لماذا أخفق التنوير الأوربي؟

لماذا أخفق التنوير الأوربي؟

حظيت أفكار عصر التنوير الأوربي باهتمام واسع في معظم أنحاء المعمورة منذ ظهورها وحتى وقت قريب، لما لها من أثر في تحويل أوربا من ظلمات العصور الوسطى إلى الحضارة المدنية الحديثة، وانعكاس ذلك على بقاع أخرى من العالم. وقد لاقت أفكار التنوير انتقادات متعددة منذ بدايات القرن العشرين، وازدادت حدّة بعد الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى عودة الظهور القوي للأحزاب العنصرية والشعبوية في أوربا، والعالم، أخيراً.
وقد عرف التنوير بنزعات ثلاث أساسية، هي النزعة الإنسانية والعلمية والعقلانية، والتي تنوعت التفسيرات لها، لكنّها صبّت - فكريًّا - في نهاية المطاف في تعزيز قيم الحرية والعدالة والمساواة وإحياء دور العقل وغيرها.

 

‭ ‬قدّم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكرين‭ ‬والمثقفين‭ ‬صياغات‭ ‬فكرية‭ ‬لسدّ‭ ‬الفراغ‭ ‬الذي‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬انهيار‭ ‬حكم‭ ‬الكنيسة‭ ‬ونظامها‭ ‬المعرفي،‭ ‬وشكّلوا‭ ‬واقع‭ ‬الإنسان‭ ‬الجديد،‭ ‬مستجيبين‭ ‬للتطورات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬نتجت‭ ‬عنها‭ ‬تغيرات‭ ‬جمّة‭ ‬ألقت‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬وحياته‭. ‬

وحققت‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬تقدمًا‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الإنسان‭ ‬للعالم‭ ‬ونفسه،‭ ‬وصاغت‭ ‬أسس‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد‭ ‬وتغيّر‭ ‬واقع‭ ‬المجتمع‭ ‬جذريًّا،‭ ‬لكن‭ ‬برزت‭ ‬لاحقًا‭ ‬ممارسات‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬بالفعل‭ ‬قيم‭ ‬وأفكار‭ ‬التنوير،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬وقاد‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬التساؤلات‭ ‬عن‭ ‬جدوى‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار؟‭ ‬

 

النزعة‭ ‬الإنسانية

شهد‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬ولادة‭ ‬جديدة‭ ‬للإنسان‭ ‬بعد‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬التهميش‭ ‬والقمع‭ ‬وسيادة‭ ‬الروح‭ ‬الجماعية‭ ‬الصرفة‭ ‬التي‭ ‬نالت‭ ‬من‭ ‬استقلالية‭ ‬الفرد‭ ‬عبر‭ ‬الخضوع‭ ‬لسلطة‭ ‬المجموع‭.‬

فمنذ‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬تمّ‭ ‬ردّ‭ ‬الاعتبار‭ ‬للإنسان‭ ‬الفرد‭ ‬وإعطاؤه‭ ‬قيمة‭ ‬الحقيقة‭ ‬وقامت‭ ‬الحضارة‭ ‬المدنية‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬إبداعاته‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجالات‭. ‬فالإنسان‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أحدث‭ ‬التغيرات‭ ‬الجذرية‭ ‬لواقعه،‭ ‬وأعاد‭ ‬صياغة‭ ‬فكره‭ ‬وقيمه‭ ‬وثقافته‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬فبرزت‭ ‬موضوعات‭ ‬مثل‭ ‬حريّة‭ ‬الفرد‭ ‬وكرامته،‭ ‬والمساواة‭ ‬بين‭ ‬الأفراد،‭ ‬وإلغاء‭ ‬التمييز‭ ‬بينهم،‭ ‬وسيادة‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬الجميع،‭ ‬واحترام‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وضرورة‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬المجتمع‭ ‬أيًّا‭ ‬كان‭ ‬عرقها‭ ‬ودينها‭ ‬وثقافاتها‭ ‬وغيرها‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬تميزت‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬المصاغة‭ ‬حديثًا‭ ‬ببُعدها‭ ‬عن‭ ‬المعتقدات‭ ‬أو‭ ‬الأدلجة،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬ذات‭ ‬بُعد‭ ‬إنساني‭ ‬ومدني‭ ‬ودنيوي‭ ‬وتطبّق‭ ‬بذلك‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬البشر،‭ ‬أي‭ ‬أصبحت‭ ‬ذات‭ ‬نزعة‭ ‬عالمية‭ ‬وكونية،‭ ‬فهي‭ ‬انعكاس‭ ‬لروح‭ ‬العلم‭ ‬التجريبية‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬الأدلجة‭.‬

