ذكريات أخرى عن الكويت

ذكريات أخرى عن الكويت

أعدّ نفسي واحدًا من الذين يحبّون الكويت، فقد عشتُ فيها عددًا من أجمل سنوات عمري حين كنتُ في مرحلة الشباب التي لا يملك المرء سوى استرجاع ذكرياته وأحداثه عبر سنواتها في حُنوّ وامتنان، ورغم أن الزمان قد طال على إقامتي في الكويت ومغادرتي لها - وقد عشتُ فيها بين عامي 1983 و1988 - فإني لا أزال، رغم مرور كل هذه السنوات على فراقي لها، أتذكر سنوات إقامتي فيها بالعرفان والتقدير.
وأهم من ذلك أنني لا أزال أتذكر ما قدَّمه لي أصدقائي الذين كانوا في الكويت ورحلوا عنها مثلي، بل قبلهم أساتذتي الذين عرفتهم فيها، والذين رحلوا عن حياتنا الدنيا، وعلى رأسهم الراحلون محمد عبدالهادي 
أبو ريدة، وعبدالرحمن بدوي، وفؤاد زكريا في قسم الفلسفة الذين كانوا مثلي من الأساتذة في الجامعة. 

 

قُل‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬عاصرتُ‭ ‬فيه‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬مصطفى،‭ ‬وعبداللطيف‭ ‬أحمد،‭ ‬وسعيد‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬عاشور،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬بقية‭ ‬الأقسام‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬حُسن‭ ‬حظها‭ ‬أنّها‭ ‬ضمت‭ ‬صفوة‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الأساتذة‭. ‬

وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أتاح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬مَن‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفهم‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أساتذة‭ ‬كليات‭ ‬الجامعات‭ ‬المصرية،‭ ‬ومنها‭ ‬كلية‭ ‬دار‭ ‬العلوم‭ ‬التي‭ ‬عاصرتُ‭ ‬من‭ ‬أساتذتها‭ ‬عبدالسلام‭ ‬هارون،‭ ‬ود‭. ‬أحمد‭ ‬مختار‭ ‬عمر،‭ ‬أرقّ‭ ‬وأعذب‭ ‬من‭ ‬عرفتُ‭ ‬منها،‭ ‬وأكثرهم‭ ‬دماثة‭ ‬في‭ ‬الخلق‭ ‬والكرم،‭ ‬وأضيف‭ ‬إليه‭ ‬العزيز‭ ‬محمد‭ ‬فتوح‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬شاعرًا‭ ‬وعالمًا‭ ‬له‭ ‬وزنه‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬البلاغية‭ ‬والنقدية،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الفضل‭ ‬مع‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬رجب‭ ‬النجار‭ ‬في‭ ‬دعوتي‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬وتقديمي‭ ‬إلى‭ ‬العزيز‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬المهنا،‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬عرفت‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬وأول‭ ‬من‭ ‬صحبني‭ ‬إلى‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬مقاهيها‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬متناثرة‭ ‬على‭ ‬الخليج‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد‭.‬

وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬فضل‭ ‬لجامعة‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬إقامتي‭ ‬وعملي‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬البعيدة،‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬جعلتني‭ ‬أعرف‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفهم،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ - ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ذكرت‭ - ‬ففي‭ ‬رحابها‭ ‬عرفت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬وبشكل‭ ‬شخصي‭ ‬حميم‭ ‬د‭. ‬علي‭ ‬الراعي‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬وشاكر‭ ‬مصطفى‭ ‬وأمثالهما‭.‬

فقد‭ ‬قامت‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬باختيار‭ ‬أفضل‭ ‬أساتذة‭ ‬الجامعات‭ ‬العربية‭ ‬وأكثرهم‭ ‬سمعة‭ ‬ووزنًا‭ ‬أدبيًّا‭ ‬لتأسيسها‭.‬

 

نازك‭ ‬الملائكة

أشعر‭ ‬بالفخر‭ ‬لأنني‭ ‬عاصرت‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأساتذة‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬أعرق‭ ‬الجامعات‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة؛‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬بجامعاتها‭ ‬الثلاث،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬وسورية‭ ‬ولبنان‭. ‬والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬معرفتي‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الأساتذة‭ ‬العظماء‭ ‬قد‭ ‬أضافت‭ ‬إلى‭ ‬ثقافتي‭ ‬الكثير،‭ ‬وأثرت‭ ‬تجاربي‭ ‬الحياتية‭ ‬والعلمية،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬حُسن‭ ‬حظّي‭ ‬أن‭ ‬أجاور‭ ‬وأن‭ ‬أتعرّف‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬البعيدة‭ ‬إلى‭ ‬الشاعرة‭ ‬العظيمة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وزوجها‭ ‬عبدالهادي‭ ‬محبوبة،‭ ‬وأن‭ ‬أعرف‭ ‬معهما‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يقلّون‭ ‬عنهما‭ ‬مكانة‭ ‬ووزنًا‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭. ‬

وجميع‭ ‬هؤلاء‭ ‬سبقوني‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬فلحقتُ‭ ‬بهم‭ ‬وتعلَّمت‭ ‬من‭ ‬صحبتهم،‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬النوادر‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬لي‭ ‬معهم،‭ ‬فأبتسم‭ ‬عندما‭ ‬أتذكرها،‭ ‬وأدعو‭ ‬لأصحابها‭ ‬بالرحمة‭ ‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬ذِكر‭ ‬ما‭ ‬دار‭ ‬بيني‭ ‬وبينهم‭.‬

