هل الذكاء الاصطناعي تكنوفوبيا مستحقة؟

هل الذكاء الاصطناعي تكنوفوبيا مستحقة؟

«التكنوفوبيا»... لا يخدم هذا المصطلح اليوم أكثر من معنى الخوف من مستقبل تصل فيه التكنولوجيا إلى مرحلة الاستقلال الذاتي وعدم تلقي الأوامر من صانعها، أما كره التطور التكنولوجي لتسببه في فقدان الكثير من الوظائف لمصلحة الآلات، أو العجز عن معرفة كيفية استخدام الأجهزة الحديثة بالرغم من وجود الرغبة، فذلك موضوع آخر تعتبر مخاطره أقل بكثير من ثورة الآلات على البشر.

 

التكنوفوبيا‭... ‬هل‭ ‬هو‭ ‬خوف‭ ‬مستحق‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬صلبة‭ ‬يمكن‭ ‬الوقوف‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬تيار‭ ‬عارم‭ ‬يجتاح‭ ‬المعمورة،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬الفهم‭ ‬الكامل‭ ‬لشيء‭ ‬معقد‭ ‬بطبيعته،‭ ‬لم‭ ‬يحظ‭ ‬بالتسويق‭ ‬المبسط‭ ‬لفهم‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬سوى‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬أفلام‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭ ‬التي‭ ‬تمكن‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬مرحلة‭ ‬تقديم‭ ‬التسلية‭ ‬إلى‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬الأسئلة‭ ‬الفلسفية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمستقبل،‭ ‬وتشجيع‭ ‬المشاهدين‭ ‬على‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬حوارات‭ ‬نوعية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تخص‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬المتخصصين،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬لامس‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬أيادي‭ ‬البشر‭ ‬وبات‭ ‬قريبًا‭ ‬منهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى؟

 

أول‭ ‬من‭ ‬استخدم‭ ‬تعبير‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬هو‭ ‬ألان‭ ‬تورينغ‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1950م،‭ ‬حيث‭ ‬ابتكر‭ ‬اختبارًا‭ ‬لتقييم‭ ‬ذكاء‭ ‬جهاز‭ ‬الكمبيوتر،‭ ‬بحيث‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيف‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬بالذكي‭ ‬إذا‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬محاكاة‭ ‬الذهن‭ ‬البشري‭. ‬ومن‭ ‬بنود‭ ‬الاختبار‭: ‬هل‭ ‬تتصرف‭ ‬الآلة‭ ‬كالبشر‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬هل‭ ‬تستطيع‭ ‬الآلة‭ ‬أن‭ ‬تفكر‭ ‬كالبشر‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬للآلة‭ ‬أن‭ ‬تفكر‭ ‬بشكل‭ ‬عقلاني‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬للآلة‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬باللغات‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬للآلة‭ ‬تركيم‭ ‬المعلومات‭ ‬والاستفادة‭ ‬منها‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬هل‭ ‬لدى‭ ‬الآلة‭ ‬إمكانية‭ ‬التعلم‭ ‬الذاتي؟‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬للآلة‭ ‬أن‭ ‬تتحرك‭ ‬كالبشر‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تفادي‭ ‬الاصطدام‭ ‬بما‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬عراقيل‭... ‬إلخ؟‭ ‬وقد‭ ‬توقع‭ ‬تورينغ‭ ‬أن‭ ‬الآلات‭ ‬ستتمكن‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬اختباراته‭ ‬بنجاح‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2000‭.‬

