بين الإحياء والحداثة

بين الإحياء والحداثة

إن الظروف التي عرفتها الساحة العربية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، قد حتمت أشكالًا من التغيرات شملت جل أنحاء الوطن العربي، وبشكل خاص مصر ولبنان، لما عرفه هذان القطران من احتكاك مبكر بالغرب. وإذا كانت هذه التغيرات قد شملت جل مظاهر الحياة، فقد برزت كذلك في مجال الثقافة والفكر. ولكي نفهمها بشكل صحيح، فلابد من استحضار ظروفها الموضوعية.

 

لقد‭ ‬كان‭ ‬التفكير‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬رزح‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تحت‭ ‬نيره‭ ‬أمدًا‭ ‬طويلًا‭ ‬قد‭ ‬استنفد‭ ‬مبررات‭ ‬وجوده‭ ‬وأصبح‭ ‬لزامًا‭ ‬تجاوزه‭. ‬وعندما‭ ‬توغل‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬دعت‭ ‬الضرورة‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أرضية‭ ‬للتعامل‭ ‬معه،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬التعامل‮»‬‭ ‬رافضًا‭ ‬معاديًا‭ ‬أو‭ ‬قابلًا‭ ‬مرحبًا‭. ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬مجال‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المتنفسات‭ ‬الأكثر‭ ‬إمكانية‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬فقد‭ ‬ظهرت‭ ‬إرهاصات‭ ‬نهضة‭ ‬مبشرة‭ ‬بحياة‭ ‬فكرية‭ ‬وأدبية‭ ‬وثقافية‭ ‬جديدة‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تحولت‭ ‬تلك‭ ‬الإرهاصات‭ ‬إلى‭ ‬حركات،‭ ‬تميزت‭ ‬منها‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬وحركة‭ ‬الحداثة‭.‬

 

حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬والهوية

ظهرت‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬مع‭ ‬مبادئها‭ ‬ومنطلقاتها‭ ‬التي‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬القومي،‭ ‬الذي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬استرجاع‭ ‬مقومات‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬الأصول،‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬اللغة‭ ‬وما‭ ‬يتصل‭ ‬بها،‭ ‬فاتخذتها‭ ‬ملاذًا،‭ ‬وجعلت‭ ‬من‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬حصنًا‭ ‬حصينًا‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬ثوابت‭ ‬الأمة‭ ‬حسب‭ ‬اعتقادها‭. ‬وكان‭ ‬أغلب‭ ‬رواد‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬ممن‭ ‬تشبعوا‭ ‬بالثقافة‭ ‬الأزهرية‭ ‬التقليدية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الذين‭ ‬اطلعوا‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬وتشبعوا‭ ‬بثقافته،‭ ‬رأوا‭ ‬أن‭ ‬اتخاذ‭ ‬الغرب‭ ‬مرجعًا‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬منه،‭ ‬إما‭ ‬بمحاربته‭ ‬بأسلحته‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية،‭ ‬وإما‭ ‬بالتماهي‭ ‬معه‭ ‬والذوبان‭ ‬فيه‭ ‬وتبني‭ ‬أطروحاته،‭ ‬وهنا‭ ‬ظهرت‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة‭. ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬استعراض‭ ‬الملابسات‭ ‬التي‭ ‬لازمت‭ ‬ظهور‭ ‬الحركتين‭ ‬المذكورتين،‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬طبيعة‭ ‬الاختيارات‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفنية‭ ‬لكل‭ ‬حركة‭ ‬قد‭ ‬جعلت‭ ‬منهما‭ ‬قطبين‭ ‬متناقضين‭ ‬ومتباعدين،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يبرز‭ ‬الخلاف‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬معارك‭ ‬نقدية‭ ‬بين‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬وحركة‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬‭ ‬إذا‭ ‬اعتبرنا‭ ‬أن‭ ‬المناهل‭ ‬والمصادر‭ ‬التي‭ ‬ترجع‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬تتناقض‭ ‬كل‭ ‬التناقض‭ ‬وتتنافر‭  ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬العداء‭.‬

كانت‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬باعتباره‭ ‬رصيدًا‭ ‬للأمة‭ ‬العربية،‭ ‬تحكمها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬نزعة‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬كل‭ ‬ظاهرة،‭ ‬للتمكن‭ ‬من‭ ‬دراستها‭ ‬حين‭ ‬بروزها‭ ‬لمعرفة‭ ‬حيثيات‭ ‬وعوامل‭ ‬تجلياتها‭. ‬وكان‭ ‬طبيعيًا‭ ‬أن‭ ‬تبدي‭ ‬العداء‭ ‬لنقيضها‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الغرب‭ ‬المهدد‭ ‬لمصادرها‭ ‬وأصولها‭ ‬مقابل‭ ‬فرض‭ ‬مصادره‭ ‬وأصوله،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬تتمسك‭ ‬بالحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬وتحرص‭ ‬على‭ ‬صيانة‭ ‬القديم‭ ‬وتمثل‭ ‬ثقافته‭. ‬فعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الإبداع،‭ ‬نجد‭ ‬أدباء‭ ‬الإحياء‭ ‬يعمدون‭ ‬إلى‭ ‬طَرْق‭ ‬موضوعات‭ ‬جديدة،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬قوالب‭ ‬قديمة‭ ‬بكل‭ ‬مقومات‭ ‬القدم‭ ‬وسماته‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭. ‬فالشاعر‭ ‬المصري‭ ‬محمود‭ ‬سامي‭ ‬البارودي‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬مجددًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬مرحلته،‭ ‬حافظ‭ ‬في‭ ‬إنتاجه‭ ‬الشعري‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬خصائص‭ ‬القصيدة‭ ‬القديمة‭ ‬وتراتبيتها،‭ ‬فيصف‭ ‬المخترعات‭ ‬الحديثة‭ ‬بأوصاف‭ ‬بدوية‭ ‬وهو‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وفي‭ ‬بيئة‭ ‬حضرية‭ ‬مخالفة‭ ‬تمامًا‭ ‬لبيئة‭ ‬البادية‭ ‬الصحراوية‭. ‬أما‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬فإن‭ ‬حسين‭ ‬المرصفي‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الوسيلة‭ ‬الأدبية‮»‬‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬مناهج‭ ‬القدماء،‭ ‬فيتبنى‭ ‬الأحكام‭ ‬القيمية‭ ‬الجاهزة‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬الانطباعات‭ ‬الشخصية،‭ ‬والوقوف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الحوادث‭ ‬والجزئيات‭ ‬وقواعد‭ ‬اللغة‭. ‬والشيء‭ ‬نفسه‭ ‬نجده‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬بقية‭ ‬المفاهيم‭ ‬والمعطيات‭ ‬التي‭ ‬تطرق‭ ‬إليها‭ ‬رواد‭ ‬الإحياء،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬مرتكز‭ ‬تتأسس‭ ‬عليه‭ ‬الحركة‭ ‬وتتخذه‭ ‬محورًا‭ ‬رئيسًا‭ ‬هو‭ ‬التراث‭. ‬وقد‭ ‬لجأت‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬لتبرير‭ ‬مشروعية‭ ‬مرجعياتها‭.‬

 

هجمات‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة

كل‭ ‬هذا‭ ‬جعل‭ ‬المعارك‭ ‬السجالية‭ ‬تحتد‭ ‬بين‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬وحركة‭ ‬الحداثة،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1920و1930‭. ‬وقد‭ ‬اتخذت‭ ‬هذه‭ ‬المعارك‭ ‬شكل‭ ‬هجومات‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬،‭ ‬وتتمثل‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬متعددة،‭ ‬لعل‭ ‬أبرزها‭ ‬الهجومات‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬نجدها‭ ‬مجسدة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الديوان‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والنقد‮»‬‭ ‬لمؤلفيْه‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ ‬وإبراهيم‭ ‬عبدالقادر‭ ‬المازني‭ ‬سنة‭ ‬1921،‭ ‬و«الغربال‮»‬‭ ‬لميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬سنة‭ ‬1923،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ ‬للدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬سنة‭ ‬1926‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذه‭ ‬الهجومات‭ ‬المباشرة،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬كتابات‭ ‬اختارت‭ ‬استدراج‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬للدخول‭ ‬إلى‭ ‬معارك‭ ‬أدبية‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد،‭ ‬ككتابات‭ ‬رواد‭ ‬‮«‬الرابطة‭ ‬القلمية‮»‬،‭ ‬وخاصة‭ ‬ما‭ ‬اصطلح‭ ‬عليه‭ ‬لغة‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬فنجد‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬والشعراء‭ ‬المهجريين‭ ‬في‭ ‬المهجر‭ ‬الشمالي،‭ ‬يشعلون‭ ‬المعارك‭ ‬مع‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬بإنتاجاتهم‭ ‬التي‭ ‬يرومون‭ ‬فيها‭ ‬أكبر‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬التجديد‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬اللغة‭ ‬والموضوعات‭ ‬والأفكار‭ ‬والاتجاهات‭ ‬الفلسفية‭ ‬وغيرها‭. ‬وهي‭ ‬معارك‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬جانبهم،‭ ‬لأن‭ ‬ردودهم‭ ‬كانت‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬تستفز‭ ‬النزعة‭ ‬الأصولية،‭ ‬ليس‭ ‬عند‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬عند‭ ‬السلفيين‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭.‬

