رواية «النقطة الأضعف» نقلة نوعية وسيرة غير عادية

رواية «النقطة الأضعف» نقلة نوعية وسيرة غير عادية

يمكنني أن أزعم بأنّ بزة الباطني تمثّل تميزًا في المجتمع الثقافي بالكويت. تمتلك بزة إمكانات غير مسبوقة في متابعة التراث الشعبي وكتابة قصص الأطفال، وصناعة الألعاب الشعبية التي كانت سائدة في الكويت خلال عقود طويلة من القرن العشرين.كذلك فإن الروايات والقصص التي كتبتها بزة تميّزت بسحر السرد والأسلوب المتميز.تمكنت بزة، أيضًا، من تأهيل نفسها بالعلم والمعرفة، وأمضت سنوات خارج الكويت لتلقّي المعرفة، وحصلت على شهادات من جامعات متميزة.

 تمتلك بزة قدرة في اللغات، خصوصًا الإنجليزية والفرنسية، وبدأت حياتها المهنية مدرّسة للغة الفرنسية. وكما هو معلوم، فإن الإلمام باللغات الحيّة يتيح للإنسان قدرات على التواصل مع المعرفة الإنسانية في مختلف الاختصاصات، خصوصًا الأدب والثقافة، حيث تتمتع بزّة بقدر مهم منهما. وقد قرأت عدة قصص قصيرة وروايات لها تحكي عن أحداث وشخصيات في بلدان أوربيّة وغيرها، وتبين تلك القصص والروايات إلمامًا مهمًا بالأوضاع الاجتماعية التي تسود في تلك البلدان، وكذلك ما يتصل بالعلاقات البشرية المتنوعة.
 هذه الإمكانات الشخصية لا بدّ أن تجعلها في موقع يعزز قدراتها على الكتابة الروائية التي لا بدّ أن تجد صدى إيجابيًا بين أوساط المثقفين الجادين.
تمثّل رواية «النقطة الأضعف»، التي صدرت أخيرًا، نقلة نوعية في أعمال بزة الباطني، ويمكن أن تكون سيرة لحياة فتاة من الكويت أو أي بلد خليجي آخر، لكنّها سيرة غير اعتيادية.
 تمتد فصول الرواية على مدى زمني خلال الفترة من عام 1954 إلى 1987، أي نحو ثلاثة وثلاثين عامًا، وتزخر الأحداث بتقلبات مراحل الحياة لتلك الفتاة من البيت العتيق في مدينة قديمة، عندما كان جدّها حاضرًا بشكل مهم في حياتها، وهو الذي كان يمثّل لها معنى الحياة، نظرًا لاهتمامه بها ودعم اهتماماتها في التعليم.  ذلك الجد هو الذي علّمها القراءة، بعد أن قرأ لها من مصحفه سورة الفاتحة، وجعلها ترددها بلسان فصيح، وهو الذي أحضر لها «لوحًا وحفنة طباشير وراح يعلّمها الكتابة».  تمثّل هذه العلاقة ما كان سائدًا في هذه المنطقة من العالم، حيث تكون الأسرة ممتدة تتعايش وبينها عدة أجيال من الأجداد والآباء والأمهات والحفدة.

شعور باليتم بعد الجد
 تسرد الرواية كيف كان الجد يحكي لحفيدته حكايات البحر ومخلوقاته وقصص الموانئ وأهلها وروايات عن الأوّلين، ثم حكايات عن الجن وحكايات عشقه القديم. 
ولا شك في أن ما أوردته حافل بالموروثات التقليدية وثقافة الشعوب الخليجية التي تأثّرت بحكايات الغوص والسفر اللذين مثّلا أهم الأنشطة الاقتصادية والمصدر الأساسي للمعيشة. كذلك فإن ما أوردته في هذا الفصل يتعلّق ببداية عصر النفط والاهتمام بتعليم الصغار وتعليم البنات، بعد أن كان من «المحرّمات» في الزمن القديم. بطبيعة الحال، وكما يرد في الرواية، لم تتغير القيم والتقاليد، بعد أن أصبح التعليم أساسيًا في المجتمع، حيث ظلت الخرافات والخزعبلات وحكايا السِّحر مهيمنة على عقول الكبار وهم مازالوا يفرضونها على الصغار.  وتساءلت الفتاة عن عدد من الأمور التي لم تجد قدرة على فهمها، وكان الجد يحاول أن يوضحها لها، لكنّ الفتاة تجاوزت هذه الأمور، واهتمت بالقراءة، واكتشفت وجود المكتبة في المدرسة لكي تشبع نهمها بالقراءة. وظلت ممتنة ومدينة لجدّها الذي غرس فيها حب القراءة، وبعد أن توفاه الله شعرت باليُتم، بالرغم من وجود أمها وأبيها. 
المحزن في الأمر أن الأم كانت تريدها بنتًا عادية، ولم ترتح لتفوّقها واهتماماتها المعرفية، وكانت تفكّر بما سيحدث لها بعد الزواج، حيث إن الزوج لن يرتاح لامرأة متفوقة عليه معرفيًا وتعليميًا. وهكذا أرادت لها أن تكتفي بشهادة الثانوية العامة، مما أدى إلى صراع ومعارك بينها وبين أمها امتدا فترة زمنية انتهت بأن قرر أبوها أن تكمل تعليمها الجامعي، وأذن لها بالالتحاق بالجامعة داخل البلاد، وكان ذلك في عام 1969.

