اريتريا من الثورة إلى الدولة مشكلات الماضي وصعوبات المستقبل محمد الرميحي

اريتريا من الثورة إلى الدولة مشكلات الماضي وصعوبات المستقبل

حديث الشهر
إريتريا ليست مجرد دولة جديدة، تنهض في مقدمة القرن الإفريقي المضطرب، ولكنها معضلة، تثير من الأسئلة أكثر مما تطرح من الإجابات. ويأتي الإعلان عن استقلالها في الرابع والعشرين من مايو الماضي، ليطرح من جديد قضايا الهوية والأمن والتجانس بين الجماعات العرقية، والتعايش بين الأديان، كأنها تعيد طرح كل قضايا العالم الثالث الهاجعة، وتدفع ثمنا غاليا من الكفاح ضد القمع وحرب الإبادة التي مارستها إثيوبيا ضد شعبها على مدى ثلاثين عاما، من أجل أن تظفر أخيرا بعلم ونشيد ومقعد في الأمم المتحدة.

إذا تأملنا حدودها على الخارطة، فإنها تشبه المطرقة، مطرقة ظلت تضرب عبر ثلاثة عقود رأس إثيوبيا، فأسقطت أولا إمبراطورية الأسد العجوز "هيلا سيلاسي" عام 1974، ثم النظام الأحمر للعقيد منجستو هايلي ماريام عام 1991. ثم لم يجد النظام الإثيوبي الحالي بدا من الاعتراف بحقها في الاستقلال وحرية تقرير المصير. ومازالت الدولة - المطرقة تضرب رأس الكثير من الأسئلة، عن هوية هذه الدولة: هل ستكون عربية أم لا؟ وعن تأثيرها: هل ستكون الدولة الأقوى أم الأضعف في القرن الإفريقي؟. وعن استقرارها: هل ستلقي الفصائل المختلفة السلاح وتتجه للبناء أم تبقي على السلاح استعدادا لتصفية الحسابات القديمة؟. وعن توجهاتها: هل تحول البحر الأحمر إلى بحيرة عربية حقا، أم أنها ستفتح فيه ثغرة هائلة تتسلل منها إسرائيل فتحول أسطورة الأمن إلى كابوس من المخاوف؟

جغرافية الدولة الجديدة تقودنا إلى جغرافيا التاريخ، ومحاولة فك تشابك خيوط القضية الإريترية المعقدة ربما تلقي الضوء على هذه الأسئلة، ولكن أخشى ما يخشاه المرء أن الوقت لم يحن بعد لإعطاء إجابات شافية.

ضريبة الموقع

تأخذ إريتريا اسمها من اسم لاتيني قديم اختارته لها روما، وهو مشتق من اسم إحدى الزهور التي تنمو على شواطئها الدافئة "ميرا إريتريوم" Mare Erythraeum ويبدو أن خيالات الإيطاليين الذين احتلوا إثيوبيا والمنطقة المحيطة بها عام 1880 كانت تحاول إعادة تجسيد البعث الجديد للإمبراطورية الرومانية في قلب إفريقيا السوداء.

لقد دفعت هذه البقعة من الأرض الثمن الذي فرضه عليها موقعها الإستراتيجي المهم. فقد كانت دائما عرضة للغزوات الخارجية، والتناحر الداخلي، وطمع الجيران المتواصل في الاستحواذ عليها. وهي بالنسبة لإثيوبيا كانت منفذها الوحيد إلى البحر، لذلك فقد اتسم الصراع بينهما بقدر كبير من الضراوة.

تقع إريتريا في الشمال الشرقي من القارة الإفريقية على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر. وهي كما قلنا من قبل على شكل مطرقة مثلثة. قاعدتها في السودان من الشمال والغرب، وإثيوبيا في الجنوب، وجيبوتي في الجنوب الغربي. تبلغ مساحتها 320. 142 من الكيلومترات المربعة، وتمتلك 126 جزيرة تقع في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وتتحكم مباشرة في باب المندب.

ولا يوجد إحصاء سكاني دقيق لشعب إريتريا، فالأرقام الإيطالية والإنجليزية والإثيوبية متضاربة في هذا الشأن، ولكنها تتعمد المغالطة والتشويه من أجل أغراضها السياسية. غير أن المؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير سجل رقما تقريبيا هو أربعة ملايين مواطن، ويبدو أن الرقم الحقيقي يتراوح بين 3 و 4 ملايين.

