارة العربية.
 ومنذ فترة مبكرة تعود إلى عام 1900 أخذ يبدي آراء كقوله:
«إن الشغف بتاريخ العرب والسعي لإحياء مجدهم يساويان العمل من أجل وحدة الإسلام التي تحققت في الماضي فقط عبر العرب، والتي لن تستعاد في هذا القرن إلا بواسطتهم».
لم يكن الخلاف حادًا بين دعاة اللغة التركية وبين أولئك المنادين باللغة العربية قبل بروز القوميتين التركية والعربية في الإمبراطورية العثمانية، نظرًا لاعتبار الأولى لغة الدولة، والثانية لغة الدين والشريعة. ولم تكن ميول أرسلان بالطبع إلى جانب التتريك، ومع ذلك اختار التغاضي في تلك الحقبة على الأقل، عن دور اللغة العربية في الدولة العثمانية. أمّا فيما يتعلق بالاستعمار الأوربي اللائح لغزو المزيد من الولايات العربية العثمانية، وخصوصًا سورية، فقد كان الخلاف بين رشيد رضا وشكيب أرسلان تكتيكيًا، ذلك أنّ الأخير أولى أهمية قصوى للدفاع عن قلب القوة السياسية العسكرية الإسلامية - أي الدولة العثمانية، وشدد على «أخطار الانقسام، وعلى أهمية الدولة باعتبارها ملجأً واقيًا للعرب». أما رضا فكان يشعر بأن الملجأ العثماني الواقي فقد مكانته، خصوصًا بعد فشل إستانبول في إنقاذ طرابلس الغرب من الاحتلال الإيطالي في 1911.

دولة مقدسة
في مجابهة بين أرسلان وعبدالحميد الزهراوي، أحد زعماء حزب اللامركزية العثماني المذكور آنفًا، الذي تألف في مصر قبيل الحرب العالمية الأولى، دافع أرسلان عن الدولة العثمانية، ودعا كل عربي إلى الوقوف بجانبها في حال نشوب حرب. وكان جواب الزهراوي: «وأين هي الدولة (العثمانية)؟ لقد انتهت».
 ففي هذا السياق السياسي، كانت الإمبراطورية العثمانية قد زالت، أو تكاد، بعد سلسلة من الهزائم بين عامي 1911 و1913 في طرابلس الغرب والبلقان. فاتّكال العرب على أنفسهم وتخلّي العثمانيين عن المركزية هما السياستان الأشد إلحاحًا. وكان رضا يوافق أرسلان الذي رأى في أزمة الانحدار العثماني مجابهة بين الإسلام والمسيحية. ذلك أنه اعتبر أي نصر لأوربا «المسيحية» هزيمة للإسلام، حتّى إلى حد اعتبار مفهوم القومية العرقية سلاحًا في ذلك الصراع، إذ قال:
«بعد محاربة أوربا الدولة العليّة بجميع أصناف الحروب تأتي لكي تحاربه بحرب جديدة تذكي الرابط القومي (الجامع العرقي) في الشعوب الإسلامية. أنها تفعل ذلك لكي تتلاشى الروابط الإسلامية، فلا يبقى مجال للألفة بين المسلم الصيني والهندي، والتركي والعربي».
 كان اندفاع أرسلان في الدفاع عن الدولة العثمانية قد حمله على وصفها بأنها «أقدم سلالة دافعت عن الإسلام طوال حقبة امتدّت طوال ستمئة عام، تقاتل دول أوربا المسيحية على جبهة، والدولة الصفوية الفارسية، على جبهة أخرى»، وأصرّ على وجوب اعتبار الدولة العثمانية مقدسة عند العرب، إذ إنها رفعت شأن الدين الذي كانوا هم الأوّلين في إهدائه للعالم. فبرأيه: «أن أصل الدولة عربي، وقوتها قوة للعرب، ولأولئك الذين صار دين العرب دينهم». بل إنه أشار إلى أكثر من ذلك، وهو أن «الأتراك هم تلامذة العرب في الإسلام». كما انطوى إصرار أرسلان على مكافحة النفوذ الغربي على عناصر من دعوة جمال الدين الأفغاني إلى الإسلامية الشاملة، إنما بملامح عثمانية.