‭ ‬بدأت‭ ‬نزعة‭ ‬التكنوفوبيا‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬الآلة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬بسببها‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬العمال،‭ ‬ففي‭ ‬إنجلترا‭ ‬خلال‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬حين‭ ‬بدأت‭ ‬الآلات‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬البشر،‭ ‬قامت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النساجين‭ ‬بتخريب‭ ‬آلات‭ ‬النسيج‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬مكانهم،‭ ‬واستمر‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬أصدر‭ ‬البرلمان‭ ‬قانونًا‭ ‬يعتبر‭ ‬تدمير‭ ‬الآلات‭ ‬جريمة‭ ‬يعاقب‭ ‬عليها‭ ‬القانون،‭ ‬هنا‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬التكنوفوبيا‭ ‬رافقت‭ ‬الثورات‭ ‬الصناعية‭ ‬منذ‭ ‬بدايتها‭ ‬ولم‭ ‬تظهر‭ ‬مع‭ ‬اختراع‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬والإنسان‭ ‬الآلي‭ (‬الروبوتات‭ ‬الذكية‭) ‬والطابعات‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد‭... ‬إلخ،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬الأيدي‭ ‬العاملة‭ ‬أمرًا‭ ‬شائعًا‭ ‬ومرشحًا‭ ‬لكي‭ ‬يطال‭ ‬وظائف‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بالحسبان‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬الثورات‭ ‬الصناعية‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬مفيدة،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬خلق‭ ‬الوظائف،‭ ‬وتشعب‭ ‬مهامها،‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يقوم‭ ‬بها،‭ ‬لكن‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الثورة‭ ‬الرابعة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحالي‭ ‬وتزايد‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى،‭ ‬تقلصت‭ ‬الحاجة‭ ‬تدريجيًا‭ ‬للقوة‭ ‬العاملة‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الصناعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬للحكومات‭ ‬دور‭ ‬رئيس‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬الوظائف‭ ‬داخل‭ ‬أجهزتها،‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬الرقابة‭ ‬والإشراف‭ ‬وجباية‭ ‬الضرائب‭ ‬وتوفير‭ ‬الأمن‭ ‬داخليًا‭ ‬وخارجيًا‭.‬

 

سقوط‭ ‬الحائط‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬والعالم‭ ‬

يقول‭ ‬كريس‭ ‬بل‭ ‬وهو‭ ‬مطور‭ ‬برامج‭: ‬‮«‬لكي‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬توقع‭ ‬مصير‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الآن،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬بذاكرتنا‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬1987،‭ ‬لنرى‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يتوقعون‭ ‬من‭ ‬الإنترنت‭ ‬أن‭ ‬يفعل،‭ ‬ثم‭ ‬نشاهد‭ ‬ما‭ ‬حققه‭ ‬الإنترنت‭ ‬بالفعل‭ ‬اليوم‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬الرؤية‭ ‬تضعنا‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬طريق‭ ‬البحث‭ ‬أو‭ ‬التنبؤ‭ ‬بموعد‭ ‬الهيمنة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬وهو‭ ‬مجال‭ ‬واسع‭ ‬للتأويلات،‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬مجاله‭ ‬وخبرته،‭ ‬فمثلًا‭ ‬يتوقع‭ ‬المخترع‭ ‬الأمريكي‭ ‬رايموند‭ ‬كرزويل،‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2029م،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الآن،‭ ‬ويضيف‭: ‬‮«‬فإذا‭ ‬توقعنا‭ ‬امتداد‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬2045‭ ‬مثلًا،‭ ‬فربما‭ ‬نحظى‭ ‬بأضعاف‭ ‬أضعاف‭ ‬قدرات‭ ‬الذكاء‭ ‬البشري،‭ ‬الذي‭ ‬جعلنا‭ ‬ننجو‭ ‬طوال‭ ‬تاريخنا‭ ‬البيولوجي‭ ‬السابق‭. ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التوقع‭ ‬محل‭ ‬خوف،‭ ‬لدى‭ ‬أناس‭ ‬يحتقرون‭ ‬الذكاء‮»‬‭. ‬

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬كرزويل‭ ‬يحمل‭ ‬رؤية‭ ‬متفائلة،‭ ‬أما‭ ‬البروفيسور‭ ‬ستيفن‭ ‬هوكنج‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‮»‬‭: ‬‮«‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬الجنس‭ ‬البشري‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تطور‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭. ‬لأن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬سيتمكن‭ ‬وقتها‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وإعادة‭ ‬تصميم‭ ‬ذاته‭ ‬بشكل‭ ‬متزايد،‭ ‬بينما‭ ‬سوف‭ ‬يعجز‭ ‬البشر‭ ‬عن‭ ‬مجاراة‭ ‬هذا‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬البشر‭ ‬محدودون‭ ‬بعملية‭ ‬تطور‭ ‬بطيئة‭ ‬الوتيرة،‭ ‬بما‭ ‬يعجزهم‭ ‬عن‭ ‬منافسة‭ ‬الآلات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬سوف‭ ‬يتم‭ ‬تجاوز‭ ‬الجنس‭ ‬البشري‮»‬‭. ‬

