أي مستقبل ينتظر العالم؟

أي مستقبل ينتظر العالم؟

مثّل دخول الألفية الثالثة بداية لمرحلة من التحولات العالمية التي بدأنا نتلمّسها خلال العقد الثاني منها، فهناك تغيّرات اقتصادية كبرى تجرى في العالم، ألقت بظلالها على الخريطة السياسية العالمية والمؤسسات الدولية وغيرها، مما يفتح الباب للتنبؤ حول مستقبل العالم والبشرية بشكل عام. 
فهناك عدد من المستجدات ذات التأثير القوي في تشكيل الواقع الإنساني والعالمي، منها تحوّل آسيا إلى القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وتراجُع الدول الرأسمالية الغربية، ودخول التكنولوجيا بقوة في حياة الإنسان وآثارها المترتبة على ذلك في مختلف المجالات، بروز قوى سياسية جديدة، وتراجُع القوى التقليدية، والتساؤلات حول جدوى طبيعة النظام السياسي الديمقراطي والقيم الليبرالية، والزيادة السكانية على مستوى العالم وظاهرة الاحتباس الحراري التي بدأت تضرب في العمق وأخذت آثارها الفعلية بالظهور، وغيرها.

 

هذه‭ ‬المستجدات‭ ‬تضع‭ ‬علامات‭ ‬استفهام‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬العالم‭ ‬والعلاقات‭ ‬الدولية،‭ ‬وكذلك‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬وعلى‭ ‬التراث‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬أنجز‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬النهضة،‭ ‬وحتى‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬مثّلت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أبشع‭ ‬مآسي‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني‭.‬

 

نظام‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية

دروس‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬القسوة‭ ‬أنها‭ ‬أصبحت‭ ‬محفورة‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ودفعت‭ ‬القوى‭ ‬الخيّرة‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬صياغة‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬المأساة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬مع‭ ‬تطوّر‭ ‬الأسلحة‭ ‬الذريّة‭ ‬والنووية‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تبقي‭ ‬هذه‭ ‬المرّة‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬لو‭ ‬استخدمت‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬جديدة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الانقسام‭ ‬الذي‭ ‬تمخّض‭ ‬عنه‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب،‭ ‬وهو‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬المعسكرين‭ ‬الاشتراكي‭ ‬والرأسمالي‭ ‬الذي‭ ‬عُرف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬الباردة‮»‬،‭ ‬وكادت‭ ‬في‭ ‬مرات‭ ‬قليلة‭ ‬جدًا‭ ‬تُحدث‭ ‬مواجهات‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الطرفين‭ ‬عملا‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مؤسسات‭ ‬دولية‭ ‬قادرة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬المشكلات‭ ‬والقضايا‭ ‬والصراعات‭ ‬الدائرة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬الدمار‭ ‬الذي‭ ‬خلّفته‭ ‬الحرب‭ ‬وصياغة‭ ‬القوانين‭ ‬والاتفاقيات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬تجنّب‭ ‬العالم‭ ‬تكرار‭ ‬مأساة‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭.‬

وقد‭ ‬مارس‭ ‬الطرفان‭ ‬سياسة‭ ‬ضبط‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المواجهات،‭ ‬وبالأخص‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬نظرته‭ ‬للعالم‭ ‬استراتيجية‭ ‬لا‭ ‬آنيّة،‭ ‬وقائمة‭ ‬على‭ ‬سياسة‭ ‬ضبط‭ ‬النفس‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬السلم‭ ‬ونبذ‭ ‬الحرب‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفقر،‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬عالَم‭ ‬سلمي‭ ‬وخال‭ ‬من‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية‭.‬

وقد‭ ‬تمّت‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والدولة‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬جديدة،‭ ‬آخذين‭ ‬العبرة‭ ‬من‭ ‬المقدمات‭ ‬التي‭ ‬مهّدت‭ ‬لوصول‭ ‬القوى‭ ‬الفاشية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬للحكم،‭ ‬وإطلاقها‭ ‬شرارة‭ ‬الحرب‭ ‬الكونية‭.‬

 

اهتمام‭ ‬واسع

حظي‭ ‬الإعلان‭ ‬العالمي‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬باهتمام‭ ‬عالمي‭ ‬واسع‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب،‭ ‬وحظيت‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أو‭ ‬التحول‭ ‬لبناء‭ ‬أنظمة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬أيضًا‭ ‬بالاهتمام‭ ‬نفسه،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬طرحها‭ ‬هو‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬التسلط‭ ‬والقمع‭ ‬والتهميش،‭ ‬وعدم‭ ‬عودة‭ ‬القوى‭ ‬الفاشية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭.‬

