المثقف في المجتمع التاريخ والفكرة والدور
تذهب الأبحاث إلى اعتبار البيان الذي أصدره الأديب الفرنسي إميل زولا بعنوان «إني أتهّم»، الذي نشره في جريدة الأورر الفرنسية عام 1898، والذي أكّد فيه تلفيق السلطات الفرنسية لتهمة الخيانة للضابط اليهودي درايفوس، بمنزلة الإعلان عن ولادة المثقف الحديث.
لكن الدراسات التي تنشغل بتاريخ الفكر تُرجع ولادة المثقف في أوربا إلى فترات مبكرة منذ تطوّر المؤسسات الجامعية، وبروز المتعلّم الجامعي الذي شغل وظائف في الدولة والإدارة، وساهم في إطلاق النقاشات ودافع عن حرية الفكر.
لم تعد القرون الوسطى الحقبة التي تتصف بالظلام لتبرير النهضة والعصور الحديثة، بل أصبحت منبع الحداثة، وهذا ما أحدثته مدرسة الحوليات الفرنسية، التي رجعت إلى العصور الوسطى لفهم تطورات التاريخ الأوربي.
وضع جاك لوغوف (أحد تلامذة مدرسة الحوليات) أول كتبه عام 1957، بعنوان: االمثقفون في القرون الوسطىب، وقد أصبح على امتداد حياته مؤرخ القرون الوسطى. وهو يرى أن نشوء مدن الغرب الأوربي لا يعود إلى النشاط التجاري فحسب، وإنّما إلى أولئك الذين يُحسنون الكتابة ولديهم معرفة بالقانون الروماني، والذين يدرسون الفنون والعلوم التطبيقية، الذين جعلوا المدينة ظاهرة اجتماعية فريدة. فالمدن هي مجال لتبادل البضائع والأفكار، وكان التراجمة هم الذين نقلوا العلوم، وكانت اللغة العربية هي الواسطة.
إن أبيلار المبكّر هو علامة صنف جديد من المثقفين. أصبح القرن الرابع عشر هو قرن الجامعات والمدن، وقد أصبح للجامعة نفوذ يزعج السلطات الكنسية. كانت باريس منقسمة جغرافيًا إلى مدينة التجار والأعمال، ومدينة القصر والنبلاء والكاتدرائية، والقسم الثالث هو للجامعة والكليات والفنون والقانون والطب واللاهوت.
استقلال معنوي
أصبحت الجامعة مؤسسة تملك استقلالاً معنويًا، وأصبحت كل جامعة شخصية معنوية لها حق منح الشهادة عبر طقوس التخرج. ولم تكن الجامعة بعيدة عن السياسة، فأسهمت في بناء الدول وشجعت النزعات الوطنية ضد الكنيسة والبابوية.
لم يؤدِّ المثقفون دورًا في دعم الدولة على حساب الكنيسة فحسب، بل أسهموا في بلورة اللغات القومية على حساب اللاتينية، لغة الكنيسة العالمية. ويُمكن أن نفهم النزعة الإنسانية للجامعات وخريجيها باعتبارها نزعة ناقدة للسلطة الكنسية.
وعن التطور الذي أحرزه الأستاذ الجامعي في نظرة الآخرين إليه، يقول لوغوف: كان يُنظر إلى الأستاذ الجامعي باعتباره بائع معرفة، ثم تغيّر الموقف في القرن الثالث عشر، فأصبح يُنظر إليه باعتباره مدرس الطلبة لقاء مبلغ من المال.
ومن هنا يمكن الحديث عن ميلاد العمل الثقافي بأوربا إلى جانب العمل التجاري، إضافة إلى التدريس كان الأساتذة مفكّرين وكتّابًا، ويشارك بعضهم في الحوارات والنقاشات حول قضايا سياسية واجتماعية.
أما النظام الجامعي فيقوم على انتخاب الأساتذة لرؤساء الجامعة الذين يشرفون على أعمال الجامعة ونظامها، ويمنحون الطلبة الشهادات باعتبارها صادرة عن مؤسسة معنوية لا عن شخص أو عالم، وبالرغم من أن الجامعات كانت تقع تحت إشراف الكنيسة، فإن هذا الإشراف أصبح شكليًا، وأصبح الأساتذة يتمتعون باستقلال عن الأساقفة مع القرن الثالث عشر. وصار من حق الأساتذة والطلاب خوض الإضرابات المطلبية. وأتاحت الجامعات - وهذا أمر مهم - تكوُّن طبقة من الأساتذة المثقفين القادمين من بيئات فلاحية فقيرة، لينالوا شهادات ومواقع في العلم أو في إدارة الدولة، إذ أصبحت الشهادة الجامعية جواز دخول إلى الإدارة الحكومية أو الملكية.