أخيرًا‭ ‬ومن‭ ‬زاوية‭ ‬فلسفية‭ ‬صرفة،‭ ‬يرى‭ ‬الفيلسوف‭ ‬السلوفيني‭ ‬سلافوي‭ ‬جيجك،‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬خطر‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬أنه‭ ‬يسقط‭ ‬الحائط‭ ‬القائم‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬وبين‭ ‬العالم،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬وبين‭ ‬الموضوع‭ ‬الخارجي‭. ‬ويشرح‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬يلحق‭ ‬الأنا‭ ‬بذكاء‭ ‬موضوعي‭ ‬مميكن‭ (‬وصف‭ ‬مشتق‭ ‬من‭ ‬الماكينة‭)‬،‭ ‬وليس‭ ‬ذكاء‭ ‬شخصيًا‭ ‬ذاتيًا‭ ‬ينتمي‭ ‬لشخص‭ ‬بعينه‭ ‬ولتفضيلات‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭.‬

ويضيف‭ ‬جيجك‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬الإلحاق‭ ‬للأنا‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬المحتوى‭ ‬الذاتي‭ ‬والشخصي‭ ‬داخل‭ ‬الأنا،‭ ‬وسيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتضخم‭ ‬داخل‭ ‬البشر‭ ‬الأجزاء‭ ‬الموضوعية‭ ‬اللاذاتية‭ ‬واللاشخصية،‭ ‬بحيث‭ ‬نصبح‭ ‬جميعًا‭ ‬ملحقين‭ ‬بذكاء‭ ‬غير‭ ‬ذاتي‭ ‬وغير‭ ‬شخصي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬نفقد‭ ‬شخصياتنا‭ ‬وذواتنا‭ ‬وتفضيلاتنا‭ ‬الشخصية‮»‬‭.‬

 

صورة‭ ‬رسمتها‭ ‬الأفلام‭ ‬

لعبت‭ ‬أفلام‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي،‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا،‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الفهــم‭ ‬المبسط‭ ‬لعموم‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطنــاعي،‭ ‬ورسم‭ ‬صــور‭ ‬مستقبليــة‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬الآلات‭ ‬في‭ ‬حيـــاة‭ ‬البشر،‭ ‬بعضها‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬التشاؤم‭ ‬في‭ ‬‮«‬تيرمينيتور‮»‬‭ ‬و«المصفوفة‮»‬،‭ ‬حين‭ ‬تضرب‭ ‬الآلات‭ ‬ضربتها‭ ‬وتسعى‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬الجنس‭ ‬البشري،‭ ‬وبعضها‭ ‬عاطفي‭ ‬إنساني‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬المئتي‭ ‬عام‮»‬‭ ‬للممثل‭ ‬الشهير‭ ‬روبي‭ ‬ويليامـــز،‭ ‬الذي‭ ‬لعــــب‭ ‬دور‭ ‬إنسان‭ ‬آلي‭ ‬يتطــــور‭ ‬لديه‭ ‬الوعي‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الآلات‭ ‬ويسعى‭ ‬لمدة‭ ‬قرنين‭ ‬لكي‭ ‬يصبح‭ ‬بشريًا‭ ‬باعتراف‭ ‬رسمي‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭.‬

يقول‭ ‬عالم‭ ‬البرمجيات‭ ‬الأمريكي‭ ‬جاري‭ ‬سكوت‭ ‬رأيًا‭ ‬أعتبره‭ ‬موضوعيًا،‭ ‬استخدم‭ ‬فيه‭ ‬أفلام‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭ ‬كمثال‭: ‬‮«‬تختزل‭ ‬لنا‭ ‬أفلام‭ ‬هوليوود،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬تيرمينيتور‮»‬،‭ ‬خطورة‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬مجرد‭ ‬روبوتات‭ ‬عنيفة‭ ‬تمارس‭ ‬القتل‭ ‬بدم‭ ‬بارد‭ ‬تنفيذًا‭ ‬لبرامج‭ ‬سابقة‭ ‬التجهيز‭ ‬موضوعة‭ ‬بداخلها‭. ‬لكن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬عنيفًا‭ ‬وقاتلًا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المادي‭... ‬لكنه‭ ‬بالتأكيد‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تغيرات‭ ‬عنيفة‭ ‬وقاتلة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬على‭ ‬الأقل‮»‬‭. ‬