أمور غير مريحة
في أثناء الدراسة الجامعية وجدت أمورًا غير مريحة، حيث تبيّن لها وجود مستوى غير لائق من الغشّ والنفاق بين الطلبة والأساتذة.
عانت خلال دراستها تفوّقها الأدبي، واتهمتها إحدى الطالبات بأنّها نقلت قصة قدّمتها عن قصة كتبها والد تلك الطالبة قبل ربع قرن. عوملت معاملة رديئة، مما أدى إلى تحطّمها نفسيًا، ونقلت إلى مستشفى الأمراض النفسية فترة من الزمن.  بعد أن غادرت المستشفى، شعرت بالتباعد بينها وبين والديها. الوالدان أرادا تزويج الفتاة، وأحضرا الخطيب الذي كان يريد الزواج شكليًا ويسافر إلى حيث أراد، بعد أن أصر ذووه على تزويجه «لحمايته» من الشطط، كما كانوا يظنون.
 وجدت الفتاة الفرصة للهروب من واقعها المرير والسفر إلى الخارج، وربما الالتحاق بجامعة أفضل مما هو متاح في الداخل، وهذا ما كان.
 فقد وجدت الزوج غير مستعد لقيود الزواج، وكانت لديه أجندة أخرى، ووفّر لها المال لكي توفر لنفسها شروط الحياة، وبذلك تمكّنت من الالتحاق بالجامعة من أجل التحصيل العلمي والمعرفي.
 الغربة قد تكون صعبة على أي فتاة قادمة من مجتمع محافظ، وخصوصًا إذا كانت وحيدة دون مُعين اجتماعي لحمايتها، لكن تلك الفتاة تمكنت، بمهارة وإبداع، من تكوين صداقات مع المحيطين بها من جيران ومدرسين وكتّاب.
 ولا شك في أن تحديات الحياة تفرض على الإنسان خيارات صعبة، ولا بدّ أن يعمل على تخطّي تلك التحديات واعتماد أفضل السيناريوهات التي تمكنه من تحقيق الطموحات المشروعة. 

فرضُ إرادة
استطاعت الفتاة فرض إرادتها على واقعها، وتحدّت كل العراقيل التي واجهتها، كما تمكّنت من إكمال دراستها بنجاح وتفوّق، أيضًا. وأكثر من ذلك، أنها تمكّنت من أن تصبح كاتبة قصص للأطفال بلغة البلاد التي أقامت ودرست فيها، بما حقق لها إيرادًا معقولًا لمواجهة تكاليف المعيشة والحياة.
تستمر الرواية بسرد حياة الفتاة على مدى سنوات عديدة، والتنقلات في تلك الحياة، والترحّل بين البلدان وعودتها إلى بلادها بعد وفاة أبيها.
وتكشف تفاصيل الرواية تلك العلاقة الصعبة بين الفتاة وأمها وإخوتها، ولا تجد أيّ معين أو تفهّم بين أهلها سوى أخيها الصغير وخالتها الثالثة التي كانت تعينها وهي في الغربة. 
قد لا يجد العديد من القراء هذه العلاقة مقبولة في مجتمعاتنا، حيث اعتادوا الودّ والمحبة بين الآباء والأمهات والأبناء. كما أنه من المتوقع لديهم أن تكون علاقة البنت مع أمها طبيعية ووديّة في غالب الأحوال، وهناك من يريد أن تكون البنت مطيعة ومقيّدة بمطالب أهلها وأمها على وجه الخصوص. لكن هل يمكن لفتاة أرادت أن تتعلّم وتجني المعرفة العصرية أن تواكب متطلبات أمّ اعتادت مفاهيم الزمن الغابر والتقاليد والخرافات؟
 إذًا نحن أمام صراع بين الأجيال، ولا شكّ في أن المجتمعات بالخليج، والكويت في الصدارة، شهدت دورًا متقدمًا للآباء والأمهات الذين عملوا على تربية أبنائهم بموجب المفاهيم العصرية، وحفّزوهم على تلقّي العلم من أفضل منابعه. كما أن الكثير من الآباء والأمهات عملوا على تعليم البنات وتمكينهن من أجل المشاركة بالعمل التنموي في المجتمع.
ولا بدّ أن نتذكر أولئك الآباء والأمهات الذين تخطّوا مفاهيم زمنهم في عام 1956 وساندوا بناتهم للسفر إلى القاهرة للدراسة بجامعاتها، بعد أن أنهين الدراسة الثانوية.