في هذه البقعة تجمع العديد من الأجناس البشرية، جاءت إليها القبائل النيلية ذات الأصل الحامي، ثم جاء الزنوج من قلب إفريقيا. واكتسبت المنطقة طابعها الخاص عندما هاجرت إليها القبائل العربية في الفترة من سنة 1000 إلى 700 قبل الميلاد. لقد تواصلت هذه الهجرات على مدى مئات السنين عبر باب المندب وجزيرة "دهلك" التي لا يفصلها عن الشواطئ اليمنية إلا أميال قليلة.

ولعل أقدم القبائل التي هاجرت إلى إريتريا هي "الأجاعز" و"حبشات" اللتان فقدتا ديارهما وأراضيهما بعد انهيار سد مأرب. وقد حملت هذه القبائل إلى إريتريا أولى مقومات الحضارة: المحراث الذي قادها إلى احتراف الزراعة والأبجدية الحميرية التي فتحت أمامها أبواب اللغة والكتابة. وهكذا نشأت في الهضبة الإريترية مجتمعات زراعية مستقرة مما مهد فيما بعد لظهور مملكة "أكسوم" التي ظهرت في إثيوبيا وامتدت إلى أجزاء من إريتريا وبطريقة التفاعل نفسها التي تم بها انتقال الأجناس. انتقل الدين الإسلامي من أرض الجزيرة ليجد في إريتريا بيئة ثقافية ملائمة لتعاليمه. ولم ينتشر الإسلام عن طريق السيف ولكن عن طريق التجار المسلمين، وانبعثت بسبب ذلك العديد من الإمارات والسلطنات الإسلامية على الساحل، وارتبط أرخبيل "دهلك" و"مصوع" بالخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية من بعدها.

من الاستعمار الأوربي.. إلى الاستعمار الإفريقي

عرفت أوربا الحديثة طريقها إلى سواحل إريتريا في مستهل القرن السادس عشر. فقد هبطت السفن البرتغالية بقيادة دييجو لوبيز وقضت على الممالك الصغيرة التي صادفتها ثم توغلت داخل البلاد. كان البرتغاليون يريدون موطئ قدم يحاصرون منه باب المندب ويؤمنون التجارة عن طريق رأس الرجاء الصالح. وظلوا متشبثين بهذا الموقع حتى تقدم الأسطول التركي العثماني ودمر اَلْأُسْطُول البرتغالي في عام 1557.

بعد ذلك بثلاثين عاما انتقلت السلطة إلى مصر الخديوي. وظهرت الطرابيش الحمراء في ميناء "مَصْرَع" وتقدمت القوات المصرية حتى أحاطت بالعاصمة أَسْمَره فأصيب حاكم الحبشة بالفزع واستنجد بالإنجليز الذين أمدوه بالسلاح والرجال حتى استطاع أن يرد المصريين ويبقيهم على الشَّوَاطِئ. ثم ما لبثت أن اضطرت القوات المصرية للجلاء الكامل بعد قيام الثورة المهدية في السودان.

دخلت إريتريا بعد ذلك في منطقة النفوذ والصراع بين إنجلترا وفرنسا. ولما كانت الأولى غير راغبة في أن تسبقها فرنسا إلى هذا الساحل فقد شجعت إيطاليا على التقدم. وبدأ الأمر بالصورة الاستعمارية التقليدية نفسها: جاء المبشر الإيطالي سابتينو يحمل الإنجيل، واشترى قطعة من الأرض يقيم عليها إرساليته، وتحولت قطعة الأرض إلى محطة تستخدمها السفن الإيطالية في ميناء عصب، ثم جاء الجنود كي يحموا المبشر والإنجيل وليلتهموا بقية الأرض.

في عام 1890 أصدر ملك إيطاليا مرسوما بتأسيس مستعمرة إريتريا بحدودها الحالية قبل أن تنشأ مملكة إثيوبيا نفسها التي كانت تتنازعها العديد من الممالك الصغيرة. ونظر الإيطاليون إلى إريتريا باعتبارها المستعمرة النموذجية أو بالأحرى إيطاليا الإفريقية في مقابل إيطاليا الأوربية. وهكذا نشأت المدن الحديثة بما فيها من بنوك ومستشفيات وطرق، ودخلت السكك الحديدية إلى البلاد عام 1909، بل إن أسمرة العاصمة ضمت دارا للأوبرا ومكتبة عامة والعديد من المطاعم الأوربية الفاخرة.

