فبراير الجميل
قيل لي إنّ هذه الكلمة ستُنشر في شهر فبراير، فشعرت أن يدًا راحت تُجمِّع خيوط الذاكرة، لتلتفت إلى دلالة هذا الشهر الذي اختير منه يوم الخامس والعشرين عيدًا لاستقلال الكويت. وشهدت أيامه أيضًا مصادفة كبرى هي التحرّر من وطأة الاحتلال عام 1991، ذاك الحدث الذي نحاول أن نطفئ نار حسرته من قلوبنا، وقد حملت مجلة العربي، من قبل، رسالتي إلى الأمة، بسطتُ أمامها معاناة الاحتلال محاولًا فيها البحث عن طريق يتمسّك به الإنسان العاقل الذي لا يقبل تهاوي الأمة بسبب فعل طائش.
عاد شهر فبراير لتشهد أيامه مظاهر التعبير عن حبّ الوطن التي تسعد، ولكن لا تقنع كثيرًا؛ فرغم ما فيها من جهد ونية صادقة، فإنّ مظاهر البذخ والبهرجة والمباشرة تجعلها تتقاصر عن التعبير عن هذه العاطفة الرفيعة، وكنت أتلفت باحثًا مفتقدًا ذلك الوصف والتعبير الدالّ عن عاطفة المواطنة والمجسّد لمعناها، وينفذ إلى مناطق الإحساس الدقيقة العميقة في النفس.
وتنشط الذاكرة لتسعفني، مرّة أخرى، باستعادة موقف يجسّد ما أنا باحث عنه، يبدو واضحًا في بساطته وصدقه وعمقه، ومن ثم تأثيره ووصوله إلى المتلقي.
جاء هذا المشهد في كتاب «أبناء السندباد» لألن فلييرز، وهو كابتن أسترالي خاض تجربة للتعّرف على خبرة العرب (الكويتيين) البحرية، فقام برحلة على سفينة كويتية من زنجبار إلى الكويت، وقدّم لنا وصفًا لموقف ذكره أكثر من مرة، يكشف فيه تعلُّق البحارة الكويتيين بوطنهم يقول:
«البحارة يتجمّعون في الأمسيات اللطيفة، ويزداد حديثهم عن الكويت، لم أعد أسمع إلّا اسم الكويت، الكويت، الكويت. فقد كانت الكويت بالنسبة لهم جنة الله في أرضه».
ويتشوّق هذا الرحالة للكويت، وعند مشارفها يدور حوار بينه وعلي النجدي نوخذة (ربّان) السفينة:
يقول علي النجدي له:
- تلك هي الكويت. تلك هي البلاد الجميلة التي تستحق أن تراها. ألا ترى معي أنها جميلة فعلًا؟
أجبته وأنا أتظاهر بعدم المبالاة: «ماذا تقصد؟ تلك البقعة من الرمل؟ فبدا الامتعاض عليه من جوابي، مع أن واقع الأرض المحيطة بـ «رأس الزور» ليس فيها ما يلفت النظر، ولا يمكن أن يجد فيها أحدٌ غير الكويتي شيئًا من الجمال.
فصاح نجدي: «رمل؟ بقعة رمل؟ انظر إليها أيها النّصراني! ألا ترى أنه ليس فيها تلك الجبال الشاهقة الوعرة، بل هي أرض ناعمة، مستوية، لطيفة، لا ترتفع إلّا كنهود العذارى! ألا تشعر بالخجل الآن لأنّك قلت لي سابقًا إن جبال عمان جميلة؟ انظر الآن ومتّع ناظريك برؤية الكويت». وتابع هو النظر طويلًا، دون أن يهتم بانطباعاتي الخاصة. ونظرت إليه فكانت عيناه مغرورقتين بالدموع.
هذا هو حب المواطنة الذي يُحسّ به ولا يفسّر: شوقٌ، ووَلَهٌ، وإكبارٌ، وعواطفٌ لا تُحد ولا تَعيّن.
بِلادٌ بها حلّ الشباب تَمائمي
وَأوّل أرضٍ مسَّ جِسمي تُرابها ■