العزلة الاجتماعية داء العصر الرقمي

العزلة الاجتماعية  داء العصر الرقمي

لم يتردد ماكس فيبر، ذات يوم، في الجَزم بأن عالم الغد سيكون تقنيًا بامتياز، وأنه لا يمكن أن تتوقف هذه السيرورة إذا لم تحدث لمّة تلمّ الإنسانية جمعاء، ولم يتردد غيره من الباحثين والمفكرين في الإقرار بأن ما شهده العالم من تحوّلات تكنولوجية عاتية وتحرير للاقتصادات وعولمة للمبادلات وتراجع الأيديولوجيات الكلاسيكية قد أدى إلى تحويل هذا العالم إلى فضاء مفتوح مشروع يسوده واقع اتصّالي ومعلوماتي مفارق تجري في إطاره المعاملات وتنجز المبادلات وتروّج الإنتاجات الاقتصادية والثقافية والفنية.

 

تتفق‭ ‬الدراسات‭ ‬والأبحاث‭ ‬السوسيولوجية‭ ‬والنفسية‭ ‬على‭ ‬فاعلية‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الجديدة،‭ ‬وخطورة‭ ‬دورها‭ ‬الحيوي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بصناعة‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬وتوجيهه،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬تشترط‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬شخصية‭ ‬الفرد‭ ‬وتحديد‭ ‬قيمه‭ ‬والتحكم‭ ‬في‭ ‬مواقفه‭ ‬وسلوكياته،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الفرد‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬صغيرًا‭ ‬لم‭ ‬يكتسب‭ ‬الخبرة‭ ‬والمعرفة‭ ‬الكافية‭ ‬التي‭ ‬تحصّنه‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬يواجهه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭. ‬

وينظر‭ ‬كثيرون‭ ‬إلى‭ ‬وسائط‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬ملاذات‭ ‬يحتمي‭ ‬بها‭ ‬الشباب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬الأصل،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الكثيرون،‭ ‬ومنهم‭ ‬تيودور‭ ‬أدرنو،‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬أدوات‭ ‬لتسويق‭ ‬السلع‭ ‬وترويج‭ ‬البضائع‭ ‬طلبًا‭ ‬للربح‭ ‬الفاحش،‭ ‬وخدمة‭ ‬لاقتصاد‭ ‬رأسمالي‭ ‬غايته‭ ‬القصوى‭ ‬المادة،‭ ‬وهدفه‭ ‬الأثير‭ ‬المستهلك‭ ‬لا‭ ‬الإنسان‭.‬

ويعد‭ ‬عالِم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الفرنسي‭ ‬الشهير،‭ ‬بورديو،‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬من‭ ‬تحدّثوا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1983‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬إرساء‭ ‬ثقافة‭ ‬المشاركة،‭ ‬والاستثمار‭ ‬في‭ ‬الأشخاص‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬والذي‭ ‬يخلق‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬مجموعات‭ ‬أكثر‭ ‬أمانًا‭ ‬وتماسكًا،‭ ‬وتعزيز‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاجتماعي‮»‬،‭ ‬تلاه‭ ‬عالِم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الأمريكي‭ ‬جيمس‭ ‬كوليمان‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1988،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬استخدم‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1997‭ ‬ليحدد‭ ‬درجة‭ ‬اتصالنا‭ ‬بالآخرين‭. ‬

وتؤكد‭ ‬الأبحاث‭ ‬أن‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يفتقر‭ ‬إليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬هو‭ ‬‮«‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الاجتماعي‮»‬،‭ ‬فأخطر‭ ‬ما‭ ‬يواجه‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي‭ ‬هو‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬وباءً‭ ‬متناميًا،‭ ‬فلهذه‭ ‬العزلة‭ ‬آثار‭ ‬بدنية‭ ‬وعقلية‭ ‬وعاطفية‭ ‬وخيمة‭. ‬وتشير‭ ‬الأبحاث‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الانفصال‭ ‬الاجتماعي‭ ‬يسبب‭ ‬اضطراب‭ ‬النوم،‭ ‬وخللًا‭ ‬في‭ ‬جهاز‭ ‬المناعة،‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬إمكان‭ ‬التعرّض‭ ‬للالتهابات،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬مستويات‭ ‬هرمونات‭ ‬التوتر‭.‬