وكما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬كان‭ ‬للتغيّر‭ ‬الاقتصادي‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الإقطاعي‭ ‬إلى‭ ‬الرأسمالية‭ ‬دوره‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬المجتمع‭ ‬وقيمه،‭ ‬فأي‭ ‬تغيير‭ ‬اقتصادي‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يتبعه‭ ‬تغيير‭ ‬ثقافي‭ ‬وقيمي‭. ‬وقد‭ ‬استطاعت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الصاعدة‭ ‬بناء‭ ‬مجتمعات‭ ‬جديدة‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬دول‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المؤسسات،‭ ‬وصاغ‭ ‬مفكروها‭ ‬والفلاسفة‭ ‬الذين‭ ‬نظّروا‭ ‬لها‭ ‬كيان‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬عبر‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لإقامة‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬تسود‭ ‬فيه‭ ‬العدالة‭ ‬والمساواة‭. ‬

ومن‭ ‬دون‭ ‬شكّ،‭ ‬نجحت‭ ‬الطبقة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬مؤسسات‭ ‬ونظم‭ ‬وقوانين‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتها،‭ ‬واتضح‭ ‬لاحقًا‭ ‬أنها‭ ‬لحمايتها‭ ‬وحماية‭ ‬مصالحها،‭ ‬وعملت‭ ‬بكل‭ ‬قوة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬المساس‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬فئات‭ ‬أو‭ ‬طبقات‭ ‬المجتمع‭ ‬الأخرى،‭ ‬مستخدمة‭ ‬سلطتها‭ ‬والقوانين‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬تشريعها‭. ‬

 

إجهاض‭ ‬النزعة‭ ‬التنويرية

وكانت‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬إجهاض‭ ‬النزعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ذات‭ ‬البُعد‭ ‬التنويري‭. ‬فعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الوطني،‭ ‬مارس‭ ‬الرأسماليون‭ ‬الاستغلال‭ ‬والقمع‭ ‬والبطش‭ ‬أحيانًا‭ ‬والتفرقة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الحادة‭ ‬مع‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬العمال‭ ‬يعملون‭ ‬بلا‭ ‬حقوق‭ ‬تُذكر‭ ‬وبأجور‭ ‬متدنيّة،‭ ‬ويستغلون‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬واعتبروا‭ ‬مع‭ ‬الفئات‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬المهمشين‭. ‬فالتعامل‭ ‬مع‭ ‬الفئات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الدنيا‭ ‬لم‭ ‬يعكس‭ ‬النزعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬نادت‭ ‬بها‭ ‬النخب‭ ‬المفكّرة‭ ‬والفلاسفة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭.‬

وانعكس‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬بشكل‭ ‬عنصري‭ ‬بشِع‭ ‬غابت‭ ‬عنه‭ ‬أدنى‭ ‬المعايير‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬شعوب‭ ‬المستعمرات‭ ‬الأوربية‭ ‬وتجارة‭ ‬الرّقيق،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬التعامل‭ ‬بوحشيّة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان،‭ ‬ناهيك‭ ‬بالقمع‭ ‬والتجهيل‭ ‬ونهب‭ ‬المستعمرات‭ ‬بطريقة‭ ‬تفتقر‭ ‬لأدنى‭ ‬المعايير‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والإنسانية‭. ‬

وتزامن‭ ‬مع‭ ‬أفكار‭ ‬التنوير‭ ‬ظهور‭ ‬النزعة‭ ‬القومية‭ ‬التي‭ ‬غذّتها‭ ‬النزعة‭ ‬الوطنية‭ ‬للطبقة‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬ومثّلت‭ ‬بديلًا‭ ‬لربط‭ ‬الجماعات‭ ‬العرقية‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬حكم‭ ‬الكنسية‭ ‬الذي‭ ‬أذاب‭ ‬شعوب‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬الديانة‭ ‬المسيحية‭. ‬

