أدبُ الهجرة والاندماج في خلفيات الرواية الفرنسية الجديدة وأبعاد تطوّرها

أدبُ الهجرة والاندماج  في خلفيات الرواية الفرنسية الجديدة وأبعاد تطوّرها

يُجمع عديد من النقاد والمتتبعين للشأن الثقافي والأدبي الفرنسي خلال السنوات الأخيرة على وجود تحوّل متعدد الأبعاد والخلفيات في مسار تطوّر الرواية الفرنسية الجديدة، سواء تعلّق الأمر بالمحددات السردية، الحكائية واللغوية، أو بطبيعة المواضيع والقضايا التي أضحت تطغى على هذا الجنس الإبداعي في سياق مجتمع فرنسي متحوّل ومتغير بفعل البروز القوي لمشاكل المهاجرين، وتزايُد حدّة التطرف ومعاداة العرب. يتعلّق الأمر بـ «ثورة» أدبية يقودها الجيل الثالث من المهاجرين العرب (المشارقة والمغاربة) المزدادين بفرنسا، أو ممن اختاروا فرنسا والفرنسة مستقرًا لهم، سيكون منطلقها الأساس مع تتويج الروائية المغربية ليلى سليماني بغونكور سنة 2016 وهيمنة أدب الهجرة والاندماج على الدخول الأدبي الفرنسي خلال السنتين الماضيتين.

 

منذ‭ ‬سنة‭ ‬2003،‭ ‬أكدت‭ ‬مؤرخة‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬نيلي‭ ‬وولف،‭ ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬رواية‭ ‬الديمقراطية‮»‬،‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فهم‭ ‬تحوّلات‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬المعاصر‭ ‬دون‭ ‬الأخذ‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬طبيعة‭ ‬التطورات‭ ‬السياسية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬أوربا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وساعدت‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬رتابة‭ ‬النظام‭ ‬البلاغي‭ ‬المجرد‭ (‬كأساس‭ ‬للفصل‭ ‬بين‭ ‬الأنماط‭ ‬والأساليب‭ ‬الإبداعية‭)‬،‭ ‬والدفع‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬ملامسة‭ ‬اليومي،‭ ‬المعيش‭ ‬والحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬اعتياديتها‭ ‬وتعقيداتها‭ ‬المختلفة‭. ‬

أسهمت‭ ‬دمقرطة‭ ‬الإبداع‭ ‬الروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬فضاء‭ ‬للتعبير‭ ‬العمومي‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬الهموم‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬للإنسان‭ ‬الفرنسي‭ ‬المعاصر،‭ ‬وإنما‭ ‬عن‭ ‬رهانات‭ ‬وصعوبات‭ ‬الاندماج‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسي‭ ‬لدى‭ ‬المهاجرين‭ (‬خصوصًا‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬الذين‭ ‬يشكّلون‭ ‬أساس‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسي‭ ‬اليوم‭) ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكتاب‭ ‬والأدباء‭ ‬الشباب‭ (‬الجيل‭ ‬الثالث‭) ‬الذين‭ ‬تأثروا‭ ‬بالتضييق‭ ‬العالمي‭ ‬على‭ ‬المهاجرين‭ ‬المسلمين‭ (‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬11‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬2001‭) ‬وجعلوا‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬‮«‬فعلًا‭ ‬نضاليًا‮»‬‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬المصالحة‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬دولي‭ ‬‮«‬معقّد‮»‬‭ ‬وتصويب‭ ‬الصور‭ ‬النمطية‭ ‬المروّجة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الغريب‮»‬‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭: ‬لقد‭ ‬أضحت‭ ‬الرواية‭ ‬فعلًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬الشأن‭ ‬السياسي‭.‬

 

قبل‭ ‬سليماني‭ ‬وبعدها

تُعد‭ ‬الروائية‭ ‬المغربية‭ ‬ليلى‭ ‬السليماني‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬والمفكرين‭ ‬المعاصرين‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬استطاعوا‭ ‬إحداث‭ ‬تغيير‭ ‬أو‭ ‬طفرة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬اشتغالهم‭ ‬واهتمامهم‭. ‬على‭ ‬نهج‭ ‬ميشيل‭ ‬دي‭ ‬ثيربانتس،‭ ‬ومونتسكيو،‭ ‬وأرنست‭ ‬همنغواي‭... ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬هذه‭ ‬الشابة‭ ‬من‭ ‬نحت‭ ‬اسمها‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الرواية‭ ‬الفرنسية‭ ‬ومنافسة‭ ‬عمالقة‭ ‬الأدب‭ ‬المعاصر‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬أعادت‭ ‬تحديد‭ ‬شروط‭ ‬الممكن‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الروائي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ربط‭ ‬الخيال‭ ‬بالواقع،‭ ‬واستدماج‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬والدمج‭ ‬بين‭ ‬البساطة‭ ‬والتعقيد‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬وإعادة‭ ‬تحديد‭ ‬الشرط‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬الشخوص‭ (‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬معقّد‭ ‬الوجود‭)‬،‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬قضايا‭ ‬الهجرة‭ ‬واللجوء‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأدب‭ ‬وعبره‭. ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬شكل‭ ‬روائي‭ ‬جديد‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬هموم‭ ‬مجتمعات‭ ‬اللجوء‭ ‬بلغة‭ ‬اللجوء؛‭ ‬عكس‭ ‬أدب‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬المهاجرين،‭ ‬حيث‭ ‬تحضر‭ ‬ثيمة‭ ‬‮«‬الآخر‮»‬‭ ‬نقيضًا‭ ‬لتحديد‭ ‬وجود‭ ‬‮«‬الأنا‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الأدب‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬عمومًا،‭ ‬حيث‭ ‬الأديب‭ ‬هو‭ ‬‮«‬لسان‭ ‬الشعب‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬ملزمًا‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬لهذا‭ ‬الوضع‭ ‬بوصفه‭ ‬‮«‬ابن‮»‬‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬ومنتميًا‭ ‬لهذا‭ ‬المجتمع‭. ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬السليماني‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الأدبية‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير‭ (‬في‭ ‬رصيدها‭ ‬روايتان‭ ‬فقط‭: ‬‮«‬حديقة‭ ‬الغول‮»‬‭ ‬و‮«‬أغنية‭ ‬هادئة‮»‬‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬مقارنتها‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬بأعمال‭ ‬جيل‭ ‬الرواد‭ (‬إدريس‭ ‬الشريبي،‭ ‬والطاهر‭ ‬بن‭ ‬جلون،‭ ‬وأمين‭ ‬معلوف،‭ ‬وآسيا‭ ‬جبار‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬امتلكت‭ ‬من‭ ‬المقومات‭ ‬الأدبية‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬أنطولوجيا‭ ‬رواية‭ ‬الهجرة‭ ‬واللجوء‭. ‬

 

رهان‭ ‬على‭ ‬البُعد‭ ‬السياسي

تظهر‭ ‬قوة‭ ‬الكلمات،‭ ‬ودقة‭ ‬وصف‭ ‬البنية‭ ‬النفسية‭ ‬للشخوص‭ (‬على‭ ‬نهج‭ ‬قدوتها‭ ‬دوستوفيسكي‭)‬،‭ ‬عبثية‭ ‬الوقائع‭ (‬إرث‭ ‬ميلان‭ ‬كونديرا‭)‬،‭ ‬التحليل‭ ‬الفلسفي‭ ‬لرهانات‭ ‬الأحداث‭ ‬والوقائع‭ ‬والرفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬المعيش‭ ‬واليومي‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الإكراهات‭ ‬الدلالية‭ ‬والبلاغية‭ ‬للتعبير‭ ‬الروائي‭ ‬قدرة‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬جر‭ ‬الأدب‭ ‬نحو‭ ‬المشاركة‭ ‬بالفعل‭ ‬وبالقوة‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ ‬قضايا‭ ‬الهجرة‭ ‬والاندماج‭ ‬والدفع‭ ‬بالقارئ‭ ‬نحو‭ ‬وضع‭ ‬ذاتيته‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬الفعل‭ ‬الروائي‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬مصوغات‭ ‬فلسفية‭ ‬وسوسيولوجية‭ ‬لقضايا‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭ ‬الدولي‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬ميّز‭ ‬الرواية‭ ‬الفرنسية‭ ‬المعاصرة‭ ‬قبل‭ ‬ليلى‭ ‬سليماني‭ (‬سواء‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الفرنسيون‭ ‬أو‭ ‬الناطقون‭ ‬بالفرنسية‭) ‬هو‭ ‬الرهان‭ ‬على‭ ‬البُعد‭ ‬السياسي‭ (‬كمال‭ ‬داود‭)‬،‭ ‬الثقافي‭ ‬والحضاري‭ (‬الطاهر‭ ‬بن‭ ‬جلون،‭ ‬وأمين‭ ‬معلوف‭)‬،‭ ‬الصدامي‭ (‬ياسمينا‭ ‬خضرا‭) ‬لقضايا‭ ‬الاستعمار،‭ ‬واللجوء،‭ ‬والهجرة‭ ‬والاندماج‭ ‬دون‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬البُعد‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬اليومي‭ ‬والمعيش‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬الجزئية‭ ‬والبسيطة‭.‬

لقد‭ ‬استفادت‭ ‬سليماني‭ ‬من‭ ‬تكوينها‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬والعلوم‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬لتدرك‭ ‬أن‭ ‬المعنى‭ ‬يكمُن‭ ‬في‭ ‬البسيط‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الخفي‭ ‬أو‭ ‬المعقد‭ ‬وفي‭ ‬يومي‭ ‬الحياة‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬دلالاتها‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الحضارية،‭ ‬وتدفع‭ ‬بالنقاد‭ ‬كما‭ ‬القراء‭ ‬نحو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬تأويلات‭ ‬وتفسيرات‭ ‬فلسفية،‭ ‬أنثربولوجية‭ ‬وسوسيولوجية‭ ‬لكتاباتها،‭ ‬وعدم‭ ‬التخندق‭ ‬في‭ ‬التأويلات‭ ‬البلاغية‭ ‬والدلالية‭ ‬واللغوية‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬منطق‭ ‬النقد‭ ‬الكلاسيكي‭ (‬تأثير‭ ‬فلسفة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬والعلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الجديدة‭). ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬الحقة‭ ‬تقتضي‭ ‬ظهور‭ ‬تحولات‭ ‬وانتقالات‭ ‬عميقة،‭ ‬فإن‭ ‬الحقل‭ ‬الأدبي‭ ‬بالمجال‭ ‬التداولي‭ ‬الفرنسي‭ ‬بيّن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الثورة‮»‬‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬البسيط‭ ‬وفي‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬نقدمها‭ ‬لهذا‭ ‬البسيط‭.  ‬وكأننا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬بأنفسنا‭ ‬قبل‭ ‬الآخر،‭ ‬في‭ ‬المعيش‭ ‬قبل‭ ‬الحضاري،‭ ‬في‭ ‬التفاعل‭ ‬قبل‭ ‬الصراع‭ ‬والتفكير‭ ‬بالمهاجر‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬المهاجر،‭ ‬إذا‭ ‬نحن‭ ‬أردنا‭ ‬جعل‭ ‬الأدب‭ ‬الروائي‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬منافسة‭ ‬الرقمي‭ ‬و«عالم‭ ‬الأنفوسفير‮»‬‭ (‬العالم‭ ‬المعلوماتي‭) ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬دواخل‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬ورهاناته‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الثورة‭ ‬الرابعة‭ (‬ثورة‭ ‬الإنترنت‭).‬