ما بعد الحرب العالمية الأولى 
أحدثت الحرب العالمية الأولى تغيّرات سياسية مهمة في المنطقة، إذ باتت بريطانيا وفرنسا الدولتان الحاكمتان في المشرق العربي، بموجب ما سُمي بنظام الانتداب الفرنسي الذي فُرض على لبنان وسورية، والانتداب البريطاني الذي فُرض على فلسطين والعراق. جعل الوضع الجديد رضا وأرسلان ينسيان خلافهما القديم ويشبّكان الأيدي في مقاومة الدول الأوربية. كان «العربيون» في المراحل الأولى من الحرب مستعدين للتعاون مع بريطانيا، إن هي ساعدت العرب على تحقيق الاستقلال، لكنّهما استنتجا أن لندن ليست جادة في الوفاء بوعدها. وفي عام 1921 كان رضا وأرسلان على رأس المؤتمر السوري - الفلسطيني الذي عُقد في جنيف (سويسرا). وقد سعى المؤتمر إلى تنسيق أنشطة الوطنيين السوريين والفلسطينيين، وطالب بالوحدة السورية وبالاستقلال.
 انتُخب رضا نائبًا لرئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر، وكان عضوًا بارزًا في وفد المؤتمر إلى عصبة الأمم، كما انتمى كلاهما إلى الفئة التي كانت تشدد على السمة الإسلامية للقومية العربية التي يؤمنان بها. وبعد انهيار الدولة العثمانية استمرّ أرسلان ورضا في رؤية وجود أرضية مشتركة بين تركيا والأقاليم العربية. فالجهتان مسلمتان، وكلتاهما تكافح لحماية أراضيهما من المخططات الأوربية. أما في عام 1924 فقد زال من مخيلتهما أي أمل بإمكان قيام تقارب عربي - تركي يوم ألغت تركيا منصب الخلافة، ثمّ أَسقطت في 1928 المادة القائلة بأن «الإسلام دين الجمهورية التركية»، وتبنت أيضًا الحروف اللاتينية بدلًا من العربية.
وقد ألمح أحد الأكاديميين إلى أنّ الرجلين «اكتشفا وجود تقارب فكري عميق بينهما». وفيما يعتبر هذا القول صحيحًا على وجه العموم، لا بدّ من الإشارة إلى أن أرسلان - خلافًا لرضا - ابتعد عن الخوض في التعاليم والشرع الإسلاميين، حتّى أنه عند مواجهته بعض المسائل السياسية ذات الصلة بالمسائل الدينية جاءت آراؤه غير متماسكة، كما لم تكن دومًا متناسقة مع آراء رضا.

نظرية كلاسيكية
في عام 1922، نشر رضا كتابه «الخلافة أو الإمامة العظمى». وفيه هاجم نظرية ابن خلدون (1332 - 1406) المشهورة عن أن العصبية الطبيعية (رابط الدم) أساس لكل دولة، وفي رأيه أن تاريخ صدر الإسلام يبين أن تلك العصبية تابعة لدين الإسلام.
وإضافة إلى ذلك، ومع قبوله بأن الخلافة العثمانية «خلافة ضرورة» القائمة على «الشوكة»، أصرّ رضا على النظرية الإسلامية الكلاسيكية بأن إحدى ميزات الخليفة المثالي أن يكون من قريش. وكان أساس هذا الشرط يعود إلى حديث بأن «الإمامة في قريش». 
وفي عام 1936، أي بُعيد سنة واحدة على وفاة رضا، نشر أرسلان طبعة جديدة من مقدمة ابن خلدون، أعرب فيها عن إعجابه بمؤلفها، وأيد في أحد الهوامش موقف ابن خلدون الذي اعتبر «الشوكة» علّة اعتبار قريش من شروط الخلافة في الإسلام الأول. 
في الواقع، وبينما كان رضا في الشطر الأخير من حياته عضوًا بارزًا في حركة السلفية الحديثة منهمكًا بـ «عروبة الإسلام»، كان أرسلان يفكر بـ «أسلمة القوميين» العرب والأتراك والفرس. وليست هاتان المقاربتان على حصرية متبادلة، أو متناقضة لدى الرجلين؛ فقد كانا منهمكين بتأطير الهويتين الإسلامية والعربية، ولكن هناك فجوة بين المقاربتين.
 لقد انفرد رضا بالتوفيق بين الإطارين لأنه - وفق قول ألبرت حوراني - آمنَ بأنه «نظرًا لموقع العرب الخاص في الأمة يمكن التوفيق بين القومية العربية وبين الوحدة الإسلامية على نحو يستحيل على الآخرين - بل والأكثر من ذلك، (آمن) بأن إعادة إحياء الأمة تحتاج إلى إعادة إحياء العرب». أما أرسلان فبدا أنه أبقى، إلى حدّ ما، الإطارين الإسلامي والعربي/ الإسلامي منفصلين، واستعملهما الواحد محلّ الآخر.
يوضح العرض السابق لماذا قيّم بعض الدارسين مساعي أرسلان تقييمًا متباينًا وشبه متناقض. اعتبر مجيد خدوري أولوية المطالبة بالوحدة الإسلامية في عمل أرسلان هي أوضح من المطالبة بأولوية الوحدة العربية في عمل رضا. من جهته، رأى إيلي كيدوري أن أرسلان يحاول أن يبرهن «أنَ الإسلام هو بالضرورة أساس القومية العربية».