مثقفون نقّاد
وقد أتاحت الحرية الجامعية بروز مثقفين نقّاد، وهو الذي مهّد لظهور حركة الإصلاح البروتستانتية التي أفضت بأتباع مارثن لوثر كينج (1483 - 1564) إلى الانفصال عن الكنيسة، وإلى إعادة رسم الحدود بين الكنيسة والدولة. يقول لوثر: اكل ما لا يتعلّق بالروح القدُس، وكل ما يجسّد حياة الكنيسة يعود إلى الدولة، وكل ما يخرج عن القانون الأخلاقي يعود إلى الدولةب. يقول لوغوف إن المثقف في القرون الوسطى لا يخرج عن الترسيمة الغرامشية (نسبة إلى أنطونيو غرامشي)، فهو مثقف عضوي، خدم الكنيسة والدولة.
كان أنطونيو غرامشي (1891 - 1937) قائدًا شيوعيًا إيطاليًا، أمضى سنواته العشر الأخيرة في السجن، وأنجز خلالها كتابة آلاف الصفحات التي تعكس آراء رجل فكر مشغول بتاريخ إيطاليا وثقافتها. عُرفت أعماله ونشرت بعد انقضاء الحقبة الستالينية، وكانت أداة في أيدي اليساريين الجدد الخارجين على الشيوعية السوفييتية، إضافة إلى ادفاتر السجنب، اشتهر كتابه الذي حمل عنوان االأمير الحديثب، في إشارة واضحة إلى كتاب االأميرب للمفكر السياسي الفلورنسي نيقولا مكيافيلي (1469 - 1527)، والذي يعتبره غرامشي علامة في تأسيس علم السياسة الحديثة، فقد كان مدركًا للتأخر الإيطالي بالمقارنة مع الملكيتين الفرنسية والإسبانية، البلدين اللذين شهدا بناء دولة ذات وحدة إقليمية متماسكة. يقول غرامشي إن مكيافيلي مجبول من طينة عصره، وعلمه يمثّل فلسفة زمانه الذي يسعى إلى تنظيم الملكيات الوطنية.
من هذه الناحية يرجع غرامشي إلى فكر كتاب االأميرب، فلا يرى فيه خادمًا لأوليغارشية مدينية، بل يرى فيه ملهمًا: لم تكن عقيدة مكيافيلي في عصره عقيدة معزولة تستملكها زمرة من المفكرين المعزولين، لم تكن كتابًا تتداوله أيدي العارفين، ولم يكن أسلوب مكيافيلي أسلوب كتّاب الكراريس المعهودين في العصور الوسطى وفي عصر النزعة الإنسانية، بل على العكس من ذلك، كان أسلوب رجل عملي، أسلوب من يريد تشجيع النشاط العملي، كان أسلوب بيان حزبي.
تحليل غرامشي للمثقف
وعند غرامشي، فإن االأمير الحديثب يمكنه أن يكون نظامًا لا شخصًا، هذا النظام هو الحزب السياسي، أي الحزب الشيوعي. ويرى أن هذا الحزب يجب أن يكرّس قسمًا مهمًا من نشاطه لمسألة المثقفين ومسألة الإصلاح الأخلاقي، أي لمسألة الدين أو الرؤية الشاملة للعالم.
يجب على الأمير الحديث أن يكون، وليس بوسعه ألّا أن يكون، المبشر والمنظم للإصلاح الثقافي والأخلاقي... وليس للحزب مهمة أخلاقية فقط، ولكن مهمة الخدمة العامة، التي تستلزم الاستمرارية مع الماضي (التراث) أو مع المستقبل.
إن تحليل غرامشي للمثقف هو الذي أثار الاهتمام بأفكاره، وخصوصًا مصطلح االمثقف العضويب. يربط غرامشي المثقف بالطبقة الاجتماعية. فلكلّ طبقة مثقفين عضويين، والإكليروس أفضل مثال على هذا النوع من المثقفين الذين يملكون استمرارية تاريخية غير متقطعة، بالرغم من كل التغيّرات المعقّدة والجذرية التي طرأت على أنماط الحياة الاجتماعية. وهم الذين احتكروا الخدمات المهمة كالأيديولوجية الدينية والفلسفة والعلم والتربية والتعليم والأخلاق والإسعاف وما شابه. يعتبر الإكليروس فئة من المثقفين ترتبط عضويًا بأرستقراطية الأرض.