ولقد‭ ‬عملتُ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬أستاذًا‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب،‭ ‬ثم‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬عميدًا‭ ‬مساعدًا‭ ‬للأبحاث‭ ‬والشؤون‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬وبدأ‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وكان‭ ‬موجودًا‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬د‭. ‬عبداللطيف‭ ‬أحمد‭ ‬علي،‭ ‬وكان‭ ‬عميدًا‭ ‬لها،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬معيدًا‭ ‬يافعًا‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬مستقبلٍ‭ ‬واعد‭.‬

وعاصرتُ‭ ‬د‭. ‬عبداللطيف‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الكلية‭ ‬مع‭ ‬نخبة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الأساتذة،‭ ‬وكانت‭ ‬ترأس‭ ‬اللجنة‭ ‬سيدة‭ ‬فاضلة‭ ‬هي
د‭. ‬حياة‭ ‬الحاجي،‭ ‬حرم‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬المهنا‭.‬

ربما‭ ‬كان‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬الأقسام‭ ‬جذبًا‭ ‬لي،‭ ‬فكان‭ ‬فيه‭ ‬صديقي‭ ‬وأستاذي‭ ‬المرحوم‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا،‭ ‬وأستاذي‭ ‬وأستاذه‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬معه‭ ‬طرائف‭ ‬مُضحكة،‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬اعتزازه‭ ‬الشديد‭ ‬بنفسه‭ ‬واحترامه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نظير‭ ‬له‭ ‬فيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بذكرياته‭ ‬مع‭ ‬أستاذ‭ ‬عظيم‭ ‬له،‭ ‬هو‭ ‬طه‭ ‬حسين‭. ‬

 

بدوي‭ ‬وأبو‭ ‬زيد

كنتُ‭ ‬أعرف‭ ‬د‭. ‬بدوي‭ ‬من‭ ‬قراءاتي‭ ‬لكُتبه،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬مراجع‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬مقررات‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية‭ ‬والتصوّف‭ ‬أيام‭ ‬الطلب،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬ترجماته‭ ‬مصدرًا‭ ‬مُهمًّا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬معرفتنا‭ ‬عندما‭ ‬تطلّعنا‭ ‬إلى‭ ‬معارف‭ ‬جديدة‭ ‬تمضي‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬محيطات‭ ‬المعرفة‭ ‬الواسعة‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭.‬

‭ ‬وكنتُ‭ ‬أعرف‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬غرابة‭ ‬أطوار‭ ‬المرحوم‭ ‬بدوي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أراه،‭ ‬لكننى‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬قضيتُ‭ ‬عامي‭ ‬الأول‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أتعرّف‭ ‬إليه‭ ‬أو‭ ‬أُجالسه‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المجالس‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعقدها‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬المرحوم‭ ‬
د‭. ‬أحمد‭ ‬أبو‭ ‬زيد،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرأس‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬عالم‭ ‬الفِكر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬

ولم‭ ‬أنجح‭ - ‬مع‭ ‬الأسف‭ - ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬صداقة‭ ‬مع‭ ‬د‭. ‬بدوي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬بطبعه‭ ‬نافرًا‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬يعرفهم،‭ ‬سيئ‭ ‬الظن‭ ‬بالأغراب،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬أنصرف‭ ‬عنه،‭ ‬وأظلّ‭ ‬أعامله‭ ‬بكل‭ ‬احترامٍ‭ ‬وتقدير،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬نقاش‭ ‬أو‭ ‬جدال‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أحاول‭ ‬التعرف‭ ‬إليه،‭ ‬أو‭ ‬أطلب‭ ‬ممن‭ ‬يحيطون‭ ‬به‭ ‬تقديمي‭ ‬إليه‭.‬

وعلى‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬صديقه‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬أبو‭ ‬زيد،‭ ‬هو‭ ‬الملاذ‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬ألجأ‭ ‬إليه‭ ‬حين‭ ‬أطلب‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والحكمة‭. ‬ولحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬كان‭ ‬د‭. ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬يكتب‭ ‬كتابًا‭ ‬عن‭ ‬النظرية‭ ‬البنيوية‭ ‬في‭ ‬الأنثربولوجيا‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬عَرف‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالبنيوية،‭ ‬حتى‭ ‬أخذ‭ ‬يحدثني‭ ‬حديثًا‭ ‬حميميًّا‭ ‬عنها،‭ ‬ويخبرني‭ ‬أنه‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬مجالات‭ ‬تطبيقاتها‭ ‬الأنثربولوجية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

وطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬ما‭ ‬كَتَب،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرف‭ ‬أنني‭ ‬أترجم‭ ‬كتاب‭ ‬إديث‭ ‬كريزويل‭ ‬عن‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬البنيوية‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬أوشك‭ ‬على‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬ترجمته،‭ ‬وأستعد‭ ‬لنشره‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬عالَم‭ ‬المعرفة،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يشرف‭ ‬عليها‭ ‬المرحوم‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا‭. ‬وقد‭ ‬قرأتُ‭ ‬بالفعل‭ ‬مخطوطة‭ ‬بعض‭ ‬الفصول‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬د‭. ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬ومجالاتها‭ ‬في‭ ‬الأنثربولوجيا‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مُتخصصًا‭ ‬فيها‭. ‬

