المسرحية الإماراتية «الساعة الرابعة» ظهور استثنائي في عالم التحديات

المسرحية الإماراتية «الساعة الرابعة» ظهور استثنائي في عالم التحديات

 لا يزال المسرح الإماراتي يلفت الأنظار بقوة في السنوات الخمس الأخيرة، على سبيل المثال مسرحية «الساعة الرابعة»، التي وُلدت في «أيام الشارقة المسرحية» عام 2019 على يد فرقة المسرح الحديث بالشارقة، وتدور أحداثها في غرفة انتظار لطبيب نفسي هو د. نادر، حيث تلتقي خمس شخصيات تعاني كل منها مشكلة ما، ينتظر كل منهم دوره مع ذلك الطبيب، مع ساعة معلّقة في عمق فضاء الخشبة العلوي وفي منتصفه، تشير إلى الرابعة إلا الثلث تقريبًا، وتبدأ الحوارات ضمن جو يكشف عن مشكلة كل زائر للعيادة، والتي تنتهي بإدراكه أن الحل ليس في هذا المكان، بل في مكان آخر.

عُرضت المسرحية بعد ذلك في عجمان والفجيرة ورأس الخيمة والموسم المسرحي بمدينة دبا الحصن، ثم تحت رعاية مؤسسة العويس الثقافية في دبي (كانت المؤسسة قد نظمت العديد من العروض المسرحية خلال مواسمها الثقافية الماضية، مثل «صهيل الطين»، و«بايتة»، و«بهلول» و«خفيف الروح» و«الحلاج وحيدًا» و«مجاريح»، وغيرها من المسرحيات المحلية التي تعكس هوية أصيلة للثقافة العربية)، والمجمع الثقافي في أبوظبي ومسرح القطارة بمدينة العين، ثم طار العرض إلى مصر في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي والمعاصر، ثم انطلق إلى مهرجان الأردن المسرحي الدولي.
 «الساعة الرابعة»، نص مسرحي كتبه المؤلف الفرنسي المعروف لوران بافي، وأعدَّه للعرض طلال محمود وأخرجه المخرج الإماراتي الكبير إبراهيم سالم، وقام بالتمثيل كل من فيصل علي وآلاء شاكر ومحمد جمعة وعبدالله حمدان ونور الصباح وبسملة (ثم الفنانة نيفين في دورها فيما بعد). العنوان الأصلي للنص هو «توك توك»، ويحكي عن خمسة مرضى باضطرابات نفسية في قاعة انتظار عيادة الطبيب المعالج. نعرف من البداية أن الطبيب قد أعطى كل منهم موعدًا في تمام الساعة الرابعة وخلال وقت الانتظار المشحون بالقلق والتربّص يبدأ كل منهم في المصارحة علنا والوساوس سرًا. ثمة تعاطف وثمّة صراع، وفي نهاية العرض نكتشف أن الطبيب هو أحد المرضى الخمسة في لعبة مقصودة ليتكلموا ويعترفوا بما في قاع نفوسهم! 
فؤاد، رجل في نهاية الأربعينيات يعاني اضطرابًا نفسيًا يشتم، أثناء حديثه، جليل، رجل في منتصف الثلاثينيات، ملتزم، ويعاني الوسواس القهري، سامي، شاب في العشرينيات يعاني أوهامًا مرضية تجعله يتجنب المشي في الأماكن المخططة.
 منال، شابة في العشرينيات، مدربة رياضية، تعاني تكرار الكلام بشكل دائم، يارا تعمل في مجال التعقيم، وتعاني وسواس النظافة، أسمهان موظفة استقبال في العيادة النفسية.

 أداء سلس
يقول المخرج إبراهيم سالم في لقاء صحفي: «في عروض (الساعة الرابعة) المتنوعة، أبدى الجمهور إعجابهم بالأداء السلس للممثلين وقدرتهم على ترجمة العُقد النفسية للشخصيات المكتوبة على الورق، وقد منحت مشاركة العرض في المهرجانات المسرحية العربية الممثلين فرصة التعرُف على التيارات المسرحية المعاصرة، وأضافت إليهم رصيدًا من الخبرة الذاتية والمعرفية». (جريدة الشروق، القاهرة، عدد الاثنين 17 يونيو 2020). 
وفي العرض الأول للمسرحية ضمن مهرجان أيام الشارقة المسرحية نال سالم جائزة الإخراج، ومحمد جمعة جائزة أفضل دور أول، وفيصل علي أفضل دور ثان، وآلاء شاكر جائزة أفضل فنان عربي، كما حصل الفنان الشاب عبدالله حمدان على جائزة أفضل فنان واعد. 
يقول الباحث الإماراتي الأستاذ أحمد الماجد: «إن الكاتب العربي لم يعرف المذاهب الأدبية منذ نشأتها الأولى، وتعاقبها، وتطورها التدريجي، وظهور كتّاب ونقاد ومفكرين لكل مذهب، لكنّه اطلع عليها كلها في فترة زمنية واحدة، وذلك عن طريق ترجمة الكثير من الكتب النقدية والنصوص المسرحية التي تنتمي إلى عصور ومراحل ومدارس مختلفة، فتأثر بها جميعًا».
(أحمد الماجد، الشكل والمضمون في ميزان الكتابة المسرحية، المجلة العربية، العدد 530، نوفمبر 2020، ص 114).
 إذ إن الكاتب العربي قد تأثر بالمسرح اليوناني ومسرح شكسبير والكلاسيكية والرومانسية والواقعية، وبمسرح إبسن وتشيكوف وبيراندللو دون أن يعيش زمن هذه المدارس، أو ينتمي إلى أية أمة من أمم هؤلاء الكتّاب، كذلك تأثر بتيارات القرن العشرين من مسرح ملحمي، ومسرح تسجيلي ومسرح عبث ولا معقول.

