زمن الورق بعيدًا عن الصور النمطية

زمن الورق بعيدًا عن الصور النمطية

يبدأ العام الجديد محمّلًا بموروثات الأعوام السابقة، بكل ما فيها من سعادة وتعاسة، إنجازات وانتكاسات، وأسئلة كثيرة تبقى حائرة لم تجد من يجيب عنها بفضل العلم أو الاعتراف أو اكتشاف أدلّة جديدة، من بين تلك الأسئلة ما يحمل قلقًا كبيرًا بحجم المؤشرات التي تصرّح ولا تلمّح بأن التغيير قادم ولا بدّ من التكيّف معه بأي شكل من الأشكال، لذلك تبرز أهمية ومكانة أصحاب الرؤى البعيدة ودور النقاشات المعمقة المتواصلة لمختلف المجالات في إحداث التغيير المطلوب ووضع الخيارات الممكنة التي تجعل من عملية التحول تتم من دون أضرار كبيرة وممتدة.

 

على‭ ‬صعيد‭ ‬الشؤون‭ ‬الثقافية،‭ ‬يتجدد‭ ‬الموضوع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬والأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حوله،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬مستقبل‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية؟‭ ‬ولازلتُ‭ ‬أتذكّر‭ ‬الندوة‭ ‬الفكرية‭ ‬القيّمة‭ ‬التي‭ ‬أقامتها‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬المجلات‭ ‬الثقافية‭... ‬مهمة‭ ‬الإصلاح‭ ‬وسؤال‭ ‬المعرفة‮»‬‭ ‬بداية‭ ‬عام‭ ‬2007م،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬13‭ ‬سنة،‭ ‬حيث‭ ‬نوقش‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ثماني‭ ‬جلسات‭ ‬رئيسة،‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأبحاث‭ ‬والشهادات‭ ‬والتجارب‭ ‬الشخصية،‭ ‬تمحورت‭ ‬حول‭ ‬الأدوار‭ ‬الحيوية‭ ‬لذلك‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المجلات،‭ ‬مثل‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬التجارب‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬الأدب‭ ‬والإبداع‭ ‬ونشر‭ ‬نتاجات‭ ‬أهم‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب،‭ ‬وقد‭ ‬نشرت‭ ‬أبحاث‭ ‬تلك‭ ‬الندوة‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬الفصلية‭ ‬على‭ ‬جزأين؛‭ ‬69‭ (‬يوليو‭ ‬2007‭) ‬و70‭ (‬أكتوبر‭ ‬2007‭).‬

عندما‭ ‬أتصفح‭ ‬أبحاث‭ ‬تلك‭ ‬الندوة‭ ‬بصورة‭ ‬سريعة‭ ‬وأقرأها‭ ‬بمنظور‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬الآن،‭ ‬أجد‭ ‬ملاحظة‭ ‬عامّة‭ ‬خيمت‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬أبحاثها،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬النشر‭ ‬الرقمي‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬كخطر‭ ‬مُحدق‭ ‬يتهدّد‭ ‬عالَم‭ ‬المطبوعات‭ ‬الورقية،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬تم‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬كعامل‭ ‬مهم‭ ‬سيساهم‭ ‬في‭ ‬زيادة‭ ‬انتشار‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬قلّة‭ ‬الإقبال‭.‬

تلك‭ ‬النظرة‭ ‬أجد‭ ‬لها‭ ‬تفسيرًا‭ ‬منطقيًا،‭ ‬لأن‭ ‬مقدار‭ ‬الطفرة‭ ‬الرقمية‭ ‬آنذاك‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬استعمال‭ ‬الحاسوب‭ ‬المحمول‭ ‬وقراءة‭ ‬الرسائل‭ ‬القصيرة،‭ ‬ومشاهدة‭ ‬بعض‭ ‬مقاطع‭ ‬الفيديو،‭ ‬بعكس‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬اتصال‭ ‬أقرب‭ ‬للالتحام‭ ‬مع‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شاشات‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬لذلك‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تهيمن‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬نقاشات‭ ‬أيّ‭ ‬محفل‭ ‬يتناول‭ ‬موضوع‭ ‬النشر‭ ‬الرقمي‭ ‬ومصير‭ ‬عالَم‭ ‬الورق‭ ‬رؤى‭ ‬مغايرة‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يطرح‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬ليست‭ ‬بالبعيدة‭ ‬نسبيًا‭.‬