كما‭ ‬كانت‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬والقضاء‭ ‬على‭ ‬العنصرية‭ ‬والتخلّص‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬وبناء‭ ‬دول‭ ‬ومجتمعات‭ ‬مدنية‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬السلام‭ ‬وبناء‭ ‬مجتمعات‭ ‬عادلة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬سمات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭.‬

فلم‭ ‬يقف‭ ‬الصراع‭ ‬الأيديولوجــي‭ ‬بيـــن‭ ‬المعسكرين‭ ‬المتنافسين‭ ‬ضد‭ ‬بناء‭ ‬المؤسسات‭ ‬والهيئات‭ ‬الدولية‭ ‬ونشر‭ ‬المبادئ‭ ‬والقيم‭ ‬العصرية،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬من‭ ‬منطلقاته‭ ‬الفكرية‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الاشتراكيون‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬نظرة‭ ‬جماعية‭ ‬واجتماعية،‭ ‬ووصفوا‭ ‬ديمقراطيتهم‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬الشعبية‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الجماعي،‭ ‬وتصوّرهم‭ ‬للعدالة‭ ‬والدولة‭ ‬كان‭ ‬طبقيًا‭... ‬إلخ‭.‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬قدّم‭ ‬المعسكر‭ ‬الرأسمالي‭ ‬تصوّراته‭ ‬لهذه‭ ‬القيم‭ ‬من‭ ‬منطلقاته‭ ‬الفكرية،‭ ‬حيث‭ ‬طغى‭ ‬الطابع‭ ‬الفردي‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والعدالة‭ ‬وغيرها‭.‬

وبعد‭ ‬انهيار‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬انفردت‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬بقيادة‭ ‬العالم‭ ‬تحت‭ ‬يافطة‭ ‬العولمة،‭ ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬انفردت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تقريبًا‭ ‬بقيادته،‭ ‬وتم‭ ‬تشكيل‭ ‬العالم‭ ‬وفق‭ ‬رؤية‭ ‬اقتصادية‭ ‬معولمة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬بقيادة‭ ‬الشركات‭ ‬متعددة‭ ‬الجنسية،‭ ‬وتم‭ ‬تطوير‭ ‬دور‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الدولة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬المشكلات‭ ‬معولمة،‭ ‬وأصبح‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬وإيجاد‭ ‬الحلول‭ ‬لها‭ ‬عالميًا‭ ‬أيضا‭. ‬

واستمرت‭ ‬الأمور،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬لمدة‭ ‬عقدين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصاديــــة‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬2008‭ ‬فهزّت‭ ‬أسس‭ ‬الكيــانات‭ ‬الدولية،‭ ‬ودفعــت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭ ‬ثمنًا‭ ‬لها،‭ ‬وفتحت‭ ‬الاحتمالات‭ ‬أمام‭ ‬إحداث‭ ‬تحولات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬ضــــوء‭ ‬التطورات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية‭ ‬والثورة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وهو‭ ‬بالفعل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭!‬

 

آثار‭ ‬التحولات‭ ‬الاقتصادية

منذ‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬وربما‭ ‬قبلها‭ ‬بقليل،‭ ‬بدأت‭ ‬تبرز‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬قوى‭ ‬جديدة‭ ‬ولاعبون‭ ‬جدد،‭ ‬وبدأت‭ ‬انتفاضات‭ ‬وثورات‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬المعمورة،‭ ‬وأخذت‭ ‬قوى‭ ‬سياسية‭ ‬تقليدية‭ ‬بالتراجع،‭ ‬وحلّت‭ ‬محلها‭ ‬أطراف‭ ‬ذات‭ ‬أطروحات‭ ‬فضفاضة‭ ‬وأخرى‭ ‬عنصرية،‭ ‬وتراجع‭ ‬الفكر‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة،‭ ‬وبدأنا‭ ‬نشاهد‭ ‬قيادات‭ ‬تقود‭ ‬دولًا‭ ‬كاملة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬خبرة‭ ‬تذكر‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬واتجه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬روّجت‭ ‬للعولمة‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬إجراءات‭ ‬حمائية‭ ‬مضادة‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬التكتلات‭ ‬الوحدوية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬البارزة،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬خروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬الوحدة‭ ‬الأوربية‭ ‬المعروف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬بريكست‮»‬‭. ‬

