«الزنبقة السوداء»

«الزنبقة السوداء»

كانت لحظة فارقة في حياة طفل، عندما دخل مدير المدرسة غرفة الصف الخامس، مسلمًا ومستأذنًا من المعلم، ثم نادى على اسمي، وقفتُ برهبة، ولكن بطمأنينة، فلا أذكر أنّي فعلت شيئًا يستحق التأنيب أو العقاب.
 شكرني المدير، لأني الطالب الوحيد في الصف الذي تقدّم لمسابقة «أوائل المطالعين» على مستوى المدرسة، وأثنى عليّ، وشجّعني على الاستمرار والاستزادة.
وطلب من البقية أن يفعلوا مثلي، وتحدّث قليلًا عن أهمية وضرورة القراءة، وأنها أسرع الطرق لاكتساب العلم والمعرفة، وإثراء الثقافة، وتنمية الشخصية، ثم قدّم لي هدية عبارة عن كتاب، رواية «الزنبقة السوداء» للفرنسي إسكندر دوما.
  كانت الهدية فوق توقّعاتي، فلم أكن أطمح لنيل أي شيء، أو حتى كلمة شكر، فمجموع ما قرأته لا يتجاوز خمسًا وعشرين قصة أطفال من قصص كامل الكيلاني ومحمد عطية الأبراشي، ومجموع عدد صفحاتها كلها أقل من عدد صفحات الرواية، التي تصفّحت أوراقها متقلبًا بين الفرحة والحيرة، إذ لم أستطع فكّ رموزها وقتذاك، فمسمى «الرواية» غامض، و«الزنبق» لا أعرفه، وإسكندر دوما لم أسمع باسمه يومًا، لكن الرواية بقيت بين يدي في كل يوم، حتى استطعت أن أقرأها بعد سنوات، وأستوعبها تمامًا، وتمزّقت صفحاتها بعد ذلك، عندما استعارها عدد من الزملاء، لكنني اشتريتها مرة واثنتين، لتبقى على رفوف مكتبتي التي أخذت تكبر يومًا بعد يوم، ليس لأنها رواية عظيم، أو نادرة في تاريخ الأدب، ولكن لأنّ لحظة تسلّمها من يد مدير مدرستي، كانت مفتاح العلاقة الحميمة بيني وبين الكتب، والشعلة التي أوقدت نهمي للقراءة والولع بالكتب، وكلمة السر لولوج كهوف الكنوز والمجوهرات الورقية، وتذكرة لقضاء وقت الفراغ - وما أكثره - في معيّة ما توافر من الكتب آنذاك، وهي قليلة في مكتبة مدرسة قروية فقيرة، وبيت ليس فيه إلا كتب المدرسة، وبعض كتب الجامعة لمن سبقني من إخوتي.
 أتساءل أحيانًا: هل القراءة تخرجنا، حقيقة، من دهاليز الجهل والظلام، وتقودنا في دروب النور والبصيرة والوعي؟ أم أنها تفتح عقولنا وتوسِّع مداركنا لنرى ما يرزح العالم تحته من قبح وقسوة وجبروت، ونشعر بكمّ الآلام والأحزان والمظالم التي يعانيها الناس في أرجاء الأرض، وأن القراءة منحتنا ميزانًا لنفرّق بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، بين العدل والظلم، بين الحريّة والعبودية، بين الإنسانية والتوحّش، وما يترتب على ذلك من مسؤولية، وأرق، وقلق، وتفكير لا يهدأ، وضمير يأبى أن ينام؟!
ومع كل ذلك، لا أتردد دومًا في أن أقول: سامحك الله يا مديري الفاضل إسحق زيد، وشكرًا لك من القلب، مدين لك بالفضل ما حييت ■