 

أذواق‭ ‬القاعدة‭ ‬القرائية

لعلّ‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬طرحُها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬المطبوعات‭ ‬الورقية،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الاجترار‭ ‬هو‭ ‬طرح‭ ‬أسئلة‭ ‬مختلفة‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬أجوبة‭ ‬تشخّص‭ ‬لنا‭ ‬حقيقة‭ ‬الواقع‭ ‬بصورة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬المسلّمات‭ ‬التي‭ ‬توضع‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬كل‭ ‬نقاش‭ ‬حُكم‭ ‬عليه‭ ‬بالسجن‭ ‬داخل‭ ‬المربع‭ ‬الأول،‭ ‬أولها،‭ ‬وهو‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬أبدأ‭ ‬به‭ ‬النقاش،‭ ‬هل‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬ضعف‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬المطبوعات‭ ‬الورقية،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬المتّهمة‭ ‬بأنها‭ ‬موجّهة‭ ‬للنخب،‭ ‬أم‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬ضَعف‭ ‬القراءة‭ ‬عمومًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي؟‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬تتبعه‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأسئلة،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬المعلومات‭ ‬المتوافرة‭ ‬بطريقة‭ ‬علمية،‭ ‬التي‭ ‬تثبت‭ ‬أن‭ ‬مستوى‭ ‬القراءة‭ (‬تحسَّن‭/ ‬انخفض‭) ‬بعد‭ ‬انتشار‭ ‬أجهزة‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬والألواح‭ ‬الرقمية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬العربية؟

الحديث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للكتب‭ ‬والكتابات‭ ‬الجادة‭ ‬وليس‭ ‬منظومة‭ ‬‮«‬الإلهاء‭ ‬الرقمي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬الناس‭ ‬وعطّلت‭ ‬حواسهم‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬المباشر‭.‬

هل‭ ‬المطبوعات‭ ‬الورقية‭ ‬مكانها‭ ‬سلة‭ ‬واحدة‭ ‬حتى‭ ‬يمكن‭ ‬الحكم‭ ‬عليها‭ ‬بالتساوي‭ ‬ودفعة‭ ‬واحدة؟‭ ‬بمعنى‭ ‬هل‭ ‬الكتب‭ ‬مثل‭ ‬الصحف‭ ‬اليومية‭ ‬مثل‭ ‬المجلات‭ ‬الأسبوعية‭ ‬حتى‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬زمن‭ ‬الورق‭ ‬انتهى؟‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬وغيره‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬إجباري‭ ‬لأن‭ ‬الربط‭ ‬القسري‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬يؤكد‭ ‬لنا‭ ‬ضحالة‭ ‬مستوى‭ ‬بعض‭ ‬النقاشات‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬ارتباط‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬بسوق‭ ‬الإعلانات‭ ‬ودور‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬استمرارها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الرابطة‭ ‬مع‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الإعلانات‭.‬

في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬فيه‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بحالات‭ ‬انهيار‭ ‬مشهودة‭ ‬لصحف‭ ‬ومجلات‭ ‬عريقة‭ ‬لأسباب‭ ‬اقتصادية،‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نسأل،‭ ‬هل‭ ‬تم‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجارب‭ ‬الصحافية‭ ‬لمعرفة‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬فيها‭ ‬ذلك‭ ‬التوقف؟‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬من‭ ‬درس‭ ‬تحولات‭ ‬السوق‭ ‬باكرًا‭ ‬وقرر‭ ‬تحويل‭ ‬مساره‭ ‬إلى‭ ‬الطبعة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬بتدرج‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬أذواق‭ ‬القاعدة‭ ‬القرائية،‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬قطاعًا‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬الانقطاع‭ ‬عن‭ ‬عادة‭ ‬قراءة‭ ‬الصحيفة‭ ‬بهيئتها‭ ‬الورقية،‭ ‬وطالما‭ ‬أن‭ ‬الطلب‭ ‬موجود‭ ‬ومرتفع‭ ‬والسوق‭ ‬الإعلانية‭ ‬منتبهة‭ ‬لذلك‭ ‬ستبقى‭ ‬الطبعة‭ ‬الورقية‭ ‬لوقت‭ ‬أطول‭.‬