وخلقت‭ ‬القومية،‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬العرقي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬عقدة‭ ‬التفوق‭ ‬والنقاء،‭ ‬ويمثّل‭ ‬من‭ ‬ينتمون‭ ‬إليها‭ ‬الصفوة،‭ ‬وتدخل‭ ‬في‭ ‬تنافس‭ ‬مع‭ ‬قوميات‭ ‬أخرى‭ ‬للتفوق‭ ‬عليها‭. ‬ودخلت‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬موجة‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬القومية،‭ ‬إذ‭ ‬تحولت‭ ‬القومية‭ ‬إلى‭ ‬العنصرية‭ ‬وضاع‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان،‭ ‬سواء‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بقومية‭ ‬ما‭ ‬إذ‭ ‬فقد‭ ‬استقلاليته،‭ ‬وأصبح‭ ‬أسير‭ ‬أطروحات‭ ‬فئوية‭ ‬وعنصرية‭ ‬جماعية،‭ ‬أو‭ ‬الذي‭ ‬يختلف‭ ‬عنه‭ ‬بالقومية‭ ‬عبر‭ ‬ممارسات‭ ‬الكراهية‭ ‬والفاشية،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الإرهاب‭.‬

 

رؤية‭ ‬جديدة

لم‭ ‬يطبّق‭ ‬النزعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬صاغ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أفكارها‭ ‬مثل‭ ‬بعض‭ ‬الفلاسفة‭. ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬سعي‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬صياغة‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬للإنسان،‭ ‬اتضح‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬وكأنها‭ ‬تصاغ‭ ‬للإنسان‭ ‬الأوربي‭ ‬فقط‭. ‬فهناك‭ ‬ممارسات‭ ‬وأفكار‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬رواد‭ ‬التنوير‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬اتساق‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬يدعون‭ ‬إليه‭. ‬فنجد‭ ‬مثلًا‭ ‬جون‭ ‬لوك‭ ‬وفولتير‭ ‬اللذين‭ ‬دعا‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬إلى‭ ‬رفض‭ ‬تجارة‭ ‬الرقيق‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬كانا‭ ‬مساهمين‭ ‬في‭ ‬شركات‭ ‬لتجارة‭ ‬الرقيق،‭ ‬وهناك‭ ‬مَن‭ ‬يعمل‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬منازلهم‭. ‬

أما‭ ‬كانط،‭ ‬صاحب‭ ‬المقالة‭ ‬الشهيرة‭ ‬عن‭ ‬التنوير،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬بتفوّق‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬برأيه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تفهم‭ ‬أو‭ ‬تتطور‭ ‬مثلما‭ ‬يفهم‭ ‬ويتطور‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬فقد‭ ‬أضاع‭ ‬بعض‭ ‬فلاسفة‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬أمثال‭ ‬هيجل‭ ‬وماركس،‭ ‬الإنسان‭ ‬بأفكارهم‭ ‬الشمولية‭ ‬التي‭ ‬طرحوها،‭ ‬فسلبوا‭ ‬إرادته‭ ‬وجعلوه‭ ‬أسير‭ ‬تطورات‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬إيقافها‭ ‬أو‭ ‬الفكاك‭ ‬فيها‭. ‬فالروح‭ ‬المطلق‭ ‬أو‭ ‬الإرادة‭ ‬الكلية‭ ‬عند‭ ‬هيجل‭ ‬وقوانين‭ ‬التطور‭ ‬التاريخي‭ ‬للمجتمع‭ ‬عند‭ ‬ماركس‭ ‬همّشتا‭ ‬الإنسان‭ ‬وحرّيته‭ ‬وجيّرتا‭ ‬إنجازاته‭ ‬لحتمية‭ ‬مستقبلية‭ ‬محددة‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للتملّص‭ ‬منها‭. ‬وقد‭ ‬مثّلت‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬ذروة‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وهيمنت‭ ‬على‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭.‬