وبالفعل‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نهايتنا‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬كما‭ ‬رسمتها‭ ‬بعض‭ ‬الأفلام،‭ ‬لكن‭ ‬بعض‭ ‬تأثيراته‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬تعتبر‭ ‬مدمرة،‭ ‬مثل‭ ‬البطالة‭ ‬التي‭ ‬يخلقها‭ ‬لملايين‭ ‬البشر،‭ ‬ليس‭ ‬لأنهم‭ ‬غير‭ ‬أكفاء،‭ ‬بل‭ ‬لأنهم‭ ‬مكلفون‭ ‬ماديًا،‭ ‬أما‭ ‬الآلات‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الليل‭ ‬والنهار،‭ ‬ولا‭ ‬تدفع‭ ‬لها‭ ‬رواتب‭ ‬وتأمينًا‭ ‬صحيًا،‭ ‬ولا‭ ‬تطالب‭ ‬بزيادات‭ ‬ولا‭ ‬تأخذ‭ ‬إجازات‭ ‬دورية‭ ‬ولا‭ ‬تؤسس‭ ‬نقابات‭ ‬ولا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬العطل‭ ‬الرسمية،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تطلبه‭ ‬هو‭ ‬الصيانة‭ ‬الدورية‭ ‬وإدخال‭ ‬التحسينات،‭ ‬وعندما‭ ‬ينتهي‭ ‬دورها‭ ‬يتم‭ ‬بيعها‭ ‬كخردة‭ ‬ولا‭ ‬تدفع‭ ‬لها‭ ‬مكافأة‭ ‬نهاية‭ ‬خدمة‭ ‬وراتبًا‭ ‬تقاعديًا‭.‬

أخيرًا‭ ‬تضع‭ ‬الرئيسة‭ ‬التنفيذية‭ ‬لشركة‭ ‬‮«‬آي‭ ‬بي‭ ‬إم‮»‬‭ ‬جين‭ ‬رومتي‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬يناسب‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الحالي،‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬تسمية‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬بل‭ ‬الذكاء‭ ‬البديل‭ ‬أو‭ ‬الذكاء‭ ‬التكميلي،‭ ‬وذلك‭ ‬لأننا‭ ‬نحتاجه‭ ‬لاستكمال‭ ‬النقص‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬ذكائنا‭ ‬البشري‮»‬‭. ‬

 

هوية‭ ‬الكائنات‭ ‬بعد‭ ‬البشر‭ ‬

هل‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬يتعجل‭ ‬وصول‭ ‬المستقبل‭ ‬أم‭ ‬المستقبل‭ ‬ضاق‭ ‬ذرعًا‭ ‬بتخلف‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬الوصول‭ ‬له‭ ‬لقرون‭ ‬طويلة‭ ‬وصار‭ ‬يتقرب‭ ‬إليه‭ ‬كلما‭ ‬نجح‭ ‬الإنسان‭ ‬باختصار‭ ‬الطريق‭ ‬نحوه؟‭ ‬هذه‭ ‬القفزات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬المتسارعة‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بنا‭ ‬والمشحونة‭ ‬بالإعلانات‭ ‬المتواصلة‭ ‬لتحسينات‭ ‬لتطبيقات‭ ‬وأجهزة‭ ‬تم‭ ‬تحسينها‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬وراءها‭ ‬تفسير‭ ‬معقول‭ ‬هو‭ ‬محدودية‭ ‬قصر‭ ‬أعمار‭ ‬الأجهزة‭ ‬والتطبيقات‭ ‬الرقمية‭.‬

التفسير‭ ‬الذي‭ ‬أجده‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الشركات‭ ‬العالمية‭ ‬الكبرى‭ ‬تريد‭ ‬مضاعفة‭ ‬أرباحها‭ ‬دونما‭ ‬توقف،‭ ‬والعلماء‭ ‬منشغلون‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مخترعات‭ ‬جديدة‭ ‬تجعل‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬أسهل‭ ‬وأفضل‭. ‬ولأن‭ ‬الطرفين،‭ ‬الشركات‭ ‬والعلماء‭ ‬يعيشان‭ ‬علاقة‭ ‬تبادلية،‭ ‬تدور‭ ‬عجلة‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬بصورة‭ ‬متسارعة‭ ‬ومنفصلة‭ ‬عن‭ ‬التأثر‭ ‬بما‭ ‬يقال‭ ‬خارج‭ ‬مختبرات‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬الفلاسفة‭ ‬أو‭ ‬المنتديات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬تحذر‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬الصانع‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬بالمصنوع‭.‬