ومفهومه للمثقف العضوي مرتبط بالحزب السياسي الذي هو آلية تمارس في المجتمع المدني. وهي الوظيفة ذاتها التي تمارسها الدولة في المجتمع السياسي. ويمارس الحزب وظيفته هذه بوصفها ملحقة بوظيفته الأساسية: وظيفة صقل وتنمية العناصر التي يتكون منها، ليجعل منهم مثقفين سياسيين واختصاصيين وقادة ومنظمين لجميع الفعاليات والوظائف التي يستلزمها التطور العضوي لمجتمع متكامل يضم المجتمع المدني والمجتمع السياسي معًا.
تحليل طبقي
لا يمكن أن نفصل أفكار غرامشي عن رؤيته لتطوّر إيطاليا، من أمير فلورانسا إلى الكنيسة ورجالها، إلى نشوء المدارس والجامعات التي تنتج المثقفين، وصولًا إلى المجتمع الصناعي الذي ينتج جزءًا في التقنيات، إضافة إلى الفارق بين مثقف المدينة ومثقف الريف (من الرعية والمحامي وأستاذ المدرسة وكاتب العدل والطبيب). إن الحزب السياسي الذي ينشده غرامشي هو كنيسة تستقطب الأنشطة السياسية والمدنية، والمثقف العضوي الذي ينشده هو الإكليروس الجديد. يأخذ جان بول سارتر بتحليل غرامشي فيما يتعلّق بظهور المثقفين فحتى القرن الرابع عشر كان رجل الكنيسة هو رجل العلم والمعرفة، وكان للكنيسة سلطانها، حاملة الأيديولوجية المسيحية التي تلقّنها للطبقات.
وكان الإكليركي وسيطًا بين السيد النبيل والفلاح، ومع نمو البرجوازية يظهر اختصاصي المعرفة المندمج في المشروع الواسع المسمّى بالرأسمالية التجارية. يتبنّى سارتر تحليلًا طبقيًا مبسطًا، يقول: وعند هذه المرحلة تشعر البرجوازية بالحاجة إلى توكيد ذاتها في شكل طبقة... ولن يتولّى الإكليركيون تشييد هذه الأيديولوجيا، وإنّما اختصاصيو المعرفة العلمية: رجال قانون مونتسكيو ورجال أدب فـولتير، ديدرو ورسو، ورجال رياضيات دالامبير وملتزم ضرائب هلفتيوس. وقد حلّ هؤلاء الاختصاصيون محل الإكليركيين وتسمّوا بالفلاسفة... وأحفاد هؤلاء الفلاسفة غَدَوا مثقفين في نهاية القرن التاسع عشر، الذين يجيشون في صفوف تقني المعرفة.
المثقف عند سارتر
إن تقنيّ المعرفة هو الذي تعيّن وظيفته الطبقة السائدة، تبعًا للحاجات الاجتماعية منظورًا إليها من زاوية اختياراتها الخاصة ومصالحها. أما التأهيل الأيديولوجي فيتكفّل به نظام تعليمي ابتدائي، ثانوي، عال واصطفائي. يقول: اإنها تلقّنهم بصورة قبلية، دورين اثنين: فهي تجعل منهم في آن واحد اختصاصيين في البحث وخادمين للهيمنة، أيّ حرّاسًا على التقاليد، أما الدور الثاني فيهيئهم ليكونوا - على حد تعبير غرامشي - اموظفين في البُنى الفندقيةب.
عند هذا الحد يتوقّف سارتر عن تبنّي رأي غرامشي، حين يصل الأمر إلى المثقف العضوي الذي هو جزء من الحزب السياسي - وكان سارتر قد ابتعد عن الحزب الشيوعي - فيقدّم تعريفه على النحو التالي: المثقف إذن هو ذلك الإنسان الذي يدرك ويعي التعارض القائم فيه وفي المجتمع بين البحث عن الحقيقة العملية وبين الأيديولوجية السائدة.
المثقف عند سارتر كائن وحيد متوحّد: لنقل إن المثقف يتحدّد بأنه ذلك الإنسان الذي لا يحمل تفويضًا من أيّ إنسان، ولا تعيّن له كيانه أيّ سلطة، وهو بصفته هذه ليس نتاج قرار من القرارات. يريد سارتر من المثقف أن يستمر في عمله كتقني معرفة في الوقت نفسه الذي يكافح فيه طبقته. فالمثقف إذن تقني ما هو عام وشمولي. ويعرف أن الشمولية ليست ناجزة وإنّما قيد الصنع. ويطلب من المثقف أن يكون ضد كل سلطة، بما في ذلك الأحزاب الجماهيرية وفي جهاز الطبقة العاملة.