تلك‭ ‬تجارب‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬الاطلاع‭ ‬عليها،‭ ‬وعندما‭ ‬نقول‭ ‬تجارب‭ ‬وليس‭ ‬تجربة‭ ‬فنحن‭ ‬نقصد‭ ‬أن‭ ‬النهاية‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬ستتم‭ ‬وفق‭ ‬معطيات‭ ‬ثابتة‭ ‬لتوقفت‭ ‬جميع‭ ‬الصحف‭ ‬الورقية‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة،‭ ‬وأولها‭ ‬اليابان‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬فائضًا‭ ‬تكنولوجيًا،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬لأن‭ ‬لكل‭ ‬صحيفة‭ ‬حساباتها‭ ‬الخاصة‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬بيئتها‭ ‬الخاصة‭.‬

 

زمن‭ ‬مجلة‭ ‬الآداب‭ ‬عام‭ ‬1976

بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬أعداد‭ ‬بعض‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وعاصرت‭ ‬الأحداث‭ ‬الكبرى‭ ‬والتحولات‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬ولعل‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬وجدته‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬القراءات‭ ‬هو‭ ‬تجدد‭ ‬متعة‭ ‬القراءة‭ ‬مع‭ ‬تبدل‭ ‬أسباب‭ ‬البحث،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬محددًا‭ ‬أو‭ ‬عشوائيًا‭.‬

لقد‭ ‬سعيتُ‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬لفهم‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬الصحافية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬عاشوا‭ ‬فيه‭ ‬بعد‭ ‬جهاز‭ (‬الفاكس‭) ‬وخطوط‭ ‬الاتصال‭ ‬الدولي‭ ‬مفتوحة‭ ‬وميسرة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الآن،‭ ‬وكيف‭ ‬أن‭ ‬للبريد‭ ‬الورقي‭ ‬مكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬إنعاش‭ ‬دورة‭ ‬العمل،‭ ‬تجارب‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬غير‭ ‬الحكومية‭ ‬وخاصة‭ ‬المملوكة‭ ‬لفرد‭ ‬أو‭ ‬لأفراد‭ ‬وكيف‭ ‬تعاملت‭ ‬مع‭ ‬المستجدات‭ ‬على‭ ‬اختلافها،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المجلات‭ ‬انتهى‭ ‬للنتيجة‭ ‬نفسها‭ ‬وهي‭ ‬ضعف‭ ‬التمويل‭.‬

‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬اخترت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عام‭ ‬1953م،‭ ‬ففي‭ ‬العام‭ ‬الرابع‭ ‬والعشرين‭ ‬على‭ ‬صدورها،‭ ‬صدرت‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1976م‭ ‬من‭ ‬بغداد،‭ ‬متأخرة‭ ‬سبعة‭ ‬أشهر‭ ‬عن‭ ‬موعدها‭ ‬المعتاد‭ ‬وعن‭ ‬مقرها‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬ظروف‭ ‬حرجة‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬صاحب‭ ‬المجلة‭ ‬ورئيس‭ ‬تحريرها‭ ‬ومؤسسها‭ ‬الدكتور‭ ‬سهيل‭ ‬إدريس‭ ‬كتب‭ ‬افتتاحية‭ ‬ذلك‭ ‬العدد‭ ‬الذي‭ ‬اندمجت‭ ‬فيه‭ ‬ثلاثة‭ ‬أعداد،‭ ‬افتتاحية‭ ‬متعددة‭ ‬المواضيع‭ ‬لمواكبة‭ ‬أهم‭ ‬الأحداث‭ ‬السابقة،‭ ‬ما‭ ‬يهمنا‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬الجزء‭ ‬المتعلق‭ ‬بالتمويل‭ ‬والاستقلالية‭ ‬وتطوير‭ ‬المحتوى‭.‬

