داخل عقل الأب

داخل عقل الأب

هل أصابكَ الخَرَف يومًا ما؟ بحيث ترى ابنتك الكبرى فلا تتذكرها، وتظنّها ممرضة! تموت ابنتك الصغرى الحبيبة، فتعيش داخل عقلك كأنها حيَّة، تنتظر بشوق أن تتَّصل بك، وتزورك، تخلق لنفسك شخصياتك الخاصة التي تريد أن تتعامل معها وتحيا بها وفْق ما تريده روحك، أن تجعل ممرضتك ابنتك، وابنتك ممرضتك، أن تتحوَّل لراقص وقد كنت مهندسًا من قبل، فقط تغيّر مهنتك في لحظة، لأنّك ترغب بذلك في أعماقك الدفينة.

ستعيش لحظات خَرَف الآخر حين تدخل ذهن الأب أنتوني العجوز الذي أصابه التدهور العقلي، ستصل إلى تلافيف دماغه، وتدرك ما يحدث فيها، ستتابع عقل العجوز المُخَرِّف من داخله حين تتعايش مع فيلم The Father (الأب)، الذي نجح صُنَّاعه في جعلنا نرى إنسانًا من داخل ذهنه، هنا كانت ميزة الفيلم الرئيسة الفاخرة، أن نتعايش في عمق جمجمة مريض أصابه الخَرَف. الفيلم بطولة الممثل العملاق أنتوني هوبكنز، وقد شارك في كتابته وأخرجه فلوريان زيلر. 

البداية من الداخل
في البدء نسير وراء الموسيقى، نرغب أن نعرف من أين تنبعث هذه المقطوعة التي تقود الممثلة أوليفيا كولمان، التي قامت بدور آن ببراعة، كأنَّ الموسيقى تدفع آن للحركة نحو هدف لا يعلمه غيرها، تسير بجديَّة تتناسب مع طبيعة الموسيقى والمكان المحيط؛ فكلّ ما حولها منظّم وحادّ، المبنى مُنَسَّق لدرجة الاستقامة، الخطوط الطولية للدهانات تتناسب مع الموسيقى ومع حركة آن التي تكاد تجري لتلحق أمرًا مهمًا. الموسيقى هي قائدنا للحدث، هي المحرِّك الأول في الفيلم، تقودنا لفعل قوي لا نعرفه، وتشوِّقُنا لأن ندرك كُنْهه. حين تدخل آن لغرفة والدها الأب أنتوني يخلع سماعات الأذن، فتنفصل الموسيقى عن عالمنا، ونكتشف أننا طوال السير مع الموسيقى كنّا داخل عقل الأب الذي يستمع للموسيقى.
 نجحت البداية ببراعة في تحديد وِجْهة الفيلم؛ فنحن داخل عقل هذا الرجل، ربما يريد الفيلم بهذه المقدمة الغرائبية من تتبُّع موسيقى داخل رأس رجل أن يقول منذ البداية إن الأحداث التي سنشاهدها نابعة من رأس الأب أنتوني الذي سنتتبَّع لحظات من الخَرَف الذي أصاب عقله. هذه بداية تشي بأن عنوان الفيلم «الأب» هو المبتغى، وأن ما داخل رأسه هو ما يشدنا نحو متابعة ما يحدث في الفيلم.
الحوار في الفيلم في غاية الرهافة، يساعدنا للدخول إلى عقلية أنتوني أكثر، فلم يكن الحوار كاشفًا أو معترضًا على ما يدور في عقلية الأب إلا في أحيان بسيطة، وكانت معظم الاعتراضات على تصرّفات الأب واضحة في وجوه الممثلين حوله، كان الاستغراب باديًا على الملامح، وكان التمثيل المحيط بالأب مكملًا لصورة التشوُّش الحادث داخل عقله، حتى أن المشاهد يظن في أحيان كثيرة أن هذه مؤامرة على الأب من الابنة، كما يتصوَّر عقل الأب الذي نحن داخله، وبالتالي نُصَدِّق ما يراه، فنحن هو، نرى ما يراه، ونعتقد ما يعتقد، وإن كانت لنا عين ثالثة ترى الأمور من أعلى حين ندرك ضعف هذا الأب وخَرَفه.