أفكار جديدة
أراد سارتر في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين أن يجسّد في نفسه وسلوكه هذا المثقف، انفصل عن الشيوعيين بعد غزو الدبابات السوفييتية لهنغاريا وقمعها انتفاضة بودابست عام 1956، ووقف ضد حرب حكومته في الجزائر، ورفض جائزة نوبل، ونزل إلى الشارع تضامنًا مع ثورة الطلاب عام 1968. إلا أن نجم سارتر بدأ بالأفول منذ ذلك الوقت، حين بدأت أفكار جديدة تتجاوز وجوديته ومفهومه عن المثقف الملتزم بالحرية الإنسانية الشاملة.
إن أبرز تجاوز لمفهوم سارتر عن المثقف جاء من جانب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، الذي أعاد النظر بمؤسسات السلطة ونشوئها باعتبارها مؤسسات قمعية تقوم على الضبط والمراقبة. وبخصوص المثقف ينتقد مفهوم المثقف الشمولي الكوني والإنساني، فيربط فوكو المثقف بوظيفته ومكان عمله، فليس المثقف مَن يقترح الحلول ويقدّم النصائح، وإنّما دوره في العمل على التغيير داخل ميدانه. يعبّر فوكو إذا عن تغيير في إطار الثقافة الفرنسية: وذلك مع تبلور اتجاه جديد في الفضاء الثقافي الفرنسي، وخصوصًا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فأفكار فوكو وكذلك بورديو هي بطريقة ما سجال وتجاوز لسلطة سارتر في الحقل الثقافي. من هنا نشأ مفهوم المثقف الخصوصي مقابل الشمولي. يتزامن ذلك مع اتجاه الحركات الاجتماعية منذ السبعينيات نحو موضوعات محددة، مثل أوضاع السجون والمستشفيات والملاجئ والمناجم والأحياء المهمشة.
مفهوم المثقف الحديث
إن موضوع المثقف هو موضوع فرنسي بالدرجة الأولى. في كل العصور كان هناك من يشغل وظيفة ثقافية، من رجال العلم إلى كتّاب الإدارة، لكن مفهوم المثقف الحديث نشأ بشكل خاص في فرنسا بعد مقالة إميل زولا في صحيفة الأورر عام 1898، ومما زاد في أهمية المقالة التي تتهم السلطة بتلفيق تهمة الخيانة إلى الضابط اليهودي درايفوس، أن زولا قد أحاط الغموض حول موته بعد فترة وجيزة، مما أعطى لموقفه مرتبة الكفاح والمقاومة ضد السلطة. ولا شك في أن أصول هذا الموقف وكذلك أصول المثقف نجده في فلاسفة التنوير بالقرن الثامن عشر - الذين اتهمهم سارتر بأنهم اخدَمَة البرجوازيةب. فصار الانحياز عن الموقف المبدئي في الدفاع عمّا يمليه العقل، خروجًا وابتعادًا عن دور المثقف، وهذا ما نجده في كتاب اخيانة المثقفينب لجوليان بيندا الصادر للمرة الأولى عام 1927، تحت عنوان اخيانة الكهنةب، ومن اللافت أن يستخدم في العنوان كلمة الكهنة، كأنّ يشبه المثقف دور رجل الدين المبدئي والأخلاقي.
إن فكرة الكتاب هي أن المثقفين قد تخلّوا عن دورهم في الترفع عن الماديات ومطالب الشهرة. ومن اللافت أنه يجعل عام 1813، بداية خيانة المثقفين. وذلك حين وقف المثقفون الألمان إلى جانب الدولة القومية: لا نبالغ القول بأن هذا النوع من الوطنية لم يشهده التاريخ قبل ذلك اليوم، فمن الواضح أنها مرتبطة بأتباع جمع كبير من الشعب لتلك المشاعر، وقد بدأ ذلك النوع من الوطنية عام 1813 في ألمانيا، التي كانت المحرّك الحقيقي للإنسانية في إطار الوطنية الديمقراطية، بما تعنيه تلك الكلمة بأن تقرر تلك الأمة معاداة أمم أخرى بحجة أنّها تتميز عنها بسمات لها جذور تاريخية.