وكتبتُ‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬بعض‭ ‬التعليقات‭ ‬التي‭ ‬سعد‭ ‬بها،‭ ‬ووعدني‭ ‬بإعادة‭ ‬النظر‭ ‬فيما‭ ‬كَتب‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬لاحظتُ‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬فرغتُ‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬كتاب‭ ‬عصر‭ ‬البنيوية،‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬أعطيته‭ ‬لفؤاد‭ ‬زكريا‭ ‬الذي‭ ‬قرأه‭ ‬وراجعه‭ ‬فصلًا‭ ‬فصلًا،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتهيتُ‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬الكتاب‭ ‬كله،‭ ‬وانتهى‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬المراجعة‭ ‬الكاملة‭. ‬

 

عصر‭ ‬البنيوية

تصورتُ‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬سيُنشر‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أعداد‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬المعرفة‮»‬‭ ‬في‭ ‬الشهر‭ ‬أو‭ ‬الشهرين‭ ‬القادمين،‭ ‬لكن‭ ‬زكريا‭ ‬أبلغني‭ ‬بعد‭ ‬وقتٍ‭ ‬من‭ ‬تكرار‭ ‬أسئلتي‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬موعد‭ ‬النشر،‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬نشر‭ ‬الكتاب‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬حذف‭ ‬الفصلين‭ ‬الخاصين‭ ‬بالإسهام‭ ‬الماركسي‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬النظرية‭ ‬البنيوية‭ ‬وتطبيقاتها؛‭ ‬وذلك‭ ‬لحساسية‭ ‬الموضوعات‭ ‬المعُالَجة‭ ‬فيهما،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬كلا‭ ‬الفصلين‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬علاقة‭ ‬البنيوية‭ ‬الفرنسية‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬والاجتماع،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الماركسي‭.‬

وكان‭ ‬المفكر‭ ‬الماركسي‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬يدور‭ ‬حوله‭ ‬أحد‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬لويس‭ ‬ألتوسير،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعدّ‭ ‬ممثلًا‭ ‬للماركسية‭ ‬العلمية،‭ ‬أما‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬هنري‭ ‬لوفيفر‭. ‬وقد‭ ‬أصابني‭ ‬الوجوم‭ - ‬فيما‭ ‬أذكر‭- ‬عندما‭ ‬طالبني‭ ‬زكريا‭ ‬بحذف‭ ‬هذين‭ ‬الفصلين،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬راجعهما‭ ‬ضمن‭ ‬بقية‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭. ‬وقلتُ‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬الفور‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬فلن‭ ‬أنشر‭ ‬الكتاب‭ ‬كُلّه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‮»‬،‭ ‬وتركتُه‭ ‬غاضبًا‭ - ‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ - ‬وعدتُ‭ ‬إلى‭ ‬مكتبي‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬ومنه‭ ‬إلى‭ ‬منزلي‭.‬

وفى‭ ‬المساء‭ ‬هاتفني‭ ‬صديقي‭ ‬العزيز‭ ‬محسن‭ ‬الموسوي‭ - ‬مدّ‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عمره‭ - ‬ليدعوني‭ ‬إلى‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬المربد‮»‬‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬وكان‭ ‬المهرجان‭ ‬في‭ ‬ذُروة‭ ‬نشاطه‭ ‬وسنوات‭ ‬تأثيره‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬البعيد‭. ‬وقبلتُ‭ ‬الدعوة،‭ ‬وسألني‭ ‬الموسوي‭ ‬عمّا‭ ‬إذا‭ ‬كنتُ‭ ‬فرغتُ‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬كُتبي،‭ ‬فأخبرته‭ ‬بكتاب‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬البنيوية‮»‬،‭ ‬فألحَّ‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أُرسله‭ ‬إليه‭ ‬كي‭ ‬ينشره‭ ‬ويصدره‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬المربد‭. ‬

ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬خاف‭ ‬ألا‭ ‬أتحمس‭ ‬لهذا‭ ‬النشر،‭ ‬فأرسل‭ ‬لي‭ ‬المستشار‭ ‬الثقافي‭ ‬للسفارة‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬آنذاك،‭ ‬وطلب‭ ‬منّي‭ ‬الرجل‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أمره‭ ‬الموسوي‭ ‬بتسلّمه‭ ‬منّي،‭ ‬فأعطيتُه‭ ‬إياه،‭ ‬وكان‭ ‬مهرجان‭ ‬المربد‭ ‬بعد‭ ‬أسابيع‭ ‬قليلة‭ ‬تقريبًا،‭ ‬ونسيتُ‭ ‬الموضوع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬المهرجان،‭ ‬ففوجئتُ‭ ‬بأن‭ ‬الكتاب‭ ‬قد‭ ‬طُبع،‭ ‬ويتم‭ ‬توزيعه‭ ‬مجانًا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ضيوف‭ ‬المؤتمر‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬عددهم‭ ‬بالمئات‭.‬

 

طبعات‭ ‬مجانية

كان‭ ‬من‭ ‬ضيوف‭ ‬المؤتمر‭ ‬صديقي‭ ‬العزيز‭ ‬
د‭. ‬خليفة‭ ‬الوقيان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬بالمجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬مع‭ ‬د‭. ‬زكريا،‭ ‬فسألني‭ ‬عن‭ ‬القصة،‭ ‬ولماذا‭ ‬لم‭ ‬يُطبع‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة؟،‭ ‬فأخبرته‭ ‬بما‭ ‬حدث،‭ ‬فأبدى‭ ‬أسفه‭ ‬لعدم‭ ‬نشر‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‭. ‬