أين ساعتي؟
«لديّ ساعتان دائمًا، واحدة في يدي، والأخرى في رأسي»، هكذا قال الأب أنتوني جملة الفيلم الفارقة، والتي كشفت هوسه بالساعات، وبالزمن، بدا مهتمًا بشكل غير عادي بالزمن، الوقت، الساعة، يسأل دائمًا عن ساعته أين ذهبت وأين اختفت، وحين ظنَّ أن الممرضة قد سرقت ساعته، كان الفيلم يشير إلى أن أحدًا ما سرَق منه الزمن، سرق وقته الذي يعيش فيه، زمنه الخاص، فمجرد وجود من يساعده يجعله يشعر أنه مسروق الوقت والعمر، وضائع، فلديه هاجس خطير بانسحاب وسرقة الزمن من يده، وكأنه داخل أعماقه يدرك أن الخَرَف سرق منه الحياة، الزمن، وأنه لم يعد يسيطر على الزمن طالما كان لا يرتدي ساعته.
الأب أنتوني يعيش في زمن خاص به هو وحده، زمن صنعه بنفسه، يرتبط ارتباطًا ملتحمًا بالساعة؛ حتى أنه حين سأل زوج ابنته عن ساعته التي يرتديها، هل اشتراها أم أنه حصل عليها هدية؟ كان هذا مؤشرًا آخر لرؤيته للزمن، لأهمية أن يكون الزمن زمنك أنت، اشتريت الساعة فالزمن زمنك، أُهْدِيَت إليك الساعة، فالزمن ليس زمنك، لم يكن واثقًا بأن زوج ابنته اشترى الساعة، فسأله عن الفاتورة الخاصة بها، ومن هنا جاء سؤال زوج الابنة الكبرى المهم: «لماذا تهتم بساعتي؟»، فهو فعلًا لديه شغف بالساعات التي تحدد كل خطوة في مسيرة يومه؛ فله موعد للقراءة، وموعد للعشاء.

تقنية مميزة
 تَجَلَّى الزمن في عصب الفيلم حين رأينا الأب يقوم بنكران جزء من زمن حياته؛ فقد نفى قطعة زمنية داخل روحه حين ماتت ابنته لوسي؛ فهو طوال الفيلم يتحدَّث عنها كأنها موجودة وحيَّة في حياته بالفعل، وأنه ينتظر منها أن تتَّصل به، وينتظر زيارتها، ويعاتبها - وهي الميتة - على إهمالها له، ظهرت لوسي واضحة جليَّة في ذهنه حين قارن بين آن وبين لوسي فقال لآن: «إن لوسي مختلفة عنك»، ثم أردف: «أين هي؟ هل كنت على اتصال معها؟» هو يرى الميتة حية.
استخدمت الكاميرا تقنية مميزة في التنقل عبر مرور الزمن والأحداث في الفيلم، فالكاميرا تتجوَّل في الشقة الصامتة، في مساحة المكان الذي يحدث فيه الفيلم؛ تُطْلِعُنَا على الأشياء، فنعرف أن حدثًا جديدًا سيحدث، وأن زمنًا قد مرَّ على العجوز المُخَرِّف، كان تجوُّل الكاميرا عبر المكان في الداخل هو الفاصل بين فصول الرواية والقَطع الناعم لما يحدث.
ومن الممتع في الفيلم أننا لم نخرج إلا نادرًا من الوجود في الشقة عبر نظر الأب من النافذة، فدارت أحداث الفيلم داخل مساحة ضيقة، ومع ذلك لم نشعر بالملل، كنّا داخل عقل الأب وكنّا نرى العالم الذي يعيش فيه، الشقة، فلم نرَ العالم الخارجي، لم نرَ الدنيا في الخارج، لقد نجح صُنَّاع الفيلم في وضعنا داخل جمجمة الأب طوال الفيلم، ولم يسمحوا لمناظر شاسعة بأن تشوِّش علينا. 