وشهد‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬نموذجًا‭ ‬اشتراكيًّا‭ ‬مستمدًا‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬ماركس‭ ‬طوّره‭ ‬لينين‭ ‬وغيره،‭ ‬وانتهى‭ ‬بأنظمة‭ ‬غير‭ ‬ديمقراطية‭ ‬قمعت‭ ‬الإنسان‭ ‬وجرّدته‭ ‬من‭ ‬حريّته‭ ‬ونمّطت‭ ‬فكره‭ ‬وحياته،‭ ‬وفرضت‭ ‬عليه‭ ‬أيديولوجيتها‭ ‬قسرًا‭. ‬

لقد‭ ‬أجهضت‭ ‬الطبقة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬ومصالحها،‭ ‬والفكر‭ ‬القومي‭ ‬وأطروحاته‭ ‬الشوفينية‭ ‬والعنصرية،‭ ‬والازدواجية‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬والممارسة‭ ‬وتجريد‭ ‬الإنسان‭ ‬بالفكر‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬الشمولي‭ ‬من‭ ‬إنسانيته،‭ ‬النزعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬إحدى‭ ‬ركائز‭ ‬التنوير‭ ‬المهمة،‭ ‬فماذا‭ ‬حدث‭ ‬للنزعات‭ ‬الأخرى؟‭ ‬

 

النزعة‭ ‬العلمية

استطاع‭ ‬إنسان‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬والعصر‭ ‬الحديث‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬المعرفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بشكل‭ ‬شامل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العلم‭ ‬ومناهجه‭ ‬وحقائقه‭ ‬وقوانينه،‭ ‬فأزاح‭ ‬المعرفة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬فهمٌ‭ ‬جديد‭ ‬للعالَم‭ ‬والكون‭ ‬وفهم‭ ‬جديد‭ ‬للإنسان‭ ‬نفسه‭.‬

فلأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬يستقل‭ ‬العلم‭ ‬عن‭ ‬أية‭ ‬سلطة‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬عقائدية‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬عليه‭ ‬طوال‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الخمسة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وأصبح‭ ‬لاحقًا‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬الثقافة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الحديثة‭. ‬فالعلم‭ ‬يتّسم‭ ‬بالموضوعية‭ ‬وجعل‭ ‬المعرفة‭ ‬العلمية‭ ‬منهجية‭ ‬وتراكمية‭ ‬ومستقلة‭ ‬عن‭ ‬الإنسان،‭ ‬وأصبحت‭ ‬تطوّراته‭ ‬هي‭ ‬الأعمق‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬عليه‭. ‬

لكن‭ ‬حدثت‭ ‬بعض‭ ‬التطورات‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬أثّرت‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬العلم‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالإنسان‭ ‬واستمراره‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭. ‬فقد‭ ‬برزت‭ ‬نزعة‭ ‬علمية‭ ‬تجريبية‭ ‬متفائلة‭ ‬بإمكان‭ ‬تطبيق‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الـ‭ ‬19،‭ ‬واستمرت‭ ‬بقوّة‭ ‬حتى‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬فظهور‭ ‬الفلسفة‭ ‬الوضعية‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أوجست‭ ‬كونت‭ ‬وآرنست‭ ‬ماغ‭ ‬اللذين‭ ‬ركّزا‭ ‬على‭ ‬المنهج‭ ‬العلمي‭ ‬التجريبي‭ ‬الصّرف‭ ‬ومحاولة‭ ‬تطبيقه‭ ‬على‭ ‬الأمور‭ ‬الذاتية‭ ‬كالقيم‭ ‬مثلًا،‭ ‬أو‭ ‬تجاهلها‭ ‬والتقليل‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬أهميتها‭. ‬وينسحب‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الوضعية‭ ‬المنطقية‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬التي‭ ‬نزع‭ ‬أعضاؤها‭ ‬لتطبيق‭ ‬العلم‭ ‬ومناهجه‭ ‬وقوانينه‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬واستبعاد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالجوانب‭ ‬الذاتية‭ ‬كالأخلاق‭ ‬والجمال‭ ‬والعقائد‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬الفلسفي‭. ‬