واندمج‭ ‬كلانا‭ ‬في‭ ‬أنشطة‭ ‬المهرجان‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نتعرّض‭ ‬للحديث‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬وعدنا‭ ‬إلى‭ ‬الكويت،‭ ‬ولم‭ ‬أعاتب‭ ‬زكريا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فعل،‭ ‬ومرّت‭ ‬الأشهر،‭ ‬وأغلب‭ ‬الظن‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬بخبر‭ ‬نشر‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬أو‭ ‬ربّما‭ ‬عرف‭ ‬وتجاهل‭ ‬الأمر‭.‬

الطريف‭ ‬أن‭ ‬الطبعة‭ ‬العراقية‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تسرّبت‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬والمغرب،‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية،‭ ‬وطُبع‭ ‬الكتاب‭ ‬مرات‭ ‬عديدة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُطبع‭ ‬في‭ ‬مصر‭.‬

وكلها‭ ‬طبعات‭ ‬مجانية‭ ‬لم‭ ‬آخذ‭ ‬أية‭ ‬حقوق‭ ‬طبعٍ‭ ‬أو‭ ‬ترجمة‭ ‬عنها،‭ ‬لكني‭ ‬سعدتُ‭ ‬سعادة‭ ‬غامرة‭ ‬بطبع‭ ‬الكتاب‭ ‬وانتشاره‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كله‭ ‬دون‭ ‬حذف‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬منه‭.‬

وقد‭ ‬ترك‭ ‬الكتاب‭ ‬تأثيرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬وقته‭ ‬سنة‭ ‬1985،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬فقابلتُ‭ ‬الكثيرين‭ ‬ممن‭ ‬قرأوه‭ ‬وتأثّروا‭ ‬به‭.‬

ومضت‭ ‬الأيام‭ ‬والأشهر‭ ‬والأعوام،‭ ‬ولم‭ ‬أتحدّث‭ ‬مع‭ ‬زكريا‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬نشر‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬عالَم‭ ‬المعرفة،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبرتُ‭ ‬الموضوع‭ ‬مُنتهيًا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يحدّثني‭ ‬هو‭.‬

 

مشاكسة‭ ‬مرحة

انتهى‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ - ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ذكرت‭ - ‬وظلت‭ ‬علاقتنا‭ ‬كما‭ ‬كانت،‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬واحترام‭ ‬منّي؛‭ ‬لأني‭ ‬كنتُ‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أعتبر‭ ‬زكريا‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أساتذتي،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقتي‭ ‬به‭ ‬علاقة‭ ‬جميلة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬المشاكسة‭ ‬المرحة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الندوات‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجمعنا،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬زكريا‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬أمام‭ ‬حضور‭ ‬تلك‭ ‬الندوات‭: ‬‮«‬يا‭ ‬جابر،‭ ‬لقد‭ ‬أخطأتَ‭ ‬بدخول‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فحقكَ‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة،‭ ‬خصوصًا؛‭ ‬لأن‭ ‬عقليتكَ‭ ‬عقلية‭ ‬جدلية،‭ ‬وجدالية‭ ‬بامتياز‮»‬‭. ‬

وكان‭ ‬كلانا‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التعليق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أذكره‭ ‬بالعرفان‭ ‬والابتسامة‭ ‬الحانية‭ ‬لذِكرى‭ ‬المرحوم‭ ‬فؤاد‭ ‬زكريا‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬يعرف‭ ‬حبّي‭ ‬للفلسفة‭ ‬وعشقي‭ ‬لقراءتها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬علَّمتني‭ ‬قراءاتي‭ ‬المتقدمة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ناقدًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬متميزًا‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يُحسنه‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬تنظيرًا‭ ‬وتطبيقًا‭ ‬في‭ ‬وزن‭ ‬ما‭ ‬يُحسنه‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬الفلسفة‭ ‬ومذاهبها‭ ‬المختلفة‭. ‬فالفلسفة‭ ‬هي‭ ‬المنظار‭ ‬الذي‭ ‬يتيح‭ ‬للناقد‭ ‬أن‭ ‬يُسائل‭ ‬أفكاره‭ ‬أولًا،‭ ‬ويُسائل‭ ‬أفكار‭ ‬الآخرين‭ ‬ونظرياتهم‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬عميد‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت،‭ ‬المرحوم‭ ‬د‭. ‬خلدون‭ ‬النقيب،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أصفى‭ ‬العقول‭ ‬الكويتية‭ ‬التي‭ ‬عَرفتُها،‭ ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مُتخصصًا‭ ‬في‭ ‬فرع‭ ‬من‭ ‬فروع‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الكثيرة،‭ ‬لكنّ‭ ‬ثقافته‭ ‬الأدبية‭ ‬والفلسفية‭ ‬كانت‭ ‬مذهلة،‭ ‬ودراساته‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬السياسي‭ ‬كانت‭ ‬تجمع‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬اتفقوا‭ ‬على‭ ‬تميّزه‭ ‬ونبوغه‭. ‬والحق‭ ‬أنني‭ ‬قرأتُ‭ ‬له،‭ ‬وسمعتُ‭ ‬عنه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬الكويت،‭ ‬وعندما‭ ‬أصبحنا‭ ‬زملاء،‭ ‬وأصبح‭ ‬هو‭ ‬العميد‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬من‭ ‬دورات‭ ‬العمادة،‭ ‬طلب‭ ‬منّى‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مساعدًا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬العلمية،‭ ‬فقبلتُ‭ ‬غير‭ ‬متردد‭.‬