مذاهب مختلفة
 «من هنا ندرك مدى الاختلاطات التي كانت تتم عن كل واحد من كُتَّاب المسرح العربي، وتلك هي الورطة التي وجد الكاتب العربي نفسه فيها، وهي تعدد المذاهب في أغلب النصوص التي يكتبها، وأصبح الكاتب العربي الذي تأثر بمختلف المذاهب والتيارات المسرحية الأجنبية مضطرًا إلى أن يصوغ من مجمل ما تأثّر به من هذه المذاهب المختلفة التي اطلع عليها والمسرحيات المختلفة التي قرأها، أسلوبًا فنيًا خاصًا به، مُقنعًا لعصره، ومتناسبًا مع الواقع الذي يعيشه في الشكل والمضمون»، (المرجع السابق). فالشكل كما يراه الناقد الإنجليزي هربرت ريد هو الهيئة التي يتخذها العمل، ولا يعنينا إذا كان ذلك العمل الفني بناء أو تمثالًا أو صورة أو قصيدة شعرية أو سوناتا موسيقية، فإن كل شيء من هذه قد اتخذ هيئة خاصة أو متخصصة، وتلك الهيئة هي شكل العمل الفني، وهذه الهيئة تكون من صنع إنسان ما، هو الفنان الذي يضفي الهيئة على شيء ما. 
فالشكل ليس مجرد إعطاء المادة صيغتها النهائية الكاملة، بل هو في جوهره تعبير عن نظرة إلى العالم يمدها المجتمع، فالطرق الجديدة لروية الأشياء - ومنها الكتابة المسرحية - نتيجة للحقائق الاجتماعية الجديدة.
والشيزلونج البرتقالي الذي يتصدَّر خشبة المسرح في «الساعة الرابعة» ينطبق عليه مبدأ الناقد النمساوي فريختن: «الشكل هو الجانب الجوهري في الفن». فهذا الديكور ينتقل بسلاسة من الأريكة التي قتل عليها والد هاملت في صدر المسرح إلى أريكة الأصدقاء في مقهى مسلسل فريندس الشهير، والهيكل الحديدي هو نفسه، كالخزاف الذي يصنع الشكل في البداية، ثم يصب فيه كتلة الخزف الخالية من التشكيل، وهي هنا المرضى الخمسة، حيث إن المكاشفة تغذي المشاهد بحب الاستطلاع وحب البقاء والرغبة في الوجود والتطور، وتحسس ما يفتقده في واقعه المعاصر. 

معيارية حاسمة
الصراع بين المرضى وهم يحملون الهمّ ذاته يشير إلى الكثير من الآثام التي تُقترف كل يوم، بل بين لحظة وأخرى، كالحروب التي تنشب بين دولتين جارتين يجمعهما تاريخ مشترك من أجل قطعة أرض أو مقعد خال جوار الأريكة البرتقالية. والسؤال: هل تمثّل الاعترافات معيارية حاسمة يمكننا من خلالها رصد الحالات الخاصة وعلاجها، بصراحتها وشفافيتها، لتعطي صورة كاملة للحقيقة في ظل توتر العلاقات والمفاهيمية بين الفهم القيمي للواقع والتماسّ مع الخيال الذي يلازم الذات الباحثة عن برّ الأمان من خلال الاعتراف. 
هذه المكاشفة تمت هنا في قالب من الغرابة الممتعة تبعًا لمفهوم بريخت: «مهمتنا هي الترفيه عن أبناء العصر العلمي، وأن نفعل ذلك بحسّ ومرح، وهذا شيء لا نستطيع أن نقوله لأنفسنا في مناسبات عديدة، لأنه دائمًا معنا يتحول كل شيء بسهولة إلى المجرد وغير المحسوس، إننا نبدأ في الكلام عن نظرة العالم حين يكون العالم المشار إليه قد تحلل تمامًا واختفى، نشاطنا لا يشمل متع الاستكشاف، وإذا أردنا أن نترك أثرنا المميز على الأمور، فإننا لا نقول كم كانت المتعة التي حصلنا عليها من شيء معيّن، بل كم من الجهد كلفنا ذلك الشيء». 
والطبيب النفسي هنا يلعب مع مرضاه ويخدش الفقاعة، لتنفجر الاعترافات كما كان الشيطان يجرح إصبع فاوست بإبرة، فيسيل الدم لتوقيع العقد المُلزم الذي سيغيّر حياته. وكما خرج مفستوفوليس لفاوست، وهو على أهبة الانتحار لضيقه من الحياة عندما فقد مارجريت، يخرج من بين المرض طبيبهم النفساني يطلب المعرفة الشاملة والصحة الكاملة، فإذا لم ينفع هذا الضغط سابقًا في التأثير على أوديب وهو يُبلغ أهالي طيبة بإعلان الكاهن لوحيه، فهو هنا صالح تمامًا لينفجر كل مريض في رفاقه، فإذا هم أقرب الأصدقاء أو ألدّ الأعداء ■

مسرحية «الساعة الرابعة» مستوحاة من عمل الكاتب الفرنسي لوران بافي «التوك توك»

... وفي انتظار ملاقاة الطبيب بينما تشير عقارب الساعة إلى الرابعة إلا الثلث