لقد‭ ‬أدت‭ ‬ثورة‭ ‬الإنترنت،‭ ‬والانتشار‭ ‬الواسع‭ ‬للتكنولوجيا‭ ‬الرقمية‭ ‬بمصادر‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬لإلهاء‭ ‬الإنسان‭ ‬والاستحواذ‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬رسائل‭ ‬نصيّة،‭ ‬وبريد‭ ‬إلكتروني،‭ ‬و«إنستجرام‮»‬،‭ ‬و‮«‬واتساب‮»‬،‭ ‬وتغريدات‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬وتشغيل‭ ‬ملفات‭ ‬الموسيقى‭ ‬والفيديو‭ ‬والأخبار،‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬الأخبار،‭ ‬ويصف‭ ‬البعض‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬التشتيت‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬الإلهاء‮»‬،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬عدم‭ ‬الانتباه‭ ‬عرضًا‭ ‬يصيب‭ ‬قلّة‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬نشأت‭ ‬مشكلة‭ ‬وجودية‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬تآكل‭ ‬القدرة‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬الانتباه،‭ ‬نتيجة‭ ‬الآثار‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬التدفقات‭ ‬الرقمية‭ ‬الهائلة‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬تتسرب‭ ‬إلينا‭ ‬باستمرار،‭ ‬ويصف‭ ‬نيكولاس‭ ‬كار‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الظلال‭... ‬كيف‭ ‬تغيّر‭ ‬الإنترنت‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬نقرأ‭ ‬ونفكّر‭ ‬ونتذكر‭ ‬بها؟‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬2010م‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الإنترنت‭ ‬تستحوذ‭ ‬على‭ ‬اهتمامنا‭ ‬لتبعثره‮»‬‭ ‬ووفقًا‭ ‬لعالم‭ ‬الأعصاب‭ ‬الأمريكي‭ ‬دانييل‭ ‬ليفتيين،‭ ‬فإن‭ ‬الملهيات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخرب‭ ‬أدمغتنا‭ ‬فعلًا‭.‬

إن‭ ‬البشر‭ ‬مخلوقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬تزدهر‭ ‬وتتطور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التفاعل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬حتى‭ ‬المحادثات‭ ‬العابرة،‭ ‬تجعلنا‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة‭ ‬وتساعد‭ ‬على‭ ‬تحسين‭ ‬مزاجنا‭. ‬ولتأكيد‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬أجرى‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السلوكية‭ ‬نيكولاس‭ ‬إيبلي‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬شيكاغو‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأشخاص،‭ ‬حيث‭ ‬كلّف‭ ‬البعض‭ ‬منهم‭ ‬بإجراء‭ ‬محادثات‭ ‬صغيرة‭ ‬مع‭ ‬جيرانهم،‭ ‬على‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬محددة،‭ ‬ولم‭ ‬يسمح‭ ‬للبعض‭ ‬الآخر‭ ‬بالقيام‭ ‬بها،‭ ‬فتلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬قالوا‭ ‬إنهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬للقيام‭ ‬بهذا‭ ‬التفاعل‭ ‬أكدوا‭ ‬أنهم‭ ‬شعروا‭ ‬بسعادة‭ ‬أكبر‭ ‬عندما‭ ‬تواصلوا‭ ‬مع‭ ‬جيرانهم‭. ‬

ويؤكد‭ ‬إيبلي‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬يمكن‭ ‬للناس‭ ‬تحسين‭ ‬رفاههم‭ ‬ورفاه‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كونهم‭ ‬اجتماعيين‭ ‬أكثر،‭ ‬وبمحاولتهم‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬اختيارهم‭ ‬العزلة‭.‬

