غوستاف بورنفايند «بوابة الجامع الأموي الكبير في دمشق»
أحيانًا، يلعب سوق الفن دورًا مهمًا في الإضاءة على فنانين طواهم النسيان، فتستعيد أعمالهم ألقها، وتستعيد أسماؤهم لمعانها الذي فقدته بفعل تبدّل الظروف التاريخية. وهذا ما ينطبق بشكل واضح على واحد من ألمع الفنانين المستشرقين الألمان في القرن التاسع عشر: غوستاف بورنفايند.
لم يكن في نشأة بورنفايند ما يشير إلى أنه سيصبح رسامًا، فقد ولد في عام 1848م، ودرس الهندسة المعمارية في شتوتغارت، وعمل فترة بمكتب هندسة، ثم انتقل إلى مكتب هندسة آخر كان صاحبه أدولف غناوث مهندسًا ورسامًا من المستوى المتوسط، وهنا فقط، بدأ بورنفايند بتعلّم الرسم. وصقل موهبته لاحقًا خلال رحلة قصيرة إلى إيطاليا.
تعود الشرارة الأولى في اهتمام هذا الرسام بالشرق إلى دافع مالي، وهو ارتفاع أثمان لوحات المستشرقين في تلك الفترة بأوربا. ولما طلب رأي شقيقته المقيمة مع زوجها في بيروت، كتبت إليه تقول: «إن سورية ليست إيطاليا... ورغم ذلك، يمكن للفنان أن يجد مادة مهمة للدراسة هنا، ولن يندم على رحلته. إن بيروت لا تقدّم إلا القليل، على عكس الريف الجبلي الذي لا تنقصه الأطلال والقصور. ودمشق أيضًا مهمة في كل الأحوال... إنها مدينة لم يذُب طابعها الشرقي في الحضارة الغربية بعد».
قام بورنفايند بثلاث رحلات إلى الشرق، كانت أولاها في عام 1880م، ثم 1882م، وأخيرًا في عام 1896م حين استقر مع أسرته في القدس حتى وفاته عام 1904م. وجاب خلال هذه الرحلات أرجاء فلسطين ولبنان وسورية كافة، مع التوقف طويلًا في دمشق. وكان يرسم أعدادًا كبيرة من الرسوم التحضيرية والمائية، التي يعيد رسمها بالزيت لاحقًا في ألمانيا أو القدس. وحظيت أعماله بشهرة خرجت من ألمانيا لتكتسح أوربا بأسرها. ولكن...
مع نهاية تيار الاستشراق في الفن عند بدايات القرن العشرين، بدا وكأن ستارًا من النسيان أسدل على هذا الفنان، إلى أن عاد الاهتمام به من بوابة سوق الفن في ثمانينيات القرن العشرين، حين راحت أثمان لوحاته تتضاعف عشرات ومئات المرات خلال عقد واحد من الزمن. ومنها اللوحة التي نحن بصددها، والتي بيعت في دار المزاد العلني «كريستيز» بمبلغ 2.5 مليون جنيه إسترليني عام 2008م.
أنجز بورنفايند الرسوم التحضيرية لهذه اللوحة خلال رحلته الثانية إلى دمشق في عام 1882م، لكنّه لم يرسم اللوحة إلا بعد عودته إلى شتوتغارت. وأول ما يلفتنا فيها هو هذا الحشد من التفاصيل الصغيرة الأمينة للواقع في معمار مدخل الجامع إلى حد يقارب دقة التصوير الفوتوغرافي، علمًا بأن المشهد مركّب، إذ كان الرسام يدفع مالًا لأناس يأتي بهم من السوق ليجلسوا هنا أو هناك في المشهد.
وفي التركيب العام، وزّع الرسام لوحته على ثلاثة أقسام رئيسة: البوابة الخشبية المكسوة بالمعدن إلى اليمين، ثم المدخل الحجري في الثلث الأوسط، وأخيرًا بناء الجامع كما يبدو من البوابة في أقصى اليسار. ولأنّه لم يكن يستطيع الجلوس في منتصف المدخل (كي لا يعترض سبيل المصلين على الأرجح)، نراه وقد اختار لنفسه موقعه جانبيًا، يسمح له برؤية واجهة البناء المثلثة التي تعلوها القبة تحت القنطرة اليسرى.
ومن أقوى عناصر اللوحة التي لا يمكن أن تظهر إلا على يد شخص متمكن من رسم المعمار، بقعة ضوء الشمس القوية التي تنير جزءًا من المدخل، فهي بيضاوية الشكل، لأنها متسللة من تحت قوس القنطرة الدائرية، ويخترقها ظل العارضة الخشبية الأفقية، الأمر الذي يضفي المزيد من الحركة على هذا المشهد الساكن نسبيًا، كما زاد من التحديات أمام الفنان في رسم المواد نفسها في الظل وتحت ضوء الشمس الشرقية الساطع ■