وبعد‭ ‬مضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬أعوام‭ ‬على‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬العالمية،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬العالم‭ ‬يديره‭ ‬قطب‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬الدول‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الغربية،‭ ‬وبالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬هناك‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقطاب‭ ‬رئيسة‭: ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التقليدية،‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭.‬

وألقت‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بظلالها‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬والدول‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترسم‭ ‬نظمه‭ ‬السياسية‭ ‬وسياساته‭ ‬وتنشر‭ ‬قيمها‭ ‬فيه،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬الدول‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الغربية،‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬دور‭ ‬أمريكا‭ ‬كشرطي‭ ‬للعالم‭ ‬بالتراجع،‭ ‬وأخذت‭ ‬تترك‭ ‬فراغات‭ ‬كبيرة‭ ‬بمناطق‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬ودخلت‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬الخط،‭ ‬وأخذت‭ ‬تسدّ‭ ‬جانبًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الفراغات،‭ ‬وكذلك‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬معيّن،‭ ‬فأوضاع‭ ‬الولايات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المتحدة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬كأكبر‭ ‬دولة‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬أثرت‭ ‬على‭ ‬دورها‭ ‬وسياساتها‭ ‬العالمية،‭ ‬وأصبحنا‭ ‬أمام‭ ‬أطراف‭ ‬قديمة،‭ ‬لكن‭ ‬بشخوص‭ ‬وسياسات‭ ‬جديدة‭ ‬وواقع‭ ‬عالمي‭ ‬مختلف،‭ ‬وقضايا‭ ‬ومشكلات‭ ‬عالمية‭ ‬تتباين‭ ‬كثيرًا‭ ‬عمّا‭ ‬سبقها،‭ ‬وأدوات‭ ‬ووسائل‭ ‬تقنية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭. ‬

 

تجربة‭ ‬فريدة

هناك‭ ‬مشكلات‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬الأقطاب‭ ‬الثلاثة‭ ‬تتعلّق‭ ‬بكيفية‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬القيم‭ ‬والمنجزات‭ ‬الحضارية‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬إليها‭ ‬الإنسان،‭ ‬وجاءت‭ ‬بعد‭ ‬تضحيات‭ ‬جسام،‭ ‬وأثبتت‭ ‬نجاحاتها‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المشكلات‭ ‬والقضايا‭.‬

فلو‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬الصيني،‭ ‬سنجد‭ ‬أنه‭ ‬نظام‭ ‬أيديولوجي‭ ‬مغلق‭ ‬لا‭ ‬يكترث‭ ‬إلى‭ ‬الجوانب‭ ‬السياسية‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬كبير،‭ ‬وجلّ‭ ‬تركيزه‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يقلّل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬التجربة‭ ‬الصينية‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬فما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬الصين‭ ‬وتقوم‭ ‬يمثّل‭ ‬تجربة‭ ‬فريدة‭ ‬وإنجازات‭ ‬اقتصادية‭ ‬وعالمية‭ ‬ضخمة،‭ ‬إذ‭ ‬استطاع‭ ‬الصينيون‭ ‬خلال‭ ‬سبعة‭ ‬عقود‭ ‬تحويل‭ ‬بلادهم‭ ‬الاقطاعية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬اليوم‭ ‬القوة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وقريبًا‭ ‬ستصبح‭ ‬الأولى،‭ ‬وهذا‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬محطّ‭ ‬إعجاب‭ ‬وتقدير‭. ‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬روسيا،‭ ‬فنشاهد‭ ‬نظامًا‭ ‬ديمقراطيًا‭ ‬شكليًّا‭ ‬يتناوب‭ ‬على‭ ‬رئاسته‭ ‬ورئاسة‭ ‬وزرائه‭ ‬شخصيتان،‭ ‬ويدار‭ ‬بطريقة‭ ‬أوتوقراطية،‭ ‬وتوجد‭ ‬قيود‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬الحريات‭ ‬المختلفة،‭ ‬وهيمنة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬الوسائل‭ ‬الإعلامية،‭ ‬والتحكم‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وغيرها‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬همّ‭ ‬لراسمي‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬إلا‭ ‬المصالح‭ ‬الخاصة‭ ‬للدولة،‭ ‬وعدم‭ ‬الاكتراث‭ ‬لأي‭ ‬قيم‭ ‬إنسانية‭ ‬وحقوقية،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬أمور‭ ‬أخرى‭. ‬