كتب‭ ‬إدريس‭ ‬محاورًا‭: ‬

‭ (‬يقول‭ ‬بعضهم‭: ‬إن‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬‭ ‬تعبت‭...‬

فنقول‭: ‬ليس‭ ‬خطرًا‭ ‬أن‭ ‬تتعب،‭ ‬بل‭ ‬الخطر‭ ‬أن‭ ‬يعجزها‭ ‬التعب‭ ‬فتترنّح‭ ‬أو‭ ‬تتهاوى‭ ‬أو‭ ‬تسقط،‭ ‬أو‭ ‬تغيب‭!‬

أما‭ ‬وأنها‭ ‬مستمرة،‭ ‬وصامدة،‭ ‬وماضية‭ ‬في‭ ‬دربها،‭ ‬برغم‭ ‬كل‭ ‬العوائق‭ ‬والعراقيل،‭ ‬فذلك‭ ‬يحسب‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬المزايا،‭ ‬ولا‭ ‬يحسب‭ ‬عليها‭...).‬

لقد‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬الأسطر‭ ‬السابقة‭ ‬نبرة‭ ‬متشابهة‭ ‬تقال‭ ‬عن‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬وسؤالي‭ ‬مَنْ‭ ‬الذي‭ ‬تعب‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تواصل‭ ‬رسالتها‭ ‬أم‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬برمته‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يعاني‭ ‬التعب؟

يواصل‭ ‬إدريس‭ ‬حواره‭ (‬ويقول‭ ‬آخرون‭: ‬ليست‭ ‬المادة‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬تنشرها‭ ‬المجلة‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬سنواتها‭ ‬الماضيات‭...‬

فنقول‭ ‬إن‭ ‬المادة‭ ‬الأدبية‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الآداب‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الأدباء،‭ ‬يجودونها‭ ‬أو‭ ‬يهبطون‭ ‬بها،‭ ‬وقصارى‭ ‬ما‭ ‬تستطيعه‭ ‬المجلة‭ ‬أن‭ ‬تختار‭ ‬مما‭ ‬يردها،‭ ‬أو‭ ‬تستكتب‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬تثق‭ ‬بجودة‭ ‬إنتاجهم‭).‬

في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرد‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1976م،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬قوله‭ ‬اليوم؟‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬يردد‭ ‬تلك‭ ‬المزاعم‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬فرصة‭ ‬للنشر‭ ‬في‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬وسيلة‭ ‬غير‭ ‬إطلاق‭ ‬الاتهامات‭.‬

 

مجلات‭ ‬الأفراد‭ ‬ومجلات‭ ‬الوزارات‭ ‬

وفي‭ ‬إشارة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الحنق،‭ ‬كما‭ ‬خلت‭ ‬من‭ ‬الكلمة‭ ‬السحرية‭ (‬البعض‭)‬،‭ ‬كشف‭ ‬إدريس‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬المنافسة‭ ‬غير‭ ‬المتوازنة‭ ‬بين‭ ‬المجلات‭ ‬المملوكة‭ ‬للأفراد‭ ‬والمجلات‭ ‬التي‭ ‬أسماها‭ ‬مجلات‭ ‬وزارات‭ ‬الإعلام‭ ‬العربية،‭ ‬وكيف‭ ‬أن‭ ‬اجتذاب‭ ‬أقلام‭ ‬الكتاب‭ ‬بات‭ ‬صعبًا‭: (‬هذا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تنافس‭ ‬المجلات‭ ‬الأدبية‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬وسيلة‭ ‬اجتذاب‭ ‬الأقلام،‭ ‬نقصد‭ ‬الوسيلة‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أكثر‭ ‬توافرًا‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬وزارات‭ ‬الإعلام‭ ‬العربية‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬مؤسسة‭ ‬فردية‭ ‬خاصة‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تعرض‭ ‬نفسها‭ ‬لخسارة‭ ‬تؤدي‭ ‬بها،‭ ‬إذا‭ ‬طال‭ ‬عليها‭ ‬الزمن،‭ ‬إلى‭ ‬إغلاق‭ ‬أبوابها‭...). ‬