بين الوعي والخَرَف
يتأرجَح الأب أنتوني في الفيلم بين الوعي الكامل والخَرَف الكامل؛ مما يصيب المتعايش معه بحِيرة، هل هو عاقل، أم مُخَرِّف؟ أما من يدخل عقله فسيعرف أنه ينحدر نحو الخَرَف، فحين ذهبت به ابنته آن للطبيبة كان الموقف في غاية التوتر والتأزُّم منذ دقَّت آن الجرس، فقال الأب: «هل فقدتِ مفاتيحك يا آن؟» كان يظن أنها أمام باب بيتها، وأنها فَقَدَتْ مفاتيحها، هذا الموقف، في هذا المشهد كان الأب واعيًا بشدَّة، يذكر للطبيبة التواريخ والأحداث بدقَّة، وأخبر ابنته أمام الطبيبة هل هي في حاجة إلى طبيب زهايمر؟ هل أراد أن يردّ لها الصاع صاعين، وأن يجعلها محلّ شك، وأنه هو الواعي القادر بشدَّة على إدراك الأمور؟ قال بكل بساطة، دون تصريح إنه الأب، وإنه ما كان ينبغي أن تتم معاملته بهذه الطريقة التي تستهين بمشاعره وبعقله كرجل؛ فهو الكبير، كيف له أن يجلس على المقعد في انتظار ابنته وهي تتحدث للطبيب عنه كأنه ابنها الصغير؟
في لحظات الخَرَف كان قد اخترع في عقله صورة أخرى لابنته، فتصوَّر الممرضة ابنته، كان يلفظ ابنته من ذهنه، وكان يشك فيما يحدث هل هو حقيقة أم خديعة كبرى يمارسها من حوله من أجل الشقة الكبيرة التي كان هو حريصًا على التمسك بها، كان مشتَّت الروح والعقل، وقال: «هل تقومون متعمدين بصنع نكتة؟» كان الأب حائرًا، وكنّا كمشاهدين داخل عقله في حيرة معه، نريد أن نعرف ما يحدث حقيقة، هذه الأشياء «سوف تدفعني للجنون» هل هذا اعتراض ضمني على أعراض الخَرَف، حتى أنه وضعنا في ذهنه لندرك حيرته، هل هو في شقته أم في بيت ابنته؟ كان كل ما نراه داخل عقله مصاباً بالتشويش والخَرَف والحيرة التي جعلتنا في النهاية نتعاطف مع هذا الأب المصاب بالخَرَف، وندرك حقيقة الحيرة التي يعانيها مصاب الخَرَف، والتي نراها ويراها من يتعاملون معه من الخارج على أنه جنون.

اكتفاء ذاتي
تتردَّد دائمًا كلمات الأب واضحة وصريحة تكشف وعيه، ترفض كلماته تدخُّل الآخر في حياته: «تساعدني بماذا؟ لا أحتاج إليها، لا أحتاج لأحد»، فهو يشعر أنه مكتف بذاته، وأنه يمكنه أن يعيش بمفرده، إنه يقاوم من الداخل، يرفض أن يكون في وضع ضعف إنساني يطلب المساعدة. وقال عن الممرضة التي أرادت ابنته أن تحضرها له: «لست بحاجة إليها على الإطلاق، يمكنني تدبير كل شيء بنفسي».
بدا في كامل الوعي عندما أرادت الممرضة أن تعطيه الدواء الأزرق، وظهر أمامنا أنها تلاطفه كطفل حتى يأخذ ذلك الدواء، فظهر العقل الكامل من داخله، وقال: «هل أنت مربية؟ لماذا تتحدثين معي كما لو كنت متخلفًا عقليًا؟» وقلَّدها وهي تحاول أن تعطيه الدواء بسذاجة، حتى أصابها الخجل واعتذرت.
عقله الواعي المشتَّت كان يظهر عبر جُمَل حوارية غاية في الحساسية، ظاهرة من ذهنه الذي لا يستوعب ما يحدث، قال: «لكنني لا أفهم شيئًا على الإطلاق»، ظهر ضعفه البشري حين أخبرته ابنته آن أنها ستتركه، قال: «وماذا سيحدث لي؟».
- «ستعيش هنا في لندن».
- «وحدي؟ وأختك أين هي؟ أنا أفتقدها كثيرًا».
 كانت الكاميرا تتجوَّل في الممرات تشعرنا أننا في بيت رعاية للمسنين، وأنه طول الأحداث كان يرى المكان من وجهة نظره ومن داخل عقله.
كان عقله يرفض من الداخل كل ما يحدث، وكنا نحن نرى عقله ونحن في حيرة غريبة، أين هو؟ هل في بيته أم في المأوى، أم في بيت ابنته؟ كانت الحيرة تجعلنا في حالة غريبة داخل عقل الأب أنتوني. حين قال للممرضة إنه كان يعمل راقصًا أخرج الأمنية التي كانت في قلبه، وراح يرقص، حتى ظننا أنه كان بالفعل راقصًا، أمنية داخل ذهنه حقَّقها عقله الباطن بكلمة. 