أما‭ ‬الطرف‭ ‬الثالث،‭ ‬وهو‭ ‬الدول‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الغربية،‭ ‬فقد‭ ‬برزت‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬نزعة‭ ‬شعبوية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬عنصري‭ ‬اجتاحت‭ ‬معظم‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬الغربية،‭ ‬واستطاعت‭ ‬بعض‭ ‬الأحزاب‭ ‬والشخصيات‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬السلطة،‭ ‬وطبّق‭ ‬كثير‭ ‬منها‭ ‬أجندته‭ ‬العنصرية،‭ ‬ملقيًا‭ ‬اللوم‭ ‬على‭ ‬المهاجرين‭ ‬لتراجع‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬والوضع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬تعانيه‭ ‬دولهم،‭ ‬ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬طال‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬وكذلك‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الدولية‭.‬

 

تساؤل‭ ‬مشروع

عندما‭ ‬يوقف‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬عمل‭ ‬البرلمان‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سند‭ ‬قانوني‭ ‬أو‭ ‬عُرفي‭ ‬دستوري،‭ ‬ويضغط‭ ‬رئيس‭ ‬دولة‭ ‬على‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬لخفض‭ ‬الفائدة‭ ‬وتحميله‭ ‬مسؤولية‭ ‬تردّي‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ويهدد‭ ‬بإقالة‭ ‬المحافظ،‭ ‬ويقوم‭ ‬رؤساء‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬بتقليص‭ ‬الحريات‭ ‬والهيمنة‭ ‬على‭ ‬الوسائل‭ ‬الإعلامية،‭ ‬والتدخّل‭ ‬في‭ ‬التعيينات‭ ‬القضائية‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالح‭ ‬أحزابهم‭ ‬وأفكارهم،‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬تفريغ‭ ‬دولة‭ ‬المؤسسات‭ ‬من‭ ‬محتواها‭ ‬وإدارتها‭ ‬بشكل‭ ‬فردي‭ ‬تسلّطي‭ ‬تقريبًا‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬المؤشرات‭ ‬أخيرًا‭ ‬على‭ ‬تراجع‭ ‬بعض‭ ‬الأحزاب‭ ‬الشعبوية‭ ‬والعنصرية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الانتخابات،‭ ‬فإن‭ ‬مؤيدي‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب‭ ‬لم‭ ‬يذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬الطرف‭ ‬النقيض،‭ ‬بل‭ ‬تشير‭ ‬التحليلات‭ ‬إلى‭ ‬التحاقهم‭ ‬بالأحزاب‭ ‬اليمينية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬المتطرفة‭ ‬منها،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬تبنّي‭ ‬القوى‭ ‬اليمينية‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب‭ ‬وأجندتها‭ ‬وفرضها‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭.‬

في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك‭ ‬هنالك‭ ‬تساؤل‭ ‬مشروع،‭ ‬وهو‭ ‬أين‭ ‬القوى‭ ‬اليسارية‭ ‬والحقوقية‭ ‬والمؤمنة‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬والقوى‭ ‬الليبرالية‭ ‬وغيرها؟‭ ‬وهل‭ ‬أخفقت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بديلًا‭ ‬للأطروحات‭ ‬الشوفينية‭ ‬والعنصرية‭ ‬والخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬ببلورته،‭ ‬والذي‭ ‬يجد‭ ‬صدى‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬المعمورة؟

إن‭ ‬ضعف‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬ينذر‭ ‬بمستقبل‭ ‬يشوبه‭ ‬التشاؤم‭ ‬والحذَر،‭ ‬وينبئ‭ ‬بمواجهات‭ ‬ومشكلات‭ ‬وقضايا‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬حلًا‭ ‬عبر‭ ‬الوسائل‭ ‬السلمية‭ ‬والحوار،‭ ‬وتقديم‭ ‬تنازلات‭ ‬مشتركة‭ ‬وغيرها‭. ‬

كما‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحسّن‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬إلى‭ ‬بروز‭ ‬هذه‭ ‬القوى،‭ ‬فالتحولات‭ ‬الاقتصادية‭ - ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭ - ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬وراء‭ ‬ذلك،‭ ‬فالصين‭ ‬مستمرة‭ ‬في‭ ‬تقدّمها‭ ‬الصناعي‭ ‬والتكنولوجي،‭ ‬وخلال‭ ‬نهاية‭ ‬العقد‭ ‬القادم‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬استيراد‭ ‬العلم‭ ‬أو‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬بل‭ ‬ربّما‭ ‬تصدر‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬وستصبح‭ ‬القوة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وتليها‭ ‬الهند،‭ ‬وتأتي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬المركز‭ ‬الثالث،‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬ينذر‭ ‬باستمرار‭ ‬الموجة‭ ‬الشعبوية‭ ‬والعنصرية‭ ‬واليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التقليدية‭. ‬