وضمن‭ ‬السياق‭ ‬نفسه‭ (‬إننا‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬نشكو،‭ ‬وإنما‭ ‬نورد‭ ‬وقائع،‭ ‬غير‭ ‬أننا‭ ‬واعون‭ ‬لحقيقة‭ ‬واضحة‭: ‬هي‭ ‬أن‭ ‬حرصنا‭ ‬على‭ ‬الاستقلال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬التعبير،‭ ‬وعدم‭ ‬الارتهان‭ ‬لأية‭ ‬سلطة‭ ‬عربية‭ ‬يتطلبان‭ ‬ثمنًا‭ ‬معينًا،‭ ‬هو‭ ‬ضعف‭ ‬الموارد‭ ‬المساعدة،‭ ‬ولكننا‭ ‬ندفع‭ ‬هذا‭ ‬الثمن‭ ‬عن‭ ‬طوع‭ ‬ورضا‭...‬

أما‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأقلام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬‭ ‬قد‭ ‬هجرتها‭ ‬إلى‭ ‬مجلات‭ ‬وزارات‭ ‬الإعلام‭ ‬والثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬يرتبط‭ ‬بحاجة‭ ‬متبادلة‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأقلام‭ ‬وهذه‭ ‬المجلات‭) ‬انتهى‭ ‬الاقتباس‭. ‬

 

الإعلان‭ ‬التجاري‭ ‬قبل‭ ‬تطوير‭ ‬المحتوى

لقد‭ ‬وجدتُ‭ ‬سجالات‭ ‬الماضي‭ ‬أكثر‭ ‬عمقًا‭ ‬مما‭ ‬يحصل‭ ‬اليوم،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تتم‭ ‬بين‭ ‬أصحاب‭ ‬رأي‭ ‬وخبرة‭ ‬ينتجون‭ ‬أفكارهم‭ ‬دون‭ ‬مؤثرات‭ ‬رقمية‭ ‬ويكتسبون‭ ‬معارفهم‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والتجارب‭ ‬الذاتية،‭ ‬وما‭ ‬يكتبونه‭ ‬يأخذ‭ ‬وقته‭ ‬من‭ ‬التأني‭ ‬قبل‭ ‬النشر‭ ‬وليس‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬تنافسية‭ ‬أنا‭ ‬الأول‭ ‬تعليقًا‭ ‬في‭ ‬
‮«‬فيسبوك‮»‬‭.‬

ما‭ ‬أجده‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬آراء‭ ‬حول‭ ‬مستقبل‭ ‬النشر‭ ‬الورقي‭ ‬عمومًا‭ ‬والصحافة‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬حسم‭ ‬الأمر‭ ‬متأثرًا‭ ‬بما‭ ‬يتردد‭ ‬حوله‭ ‬بأن‭ ‬القضية‭ ‬أقفلت،‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬وهو‭ ‬الفريق‭ ‬الذي‭ ‬أنتمي‭ ‬إليه‭ ‬يحمل‭ ‬إجابة‭ ‬مختلفة،‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يلامس‭ ‬رأي‭ ‬الفريق‭ ‬الأول‭ ‬بحكم‭ ‬أن‭ ‬التمويل‭ ‬السخي‭ ‬لن‭ ‬يتحالف‭ ‬سوى‭ ‬مع‭ ‬المطبوعات‭ ‬التي‭ ‬تجذب‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬والمشتركين،‭ ‬وفيها‭ ‬ما‭ ‬يلامس‭ ‬الواقع‭ ‬المستجد‭ ‬ليشمل‭ ‬مصير‭ ‬المطبوعات‭ ‬الورقية‭.‬

يجب‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المطبوعات‭ ‬الورقية‭ ‬وبخاصة‭ ‬الصحف‭ ‬اليومية‭ ‬غير‭ ‬الحكومية‭ ‬المتنوعة‭ ‬في‭ ‬أبوابها،‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الصفحة‭ ‬الثقافية‭ ‬هي‭ ‬الضحية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أي‭ (‬توزيعة‭) ‬يفرضها‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬الفعلي،‭ ‬وهو‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬الإعلان،‭ ‬لأن‭ ‬الإعلانات‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بالأول‭ ‬والأخير‭ ‬كيس‭ ‬الدراهم‭ ‬الذي‭ ‬يدفع‭ ‬كل‭ ‬تكاليف‭ ‬المؤسسة‭ ‬الصحافية،‭ ‬هذه‭ ‬التضحية‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬أبدًا‭ ‬مع‭ ‬صفحات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬أو‭ ‬الرياضة‭ - ‬مثلا‭ - ‬لأن‭ ‬الأولى‭ ‬لها‭ ‬سند‭ ‬نوعي‭ ‬مؤثر‭ ‬والثانية‭ ‬تحظى‭ ‬بقاعدة‭ ‬جماهيرية‭ ‬تسندها‭ ‬بقوة‭.‬

‭ ‬وصحيح‭ ‬أن‭ ‬الصحف‭ ‬الورقية‭ ‬باتت‭ ‬تعاني‭ ‬المنافسة‭ ‬مع‭ ‬النشر‭ ‬الرقمي،‭ ‬والسبب‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬محتواها‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬فقط‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬أحوال‭ ‬السوق‭ ‬الإعلانية‭ ‬انقلبت‭ ‬لمصلحة‭ ‬النشر‭ ‬الرقمي،‭ ‬الذي‭ ‬فضّل‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬شخصية‭ ‬مؤثرة‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬تقوم‭ ‬بالتسويق‭ ‬لمصلحة‭ ‬صاحب‭ ‬البضاعة‭ ‬أيًّا‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬متابعيه‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يتجاوزون‭ ‬نصف‭ ‬المليون‭ ‬متابع،‭ ‬وهذا‭ ‬الرقم‭ ‬لا‭ ‬تحظى‭ ‬به‭ ‬المجلات‭ ‬والصحف،‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الإعلانية‭ ‬شكّل‭ ‬ضغطًا‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المطبوعات،‭ ‬لذلك‭ ‬خرجت‭ ‬تباعًا‭ ‬من‭ ‬السوق،‭ ‬إما‭ ‬بالإقفال‭ ‬بشكل‭ ‬نهائي‭ ‬وتسريح‭ ‬جميع‭ ‬العاملين‭ ‬فيها،‭ ‬وإما‭ ‬بوقف‭ ‬المطبوعة‭ ‬الورقية‭ ‬والاستمرار‭ ‬على‭ ‬الموقع‭ ‬الإلكتروني‭.‬

 

لنأخذ‭ ‬نفسًا‭ ‬عميقًا‭ ‬

في‭ ‬الختام‭ ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬فإن‭ ‬أي‭ ‬مطبوعة‭ ‬ورقية‭ ‬تريد‭ ‬الاستمرار‭ ‬عليها‭ ‬التفكير‭ ‬جديًا‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬ميزانيتها‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬تطوير‭ ‬محتوياتها‭ ‬في‭ ‬الطبعتين‭ ‬الورقية‭ ‬والإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬تستوعب‭ ‬مميزات‭ ‬العالم‭ ‬الرقمي‭ ‬وتخلق‭ ‬عالمًا‭ ‬موازيًا‭ ‬يواكب‭ ‬أحداث‭ ‬اللحظة،‭ ‬ويعتبر‭ ‬قياس‭ ‬توجهات‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬باستمرار‭ ‬أمرًا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنه،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬آليات‭ ‬الرصد‭ ‬صارت‭ ‬أسهل‭ ‬لوجود‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أما‭ ‬سقف‭ ‬الحرية‭ ‬وحجب‭ ‬الأخبار‭ ‬والآراء‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬العناوين‭ ‬المعبّرة‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬الحبس‭ ‬داخل‭ ‬المربع‭ ‬رقم‭ ‬واحد،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يعقل‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬صحف‭ ‬ومجلات‭ ‬اليوم‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬نصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭!!‬

لنأخذ‭ ‬نفسًا‭ ‬عميقًا‭ ‬ونسأل‭ ‬السؤال‭ ‬الأخير‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نلقي‭ ‬ما‭ ‬بأيدينا‭: ‬هل‭ ‬جهّزنا‭ ‬البديل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نقفز‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى؟■