القتل رميًا بالإشاعة

القتل رميًا بالإشاعة

إن للإشاعة قطبين متنافرين لكنّهما يلتقيان: مُلقي الإشاعة، ومتلقّيها، ومن دونهما لن تكتب لها السيرورة. فالأول له أهداف يروم تحقيقها من وراء نشر إشاعته، والمتلقي يتقبّلها لأنّ لديه استعدادًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا لابتلاع أيِّ طُعم. وقد يتحول إلى مساهم في إذاعتها بين الناس، فتبدأ في الانتشار والتضخم ككرة ثلج نازلة من قمّة جبل، بسبب الإضافات والترميمات والرتوش.

ورغم تعدد أنواع الإشاعات، فإنّها تتفق في تزييف الحقائق، وتحريف طبيعة الأشياء، وخلخلة منظومات القيم، وإذكاء العداء بين الناس.  عبثت الإشاعة بحياة البشر عبر العصور، ووقعت بسببها أحداث كبيرة أثّرت على المجتمعات، بل إنها أسقطت دولًا وأسست أخرى. 
تداخلت الإشاعة مع الدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد والحرب والسِّلم وكل شيء، ولعب السياسيون بأوراقها في نزعة مكيافيلية لبلوغ الأهداف. استعملها مراسلو الحرب ووزراء الإعلام على أثير الإذاعة وشاشة التلفزة، فأوهموا الجماهير بانتصارات مزيّفة لا وجود لها. فرضت الإشاعة نفسها في أكثر من ميدان، فاقتحمت المعارك الانتخابية وغَدَت من محركاتها في العديد من دول العالم، وساهمت بقوة في صناعة الرأي العام الديني والسياسي. عاثت فسادًا في عالم الاقتصاد ولعبت بالأسهم والعملات، وروَّجت لبضائع، ودفعت الناس إلى مقاطعة أخرى.
 استغلتها شركات الإشهار، متفننة في تقديمها بقوالب برّاقة لإبهار عقول الناس بالزّيف والكذب. تبوأت مراكز القيادة في الشبكة العنكبوتية، وعرقلت التفكير السليم لدى نسبة كبيرة من الجماهير، وجعلتها تتجانس في الأفكار والقناعات والاهتمامات، مهيِّئةً بيئة مناسبة لتناسخ الرداءة في مجالات عديدة. 
كانت الإشاعة أداة قتل في كل العصور، وما زالت تقتل، وستستمر في القتل ما بقي الانسان.
 لكن ما نعيشه اليوم من حياة قاسية في ظل وباء كورونا أظهر الدور القاتل للإشاعات، فقد سرّعت في تمدّد الوباء بسبب ما انتشر حوله من أخبار زائفة تروّج لتكذيب وجوده، أو لعلاجه بالشعوذة، أو للوقاية منه بوصفات أعشاب سامّة تقتل ولا تشفي، وكل ذلك قد صدّقه السواد الأعظم من الناس، فأنكروا وجود الوباء، واستَشْرتْ بينهم نظريات المؤامرة، فنبذوا الوقاية، وخرجوا في مسيرات احتجاجية في كثير من بلدان العالم، رافضين الخضوع للتدابير الصحية التي تقرّها الحكومات، والنتيجة إصابة مئات الملايين من الناس، ووفاة مئات الآلاف. وكان أكثر ما وقع بسبب الإشاعات. 
ولمّا ظهرت اللقاحات تناسلت الإشاعات لضرب مصداقيتها، واستُعمِلت سلاحًا في الحروب الباردة بين شركات الأدوية، والدول المتنافسة في المجال. وظهر أطباء مزيفون ومُدَّعُون يملأون فضاءات الإنترنت، واشتد سباق «الصحافة الإلكترونية» نحو «السَّبق الصحفي» لنشر الكذب والزيف بقصد تحقيق أعلى المشاهدات التي تدرّ أموالًا طائلة على «نشطاء» الإشاعات، فتحوّلوا من أشخاص بسطاء إلى أثرياء يُحسَب لهم ألفُ حساب، في عالم طغى فيه سعار المادة على كل القيَم، وعمّ فيه الغباء وتمدّد الوباء، وأصبح الناس عبيدًا للشائعات، وسيظلون كذلك ما بقيت منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت تتسابق إلى اللعب بالعقول.  ولا حلَّ للمعضلة إلّا بترسيخ الوعي، ولجْم الجهل ومحـــاربة التفاهة، وتحصين العقل بالعلم والمعرفة الحق. وتلك مهمة منوطة بالدول ومؤسساتها المسؤولة، وخصــــوصًا التعليميــــة والإعلامية ■

عبثت الإشاعة بحياة البشر عبر العصور، ووقعت بسببها أحداث كبيرة أثّرت على المجتمعات