‭ ‬

أخطار‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬الإنسان

وجدت‭ ‬دراسة‭ ‬حديثة‭ ‬أن‭ ‬العزلة‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬الإصابة‭ ‬بأمراض‭ ‬القلب‭ ‬بنسبة‭ ‬29‭ ‬في‭ ‬المئة،‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الجسدية،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬التأثير‭ ‬الفكري،‭ ‬فيمكن‭ ‬للعزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أن‭ ‬تُسرع‭ ‬التدهور‭ ‬المعرفي‭ ‬لدى‭ ‬كبار‭ ‬السن،‭ ‬حيث‭ ‬أكدت‭ ‬فيه‭ ‬الطبيبة‭ ‬النفسية‭ ‬نانسي‭ ‬دونوفان‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬بجامعة‭ ‬هارفارد‭ ‬في‭ ‬دراستها‭ ‬المقدمة‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬الدولي‭ ‬لرابطة‭ ‬الزهايمر‭ ‬لعام‭ ‬2015،‭ ‬أن‭ ‬الشعور‭ ‬بالوحدة‭ ‬عامل‭ ‬خطير‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التراجع‭ ‬المعرفي‭ ‬المتسارع‭ ‬عند‭ ‬البالغين‭ ‬الأكبر‭ ‬سنًا،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬يصبح‭ ‬الأفراد‭ ‬المنعزلون‭ ‬أكثر‭ ‬عُرضة‭ ‬للوفاة‭ ‬قبل‭ ‬الأوان،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالذين‭ ‬يقومون‭ ‬بتفاعلات‭ ‬اجتماعية‭ ‬أكثر‭ ‬قوة،‭ ‬وذلك‭ ‬وفقًا‭ ‬لتحليل‭ ‬جمع‭ ‬بيانات‭ ‬من‭ ‬70‭ ‬دراسة‭ ‬و4‭.‬3‭ ‬ملايين‭ ‬شخص،‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬الأفراد‭ ‬المنعزلين‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬معرّضون‭ ‬لخطر‭ ‬الموت‭ ‬بنسبة‭ ‬30‭ ‬بالمئة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬السبع‭ ‬المقبلة‭ ‬من‭ ‬عمرهم،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬التأثير‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬العمر‭.‬

إن‭ ‬الاتصال‭ ‬الإنساني‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬الرسائل‭ ‬النصية،‭ ‬ولا‭ ‬رسائل‭ ‬البريد‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬ولا‭ ‬محادثات‭ ‬الدردشة‭ ‬عبر‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ولا‭ ‬الرسائل‭ ‬الصوتية،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تمنحنا‭ ‬طريقة‭ ‬لتقديم‭ ‬أنفسنا‭ ‬والتعلّم‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬أشخاصًا‭ ‬أفضل‭.‬

 

أسباب‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية

تتنوع‭ ‬أسباب‭ ‬مشكلة‭ ‬الانعزال‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لتشمل‭ ‬العوامل‭ ‬والأسباب‭ ‬الآتية‭:‬

 