تلك‭ ‬العجلة‭ ‬الدائرة‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬بسرعتها‭ ‬الحالية‭ ‬انتبه‭ ‬إليها‭ ‬الروائي‭ ‬النيوزلندي‭ ‬صامويل‭ ‬باتلر‭ ‬عام‭ ‬1863م،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬مقالًا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬داروين‭ ‬بين‭ ‬الآلات‮»‬‭ ‬تساءل‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬الكائنات‭ ‬التي‭ ‬ستكون‭ ‬لها‭ ‬السيادة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بعد‭ ‬انقراض‭ ‬البشر؟

ويجيب‭ ‬باتلر‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬يبدو‭ ‬أننا‭ ‬نحن‭ ‬أنفسنا‭ ‬نخلق‭ ‬سادتنا‭ ‬الذين‭ ‬سيأتون‭ ‬بعدنا‭ ‬مستقبلًا،‭ ‬فنحن‭ ‬نمدهم‭ ‬بالقوة‭ ‬والطاقة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التنظيم‭ ‬والتسيير‭ ‬الذاتي‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬سيطرتنا،‭ ‬وهذا‭ ‬التسيير‭ ‬الذاتي‭ ‬هو‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬كما‭ ‬‮«‬الذكاء‮»‬‭ ‬بالنسبة‭ ‬للجنس‭ ‬البشري‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬سنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬نحن‭ ‬الجنس‭ ‬الأدنى‮»‬‭. ‬ويختم‭ ‬باتلر‭ ‬مقاله‭ ‬محذرًا‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬المسألة‭ ‬فقط‭ ‬مسألة‭ ‬وقت‭ ‬حتى‭ ‬تهيمن‭ ‬الآلات‭ ‬على‭ ‬البشر‮»‬‭. ‬ذلك‭ ‬الكلام‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1863م‭! ‬

 

الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭.. ‬مقرر‭ ‬إجباري

في‭ ‬الختام‭ ‬يقف‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة،‭ ‬ستكون‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬مجبر‭ ‬على‭ ‬الارتباط‭ ‬بالنظام‭ ‬الرقمي،‭ ‬الذي‭ ‬سيسود‭ ‬العالم‭ ‬قريبًا،‭ ‬فبينما‭ ‬كان‭ ‬بالإمكان‭ ‬سابقًا‭ ‬وجود‭ ‬اختلافات‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وطريق‭ ‬تبادل‭ ‬المنافع‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬وبين‭ ‬المنتجين‭ ‬والمستهلكين،‭ ‬أصبح‭ ‬الآن‭ ‬العيش‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هوية‭ ‬رقمية‭ ‬يزداد‭ ‬صعوبة‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬مدخل‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭.‬

إن‭ ‬تحديد‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يشكله‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬والاتفاق‭ ‬عليه‭ ‬أمر‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الأهمية،‭ ‬لأن‭ ‬بقاء‭ ‬الحال‭ ‬بين‭ ‬المبالغة‭ ‬والتهوين‭ ‬جعل‭ ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬مترددة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬المتسارع‭ ‬وغير‭ ‬التقليدي‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬فمثلًا‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الخطر‭ ‬في‭ ‬الاتكال‭ ‬الكامل‭ ‬على‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬في‭ ‬تسيير‭ ‬شبكات‭ ‬الطرق؟‭ ‬ولماذا‭ ‬انحصرت‭ ‬فرضية‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬الآلات‭ ‬والبشر‭ ‬فقط‭ ‬وليس‭ ‬بين‭ ‬الآلات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تتصادم‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬لاختلاف‭ ‬برمجتها‭ ‬وقدراتها‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬وعيها‭ ‬الذاتي؟‭ ‬وطالما‭ ‬أن‭ ‬المبرمج‭ ‬الأساسي‭ ‬هو‭ ‬الإنسان،‭ ‬فما‭ ‬المانع‭ ‬أن‭ ‬تكتسب‭ ‬الآلات‭ ‬عادات‭ ‬بشرية‭ ‬مثل‭ ‬حب‭ ‬السلطة‭ ‬وفرض‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬الآلات؟

هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬وغيرها‭ ‬تدور‭ ‬حولها‭ ‬نقاشات‭ ‬متواصلة،‭ ‬لأن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬مقرر‭ ‬إجباري‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬الحالية‭ ‬والقادمة،‭ ‬حاله‭ ‬حال‭ ‬التغير‭ ‬المناخي‭ ‬يجب‭ ‬التعامل‭ ‬معهما‭ ‬بجدية‭ ‬أكبر‭ ‬وأفق‭ ‬أكثر‭ ‬اتساعًا‭ ‬■