محمد الثبيتي.. سيد البيد (شاعر العدد)

محمد الثبيتي.. سيد البيد (شاعر العدد)

وهذا سيد البيد، النجم الذي لمع في سماء الجزيرة العربية, شاعرا مختلفا ككل شاعر حقيقي، وعندما هوى جسد النجم بقيت الإضاءة تتوهد عبر أربع مجموعات شعرية, عناوينها تشي بسياقاتها الزمنية بالإضافة إلى مضامينها الشعرية، وهي؛ «عاشقة الزمن الوردي»، و«تهجيت حلما.. تهجيت وهما»، و«التضاريس»، و«موقف الرمال موقف الجناس».

في سياق العزاء الذاتي إثر رحيل الشاعر السعودي محمد الثبيتي عدت لديوانه الأول «أوراق الزمن الوردي».. قراءة ودرسا. لا أدري لماذا ديوانه الأول تحديدا، مع أنه لم يكن الديوان المفضل لي من بين دواوينه الأربعة، لكنني عدت إليه وكأنني أريد استكشاف هذا الشاعر من جديد, بعد أن صار كلمة شعرية في وجدان الزمن. وعلى الرغم من أنها ليست قراءتي الأولى لذلك الديوان فإنها المرة الأولى التي أتوقف فيها مليًا عند مقدمته التي كتبها الشاعر الراحل نفسه, بأسلوب شاعري يليق بذلك الزمن وتلك المرحلة.

وكمن يفسر التقديم, أشار الثبيتي إلى أنه فكر في بادئ الأمر بالطلب من أحد الأدباء الكبار كتابة المقدمة إلا انه عدل عن ذلك لسببين، الأول كما يقول «إنني أردت أن أضع شعري بين يدي القارئ كما هو مجردًا من أي اعتبارات قد تحيطه بهالة من وهج مستعار، سرعان ما ينكشف عند مواجهة البصيرة النافذة. والسبب الثاني: أنني أحببت أن ألقي شيئا من الضوء على بعض قصائد هذه المجموعة..إلخ».

ترى.. أي «وهج مستعار» يعنيه هذا الشاعر وهو يقدم مجموعته الأولى بتلك الثقة الهائلة والحماسة المتقدة؟

هل يمكن لما يسميه بالوهج المستعار أن يخلق شاعرًا من الصفر؟ أعني أن يجعل من اللاشاعر شاعرًا؟

لعل الوهج المستعار، الذي يساهم به الآخرون وليس الشاعر وحده، يستطيع فعل هذا في البداية فقط، أو لعله يوهم المتلقي أنه فعل.. لكنه كأي شيء مستعار سرعان ما يمضي مع الريح وتبقى الحقيقة وحدها راسخة في مجدها الشعري.

الثبيتي الذي كان واعيًا لكل هذا منذ بداياته، كما يبدو من مجمل التقديم، أراد، ربما أن يحمي قصيدته، المختلفة آنذاك ودائمًا، من تلك الظنون التي قد تحيط بأي تجربة إبداعية مميزة في بداياتها، فإما تزيد من توهجها وألقها، وإما أن تساهم في انحسار الضوء عنها للأبد.

وواضح أن هذا الوعي النقدي رافق الثبيتي في كل مراحله الشعرية اللاحقة، وكانت إصداراته القليلة التي وقف بها أخيرًا «موقف الرمال» شاهدًا على ذلك الوعي الذي كانت تزيده القوافي والتفعيلات على مر الزمن اتقادًا.

لكن الأوضح من ذلك كله أن هذه التجربة الثبيتية لم تدرس حتى الآن كما يليق بها، على الرغم من كل الكتابات النقدية التي دارت حولها من دون أن تدخل إلى أعماقها.

ولد شاعرنا محمد عواض الثبيتي في مدينة الطائف السعودية في العام 1952، وتابع تعليمه الأولي في تلك المدينة الجميلة وفي مكة الى أن تخرج في الجامعة حاملا أجازة في علم الاجتماع مما أهله في العمل في المجال التربوي. أما موهبته الشعرية فكانت أكبر من أن تنضوي تحت جناح ذلك العمل التقليدي، فقد بدأ بكتابة الشعر منذ مراهقته وحتى آخر أيام وعيه دون أن يفتر عن ممارسة دوره لا كشاعر وحسب، بل أولا كمثقف قادر دائمًا على مجابهة التقليد وكسر المألوف في ما يكتب وما يرى ويعتقد أيضًا. ولهذا يمكن رصد تجربة الثبيتي الشعرية في سياق التحديات التي لاقتها القصيدة العربية الحداثية في المملكة العربية السعودية في ثمانينيات القرن الماضي تحديدًا. فبالإضافة إلى التحديات الفنية التي واجهت ذائقة شعرية تقليدية لدى المتلقي، كان على تلك التجربة التي يعتبر الثبيتي أحد عناصرها الأكثر إثارة للجدل أن تتحدى مدرسة «فكرية» تواجه خصومها بسلاح التدين ومعطيات العقيدة وفقا لفهم ضيق ومبتسر وأحيانًا مغرض أيضا لها.. مما تسبب في انكسار تلك التجربة في ذلك الأفق الزمنى حتى حين.

برحيل الثبيتي، أحد أهم شعراء العرب في القرن العشرين - كما أرى - في العام 2011 إثر جلطة أصابت القلب المرهق وأدخلت سيد البيد في غيبوبة سلبت روحه تدريجيًا، اكتملت دائرته الشعرية وبقيت البؤرة بحاجة إلى اكتشاف حقيقي يفجرها من الداخل، ولعل في ذلك الاكتمال النهائي فرصة مناسبة للتفجير النقدي المطلوب.. فمتى؟.

 

سعدية مفرح