وجود‭ ‬الإعاقات‭ ‬العقلية

يبدو‭ ‬أن‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬ضعف‭ ‬التعلّم‭ ‬لديهم‭ ‬مشكلات‭ ‬مع‭ ‬التفاعل‭ ‬الاجتماعي‭. ‬ودائمًا‭ ‬ما‭ ‬اعتقد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المتخصصين‭ ‬أن‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬يعانيها‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬لديه‭ ‬مشكلات‭ ‬في‭ ‬التعلم‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬نتيجة‭ ‬غير‭ ‬مقصودة‭ ‬لعجز‭ ‬التعلم‭. ‬وقد‭ ‬توصلوا‭ ‬إلى‭ ‬تسبب‭ ‬مشكلة‭ ‬التعلم‭ ‬في‭ ‬مشكلات‭ ‬أكاديمية،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬بدوره‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬الرفض‭ ‬والعزلة‭. ‬وباتوا‭ ‬يدركون‭ ‬الآن‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المشكلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأطفال‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬نتيجة‭ ‬مباشرة‭ ‬لاضطراب‭ ‬التعلّم‭. ‬ويجعل‭ ‬الشعور‭ ‬بالرفض‭ ‬الطفلَ‭ ‬غير‭ ‬متجاوب‭ ‬مع‭ ‬التعليم‭ ‬والتوجيه‭. ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬شائع‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬المدرسية،‭ ‬حيث‭ ‬يحيط‭ ‬بالطفل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأقران‭.‬

 

العيش‭ ‬وحيدًا‭ ‬نتيجة‭ ‬الظروف‭ ‬الحياتية

وفقًا‭ ‬لدراسة‭ ‬أجراها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كيمو‭ ‬هيرتشوا،‭ ‬وبيكا‭ ‬مارتيكينان،‭ ‬وجوسي‭ ‬فاهتيرا،‭ ‬وميكا‭ ‬كيفيماكا،‭ ‬أشارت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عيش‭ ‬الأفراد‭ ‬بمفردهم‭ ‬يمكنه‭ ‬زيادة‭ ‬معدلات‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ولجوئهم‭ ‬إلى‭ ‬تعاطي‭ ‬المواد‭ ‬الكحولية‭.‬

ويزداد‭ ‬انتشار‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والعيش‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬أخرى،‭ ‬وركّزت‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬على‭ ‬الوفيات‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬تعاطي‭ ‬الكحول‭ ‬بين‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬بمفردهم‭ ‬في‭ ‬فنلندا‭. ‬وتوصل‭ ‬الباحثون‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬خلال‭ ‬مدة‭ ‬زمنية‭ ‬معيّنة‭ ‬حوالي‭ ‬2‭/‬3‭ ‬أفراد‭ ‬ممن‭ ‬يعيشون‭ ‬وحدهم‭ ‬ماتوا‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬تتعلق‭ ‬بتعاطي‭ ‬الكحوليات‭. ‬ولم‭ ‬تنته‭ ‬الدراسة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العيش‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬للوفيات‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬بتعاطي‭ ‬الكحوليات،‭ ‬لكنّها‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬تعاطيها‭. ‬وقد‭ ‬ساهمت‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬العواقب‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬تعاطي‭ ‬الكحوليات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تسبّب‭ ‬عواقب‭ ‬أكثر‭ ‬خطورة‭.‬

 

التكنولوجيا‭ ‬والانعزال‭ ‬الاجتماعي

يشكّل‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المعاصر،‭ ‬ولا‭ ‬تمثّل‭ ‬‮«‬الإنترنت‮»‬‭ ‬وأنظمة‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو،‭ ‬وغيرها،‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬فقط،‭ ‬لكن‭ ‬يمكن‭ ‬للتكنولوجيا‭ ‬المستخدمة‭ ‬أن‭ ‬تسبّب‭ ‬أيضًا‭ ‬مشكلات‭ ‬صحية‭ ‬خطيرة‭. ‬

وفي‭ ‬دراسة‭ ‬أجرتها‭ ‬أندريا‭ ‬كوكيت،‭ ‬سلّطت‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الأطفال‭ ‬المعتمدين‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬التنفس‭ ‬الصناعي‭ ‬نتيجة‭ ‬مرضهم،‭ ‬والعواقب‭ ‬التي‭ ‬نتجت‭ ‬عن‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬فوجدت‭ ‬الدراسة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬تبقي‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬لكنّها‭ ‬تعزلهم‭ ‬عمّا‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬المستشفى‭ ‬والمنزل‭. ‬وبقاء‭ ‬الأطفال‭ ‬معزولين‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي،‭ ‬ممّا‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬أعباء‭ ‬عاطفية‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بقدرة‭ ‬الطفل‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬إنسان‭ ‬آخر‭.  ‬ومازال‭ ‬موضوع‭ ‬مدى‭ ‬مساهمة‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة،‭ ‬مثل‮ ‬الإنترنت والهواتف‭ ‬المحمولة في‭ ‬زيادة‭ ‬درجة‭ ‬العزلة‭ (‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع‭) ‬محلّ‭ ‬جدل‭ ‬بين‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭.‬