إطار ثالث
أما حازم زكي نسيبه، «فقد اعتبر أنَ آراء أرسلان تقع في مكان ما بين أفكار الأفغاني الشاملة وبين رؤية عبدالرحمن الكواكبي لنهضة إسلامية قوامها العرق العربي». والواقع أنّ الباحثين نظروا إلى أوجه مختلفة من الأوجه المتعددة لعمل أرسلان.
أما الأكثر جدارة بالاهتمام، فهو أن أرسلان رضي بإطار ثالث للهوية، أي «القومية العلمانية»:
«بعض الناس يقول: لماذا العودة إلى القرآن الكريم في دعوة المسلمين في تكريس أنفسهم للعلم، النهضة يجب ألّا تكون دينية التوجه، بل قومية التوجه مثلما كانت الحال في أوربا». فنجيب بأن الغاية يجب أن يكون هناك نهضة بصرف النظر عمّا إذا كانت قومية أم دينية، بشرط أن تقود إلى الإخلاص في تحصيل العلم.
ومع ذلك تستلهم «قوميّته العلمانية» المنحنى الذي لا يُبعد الدين عن الحياة الاجتماعية، ويضيف موضحًا:
لكنّنا نخشى أن يؤدي تخلّي النهضة عن تعاليم القرآن الكريم إلى الإلحاد، والفسق، والشهوانية، وهي شرور تطغى على المكاسب المنتظرة. لذلك يجب أن يكون الإرشاد الديني جنبًا إلى جنب مع التعليم العلماني.
هل يظن الناس في الشرق بأن النهضة في أوربا حصلت من دون إرشاد ديني؟ وهل حصلت نهضة اليابان من دون إرشاد ديني؟ إضافة إلى ذلك، عندما يتكلم الأوربيون عن النهضات القومية، فإنهم لا يعنون بالقومية الأرض والمياه والأشجار، ولا بالأمة عرقًا متحدرًا من سلالة دموية مشتركة، فالأمة والوطن عند الأوربيين مفهومان يحتويان على مجموع الجغرافيا والتاريخ والحضارة والدين والأخلاق والتقاليد، كلها في آنٍ معًا.

أطر متعددة
لا شك في أن استخدام أرسلان لأطر متعددة، واحدًا محلّ الآخر، في عرضه لأفكاره السياسية ظاهر حتّى ضمن تأطيره للوحدة العربية. ومع أنه أقام في جنيف بين الحربين، أصدر وصديقه إحسان الجابري دورية «لانسيون آراب» (الأمة العربية) باللغة الفرنسية. وبكونه كاتبًا غزير الإنتاج باللغة العربية أعرب عن آرائه في عدة صحف ومجلات ودوريات كانّ أهمها «المنار»، التي ظل يصدرها رشيد رضا في القاهرة حتى 1935. 
إضافة إلى ذلك، حرّر وترجم عددًا من الكتب في تاريخ العرب، وذهب في عام 1924 إلى حد استعمال كلمة «الشعوبية» (الكُره العرقي للعرب) في الرد على أدباء مثل طه حسين وسلامة موسى درجوا على التقليل من إسهام العرب في الحضارة. عُرف أرسلان أيضًا بصلته بمنظمات متنوعة تنادي بالوحدة العربية. وهنا أيضًا لم يخرج أو يلتزم بمبدأ أساسي متساوق. وبالتالي، فقد نادى حسبما أشار أحمد الشرباصي، أولًا إلى «اتحاد عربي»، وثانيًا إلى «تحالف عربي»، وثالثًا إلى «جامعة عربية»، ورابعًا إلى «وحدة عربية».
قد يتوه المرء في تبديل استعمال أرسلان لأُطر الهوية، لكن، في نهاية المطاف، يبقى أنه كان في ذهن أرسلان منحنى متساوق؛ الالتزام الصلب لناشط سياسي حاول عمومًا الجمع بين نظريات متنوعة بغية تحقيق غاية واحدة: طرد القوى الأوربية من مواقع السيطرة على بلدان العرب والمسلمين. 
ويمكن في هذا السياق الربط بين أرسلان وبين مناداة الأفغاني بالإسلام الشامل، أو على نحو أكثر دقة، بتوجيه الأفغاني الرامي إلى «الوحدة الإسلامية» المناهضة للاستعمار. ومن الدلالة بمكان أنه عندما ركّز رضا على التعاليم الإسلامية لمذهب معيّن في نقده لما كان يقول به مجتهدو مذهب آخر، بعث أرسلان إليه برسالة طلب إليه فيها ألّا يبالغ في ذلك، آملًا، فيما يبدو، الحفاظ على التضامن الإسلامي. 
وفي مثال مشابه، عندما بدأت تظهر في 1922 آراء بأن رضا يقول بوجوب تمتّع الخليفة بجميع الشروط النظرية الشرعية الإسلامية، بعث إليه أرسلان كتابًا شدد فيه على الضرورات العملية المخالفة. 
أما المثقف المغربي البارز عبدالله كنون (1908 - 1989) فيذكر أنه عندما زار أرسلان طنجة في عشرينيات القرن الماضي، نصح زعماء الحركة الوطنية المغربية بالتوقف عن حملتهم ضد الطرق الصوفية قائلًا: «إن هذا غير مفيد. أنتم تركتم العدو واشتغلتم بعضكم ببعض، خلق بينكم عداء، والطرقيون كلهم ضدكم، والاستعمار يحرضّهم عليكم، والآن عليكم أن توقفوا نهائيًا الحملة على الزوايا والطرقيين وتهتموا بالعدو الحقيقي».