ملاحظات مهمة
  هناك ملاحظات مهمة تتعلّق بالرواية، إذ يتبين من قراءتها أن الفتاة تمتّعت بقدرة عجيبة على ضبط مشاعرها تجاه الآخرين، فقد حاول عدد من الرجال ورد ذكرهم في الرواية التقرّب منها، وقد بذلوا جهدًا كبيرًا لمساعدتها في مراحل زمنية مختلفة، ومنهم من أفصح بحبّه لها.
لكن أيًا من هؤلاء لم يكسب علاقة حبّ معها، وربما كانت هناك صداقة وشعور بالامتنان من قبلها، لكن ليس أكثر من ذلك، ولذلك كانت ردود الفعل لدى عدد منهم كئيبة، مع شعور بخيبة.
أيضًا، من الملاحظات المهمة أنه لا بدّ من ذكر أن فصول الرواية اعتمدت على تحديد سنوات الأحداث ابتداء من 1954 وحتى 1987، وهي فترة طويلة وشهدت أحداثًا لم يأت ذكرها في فصول الرواية، ومنها على سبيل الحصر، حرب السويس عام 1956، وهزيمة يونيو 1967، وحرب العبور (أكتوبر) 1973، وارتفاع أسعار النفط، وثورة الخميني في إيران 1979.
ربما أرادت الكاتبة التركيز على المسائل الشخصية المتصلة ببطلة روايتها، دون الحاجة إلى ذكر أي أمور تتعلّق بأحداث سياسية أو تحولات اقتصادية واجتماعية، بالرغم من أهميتها في حياة الفرد بأي مجتمع إنساني.
وربما كان الهمّ الأساسي هو كيف يمكن للفتاة أن تتجاوز مشاكلها الخاصة العائلية، وتسمو عليها وتحقق الطموحات الثقافية والمعرفية لذاتها. 

معالجة إبداعية
أيضًا، يلاحظ أن الكاتبة لم تحدد أسماء لشخوص الرواية، ابتداء بالفتاة وأيّ ممن ورد لهم دور فيها، فمثلًا هناك شخصية مهمة في الرواية، وهو أستاذ المكتبات الذي أطلقت عليه لقب «الدكتور مكتبات».
 كما أن هناك خالتها التي ربطتها علاقات وشيجة معها، ذكرت بالخالة الثالثة، وهكذا، ويدلّ ذلك على قدرة الكاتبة على طرح شخصيات في الرواية دون تحديد أسماء، وتمكين القارئ من التعرف إلى أيّ من هذه الشخصيات حتى لو تباعدت الصفحات عند ذكرهم، ولا بدّ أن ذلك يدل على معالجة إبداعية في السرد وتحديد أدوار الشخصيات المختلفة. ويمكن لي أن أزعم بأن هناك العديد من المسائل التي يمكن التطرق لها بشأن الرواية، لكنني أكتفي بالقول بأن هذه رواية تم بذل جهد مهم من أجل حبكها وإخراجها بشكل يؤدي إلى متعة القارئ، ويثير في ذهنه العديد من التساؤلات حول الأوضاع المجتمعية التي تعيشها الشعوب في هذه المنطقة من العالم، وكيف أدت التحولات الاقتصادية إلى التأثير على مفاهيمها وقيمها، وهل أدت تلك التحولات إلى تحريرها من الأوهام والخرافات التي تكرست على مدى عقود وسنوات طويلة؟ 
لا شك في أن الأجيال التي ولدت منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي عاشت متغيّرات واسعة بفعل التحولات الاقتصادية، بما عزز من درجة التعليم، لكن هناك أشواطًا طويلة تتطلبها حياة هذه الأجيال لكي تكسب المعرفة الثقافية الإيجابية. وربما تكون الكاتبة واعية لقضايا مهمة، وهي المتخصصة بآداب التراث الشعبي وفنونه، بما يؤكد أهليّتها لتسليط الضوء على هذه القضايا وتحدياتها وكيفية التعامل معها.
 ذلك قد يكون من خلال الكتابة الروائية أو البحوث الاجتماعية وغيرها ■