ومع‭ ‬ظهور‭ ‬مجتمعات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬زادت‭ ‬خيارات‭ ‬القيام‭ ‬بالأنشطة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتطلب‭ ‬التفاعل‭ ‬الجسدي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الواقعي‭. ‬وتلبي‭ ‬الآن‭ ‬غرف‭ ‬الدردشة‭ ‬ومنتديات‭ ‬الإنترنت،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬المجتمعات‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬احتياجات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأفراد‭ ‬الذين‭ ‬يفضّلون‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬وحدهم،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬بإمكانهم‭ ‬تكوين‭ ‬مجتمعات‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭. ‬

ويدعي‭ ‬مَن‭ ‬يعارضون‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬الأفراد‭ ‬حياتهم‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬أو‭ ‬حصري‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬أن‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الافتراضيين‭ ‬ليسوا‭ ‬بدلاء‭ ‬مناسبين‭ ‬عن‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الحقيقيين،‭ ‬وأشار‭ ‬بحث‭ ‬بالفعل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يستبدلون‭ ‬أصدقاءهم‭ ‬الحقيقيين‭ ‬بأصدقاء‭ ‬افتراضيين‭ ‬يصبحون‭ ‬أكثر‭ ‬شعورًا‭ ‬بالوحدة‭ ‬والإحباط‭ ‬عما‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

 

اعتقاد‭ ‬زائف

وصلت‭ ‬دراسة‭ ‬حديثة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬علماء‭ ‬نفس‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬بيتسبرج‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قضاء‭ ‬فترات‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬تصفّح‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الشعور‭ ‬أكثر‭ ‬بالوحدة،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬يحدث،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬هدف‭ ‬هذه‭ ‬المواقع‭ ‬هو‭ ‬تقوية‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتكوين‭ ‬صداقات‭ ‬جديدة‭.‬

ووفق‭ ‬ما‭ ‬نشرته‭ ‬صحيفة‭ ‬تليجراف‭ ‬البريطانية،‭ ‬كلما‭ ‬قضى‭ ‬الشخص‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬الشبكات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬زاد‭ ‬احتمال‭ ‬شعوره‭ ‬بالعزلة‭ ‬الاجتماعية‭.‬

وجاء‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬المجلة‭ ‬الأمريكية‭ ‬للطب‭ ‬الوقائي،‭ ‬وشملت‭ ‬الدراسة‭ ‬1787‭ ‬بالغًا‭ ‬تتراوح‭ ‬أعمارهم‭ ‬بين‭ ‬19‭ ‬و32‭ ‬عامًا‭. ‬وطلب‭ ‬منهم‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬استطلاع‭ ‬رأي‭ ‬لتحديد‭ ‬معدّل‭ ‬استخدامهم‭ ‬لمواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتم‭ ‬قياس‭ ‬عزلتهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬باستخدام‭ ‬أداة‭ ‬تقييم‭. ‬إن‭ ‬قضاء‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬تويتر‮»‬‭ ‬و«سناب‭ ‬شات‮»‬‭ ‬و«رديت‮»‬‭ ‬و«تامبلر‮»‬‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬مشاعر‭ ‬الحسد‭ ‬والحقد،‭ ‬والاعتقاد‭ ‬الزائف‭ ‬أن‭ ‬الآخرين‭ ‬يعيشون‭ ‬حياة‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة‭ ‬ونجاحًا‭.‬