فارق أساسي
إن مشاعر الوطنية والترويج لسياسة دولة هو بالضبط ما يعنيه بالخيانة. بيندا لا يأخذ في الاعتبار الفارق الأساسي بين المثقف الفرنسي والمثقف الألماني، فإذا كان التقليد الثقافي الفرنسي ينبنى على معاداة السلطة ونقدها، والابتعاد عنها، وهو موقف تعود جذوره إلى الثقافة اللاتينية، حيث نشأ المتعلم والجامعي، وبرز من خلال معاداة الكنيسة، وانتقل الموقف النقدي إلى السلطة أو الدولة، فإن التقليد الألماني الثقافي نشأ في أجواء التحرر من الكنيسة بتبنّي المذهب البروتستانتي، إلّا أن المثقف الألماني كان ينشد بناء دولة موحدة. كان الفلاسفة أمثال فيخته وهيغل من دعاة الدولة، فقد كتب فيخته نداءً إلى الأمّة الألمانية، بينما احتلت الدولة موقعًا مركزيًا في فلسفة هيغل.
وكما انتقد جوليان بيندا المثقف الذي خان دوره بانحيازه إلى تأييد سياسة أو قومية على حساب موقف إنساني جامع، فإن ريمون أرون يوجه النقد إلى نوع من المثقفين في كتابه أفيون المثقفين عام 1955، وذلك في ذروة انتشار الأفكار الشيوعية والأفكار الماركسية. يقع الكتاب في السجال بين اليسار واليمين، في زمن الحرب الباردة، إلا أن آرون وهو عالم سياسي، يدافع عن قيم الديمقراطية، في مواجهة الأفكار الشمولية وانحياز الشيوعيين للأنظمة القمعية.
لكن هذه الهالة التي رافقت المثقف الفرنسي خلال القرن العشرين تصل إلى نهايتها مع كتاب ريجسيس دوبريه االمثقف الفرنسي تتمة ونهايةب، الصادر عام 1999، والذي يعلن فيه فقدان المثقف سمعَته بعد أن غرق المثقفون في التباهي والمواقف الصحافية المبسطة وانشغالهم بالتحاسد. يرجع بداية استخدام المفردة امثقفب مع المفكر الاشتراكي سان سيمون عام 1821، وصولًا إلى قضية دريفوس، حيث ضع دوبريه إشكالية المثقف في السياق السياسي، نهاية القضية الشمولية مع انحسار الماركسية - الشيوعية، وانحطاط الديمقراطية، الأمر الذي يعيدنا إلى جوليان بيندا في نقده للمثقف المسيَّس. يكمل دوبريه في هذا الكتاب ما بدأه في كتاب سابق االسلطة الثقافية في فرنساب عام 1979، فخلال عشرين سنة يصل دوبريه إلى نهاية الطريق مع المثقف الفرنسي الذي غادر موقع الدفاع عن القضايا الكبرى، لينشغل في النميمة والتبسيط. نجد في هذا الاستنتاج تحسرًا على الموقع الذي فقده المثقف.
إشكالية فرنسية
إن االمثقفب هو بالدرجة الأولى إشكالية فرنسية ظهرت مع عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وبرز بعد الثورة الفرنسية. وكان لهذه الإشكالية أن تنتقل إلى العالم غير الأوربي عبر أفكار الثورة الفرنسية، وبروز نُخب وطنية متأثرة بأفكار الحرية والمساواة، لكنّ مهمة المثقف في الفضاء الثقافي العربي - الإسلامي، ليست هي المهمة أو الدور الذي ألقاه على عاتقه المثقف الفرنسي.
والسؤال الذي نطرحه في الخاتمة، لماذا ذاع المفهوم الفرنسي للمثقف في العالم العربي وكذلك في العوالم غير الأوربية؟
يعود ذلك إلى الدور الذي أدّته اللغة الفرنسية منذ القرن الثامن عشر، فقد كانت لغة الثقافة والفكر الأولى في الانتشار، وكانت النخب في غير أوربا تتعلّم هذه اللغة لتطلّ على الثقافة المعاصرة. وعبرها انتشرت أفكار عصر الأنوار، ثم أفكار الثورة الفرنسية، التي أدى المفكرون دورًا في قيامها (أمثال فـولتير ورسو) وعبر اللغة الفرنسية انتشرت شعارات الأخوّة والحريّة والمساواة. وعبر المفهوم الذي أطلقته فرنسا حول المثقف، اعتبر مثقفو العرب وغير العرب أن دورهم هو في تعويض التأخّر ونشر الوعي. ومن هنا انتشر الكلام الذي يتكرر دائمًا عن دور المثقف في المجتمع ■