كما‭ ‬كان‭ ‬للماركسية‭ ‬الأثر‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬تبنّي‭ ‬العلم‭ ‬كأداة‭ ‬لتحليل‭ ‬واقع‭ ‬الإنسان‭ ‬والعالم،‭ ‬ومحاولة‭ ‬تطبيق‭ ‬التحليل‭ ‬العلمي‭ ‬التجريبي‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬وعلاقاته‭ ‬والمجتمع‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬وبطريقة،‭ ‬كما‭ ‬تمّت‭ ‬الإشارة،‭ ‬همشت‭ ‬الإنسان‭ ‬وأخضعته‭ ‬لقوانين‭ ‬التطور‭ ‬الاجتماعي‭.‬

وتجاوز‭ ‬الموضوع‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬الفلسفة،‭ ‬حيث‭ ‬وصف‭ ‬المنظّرون‭ ‬الماركسيون‭ ‬الفلسفة‭ ‬التي‭ ‬تبنّوها‭ ‬بأنها‭ ‬علمية‭ (‬الفلسفية‭ ‬العلمية‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للدحض‭ ‬بسبب‭ ‬علميّتها‭ ‬وعموميّتها‭.‬

‭ ‬

ظاهرة‭ ‬مادية‭ ‬

هناك‭ ‬بالطبع‭ ‬فلاسفة‭ ‬آخرون‭ ‬تبنّوا‭ ‬النهج‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬أثّر‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬النزعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬للتنوير‭ ‬عبر‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الإنسان‭ ‬وكأنه‭ ‬ظاهرة‭ ‬مادية‭ ‬صِرفة‭.‬

ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬بل‭ ‬طال‭ ‬العِلم‭ ‬نفسه،‭ ‬فقد‭ ‬برزت‭ ‬ظاهرتان‭ ‬أعادتا‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما‭ ‬جانبًا‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬العلم‭ ‬السابق‭ ‬قبل‭ ‬الحضارة‭ ‬المدنيّة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وهما‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬وتسييس‭ ‬العلم‭. ‬

فمسألة‭ ‬أدلجة‭ ‬العلم‭ ‬نجدها‭ ‬واضحة‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬منظّري‭ ‬الفكر‭ ‬الماركسي‭ ‬الذين‭ ‬عملوا‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬العلم‭ ‬بأيديولوجيتهم،‭ ‬وتفسير‭ ‬النظريات‭ ‬والقوانين‭ ‬والحقائق‭ ‬العلمية‭ ‬بناء‭ ‬عليها،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تطلّب‭ ‬الأمر‭ ‬تطويع‭ ‬العلم‭ ‬ومنجزاته‭ ‬لمصلحتها‭. ‬

وقاد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬إخضاع‭ ‬العلم‭ ‬لسُلطة‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬أي‭ ‬إعادة‭ ‬العلم‭ ‬للخضوع‭ ‬للسلطة‭ ‬التي‭ ‬تخلّص‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهذا‭ ‬ضيّق‭ ‬من‭ ‬مجال‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬الحُر،‭ ‬وغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أية‭ ‬معطيات‭ ‬أو‭ ‬اكتشافات‭ ‬علمية‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬الأيديولوجيا‭. ‬

أما‭ ‬الظاهرة‭ ‬الثانية‭ ‬فهي‭ ‬تسييس‭ ‬العلم،‭ ‬وإلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬أدلجته‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬إذ‭ ‬تم‭ ‬إخضاع‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬والمنجزات‭ ‬العلمية‭ ‬للتسييس‭ ‬والأدلجة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬العقد‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬توجيهه،‭ ‬فنجد‭ ‬التوجّه‭ ‬الكبير‭ ‬لصناعة‭ ‬السلاح‭ ‬وتطويره‭ ‬عند‭ ‬المعسكرين‭ ‬الاشتراكي‭ ‬والرأسمالي،‭ ‬وتوجيه‭ ‬السوفييت‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬لاستكشاف‭ ‬الفضاء،‭ ‬حيث‭ ‬برعوا‭ ‬في‭ ‬السلاح‭ ‬والفضاء،‭ ‬وأهملوا‭ ‬الجوانب‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬والصناعة‭.‬

وبرز‭ ‬عامل‭ ‬آخر‭ ‬جاء‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الـ‭ ‬19،‭ ‬وهو‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬حدودًا‭ ‬لا‭ ‬يتجاوزها‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭.‬

وفي‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬هناك‭ ‬بالفعل‭ ‬حدود‭ ‬للبحث‭ ‬العلمي‭ ‬التجريبي‭ ‬الذي‭ ‬يقتصر‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬الأشياء‭ ‬المادية،‭ ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬يبحث‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬مادي،‭ ‬مثل‭ ‬القيم‭ ‬والمعتقدات‭ ‬ومعنى‭ ‬الحياة‭ ‬وغيرها‭. ‬وقد‭ ‬دفع‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬التشكك‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬وقدراته،‭ ‬وفتح‭ ‬المجال‭ ‬إلى‭ ‬عودة‭ ‬بعض‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الفلسفية‭ ‬التي‭ ‬تعطي‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬هامشًا‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬الحقائق‭ ‬وإعلائها‭ ‬على‭ ‬الحقائق‭ ‬العلمية،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬هنري‭ ‬برجسون‭ ‬في‭ ‬مذهبه‭ ‬الحدسي،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أعاد‭ ‬حضور‭ ‬المعتقدات‭ ‬وما‭ ‬يلحق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬وطقوس‭ ‬وتصورات‭ ‬ورؤى‭ ‬ذاتية‭ ‬للعالم‭ ‬والكون،‭ ‬وتجذّر‭ ‬الأمر‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن،‭ ‬وتهاوي‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬وبروز‭ ‬الأديان‭ ‬كعنصر‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭. ‬

لقد‭ ‬ساهم‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭ ‬على‭ ‬النزعة‭ ‬العلمية‭ ‬وحدّت‭ ‬من‭ ‬انتشارها‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬

 

النزعة‭ ‬العقلية

كان‭ ‬تحرير‭ ‬العقل‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬منجزات‭ ‬عصر‭ ‬النهضة،‭ ‬فقد‭ ‬خضع‭ ‬العقل‭ ‬لسلطة‭ ‬فكرية‭ ‬وعقائدية‭ ‬سابقًا‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الفكاك‭ ‬منها‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭. ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬التفكير‭ ‬العقلاني‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬صامدًا‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬كبير،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التراجعات‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬مختلفة‭. ‬فقد‭ ‬تمت‭ ‬مصادرة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬النزعات‭ ‬القومية‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الشوفيني‭ ‬التي‭ ‬تبنّت‭ ‬الثقافة‭ ‬العرقية‭ ‬الإقصائية،‭ ‬وقادت‭ ‬إلى‭ ‬الصراعات‭ ‬والحروب‭ ‬القومية‭. ‬

كما‭ ‬كان‭ ‬للأيديولوجيا‭ ‬حصة‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬مصادرة‭ ‬العقل‭ ‬والتفكير‭ ‬العقلاني،‭ ‬إذ‭ ‬قيدت‭ ‬العقل‭ ‬بنمط‭ ‬فكري‭ ‬أيديولوجي‭ ‬واحد،‭ ‬ورفضت‭ ‬الأنماط‭ ‬الأخرى،‭ ‬وحصرتهُ‭ ‬بمصطلحات‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬نظرته‭ ‬وتفسيره‭ ‬للواقع،‭ ‬وأصبح‭ ‬يفسّر‭ ‬العالم‭ ‬وما‭ ‬يجري‭ ‬فيه‭ ‬بأفكار‭ ‬مسبقة‭ ‬وجاهزة‭ ‬ذات‭ ‬بُعد‭ ‬أحادي‭ ‬يقصي‭ ‬أيّ‭ ‬تفسيرات‭ ‬أخرى‭. ‬ولعلّ‭ ‬أشد‭ ‬النزعات‭ ‬التي‭ ‬تلغي‭ ‬العقل‭ ‬تمامًا‭ ‬هي‭ ‬الأصولية‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬التطرف‭ ‬والعنف،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬الإرهاب،‭ ‬وهي‭ ‬منتشرة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭ ‬وما‭ ‬تشهده‭ ‬أوربا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬نزعات‭ ‬شعبوية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عرقي‭ ‬أو‭ ‬قومي‭ ‬إقصائي‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬عندما‭ ‬وصلت‭ ‬الأحزاب‭ ‬النازية‭ ‬والفاشية‭ ‬إلى‭ ‬سدّة‭ ‬الحكم،‭ ‬فهذه‭ ‬القوى‭ ‬لا‭ ‬تقيم‭ ‬وزنًا‭ ‬للعقل،‭ ‬ولا‭ ‬تحاور‭ ‬مَن‭ ‬يخالفها،‭ ‬بل‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬إقصائه‭ ‬بأي‭ ‬وسيلة‭ ‬كانت‭. ‬

وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬الجذرية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بها‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالعلم‭ ‬والمؤسسات‭ ‬العلمية،‭ ‬وتحقيق‭ ‬تطورات‭ ‬مذهلة‭ ‬خلال‭ ‬القرون‭ ‬الخمسة‭ ‬الماضية،‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬نظام‭ ‬يفتقر‭ ‬للعدالة،‭ ‬ويتضمن‭ ‬مقوّمات‭ ‬الاستغلال‭ ‬وقيم‭ ‬الأنانية،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تعمل‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬ظهر‭ ‬فيها‭ ‬التنوير‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬مجتمعات‭ ‬العالم‭ ‬الأخرى‭ ‬بطريقة‭ ‬تتّسق‭ ‬مع‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬أنجبتها‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭.‬

 

اقتصاد‭ ‬السوق

أجهضت‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬الأفكار‭ ‬التنويرية‭ ‬التي‭ ‬تزامنت‭ ‬مع‭ ‬تطورها،‭ ‬لدرجة‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬تحتضن‭ ‬هكذا‭ ‬أفكار،‭ ‬وما‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أوجه‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقيم‭ ‬وزنًا‭ ‬للإنسان‭ ‬ولا‭ ‬القيم‭ ‬ولا‭ ‬الآثار‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬صلاحية‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬لقيم‭ ‬التنوير‭ ‬والعدالة‭ ‬الحقيقية‭. ‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬نجد‭ ‬بديل‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬رحِم‭ ‬أفكار‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬وهي‭ ‬الماركسية،‭ ‬واستمرت‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬لم‭ ‬تقدم‭ ‬نموذجًا‭ ‬يعكس‭ ‬بالفعل‭ ‬قيم‭ ‬وأفكار‭ ‬التنوير‭. ‬

فقد‭ ‬تحولت‭ ‬الماركسية‭ ‬إلى‭ ‬أيديولوجية‭ ‬عقائدية‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬شارحي‭ ‬ماركس‭ ‬شلّوا‭ ‬تمامًا‭ ‬قدرة‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬التجديد‭ ‬والتطوير‭ ‬بالفكر،‭ ‬وبنوا‭ ‬نظامًا‭ ‬دكتاتوريًّا‭ ‬بوليسيًّا‭ ‬قمع‭ ‬الإنسان‭ ‬وهمّشه‭ ‬وصادر‭ ‬قدراته،‭ ‬وتمّت‭ ‬أدلجة‭ ‬العلم‭ ‬وتوجيهه،‭ ‬وأصبح‭ ‬الحزب‭ ‬الحاكم‭ ‬هو‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تفتقر‭ ‬لأي‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التعددية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

‭ ‬ومع‭ ‬انهيار‭ ‬النظم‭ ‬الاشتراكية‭ ‬انحسرت‭ ‬قيم‭ ‬اليسار‭ ‬ولم‭ ‬يقدّم‭ ‬بديل‭ ‬فعلي‭ ‬للرأسمالية‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬أو‭ ‬معالجات‭ ‬فكرية‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬فعلي‭ ‬للقضايا‭ ‬المعاصرة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬يحدّ‭ ‬من‭ ‬المشكلات‭ ‬المتفاقمة‭ ‬حاليًا،‭ ‬ويستقطب‭ ‬المجاميع‭ ‬المتذمرة‭ ‬من‭ ‬أوضاعها‭ ‬المعيشية،‭ ‬ووقف‭ ‬حالة‭ ‬التدهور‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬يكاد‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭. ‬

في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬أخفق‭ ‬ليس‭ ‬أفكار‭ ‬التنوير‭ ‬وقيمه،‭ ‬بل‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أهلًا‭ ‬لها‭!! ‬‭‬■