 

النقيب‭... ‬عوالم‭ ‬معرفية‭ ‬مُبهرة

أشهد‭ ‬أن‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬قضيتُها‭ ‬مع‭ ‬النقيب‭ ‬في‭ ‬العمادة‭ ‬لم‭ ‬تجعلني‭ ‬أقترب‭ ‬منه‭ ‬بوصفه‭ ‬صديقًا‭ ‬وأخًا‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬جعلتني‭ ‬أنجذبُ‭ ‬إلى‭ ‬عوالمه‭ ‬المعرفية‭ ‬المُبهرة،‭ ‬فقد‭ ‬فتح‭ ‬لي‭ ‬أبوابًا‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬أحدثها‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المجتمع‭ ‬والدولة‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬والجزيرة‭ ‬العربية‭... ‬من‭ ‬منظور‭ ‬مختلف‮»‬،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬آرائه‭ ‬الخاصة‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬التسلّطية‮»‬‭ ‬وغلبتها‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬مشرق‭ ‬أو‭ ‬مغرب‭ ‬أو‭ ‬دولة‭ ‬نفطية‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬نفطية‭.‬

وإن‭ ‬لم‭ ‬تخنّي‭ ‬الذاكرة‭ ‬فقد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬الماجستير‭ ‬ثم‭ ‬الدكتوراه‭ ‬من‭ ‬إنجلترا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وظل‭ ‬قارئًا‭ ‬نهمًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬كان‭ ‬كسولًا‭ ‬فيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالكتابة؛‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬مُدققًا‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬ويخاف‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬أو‭ ‬السطحية،‭ ‬فيعاود‭ ‬الكتابة‭ ‬مرات‭ ‬ومرات،‭ ‬ونادرًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينشر‭ ‬أبحاثه‭.‬

لكن‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬ذكرياتي‭ ‬عن‭ ‬الكويت‭ ‬هي‭ ‬شخصية‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬مشاري‭ ‬العدواني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يترأس‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وكان‭ ‬أشعرَ‭ ‬أهل‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬سنواتي‭ ‬الخمس‭ ‬التي‭ ‬قضيتُها‭ ‬هناك،‭ ‬وهو‭ ‬صاحب‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني،‭ ‬ومؤلف‭ ‬كلماته‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زلتُ‭ ‬أذكرها‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬الندوات‭ ‬الدولية‭ ‬والقومية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يُقيمها‭ ‬أيام‭ ‬كان‭ ‬أمينًا‭ ‬عامًّا‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الوطني‭ ‬للثقافة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬فضل‭ ‬إصدار‭ ‬مجلة‭ ‬عالم‭ ‬الفكر،‭ ‬كما‭ ‬أنشأ‭ ‬مجلات‭ ‬أخرى،‭ ‬مثل‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‭ ‬والثقافة‭ ‬العالمية‭ ‬والمسرح‭ ‬العالمي،‭ (‬الآن‭ ‬‮«‬إبداعات‭ ‬عالمية‮»‬‭).‬

 

عبدالعزيز‭ ‬حسين‭... ‬المؤسس

ظللتُ‭ ‬أتابع‭ ‬أشعار‭ ‬العدواني‭ ‬في‭ ‬الجرائد‭ ‬الكويتية‭ ‬فترة‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ - ‬بسببٍ‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬مقتنعًا‭ ‬به‭ - ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬قررتُ‭ ‬ألا‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬جرائد‭ ‬كويتية‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬شخصيات‭ ‬كويتية‭ ‬فترة‭ ‬إقامتي‭ ‬بالكويت‭.‬

فقد‭ ‬ظللتُ‭ ‬محافظًا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدتُ‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وبدأتُ‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الحياة‭ ‬اللندنية،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الجرائد‭ ‬العربية‭.‬

وعندما‭ ‬بلغني‭ ‬خبر‭ ‬وفاة‭ ‬المرحوم‭ ‬العدواني،‭ ‬كتبتُ‭ ‬عن‭ ‬شعره‭ ‬وتميّزه‭ ‬الإبداعي‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الحياة‭ ‬اللندنية‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المقالات،‭ ‬ولم‭ ‬أتعرّض‭ ‬لإنجازه‭ ‬الثقافي،‭ ‬وأظنّ‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬حان‭ ‬الوقت‭ ‬لكي‭ ‬أُشير‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬الكويتية،‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬أمانة‭ ‬‮«‬الوطني‭ ‬للثقافة‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أسّسه‭ ‬المرحوم‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬حسين،‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ - ‬بحق‭ - ‬أبرز‭ ‬أبناء‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مثقفي‭ ‬الكويت،‭ ‬والمؤسس‭ ‬الفعلي‭ ‬لأجهزة‭ ‬الكويت‭ ‬الثقافية،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بتكليفٍ‭ ‬من‭ ‬سمو‭ ‬الأمير‭ ‬الراحل‭ ‬الشيخ‭ ‬جابر‭ ‬الأحمد‭ ‬الصباح،‭ ‬فقام‭ ‬بذلك‭ ‬خير‭ ‬قيام،‭ ‬بمساعدة‭ ‬العدواني،‭ ‬وضمّ‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬تلاميذه‭ ‬الذين‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبحوا‭ ‬دكاترة،‭ ‬أذكر‭ ‬منهم‭ ‬خليفة‭ ‬الوقيان،‭ ‬وسليمان‭ ‬العسكري‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬الأصدقاء‭ ‬إلى‭ ‬نفسي‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬

كان‭ ‬العدواني‭ ‬شاعرًا‭ ‬بالفطرة،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬تلميذي‭ (‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬دكتورًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭) ‬علي‭ ‬عاشور،‭ ‬كتب‭ ‬بحثًا‭ ‬عنه‭ ‬تحت‭ ‬إشرافي‭ ‬في‭ ‬سنته‭ ‬الأخيرة‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وقد‭ ‬أُعجب‭ ‬الرجل‭ ‬به‭ ‬كلّ‭ ‬الإعجاب‭ ‬عندما‭ ‬قرأه‭. ‬لكنني‭ ‬ظللتُ‭ ‬على‭ ‬موقفي،‭ ‬فلم‭ ‬أكتب‭ ‬عنه‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬ولم‭ ‬أفعل‭ ‬ذلك‭ - ‬كما‭ ‬قلتُ‭ - ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬بسنوات،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تخنّي‭ ‬الذاكرة،‭ ‬فقد‭ ‬كتبتُ‭ ‬عنه‭ ‬خمسة‭ ‬مقالات‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الحياة‭ ‬اللندنية‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬28‭/‬10‭ ‬إلى‭ ‬25‭/‬11‭/‬1996‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬تقديرًا‭ ‬منِّى‭ ‬لشاعريّة‭ ‬الرجل‭ ‬ودوره‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تضيع‭ ‬هذه‭ ‬الإنجازات‭ ‬والإسهامات‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭. ‬فكلّ‭ ‬من‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬حسين‭ ‬والعدواني‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يذكرها‭ ‬كل‭ ‬عربي‭ ‬اتصل‭ ‬بالثقافة‭ ‬الكويتية‭ ‬أو‭ ‬تأثر‭ ‬بها‭.‬

 

‭ ‬إنتاجية‭ ‬الأساتذة

يأتي‭ ‬بعد‭ ‬العدواني‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬سنِّي،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬إلى‭ ‬قلبي،‭ ‬ولم‭ ‬تتوقف‭ ‬صداقتي‭ ‬له‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توفاه‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬وهو‭ ‬المرحوم‭ ‬خلدون‭ ‬النقيب،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وحده‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬قلبي،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬انضم‭ ‬إليه‭ ‬سليمان‭ ‬العسكري،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬بعثته‭ ‬من‭ ‬إنجلترا،‭ ‬وأصبح‭ ‬أستاذًا‭ ‬واعدًا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬التاريخ،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تعرفتُ‭ ‬إليه‭ ‬وجذبتني‭ ‬إليه‭ ‬دماثة‭ ‬خلقه‭ ‬وثقافته‭ ‬التي‭ ‬تصله‭ ‬باهتماماته‭ ‬الثقافية‭ ‬كما‭ ‬تصلني‭ ‬به‭. ‬

ولذلك‭ ‬أصبحنا‭ ‬صديقين‭ ‬حميمينِ‭ ‬أو‭ ‬أخوينِ‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬نتواصل‭ ‬بكل‭ ‬الحب‭ ‬والتقدير،‭ ‬ويجمع‭ ‬بيننا‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬الإخوة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال،‭ ‬أفرح‭ ‬له‭ ‬وبه‭ ‬عند‭ ‬توليه‭ ‬منصبًا‭ ‬جديدًا‭. ‬وأذكر‭ ‬وفاءه‭ ‬بكل‭ ‬التقدير‭ ‬والمحبة،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬قَط‭ ‬الرحلات‭ ‬التي‭ ‬جمعتنا،‭ ‬واللقاءات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تضمّنا‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ - ‬أعطاه‭ ‬الله‭ ‬الصحة‭ ‬والسعادة‭ - ‬فهو‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬عرفتهم‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬والذين‭ ‬ظلت‭ ‬صلتي‭ ‬وثيقة‭ ‬بهم‭. ‬

والحق‭ ‬أنني‭ ‬أذكرُ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬باقيًا‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬والذي‭ ‬يقترن‭ ‬بأحداث،‭ ‬كلما‭ ‬ذكرتُها‭ ‬ابتسمتُ‭ ‬أو‭ ‬ضحكتُ‭ ‬مُتعجبًا‭. ‬أذكر‭ ‬مرة‭ ‬أنني‭ ‬اقترحتُ‭ ‬على‭ ‬النقيب‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬حين‭ ‬كان‭ ‬عميدًا‭ ‬أن‭ ‬نعد‭ ‬بحثًا‭ ‬ميدانيًّا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إنتاجية‭ (‬productivity‭) ‬الأساتذة‭ ‬المُعارين‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‮»‬،‭ ‬ونرى‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬إنتاجياتهم‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬مقارنة‭ ‬بإنتاجياتهم‭ ‬في‭ ‬أقطارهم‭ ‬الأصلية،‭ ‬واستعنت‭ ‬ببعض‭ ‬أساتذة‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يعرفون‭ ‬استخدام‭ ‬أدوات‭ ‬الإحصاء‭ ‬المقارن،‭ ‬وما‭ ‬يلزم‭ ‬عنها‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يقترن‭ ‬بها‭ ‬لأداء‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭. ‬

وبالفعل‭ ‬انتهينا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬بعد‭ ‬شهور‭ ‬من‭ ‬البدء‭ ‬بها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نخبرَ‭ ‬أحدًا‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬انتهينا‭ ‬أعلنّاها‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬مجالس‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬خلدون‭ ‬عميدًا‭ ‬لها‭. ‬ويا‭ ‬للثّورة‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬انفجرت‭ ‬فينا،‭ ‬فقد‭ ‬بَدونا‭ ‬لعددٍ‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬كأننا‭ ‬دخلنا‭ ‬مناطق‭ ‬مُحرَّمة،‭ ‬وكشفنا‭ ‬عن‭ ‬أسرار‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬الكلام‭ ‬عنها‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬وصلنا‭ ‬إليها‭ ‬صادمة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حين‭ ‬كشفنا‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬الإنتاجية‭ ‬قد‭ ‬تضاءلت‭ ‬إلى‭ ‬حدٍّ‭ ‬كبير‭ ‬أثناء‭ ‬العمل‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بأن‭ ‬أغلب‭ ‬المُعارين‭ ‬إلى‭ ‬جامعات‭ ‬الكويت‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬كبار‭ ‬السن‭. ‬وهؤلاء‭ ‬قد‭ ‬آثروا‭ ‬الراحة‭ ‬والاسترخاء‭ ‬وتَرك‭ ‬البحث‭ ‬العلمي،‭ ‬نتيجة‭ ‬الحياة‭ ‬المُرفَّهة‭ ‬التي‭ ‬أصبحوا‭ ‬يعيشونها‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬الاعتبار‭ ‬المالي‭ ‬دافعًا‭ ‬قويًّا‭ ‬على‭ ‬البحث‭.‬

 

هذا‭ ‬رزق‭ ‬الله

الحق‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬باسِمًا‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬العنيفة‭ ‬التي‭ ‬وُجِّهت‭ ‬إلى‭ ‬النقيب‭ ‬أولًا‭ ‬وإليّ‭ ‬ثانيًا‭. ‬ولحُسن‭ ‬الحظ،‭ ‬أن‭ ‬أعصاب‭ ‬النقيب‭ ‬كانت‭ ‬هادئة،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينفعل‭ ‬أو‭ ‬يغضب‭ ‬بسهولة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يبتسم‭ ‬وهو‭ ‬يواجه‭ ‬هذه‭ ‬الثورة،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أن‭ ‬دافعي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مُغرضًا،‭ ‬أو‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬التعريض‭ ‬بأحدٍ،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬سعيًا‭ ‬علميًّا‭ ‬لمحاولة‭ ‬استكشاف‭ ‬معيار‭ ‬إنتاجية‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬العمل‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت‭ ‬وفي‭ ‬رحابها‭. ‬

وما‭ ‬أكثر‭ ‬الأحاديث‭ ‬والذكريات‭ ‬التي‭ ‬تتوارد‭ ‬على‭ ‬ذهني،‭ ‬وأنا‭ ‬أسترجع‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬انفتحت‭ ‬فجأة،‭ ‬وبدأت‭ ‬تنسالُ‭ ‬على‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تتداعى‭ ‬على‭ ‬قلمي‭ ‬وأنا‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬مكتبي‭ ‬الخاص،‭ ‬مُنعزلًا‭ ‬عَمّن‭ ‬حولي‭.‬

ومن‭ ‬النوادر‭ ‬التي‭ ‬أذكرها‭ ‬كذلك،‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نعد‭ ‬استمارة‭ ‬تَمرُّ‭ ‬على‭ ‬الأساتذة‭ ‬المُعارين‭ ‬مثلي‭ ‬لبيان‭ ‬رغبتهم‭ ‬في‭ ‬البقاء،‭ ‬أو‭ ‬إنهاء‭ ‬الإعارة‭ ‬أو‭ ‬التعاقد،‭ ‬وكنتُ‭ ‬قد‭ ‬قررتُ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إعارتي‭ ‬في‭ ‬الحدود‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬قرّرتها‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ (‬جامعتي‭ ‬الأم‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬كنتُ‭ ‬ملتزمًا‭ ‬بالمدة‭ ‬الرسمية،‭ ‬ولم‭ ‬أتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الحدود،‭ ‬ورفضتُ‭ ‬كل‭ ‬إغراء‭ ‬بأن‭ ‬أتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬المُدة‭. ‬

لكني‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬المُعارين‭ - ‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ - ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬السنّ‭ ‬الذين‭ ‬جاوزوا‭ ‬سن‭ ‬المعاش،‭ ‬والذين‭ ‬كانت‭ ‬تحتفظ‭ ‬بهم‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬لخبراتهم‭ ‬النادرة،‭ ‬عندما‭ ‬أرسلنا‭ ‬له‭ ‬الاستمارة‭ ‬الخاصة‭ ‬ببيان‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬البقاء،‭ ‬أو‭ ‬إنهاء‭ ‬الإعارة‭ ‬أو‭ ‬التعاقد،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬الورقة‭ ‬الخاصة‭ ‬به‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬رزق‭ ‬منحني‭ ‬إياه‭ ‬الله،‭ ‬فأتركه‭ ‬لمشيئته‮»‬‭. ‬

وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬ضحكنا‭ ‬أنا‭ ‬والنقيب،‭ ‬وكانت‭ ‬معنا‭ ‬د‭. ‬نورية‭ ‬الرومي،‭ ‬وعبدالملك‭ ‬مُرتاض‭ - ‬متَّعهما‭ ‬الله‭ ‬بالصحة‭ ‬والعافية‭ - ‬فما‭ ‬زلتُ‭ ‬أراهما‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬متناثرة‭ ‬متباعدة‭ ‬خارج‭ ‬الكويت،‭ ‬فلم‭ ‬أعد‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‭ ‬بانتظامٍ؛‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أملك‭ ‬الوقت‭ ‬أو‭ ‬الصحة،‭ ‬لكنني‭ ‬عندما‭ ‬أجلس‭ ‬مع‭ ‬نفسي،‭ ‬وأترك‭ ‬العنان‭ ‬للذكريات،‭ ‬تنسال‭ ‬على‭ ‬ذهني،‭ ‬وأجلس‭ ‬في‭ ‬وحدتي‭ ‬متذكرًا‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام‭ ‬من‭ ‬أعوام‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬ولم‭ ‬يعُد‭.‬

 

عرفان‭ ‬وامتنان

لكن‭ ‬مهما‭ ‬تباعد‭ ‬الزمن،‭ ‬فقد‭ ‬عدتُ‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬إلى‭ ‬جامعتي‭ ‬سنة‭ ‬1988،‭ ‬وتقلَّبت‭ ‬بي‭ ‬المناصب‭ ‬والمهام،‭ ‬وانشغلتُ‭ ‬بين‭ ‬العمل‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والأعمال‭ ‬غير‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬وهأنذا‭ ‬أجلس‭ ‬اليوم‭ ‬فأتذكر‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬مضى‭ ‬على‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا،‭ ‬وقد‭ ‬اشتعل‭ ‬الرأس‭ ‬شيبًا،‭ ‬لكنني‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أحتفظ‭ ‬بذكرياتي‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬قضيتُها‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬فأشعر‭ ‬بالعرفان‭ ‬والامتنان‭ ‬لكلّ‭ ‬من‭ ‬أحسنوا‭ ‬إليّ،‭ ‬وأزداد‭ ‬محبة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬عرفتهم‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬زملائي‭ ‬وزميلاتي‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت‭.‬

الطريف‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أذكر‭ ‬الأستاذات‭ ‬من‭ ‬الزميلات‭ ‬اللائي‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬أذكرهن‭ ‬بكل‭ ‬التقدير‭ ‬والاحترام؛‭ ‬وأولاهن‭ ‬المرحومة‭ ‬د‭. ‬نوال‭ ‬الإبراهيم،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬بمنزلة‭ ‬الأخت‭ ‬الحميمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬وفاؤها،‭ ‬ولم‭ ‬تتقلّص‭ ‬صداقتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬والظروف،‭ ‬فقد‭ ‬عهدتها‭ ‬أستاذة‭ ‬بارّة‭ ‬بأبنائها‭ ‬وبناتها،‭ ‬وفيَّة‭ ‬لزملائها‭ ‬وزميلاتها،‭ ‬فأدعو‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قلبي‭ ‬لها‭ ‬بالرحمة‭ ‬والمغفرة‭. ‬

وأضيف‭ ‬إلى‭ ‬نوال،‭ ‬زميلاتي‭ ‬اللائي‭ ‬أدعو‭ ‬لهنّ‭ ‬بالصحة‭ ‬ودوام‭ ‬النجاح،‭ ‬ومنهن‭ ‬د‭. ‬نورية‭ ‬الرومى،‭ ‬ود‭. ‬سهام‭ ‬الفريح،‭ ‬والصديقة‭ ‬د‭. ‬دلال‭ ‬الزبن‭ ‬من‭ ‬قسم‭ ‬الاجتماع،‭ ‬أرملة‭ ‬المرحوم‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬العدواني،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬بيتها‭ ‬مفتوحًا‭ ‬لنا‭ ‬بكرمه‭ ‬الحاتمي‭ ‬كلما‭ ‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬الكويت‭. ‬

أما‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬أكتبُ‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬فهي‭ ‬ذاكرة‭ ‬الكويت‭ ‬الحيّة،‭ ‬والمنبر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتجاوب‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬الأصوات‭ ‬العربية،‭ ‬مؤكدة‭ ‬المعنى‭ ‬القومي‭ ‬لهذه‭ ‬المجلة‭ ‬التي‭ ‬تفتح‭ ‬أبوابها‭ ‬لكل‭ ‬الكتّاب‭ ‬العرب‭ ‬بلا‭ ‬استثناء،‭ ‬وتفتح‭ ‬صفحاتها‭ ‬ليرى‭ ‬القرّاء‭ ‬العرب‭ ‬أقطار‭ ‬العالم‭ ‬وقاراته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬الأعداد‭.‬

الطريف‭ ‬والغريب‭ ‬أنني‭ ‬خلال‭ ‬سنواتي‭ ‬الخمس‭ ‬التي‭ ‬قضيتُها‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬رغم‭ ‬إلحاح‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬يشرفون‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭. ‬ولم‭ ‬أبدأ‭ ‬الكتابة‭ ‬فيها‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تركتُ‭ ‬الكويت‭ - ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ذكرت‭ - ‬فجعلتُ‭ ‬من‭ ‬مقالاتي‭ ‬فيها‭ ‬همزة‭ ‬وصلٍ‭ ‬تصلني‭ ‬بقرّائي‭ ‬وتلامذتي‭ ‬وأصدقائي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أذكرهُ‭ ‬بالخير،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حينما‭ ‬ألتقي‭ ‬تلامذتي‭ ‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬أساتذة‭ ‬جامعيين‭ ‬أو‭ ‬شعراء‭ ‬وشاعرات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المُلتقيات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬أذهب‭ ‬إليها‭ ‬خارج‭ ‬الكويت‭ ‬■