ثم جاءت المرحلة الثالثة في حلقة الاستعمار الأوربي مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة إيطاليا أمام جيوش الحلفاء ودخلت إريتريا بذلك في ميراث الإمبراطورية البريطانية العجوز. كانت فترة الاحتلال البريطاني قصيرة نسبيا 1941-1952 ولكنها استطاعت أن تحدث فيها تغيرات درامية كبيرة، وضعت فيها بذور ما أصبح يطلق عليه فيما بعد القضية الإريترية التي امتدت آثارها حتى الآن..

لقد أعادت بريطانيا الإمبراطور هيلاسيلاسي إلى عرش إثيوبيا بعد أن كان منفيا على أيدي الإيطاليين. ثم وضعوا خطة محددة لتقسيم إريتريا بين السودان وإثيوبيا، بدعوى أن الطائفتين الرئيسيتين في البلاد - وهما المسلمون والمسيحيون - لن تستطيعا العيش معا في دولة مستقلة. وبذلوا محاولات شتى لحمل السكان على قبول هذا المشروع، وإقناع الأمم المتحدة بأن التقسيم هو الحل المثالي، ولما لم يستطيعوا إثبات ذلك بذلوا جهودهم للشقاق بين الطائفتين. ثم قدموا إريتريا على طبق من ذهب إلى الإمبراطور الحبشي كي يوسع بها حدود مملكته. ومثلما حدث في فلسطين حين أعطت بريطانيا أرضا لا تملكها إلى من لا يستحقها، فعلت في إريتريا حين أرغمت الإرادة الوطنية على القبول بالدخول في اتحاد كونفدرالي مع إثيوبيا في عام 1952 مالبث أن تحول إلى نوع جديد من الاستعمار.. ولكنه استعمار إفريقي هذه المرة.

ويعبر الإريتريون عن هذه المراحل الاستعمارية المختلفة في سخرية مريرة حين يقولون: كان الإيطاليون يقولون لنا: كلوا واشربوا وتكلموا. ثم جاء البريطانيون ليقولوا: كلوا واشربوا ولكن لا تتكلموا.وأخيرا جاء الإثيوبيون ليقولوا: لا تأكلوا ولا تتكلموا.

ملحمة بحفنة مقاتلين وبضع بنادق

لعل بعض من عاصروا بدايات الستينيات في مصر يتذكرون تلك الوجوه السمراء الرقيقة لهؤلاء الفتية الذين راحوا يظهرون في أماكن تجمعات المثقفين. كانوا مجموعة صغيرة حالمة من الطلاب الإريتريين الدارسين بالقاهرة. تراودهم أماني أمة تجاهلت مشاعرها كل الأمم، وضاع وضوح حقها في الاستقلال بين تقاطعات خطوط الصفقات الدولية، والتوازنات الإقليمية، والأساطير التي تتناسج من جروح قارة منهوبة حتى النخاع.

من هذه الوجوه تكونت الملامح الأولى لملحمة تحرير يكاد من يعرف بداياتها لا يصدق أنها انتهت إلى ما انتهت إليه من انتصار، باتجاه هدفها الذي حددته من البداية وهو "الاستقلال الوطني الكامل ووحدة شعب وتراب إريتريا"، وتدشين ميلاد دولة بدأت كفاحها بتنظيم صغير هو "جبهة التحرير الإريترية"، الذي أعلن عن تكوينه في القاهرة عام 1960. وثمة من يؤرخ لحركة التحرير الإريترية بهذه البداية، لكن الأمر أعمق وأبعد من ذلك. فالملحمة تأخذ تاريخ بدايتها من بدايات المحنة التي بدأت بالزواج الباطل الذي عقد بالإكراه بين إثيوبيا وإريتريا، وباركته الأمم المتحدة، فكأنها باركت استبدال استعمار أبيض جثم على صدر هذا الجزء من القرن الإفريقي لأكثر من نصف قرن، باستعمار آخر له لون البشرة السوداء ذاتها وملامحه تقارب ملامح الإريتريين الرقيقة نفسها. فبعد 51 عاما من الاحتلال الإيطالي لإريتريا، ومع هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، جاءت بريطانيا لتحل محلها ودخل اَلأَسَد البريطاني ملتفا بوشاح الحلفاء المنتصرين ليلتهم ما شاء من لحم الإريتريين النحاف. ولعل الأسد البريطاني اكتفى بوجبة صغيرة ليفسح مجالا للنسر الأمريكي الذي بدأ الانقضاض بعد ارتفاعه في سماء ما بعد الحرب العالمية الثانية. ففي واقع الأمر كان قرار الأمم المتحدة رقم 390/ أ/ 5 الصادر في 2/ 12/1950 والذي نص على أن "تصبح إريتريا وحدة سياسية تتمتع بالحكم الذاتي في إطار اتحاد مع إثيوبيا تحت سيادة التاج الإثيوبي"، كان هذا القرار بداية صفقة دولية اكتملت أركانها بمعاهدة بين إثيوبيا والولايات المتحدة وقعت في 22/ 5/ 1953 لتستمر ربع قرن وبموجبها تمنح إثيوبيا قواعد عسكرية برية وجوية وبحرية للولايات المتحدة على الأرض الإريترية ثمنا للقرار الدولي سالف الذكر. وثمنا للسكوت على قرار هيلاسيلاسي فيما بعد بضم إريتريا إلى إثيوبيا في 15/11/ 1962، حيث لم تحرك الأمم المتحدة ساكنا، ولم يصغ لشكوى الضحية أحد.

فماذا تتوقع من. مظلوم تتجاهله العيون والأسماع غدا أن ينتفض ثأرا لذاته؟ هذا ما كان، ومن هنا بدأ دوي الرصاصات الأولى الفقيرة لحركة التحرير الإريترية بين ذرى الجبال الصلدة والصعبة في مواجهة الاستعمار الحبشي. بداية لا تصدق، وتكاد تثير الشفقة، ولا توحي أبدا بمسار الملحمة وخاتمتها المنتصرة. ولعلنا نشير إلى الإرهاصات البكر قبل أن يأخذ مقاتلو جبهة التحرير الإريترية وضع الهجوم في بداية الستينيات. فقد بدأ الهجوم بالدفاع بين عامي 1945 و1950 عندما كان الإريتري حامد إدريس عواني "الذي استشهد فيما بعد" يقود عمليات دفاع إريترية تلقائية في مواجهة هجمات العصابات الإثيوبية المسلحة. ثم بدا الهجوم برصاصات متناثرة لسبعة مقاتلين - نعم سبعة لا غير!! - بقيادة عواني نفسه. وفي عام 1962 اشتد ساعد الحركة بتسعة من ضباط الصف المستقيلين من الجيش السوداني وعشر بنادق تم شراؤها بتبرعات بعض العمال الإريتريين العاملين في المملكة العربية السعودية. وبعد عام واحد صار المقاتلون مائة وصار عدد البنادق ستين بعملية قنص بارعة. إذ تنكر المقاتلون الإريتريون في هيئة سياح من السودان وباغتوا مركزا عسكريا إثيوبيا واستولوا على 51 بندقية. ووجدت حركة التحرير الإريترية في نجاح هذه العملية تكتيكا مبتكرا لتزود نفسها بالسلاح، حتى تصير في غنى عن عالم بدا وكأنه استغنى عنها ونفاها من ذاكرته. فالراصد لخطوط التماس مع المشكلة الإريترية يجد كومة من علامات التعجب تتناثر بوفرة عند تقاطعات هذه الخطوط، وتعلق بالدهشة على مواقف الأقارب والأباعد، الجيران وساكني أقصى أطراف المعمورة!.. عربيا، وإفريقيا ودوليا، لم تنج القضية الإريترية من حكم الهوى واعتبارات المصالح الأنانية والتخبطات المرتبكة.

لا وضوح عند القرن الإفريقي

رغم أن طبيعة الأرض الإريترية تجعل من مناخها ربيعا دائما بطول الفصول الأربعة نتيجة لتكونها من هضبة تشرئب فيها مرتفعات لا تقل عن ستة آلاف قدم فوق سطح البحر، إلا أن هذا الربيع الدائم لم يجد من يقدر صفاءه بصفاء مقابل.

فعلى المستوى العربي كان طبيعيا أن تكون السودان بحكم الجوار أول يد تمتد لدعم الثورة الإريترية. لكن هذا العون ظل محكوما بتقلبات الأحوال لموازنة الصراع حول قضية الجنوب في السودان ذاته. أما مصر فقد أيدت الثورة ثم سحبت تأييدها لصالح فكرة إثيوبيا الموحدة ثم عادت إلى قبول فكرة الحكم الذاتي لدى الإريتريين. وبشكل عام كان العون العربي - رغم أنه ظل في كثير من الأحيان العون الوحيد في قضية لم تجد من يعينها غير ذاتها - كان العون العربي غير محكوم بمنطق علمي، يتخبط في دائرة ردود الأفعال في مواجهة الفعل الإسرائيلي، ويخضع لاعتبارات ما يدور بين الدول العربية ذاتها. كما أن هذا العون العربي، نتيجة لغياب المنطق الواضح والإعلام الجيد، ظل مثيرا للريبة وموضوعا للخلاف داخل حركة التحرير الإريترية وحركة التحرر الوطني الإفريقي، حتى أن الفصيل الذي قاد المرحلة الأخيرة من الثورة الإريترية - الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا - رأى أن هذا العون العربي موجه لفصيل بعينه داخل الحركة وبغية تأكيد التوجهات العروبية والإسلامية لإريتريا في المستقبل.

ربما كانت إسرائيل غير بعيدة عن هذا الخلط، وربما أن الصورة تغيرت بعد أن كان العربي "سمير صنبر" ممثل الأمم المتحدة هو مراقب انتخابات تقرير المصير التي أسفرت عن إعلان استقلال إريتريا. لكن مما لا شك فيه أن غياب الوضوح العربي في رؤية المسألة الإفريقية يظل المسئول عن كل هذه التخبطات.

وعلى المستوى الإفريقي كان عجيبا أن تقف إفريقيا السوداء طويلا في خندق واحد مع التقسيم الاستعماري لإفريقيا، ومن ثم إهدار الحق الإريتري في تقرير المصير بدعوى أن "تمزيق إثيوبيا يتعارض مع فكرة الجامعة الإفريقية" و"توحيد القارة". وكان هذا الموقف البرجماتي يخفي وراءه تملقا لإثيوبيا - هيلاسيلاسي - التي بدت صاحبة دور رائد في إفريقيا، بتبنيها لمنظمة الوحدة الإفريقية وجعل أديس أبابا مقرا لها، ولمعارضتها سياسة التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، والوقوف في وجه التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الإفريقية. أما منجستو الذي خلف هيلاسيلاسي فإنه حصل على نتائج مشابهة برفعه لفزاعة الطيور وتخويفه للأفارقة من "تجار الرقيق العرب" و"التوسع العربي في إفريقيا" و"تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عربية" وغير ذلك من التصريحات التي هدف بها إلى الإيحاء بأن القضية الإريترية مجرد صناعة عربية.

لكن ديماجوجية الشعار السياسي وتجني تصريحات منجستو، لم تكن وحدها مسئولة عن غرابة الموقف الإفريقي من الثورة الإريترية. فثمة بعد عجيب تخلل هذا الموقف، هو البعد الأسطوري في قارة مازالت تعيش على الأساطير. فإثيوبيا المسيحية المستقلة ظلت مصدر إلهام سياسي وديني لكثير من الأفارقة، وعلى حد تعبير السياسي النيجيري "أزيكوي": "إثيوبيا هي النظام الذي أسسه آباؤنا الأفارقة على هذه القارة". وبلغ البعد الأسطوري ذراه عندما قام قادة الكنيسة البانتوية "نسبة إلى القبائل الإفريقية المتحدثة بلغات البانتو" في جنوب إفريقيا بتشكيل كنيستهم المفضلة في صورة "الكنيسة الإثيوبية".

صار العرش الإثيوبي المسيحي رمزا للقوة السوداء في كثير من أركان القارة الإفريقية. فضاعت بين جحافل الأقدام السوداء المهرولة على طريق الخلاص الإثيوبي قضية الشعب الإريتري الأسود، ولو إلى حين.

أما على المستوى الدولي فكانت إريتريا بحق، هي كبش فداء لعبة الأمم، والكرة التي تتلقى الركلات كلما أراد هذا الطرف أو ذاك تسجيل هدف في مرمى الفريق الآخر في زمن القطبين على أيام الحرب الباردة. فحتى منتصف السبعينيات ظلت الثورة الإريترية تواجه نظاما إثيوبيا يضربها بأدوات الدعم الأمريكي والإسرائيلي. ومع استيلاء عسكر منجستو على السلطة عام 1974 تغيرت المواقع وصارت الثورة الإريترية تتلقى الضربات مدعومة بأدوات حلفاء الأمس السوفييت الذين غيروا شعارهم إلى الحفاظ على السلامة الإقليمية لإفريقيا.