 

رواية‭ ‬الهجرة‭ ‬والاندماج‭ ‬أو‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الشعب‮»‬

تحدث‭ ‬الكاتب‭ ‬والناقد‭ ‬الفرنسي‭ ‬Jérôme Meizoz،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬سابق،‭ ‬عن‭ ‬انتقال‭ ‬كبير‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬تمثّل‭ ‬الكُتّاب‭ ‬والمجتمع‭ ‬للفعل‭ ‬الروائي‭ ‬والأدبي‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬وحضور‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الشعب‮»‬‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭. ‬أضحى‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬المحددات‭ ‬اللغوية،‭ ‬الجمالية‭ ‬والأسلوبية‭ ‬فكرة‭ ‬متجاوزة‭ ‬وغير‭ ‬مقبولة‭ ‬من‭ ‬القراء،‭ ‬كما‭ ‬النقاد‭ ‬والكتاب‭ ‬أنفسهم،‭ ‬وتطورت‭ ‬أشكال‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬الروائي‭ (‬الرواية‭ ‬السيكولوجية،‭ ‬السوسيولوجية،‭ ‬الفلسفية،‭ ‬اليومية‭...) ‬والمقولات‭ ‬الأدبية‭ (‬الموت‭/ ‬الحياة،‭ ‬الاجتماعي‭/ ‬السياسي،‭ ‬الأنا‭/ ‬الآخر‭...) ‬وكذلك‭ ‬أشكال‭ ‬وأنماط‭ ‬كتابة‭ ‬أكثر‭ ‬قربًا‭ ‬من‭ ‬القارئ‭ (‬البساطة،‭ ‬والوضوح،‭ ‬والحجم‭ ‬الصغير‭).‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬سيكون‭ ‬نتيجة‭ ‬لصدمة‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين،‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ - ‬بالموازاة‭ ‬مع‭ ‬صدمة‭ ‬الحداثة‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬بالمجتمعات‭ ‬العربية‭ - ‬وما‭ ‬فرضته‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬مساءلة‭ ‬جديدة‭ ‬للوجودي،‭ ‬الشخصي‭ ‬والمعيش‭ ‬ولحياة‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإنسانية‭.‬

ستضحي‭ ‬الهجرة‭ ‬واللجوء‭ ‬قضايا‭ ‬مُعاشة‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬قضايا‭ ‬تأمليّة،‭ ‬وسيصبح‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الاندماج‭ ‬وتحديد‭ ‬شروط‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬قضايا‭ ‬الشعب‭ ‬والشأن‭ ‬العام‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬قضايا‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬حضارية‭.‬

لذلك،‭ ‬ستتخلى‭ ‬الرواية‭ ‬الفرانكفونية‭ ‬عن‭ ‬مساراتها‭ ‬السريالية،‭ ‬الخيالية،‭ ‬المثالية‭ ‬والتجريد،‭ ‬وستلتزم‭ ‬بالواقع‭ ‬بتغيّرات‭ ‬وتمفصلاتها‭ ‬المختلفة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬ستصالح‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المسارات‭ ‬الإبداعية‭ ‬وبين‭ ‬واقع‭ ‬الإنسان‭ ‬المعيش‭ ‬تحت‭ ‬ثقل‭ ‬صوت‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬استلب‭ ‬بالتفكير‭ ‬في‭ ‬اليومي‭ ‬والمعيش‭ ‬والذات‭ ‬والآخر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬المستقبل‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الماضي‭: ‬إن‭ ‬رواية‭ ‬الشعب‭ ‬هي‭ ‬بالأساس‭ ‬رواية‭ ‬الحاضر‭ ‬المصدر‭ ‬والماضي‭ ‬والمستقبل‭ ‬المستهدف‭.‬

 

رهان‭ ‬مجتمعي

سيجد‭ ‬القارئ‭ ‬الفرنسي‭ ‬نفسه‭ ‬كذلك‭ ‬ملزمًا‭ ‬بالتعرف‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬‮«‬أبناء‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم،‭ ‬ماضيهم‭ ‬ومعيشهم‭ ‬بلغة‭ ‬الأنا‭ (‬الغربية‭). ‬وسواء‭ ‬تعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬برصد‭ ‬المآسي‭ ‬التي‭ ‬خلّفها‭ ‬الاستعمار‭ ‬بهذه‭ ‬الدول‭ ‬أو‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬بلُغة‭ ‬المستعمِر،‭ ‬سيفرض‭ ‬على‭ ‬الكتّاب‭ ‬الفرنسيين‭ ‬استدماج‭ ‬قضايا‭ ‬الهجرة‭ ‬ضمن‭ ‬مسارات‭ ‬تطور‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬الوطنية‮»‬‭: ‬إن‭ ‬معيش‭ ‬ويومي‭ ‬فرنسا‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬تدبير‭ ‬للنقاش‭ ‬العام‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬اللجوء‭ ‬والاندماج‭ ‬والإسلام‭ ‬والأدب‭ ‬هو‭ ‬المكلف‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬إرادة‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬للحسم‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ (‬فرنسا‭ ‬هي‭ ‬الهجرة‭).‬

إن‭ ‬المتتبع‭ ‬لحصيلة‭ ‬الإصدارات‭ ‬الأدبية‭ ‬خلال‭ ‬الدخول‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي‭ ‬للسنتين‭ ‬الماضيتين‭ (‬2016/2017‭) ‬سيلحظ‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬سيطرة‭ ‬جنس‭ ‬الروايات‭ ‬على‭ ‬مؤلفات‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأخرى،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬هيمنة‭ ‬ثيمة‭ ‬التاريخ،‭ ‬الذاكرة،‭ ‬المعيش‭ ‬سواء‭ ‬ضمن‭ ‬كتابات‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬أو‭ ‬الكتّاب‭ ‬الفرنسيين‭ ‬أنفسهم‭. ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬هنا‭ ‬باختيار‭ ‬فردي‭ ‬أو‭ ‬تاريخي،‭ ‬وإنما‭ ‬برِهان‭ ‬مجتمعي‭ ‬يُنظر‭ ‬بموجبه‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬فعل‭ ‬تغيير‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬‮«‬فعل‭ ‬تعبير‮»‬‭. ‬دفع‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬بجريدة‭ ‬لوموند‭ ‬الفرنسية‭ - ‬ضمن‭ ‬رصدها‭ ‬للدخول‭ ‬الأدبي‭ ‬الفرنسي‭ ‬لهذه‭ ‬السنة‭ - ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الرواية‭ ‬الفرنسية‭ ‬الجديدة‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬قوي‭ ‬عن‭ ‬ماضي‭ ‬الاستعمار‭ ‬وقضايا‭ ‬الهجرة‭ ‬بلغة‭ ‬الهجرة‭ ‬واللجوء‭.‬

 

كتّاب‭ ‬يعبِّرون‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬اللجوء‭ ‬والهجرة‭ ‬

جرى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬العرب‭ ‬الناطقين‭ ‬بالفرنسية‭ ‬قد‭ ‬‮«‬تألقوا‭ ‬بلغة‭ ‬اللجوء‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬اللجوء‮»‬،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬رسم‭ ‬اسمه‭ ‬بحروف‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فضح‭ ‬أسرار‭ ‬الشرق‭ ‬وتقديم‭ ‬صورة‭ ‬عجائبية‭ ‬عن‭ ‬مكنوناته‭ ‬الوجودية‭ ‬والثقافية‭ (‬إدريس‭ ‬الشرايبي‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬استغلال‭ ‬صورة‭ ‬الصراع‭ ‬الحضاري‭ ‬بين‭ ‬القطبين‭ (‬أمين‭ ‬معلوف‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬استحداث‭ ‬صورة‭ ‬للصراع‭ ‬الثقافي‭ ‬الداخلي‭ (‬محمد‭ ‬خيرالدين‭). ‬وبالفعل،‭ ‬عانى‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكتاب‭ ‬رفضًا‭ ‬مزدوجًا؛‭ ‬رفض‭ ‬بلد‭ ‬الأصل‭ ‬ورفض‭ ‬مجتمع‭ ‬الاستقبال‭. 

لكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬ننسى‭ ‬إسهام‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الخالدة‭ (‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬لتوفيق‭ ‬الحكيم‭ (‬1938‭)‬،‭ ‬و«الحي‭ ‬اللاتيني‮»‬‭ ‬لسهيل‭ ‬إدريس‭ (‬1954‭)‬،‭ ‬و«موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‮»‬‭ ‬للطيب‭ ‬صالح‭ (‬1969‭)... ‬واللائحة‭ ‬تطول‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬مهمة‭ ‬تصحيح‭ ‬صورة‭ ‬الشرق‭ ‬أمام‭ ‬الغرب‭ ‬والعكس‭ ‬بالعكس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استثمار‭ ‬المقومات‭ ‬الإبداعية‭ ‬والأدبية‭ ‬في‭ ‬الفعل‭ ‬النضالي‭ ‬ضد‭ ‬المستعمر‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وضد‭ ‬فكرة‭ ‬الصدام‭ ‬بين‭ ‬الحضارات‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

قد‭ ‬تختلف‭ ‬الشروط‭ ‬التاريخية‭ ‬والحضارية‭ ‬والإبداعية‭ ‬بين‭ ‬الجيلين‭ ‬الأول‭ ‬والثاني‭ ‬وبين‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬والأدباء‭ ‬العرب‭ ‬الناطقة‭ ‬بالفرنسية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬قد‭ ‬استفاد‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬العولمة‭ ‬ولغة‭ ‬اللجوء‭ ‬ليس‭ ‬للتألق‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬اللجوء،‭ ‬وإنما‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬اللجوء،‭ ‬الهجرة‭ ‬والاندماج‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مجتمع‭ ‬يعادي‭ ‬الأجانب‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مستمر‭. ‬إنهم‭ ‬كتّاب‭ ‬النضال‭ ‬اليومي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حياة‭ ‬كريمة‭ ‬لجيل‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬المنكرين‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ثقافتهم‭ ‬الأصلية‭ ‬كما‭ ‬ثقافة‭ ‬الاستقبال‭.‬

ختامًا،‭ ‬يجوز‭ ‬لنا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬تحوّلات‭ ‬الرواية‭ ‬الفرنسية‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬قد‭ ‬صنعت‭ ‬وتطوّرت‭ ‬بفعل‭ ‬الإسهام‭ ‬القوي‭ ‬للكتّاب‭ ‬العرب‭ ‬الشباب‭ ‬الناطقين‭ ‬بالفرنسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الدفع‭ ‬بالفعل‭ ‬الإبداعي‭ ‬نحو‭ ‬النزول‭ ‬من‭ ‬برجه‭ ‬العاجي‭ ‬والمثالي،‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬شروط‭ ‬عيش‭ ‬جيل‭ ‬مزدوج‭ ‬الهوية‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يقوده‭ ‬وينير‭ ‬له‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المصالحة‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬عبر‭ ‬وضع‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬ضفة‭ ‬هاتين‭ ‬الثقافتين‭ ‬المختلفتين‭ ‬واللتين‭ ‬تحددان‭ ‬شرط‭ ‬وجوده‭ ‬وحياته‭ ‬شاء‭ ‬أم‭ ‬أبى‭ ‬■