الفَقْد... منحدر الروح
ربما يكون أساس تدهور حالة الأب أنتوني أن لوسي، ابنته الصغرى، حدث لها حادثة فماتت؛ ففي أعماقه شيء يرفض نسيانها، ربما توقفت ذاكرته عند حدّ معيّن من علاقته بها، ورفض عقله الباطن أن يعلن أنها ماتت.
بدت عقدة الفيلم وفيصل حياة العجوز الخَرِف هي ابنته الميتة، التي يرفض في داخله أن تتركه هذه الفتاة الفنانة، يقول عنها: «إنها رائعة، سأكون سعيدًا إذا جاءت لزيارتنا يومًا مًا» يريد أن يسير معها يده بيدها، وأن يسمع التسمية التي أطلقتها عليها ببراءة: «أبي الصغير»، كان حبه لابنته لوسي هو السبب فيما أصابه، فبعد الحادثة التي فقدها فيها، أصابه الخَرَف شوقًا وحنيًا لابنته التي ماتت.

أريد أمي
من المشاهد البارعة التي صوَّرت الأب كطفل حين أراد أن يرتدي ملابسه، وبان أنه نسي كيفية ارتداء الملابس، فساعدته ابنته آن، فرفع يده كطفل صغير مستسلم ليد أمه كي تجعله يرتدي ملابسه.
وفي مشهد من المشاهد اللافتة بالفيلم، حين ذهبت به ابنته للطبيبة، كان ينتظر ابنته في الخارج كطفل صغير، وشعرنا بتمثيل هوبكنز الرائع أنه طفل، وهنا ظهرت الموسيقى بعد اختفاء طويل، وخرج من عند الطبيبة حزينًا في غاية الحنق، وهو مع ابنته آن داخل السيارة نادته: «أبي»، فلم يسمع لأنه كان يشعر بالخزي، وحين لمست يده سحبها منها بغضب طفل.
ظهرت الطفولة البديعة في نهاية الفيلم في شوق الأب أنتوني وهو يتكلم عن أمه، يصفها بعيونها الواسعة للممرضة: «إنني أرى وجهها الآن، أتمنَّى أن تأتي لرؤيتي بعض الوقت، هل ستأتي؟ أعتقد أنها تستطيع أن تأتي»، سألته الممرضة: «ابنتك؟» قال: «أمي»، وتحوَّل العملاق أنتوني هوبكنز في هذه اللحظة الدافئة، لحظة الحنين للأم بما تمثّله من صدر حنون وأمان من صقيع الحياة حتى آخر المدى، رأيناه يبكي كطفل، يده تهتز وجسده يرتجف يريد أمه ويبكي من أجلها، ويرتعش طلبًا للأم، وقال: «أنا أحب أمي، أحبها كثيرًا»، وشعرنا على الشاشة أن حجم أنتوني هوبكنز بدأ في التضاؤل، صار ينكمش أمامنا بعبقرية كطفل: «أريدها أن تأتي، أريد أن أعود للمنزل»، وبكى من الداخل، من عمق عمقه، وقال: «أشعر وكأنني أفقد أوراقي مثل فروع الشجرة في المطر، لكنني أعرف أن لديّ ساعة على معصمي» قال ما معناه أنه يعرف أن له ساعة رحيل، وأن أجمل ما في الدنيا قلب أم.
ولمسَ الممرضة وجلسا على السرير، وبكى وهو يميل عليها، ثم ارتمى بحنان على صدرها يبتغي دفء الأم وحماية الأم، وقالت الممرضة آخر جملة في الفيلم: «كل شيء سيكون على ما يرام»، وانسحبت الكاميرا نحو النافذة، لنشاهد النور والأشجار الخضراء المزهرة تهتز، وكأنَّ شيئًا يهدهد الكون ■