ومن المفارقات في هذه اللعبة الدولية التي عصفت بالحق الإريتري عصفا من هنا وهناك، أن موسكو الشيوعية كانت تقوم بدور الوسيط بين جبهة التحرير الإريترية ذات التوجهات العربية الإسلامية ونظام العسكر الإثيوبي. بينما كانت واشنطن تقوم بدور الوسيط بين الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا - ذات التوجهات اليسارية - ونظام العسكر.

لكن لعبة القطبين لم تدم، فقد انهار الاتحاد السوفييتي، وسقط نظام منجستو، وكان طبيعيا أن تتحول الولايات المتحدة إلى جانب تأييد الاستقلال الإريتري، خاصة أن حركة التحرير الإريترية كانت قد قطعت على الأرض المحررة شوطا يصعب تجاهله أو الرجوع عنه. فلقد تحرر كامل التراب الإريتري وصار الثوار جيشا أو شبه جيش، وكان الجيش لا يكتفي بالقتال، بل يزرع الأرض ويشق الطرق ويشارك في مواسم الحصاد. صارت الثورة دولة، قبل الاستفتاء، وقبل الإعلان عن ميلاد الدولة الإريترية المستقلة. وهي مأثرة تستحق التأمل.

من: اضرب واهرب، إلى: حرر وعمر

إزاء تلاعب العالم بقضية الشعب الإريتري، ابتكر الثوار الإريتريون تكتيكات تضمن نجاحهم بالاعتماد على قواهم الذاتية.

فمن التبرعات ودعم الأهالي كان الثوار يجدون ثمن الرصاصات واللقمة التي تقيم الأود. ومن الهجمات يستولي الثوار على مزيد من السلاح من ثكنات أعدائهم. وبالسلاح يحررون أرضا. وعلى الأرض المحررة يتنامى جيش شبه نظامي وميليشيات منضبطة ومنظمات جماهيرية تنظم شئون الحياة وتغذي الجيش به يطلب من جنود. صارت الثورة تستوعب شعبا والشعب يحتضن ثورة حتى تحرر كامل التراب الإريتري. في مايو 1991. وإذا كان تكتيك القتال الإريتري قد بدأ بشكل: "اضرب واهرب ثم اختف كالدخان"، فإنه غدا بعد عام 1975 هجوميا يصل إلى أهدافه حتى داخل الأراضي الإثيوبية، أما على أرضه فقد سعى إلى التمركز والسيطرة على مناطق شاسعة ثم تأكيد حمايتها.

كان التجنيد إجباريا والتدريب لا يتجاوز ستة أشهر. وكانت المرأة تلتحق بجيش الثورة شأنها شأن الرجل. وحتى لا يعوق الزواج مهام القتال، فقد منع الزواج في الجيش. وحتى لا يتفشى الفساد في هذا الجيش الذي عرف الاختلاط، فإن الزنا كانت عقوبته الإعدام للطرفين.

لم يكن هناك وقت للعبث، حتى في أوقات الفراغ من مهام القتال، فإن الجيش كان يزرع ويحصد ويشق الطرق ويصنع للأهالي أدوات منزلية من حطام الطائرات الإثيوبية التي أسقطها وبلغ عددها حتى مايو 1977 اثنتين وثلاثين طائرة. أما قماش المظلات فقد كان نسيجا للقمصان وستائر لنوافذ البيوت المتواضعة!

ثلاثون عاما من الدأب أثمرت ميلاد دولة مستقلة، وقدمت للعالم حركة تحرير مميزة السمات تبدو وكأنها كائن حي لا يكف عن النمو. تحدث انشقاقات لكن الفصيل المنشق ما يلبث حتى يسيطر على الساحة ويذوب التنظيم الأصلي. وإن وجد تنظيم ذو طابع عرقي أو ديني محدد، فإنه لم يوصد أبوابه أمام الآخرين.

وثوار لم يلقوا سلاحهم لثلاثة عقود كاملة دون انتظار لاعتراف من أحد. ولم يكن هناك تنظيم يدعي أنه الممثل الوحيد لحركة الشعب الإريتري. بكل هذه المآثر كانت حركة التحرير الإريترية هي الحركة الإفريقية الوحيدة التي تمكنت من إسقاط عدوها مرتين: هيلاسيلاسي في أول الأمر ثم منجستو من بعده. وكانت هي الحركة الوحيدة التي تمكنت من تحرير كامل ترابها قبل أن تبدأ التفاوض، وقبل أن يجري استفتاء تقرير المصير الذي كان قد تقرر بالفعل على الأرض الإريترية المحررة.

هل يتحول الرفاق إلى إخوة أعداء؟

والآن بعد أن انتصرت الثورة على عدوها الواضح والأساسي "إثيوبيا" فإن الرفاق القدامى لم يلقوا السلاح. ويبدو أن الحساب الختامي لم يحسم بعد وربما دعم هذا من ظهور التناقضات التي كانت مؤجلة بين الفصائل المختلفة لقد شهدت سنوات النضال الطويلة انقسام الجبهات إلى فصائل، والفصائل إلى مجموعات. وهذه هي أحد أمراض الكفاح المسلح في العالم الثالث بشكل عام.

لقد تغير وجه الثورة التي أطلقت رصاصتها الأولى في الستينيات، كانت قيادتها أولا في أيدي العناصر المسلمة الأكثر فقرا والتي تحملت الاضطهاد الإثيوبي بصورة أساسية. وكانت امتدادا لتيار حزب الرابطة الإسلامية الذي كان يدعو إلى استقلال إريتريا وعروبتها معا. ثم دخلت الثورة إلى السبعينيات وقد أنقسمت إلى تنظيمين رئيسيين هما جبهة التحرير الإريترية، وقوات التحرير الشعبية. واستطاعت الأخيرة أن تجذب مسيحيي الهضبة وكذلك العناصر المصوعية والحضرية. ثم حدث انشقاق آخر بقيادة أسياسي أفورقي، وتحت قيادته بدأت الجبهة الشعبية تحقق انتصارات متوالية على النظام الإثيوبي المنهار، مستعينة على ذلك بالعناصر المسيحية التي كانت عام درجة عالية من الثقافة، في الوقت الذي أخذت فيه العناصر الإسلامية في التراجع بعد أن سقطت في هوة التناحر فيما بينها.

ومعضلة الجبهة الشعبية الآن بقيادة أفورقي أنها ترفض الاعتراف بمساهمة الأطراف الأخرى في عملية التحرير، وتنظر إلى شخصيات الثورة الرئيسية من منظور تاريخي ورمزي أكثر منه واقعيا. وبذلك فهي تهيئ نفسها للانفراد بالسلطة دون أن تتيح الفرصة لبقية الأطراف (المسلمة).

ولعل صلة الرئيس الجديد بإسرائيل تلقي المزيد من الظلال على توجهاته. فقد ذهب إلى إسرائيل مرتين في مدة وجيزة: الأولى للعلاج من الملاريا، والثانية للتفاهم حول مستقبل العلاقات الآخذة في التنامي. وتتحدث الأنباء عن مساهمة إسرائيل في المشروعات الزراعية والآبار الجوفية وبناء مطار حديث ووجود خبراء عسكريين ومن الموساد لتدريب الجيش الإريتري، الذي أصبح واحدا من أقوى الجيوش في القرن الإفريقي.

بقية الفصائل المعارضة ساخطة لأنها لم تدع للاشتراك في الاستفتاء. وبدأت المشاكل بين الإخوة المتناحرين حين أدلى افورقي بالتصريح العنيف ضد ما أسماه بالتدخل العربي في شئون إريتريا الداخلية. وردت عليه بقية التنظيمات الأخرى بأنها لم تنهض للكفاح إلا دفاعا عن تراثها الإسلامي ولغتها وثقافتها العربية. وتنتقد حركة الجهاد الإسلامي الرئيس أفورقي بعنف لأنه قرر الأحد عطلة رسمية بدلا من الجمعة وأقصى اللغة العربية عن الدواوين والمدارس وفرض اللغة التيغرية بدلا منها، كما أنه تجاهل قانون الأحوال الشخصية للمسلمين، إضافة إلى حملات الاعتقال والقمع.

وهكذا بدأت بوادر التحلل بين الفصائل التي قادت النضال وإذا استمر الأمر على هذا النحو، فربما أدى إلى الانفجار الداخلي الذي يعود بالبلاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى.

الموقف الكويتي والعربي

إن أفورقي يدرك جيدا معنى وقوع إريتريا بين استقطابين رئيسيين: إثيوبيا المسيحية (العدو السابق) والسودان العربي (الحليف الدائم)، ومع التقسيمة الدينية في البلاد فإن الانحياز إلى أي جانب يمكن أن يؤثر بالسلب على الجانب الآخر. ولن يكون الحل طبعا - كما تظهر بعض البوادر- أن يرتمي في أحضان إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة. فهو يدرك جيدا أن هاجس الأمن العربي لن يسمح له باختراق البحر الأحمر، ولن يسمح لإسرائيل أن يكون لها موطئ قدم في الجزر التي تتحكم في باب المندب. ومثل هذا التوازن الدقيق يجب أن يكون قائما في باله، خاصة أن البلاد الغربية - بعد أن أعطته الدعم والتأييد طوال السنوات الماضية- لاتزال ترقب خطوته القادمة.

ورغم كل علامات الاستفهام فإن الدول العربية لم تتأخر ولم تقف ساكنة. لقد تعاملت من منطلق ثابت وصلب مع إريتريا ككيان عربي، بغض النظر عن حيرة النظام وعدم تحديده لهويته.

لقد طلبت إريتريا الانضمام إلى الأمم المتحدة، وإلى منظمة الوحدة الإفريقية، ولكنها حتى الآن مازالت تؤجل طلبها الانضمام إلى الجامعة العربية. إلا أن المنطق العربي - بعد التجربة - قد تعامل مع هذا الوضع بذهن متفتح، فهو لا يريد أن يتدخل في الشئون الداخلية لإريتريا، وهو يدرك أن النظام يحتاج لوقت كي يحل تناقضاته الداخلية ويحدد هويته الذاتية.

وبالتالي فقد أعطته الدول العربية الدعم السياسي حين بادرت بالاعتراف بالدولة الوليدة. وكانت الكويت في مقدمة من باركوا هذا الاستقلال. كذلك الأمر بالنسبة للسعودية ومصر والسودان واليمن. وهي الدول التي كان لها صلة باحتضان فصائل الثورة المختلفة، كما قدمت الدعم المادي ممثلا في المعونات المختلفة. وعندما دمرت الأعاصير والسيول مدينة أسمرة أسرعت الكويت بإرسال طائرات النقل العملاقة هيركيولز التابعة للقوات المسلحة الكويتية وأقامت جسرا جويا تم من خلاله نقل مواد الإغاثة والمعونات الإنسانية. كذلك فعلت السعودية وبقية دول الخليج.

الدولة الأضعف.. أم الأقوى؟

ولكن.. ماذا عن احتمالات المستقبل؟

انتهت معركة التحرير وبدأت معركة البناء.. فكيف يكون مصير هذه الدولة الوليدة؟.

البعض يقول إنها سوف تكون الدولة الأضعف في القرن الإفريقي. فهي قد فقدت بنيتها الأساسية تقريبا.. لا طرق صالحة، لا تملك خطوطها الجوية إلا طائرة واحدة، 60% من أراضيها محروقة و 70 % من ماشيتها قد نفقت، هناك نقص حاد في مصادر الطاقة، ولا توجد لديها عملات صعبة. أضف إلى ذلك مشكلة اللاجئين وأعدادهم الغفيرة في معسكرات السودان والتي تترقب عودتهم.. كل هذه المشاكل تبحث عن حل لها وسط انقسام حاد بين الإخوة الأعداء الذين لم يلقوا بأسلحتهم بعد.

والبعض الآخر يقول إنها سوف تكون الدولة الأقوى في القرن الإفريقي. فهي تملك جيشا قويا متمرسا بفنون القتال، اكتسب هذه الخبرة على مدى ثلاثين عاما. كما أنها تحتل موقعا استراتيجيا مهما على البحر الأحمر يؤهلها لأن تكون بوابة إفريقيا المفتوحة على البلاد العربية من خلال ميناءي مصوع وعصب. كما أنها تعتبر أكثر الدول استقرارا في القرن الإفريقي فلا توجد فيها الحروب الأهلية أو المجاعات التي تعصف بجاراتها إثيوبيا والسودان وجيبوتي.

إنها تطرح تجربة جديدة تقترح نظاما ديموقراطيا يقوم على تعدد الأحزاب وقد وضعت في وسط علمها الرسمي إشارة إلى غصن الزيتون تعبيرا عن رغبتها في الحياة بسلام.. فهل تنجح في ذلك، وهل تجتاز كل هذه العقبات؟! هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه على الثورة التي أصبحت الآن دولة..

 

محمد الرميحي







الرئيس الإريتري أسياس أفورقي