ومن‭ ‬جانب‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء،‭ ‬كانت‭ ‬المعارك‭ ‬تشتد‭ ‬ضد‭ ‬خصومهم،‭ ‬فظهرت‭ ‬مؤلفات‭ ‬تهاجم‭ ‬رواد‭ ‬الحداثة‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬مصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬على‭ ‬السفود‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬توج‭ ‬به‭ ‬معاركه‭ ‬مع‭ ‬عباس‭ ‬العقاد،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬اتخذت‭ ‬هجومات‭ ‬شيوخ‭ ‬الأزهر‭ ‬منحىً‭ ‬آخر‭ ‬بلغ‭ ‬حدّ‭ ‬اتهام‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بالكفر‭ ‬والإلحاد،‭ ‬فتمت‭ ‬محاكمته‭ ‬ثم‭ ‬مصادرة‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يغير‭ ‬عنوانه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬فسماه‭ ‬‮«‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ ‬بعدما‭ ‬حذف‭ ‬منه‭ ‬الفصول‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مثار‭ ‬الخلاف‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬شيوخ‭ ‬الأزهر‭.‬

إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الحركتين‭ ‬يشمل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المناحي‭ ‬والمفاهيم‭ ‬الفكرية‭ ‬المطروحة‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭. ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬واضحًا،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تشابهاً‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬حيث‭  ‬الممارسة‭ ‬والتعامل‭ ‬الفعلي‭ ‬مع‭ ‬المرجعيات،‭ ‬فقد‭ ‬سقطت‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬ممارسات‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء،‭ ‬فنجدها‭ ‬تأخذ‭ ‬وتقتبس‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬بمبرر‭ ‬العقلانية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬رواد‭ ‬الإحياء‭ ‬والسلفيون‭ ‬لتبرير‭ ‬أخذهم‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فاستمروا‭ ‬في‭ ‬خوض‭ ‬معاركهم‭ ‬تحت‭ ‬ستار‭ ‬إشكالية‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬والنقل‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬ننعت‭ ‬الحركتين‭ ‬معًا‭ ‬بالتقليد‭ ‬والوقوع‭ ‬الآلي‭ ‬في‭ ‬أسر‭ ‬المرجعيات،‭ ‬حيث‭ ‬عجزت‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬عن‭ ‬تأسيس‭ ‬رؤية‭ ‬خاصة‭ ‬ومشروع‭ ‬صافٍ‭ ‬من‭ ‬شوائب‭ ‬التقليد،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬اتخاذ‭ ‬مرجع‭ ‬معين‭ ‬أمرًا‭ ‬محتومًا‭ ‬واختيارًا‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منه،‭ ‬فهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬التجرد‭ ‬من‭ ‬البصمة‭ ‬الشخصية‭ ‬والهوية‭ ‬والخصوصية‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬الأطر‭ ‬الموضوعية‭ ‬كالزمان‭ ‬والمكان‭ ‬واللغة‭ ‬والدين‭ ‬والبيئة‭ ‬والمجتمع‭. ‬وما‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬هنا،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الحداثة،‭ ‬رغم‭ ‬قيامها‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬كالتأسيس‭ ‬وخلق‭ ‬نقد‭ ‬جديد‭ ‬ورؤية‭ ‬أدبية‭ ‬وفكرية‭ ‬جديدة،‭ ‬قد‭ ‬اتسمت،‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬ببعض‭ ‬سمات‭ ‬الإحياء،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬بعض‭ ‬أقطابها‭ ‬يتأرجحون،‭ ‬أحياناً،‭ ‬بين‭ ‬التقليد‭ ‬والتجديد،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬المعارك‭ ‬المجانية‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬وبين‭ ‬الرواد‭ ‬الذين‭ ‬يمثلون‭ ‬الجناح‭ ‬المتطرف‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة‭.‬

والشيء‭ ‬نفسه‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬بدورها‭ ‬معارك‭ ‬وخلافات‭ ‬بين‭ ‬أقطابها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثر‭ ‬على‭ ‬تماسكها‭ ‬فانشطرت‭ ‬إلى‭ ‬جناحين،‭ ‬الأول‭ ‬انزلق‭ ‬إلى‭ ‬هوة‭ ‬الفكر‭ ‬الانحطاطي،‭ ‬والثاني‭ ‬التحق‭ ‬بالحداثة‭. ‬وإنه‭ ‬من‭ ‬المنطقي‭ ‬أن‭ ‬نؤكد‭ ‬أن‭ ‬التناقض‭ ‬حاصل‭ ‬بالفعل‭ ‬بين‭ ‬حركة‭ ‬الإحياء‭ ‬وحركة‭ ‬الحداثة،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬وجود‭ ‬سمات‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الممارسة‭ ‬تشتركان‭ ‬فيها‭ ‬وتتسمان‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬نصدع‭ ‬بها،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الحركتين،‭ ‬وبفضل‭ ‬المعارك‭ ‬التي‭ ‬احتدمت‭ ‬بينهما،‭ ‬قد‭ ‬أثْرتا‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وفي‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬تلقي‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬ساحتنا‭ ‬الثقافية‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