توافق أيديولوجي 
تمحور طرح أرسلان الرئيسيَ، خلال مرحلتي حياته، حول إنقاذ المسلمين والعرب من السيطرة الغربية. ولئن كان هدفه واضح المعالم، فإنّه لم يتبع استراتيجية متساوقة. فقد كان يتصوّر أنّ القومية العربية نقيض العقيدة الإسلامية إذا تعرّضت مفاهيمها للإمبراطورية العثمانية وجعلتها قابلة للتفكك.  من ناحية أخرى، فانه تصرّف بعد ذلك بطريقة تهدف إلى إقامة «توافق أيديولوجي» بين المفهومين، مما كان يعني استنفار القوى العروبية والإسلامية معًا ضد الاستعمار الغربي.
بكلمة أخرى، بينما أجازت موالاته للإمبراطورية العثمانية طريقًا واحدًا للتحرك، أجازت معارضته لبريطانيا وفرنسا، بعد الحرب الأولى استعمال عدة طرق في آن معًا. 
ومع أن الأمير شكيب شدّد على ضرورة التمسك بأهداب الدين وقيمه في كتابه المشهور «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟»، الذي كتبه في عام 1930، واعتبر أن الابتعاد عن الإسلام هو في أساس تخلّف المسلمين، فإنه قدم بعد ذلك تفسيرًا لا ديني ولا ثقافي عام 1937 لتلك الظاهرة عندما حاول الإجابة عن سؤال «لماذا تأخر الشرق الأدنى عن الأقصى؟»، وكان جوابه سياسيًا وجغرافيًا أكثر من أي شيء آخر، إذ قال:
«إن كان الشرق الأدنى قد تأخّر عن الأقصى في درجة الرقي العصري، فلم يكن ذلك كما يتوهم بعضهم من جمود الأمم الشرقية العربية وتفوّق اليابانيين عليهم في حُب العلم ونشدان وسائل القوة، وإنما كان الموقع الجغرافي للبلاد العربية قد عرّضها لهجوم الأجانب وغاراتهم المتوالية لما لم يتعرّض له اليابانيون بسبب تقاصي ديارهم وبُعد مزارهم، حيث خلا لهم الجو، وتمكنوا من أن يتعلموا ويتهذّبوا آمنين على حوزتهم، وهذا فرق طالما غفل عنه الناس ولم يتفطنوا لخطورته، فحملوا بسبب غفلتهم عنه على الشريعة الإسلامية، وجعلوها ظلمًا وعدوانًا هي المسؤولة عن هذا التأخر، والمسؤول الحقيقي في الواقع هو الاعتداء الأجنبي المتواصل الذي يتيسّر في الشرق الأدنى ما لا يتيسر في الشرق الأقصى» ■

الأمير شكيب أرسلان الجالس من اليسار مشاركاً في المؤتمر السوري الفلسطيني في جنيف 1921