 

حقيقة‭ ‬الأزمة

ما‭ ‬يواجه‭ ‬العالم‭ ‬مستقبلًا‭ ‬هو‭ ‬مسألة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬المنجزات‭ ‬الحضارية‭ ‬والقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬لها‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬العقول‭ ‬البشرية‭ ‬المتميزة،‭ ‬ويمكن‭ ‬تحديد‭ ‬عدد‭ ‬منها‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭: ‬

أولًا‭: ‬الادّعاء‭ ‬بموت‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والليبرالية‭ ‬كنظم‭ ‬سياسية‭ ‬أمر‭ ‬بالغ‭ ‬الخطورة،‭ ‬ويعطي‭ ‬مبررات‭ ‬للأفراد‭ ‬والأحزاب‭ ‬الأوتوقراطية‭ ‬لضرب‭ ‬دولة‭ ‬المؤسسات‭ ‬وقيمها‭ ‬والانفراد‭ ‬بالحكم‭.‬

ثانيًا‭: ‬يخفي‭ ‬الغالبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬اليمينيين‭ ‬حقيقة‭ ‬الأزمة،‭ ‬وهي‭ ‬أزمة‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬نفسه،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬توجّه‭ ‬سهام‭ ‬الانتقاد‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ندَر،‭ ‬ويتمّ‭ ‬تناول‭ ‬الانعكاسات‭ ‬السياسية‭ ‬لأزمة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬سبب‭ ‬الأزمة،‭ ‬والاستمرار‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تزداد‭ ‬سوءًا‭. ‬

ثالثًا‭: ‬دخلت‭ ‬مسألة‭ ‬الحريات‭ ‬بمختلف‭ ‬ضروبها‭ ‬مرحلة‭ ‬الخطر،‭ ‬فحريّة‭ ‬التعبير‭ ‬والفكر‭ ‬والتعددية‭ ‬والإضراب‭ ‬وإنشاء‭ ‬المؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬الخاصة‭ ‬وغيرها‭ ‬أصبحت‭ ‬تخضع‭ ‬لقيود‭ ‬كثيرة‭ ‬تحدّ‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬الحريات‭ ‬الفعلية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تشير‭ ‬إليه‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬الخاصة‭ ‬بمؤشرات‭ ‬الحرية‭. ‬

رابعًا‭: ‬تداعي‭ ‬الثقافة‭ ‬المدنية‭ ‬وتراجع‭ ‬قيمها،‭ ‬فالثقافة‭ ‬المدنية،‭ ‬في‭ ‬رأيي،‭ ‬هي‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬قدّمه‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬للمجتمعات‭ ‬الحديثة،‭ ‬لما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬قيَم‭ ‬وطرق‭ ‬تفكير‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬التنوع‭ ‬والتعددية‭ ‬وغيرها‭. ‬فغول‭ ‬الثقافة‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬والثقافات‭ ‬العرقية‭ ‬أخذا‭ ‬يطغيان‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬ثقافة‭ ‬ذات‭ ‬بُعد‭ ‬إنساني‭ ‬فعلي‭. ‬

خامسًا‭: ‬التقدّم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يوظّف‭ ‬في‭ ‬استخدامات‭ ‬تهمّش‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬ويحدث‭ ‬تغييرات‭ ‬بنيوية‭ ‬ثقافية‭ ‬شاملة،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬قوى‭ ‬حيّة‭ ‬وعقلانية‭ ‬وتؤمن‭ ‬بالقضايا‭ ‬والقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬التغيير‭ ‬الثقافي‭ ‬بقيمه‭ ‬الجديدة،‭ ‬فستأتي‭ ‬القوى‭ ‬المناقضة‭ ‬لها‭ ‬لصياغة‭ ‬ذلك‭.‬

في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬فإن‭ ‬مضمون‭ ‬المقال‭ ‬ليس‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التشاؤم،‭ ‬بل‭ ‬لدقّ‭ ‬ناقوس‭ ‬الخطر‭ ‬وأخذ‭ ‬الحيطة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تحدث‭ ‬به‭ ‬تغييرات‭ ‬نوعية‭ ‬تطرح‭ ‬تساؤلات‭ ‬عدة‭ ‬حول‭ ‬مستقبل‭ ‬الإنسان‭ ‬والبشرية‭ ■