ووجد‭ ‬الباحثون‭ ‬أن‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬الذين‭ ‬استخدموا‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين‭ ‬يوميًا،‭ ‬عرضة‭ ‬للإصابة‭ ‬بالعزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أكثر‭ ‬مرتين‭ ‬مقارنة‭ ‬بأقرانهم‭ ‬الذين‭ ‬قضوا‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬يوميًا‭.‬

 

مواجهة‭ ‬العزلة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الرقمي

‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تستحيل‭ ‬العزلة‭ ‬إلى‭ ‬مشكلة‭ ‬يصعب‭ ‬تفاقهما‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬الوالدين‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬النمو‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للطفل،‭ ‬بمعنى‭ ‬علاقاته‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬أفراد‭ ‬أسرته،‭ ‬ومع‭ ‬أقاربه،‭ ‬ومع‭ ‬زملائه،‭ ‬وأقرانه،‭ ‬وجيرانه،‭ ‬ولا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تقسيم‭ ‬وقت‭ ‬الطفل‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يصير‭ ‬كل‭ ‬وقته‭ ‬أمام‭ ‬شاشات‭ ‬الهاتف‭ ‬أو‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬أو‭ ‬التلفزيون،‭ ‬لأنّ‭ ‬الإفراط‭ ‬فيها‭ ‬يؤثر‭ ‬سلبًا‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للطفل،‭ ‬ودائرة‭ ‬علاقاته،‭ ‬ويظهر‭ ‬الأثر‭ ‬السلبي‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬التالية،‭ ‬لذلك‭ ‬على‭ ‬الوالدين‭ ‬أن‭ ‬يركّزا‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬الطفل‭ ‬لأنشطة‭ ‬رياضية‭ ‬واجتماعية،‭ ‬وقضاء‭ ‬وقت‭ ‬الفراغ‭ ‬مع‭ ‬أسرته،‭ ‬وتقسيم‭ ‬وقته،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬معدّل‭ ‬جلوس‭ ‬الطفل‭ ‬أمام‭ ‬الشاشات‭ ‬المختلفة‭ ‬متناسبًا‭ ‬مع‭ ‬عمره‭ ‬وسنّه،‭ ‬وبالطبع‭ ‬من‭ ‬المحبذ‭ ‬أن‭ ‬تسود‭ ‬لغة‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الوالدين‭ ‬والطفل،‭ ‬وأن‭ ‬يشرك‭ ‬الأب‭ ‬الابن‭ ‬أثناء‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬المسجد،‭ ‬أو‭ ‬زيارة‭ ‬الأقارب،‭ ‬بحيث‭ ‬يخرج‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬حجرته‭ ‬ومن‭ ‬منزله‭ ‬ويعتاد‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويستكشف‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬وتنمو‭ ‬قدراته‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكبار،‭ ‬فعليهم‭ ‬أن‭ ‬يتابعوا‭ ‬تفاعلاتهم‭ ‬ودائرة‭ ‬علاقاتهم،‭ ‬وألّا‭ ‬ينجرفوا‭ ‬أمام‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬بحيث‭ ‬تؤثر‭ ‬كلية‭ ‬على‭ ‬نشاطهم‭ ‬الكلي‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وأدائهم‭ ‬لأعمالهم‭ ‬والتزامات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬وألّا‭ ‬يتحول‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬إدمان‭ ‬لمواقع‭ ‬التواصل،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬الوقت‭ ‬وتعظيم‭ ‬الفائدة‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل،‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬إضاعة‭ ‬الوقت‭ ‬والصحة،‭ ‬والأمر‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عزم‭ ‬وإيجابية‭ ‬من‭ ‬الفرد،‭ ‬وألّا‭ ‬تتحول‭ ‬تلك‭ ‬المواقع‭ ‬إلى‭ ‬ملاذات‭ ‬يختبئ‭ ‬فيها‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬يتقوقع‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬■