القصة القصيرة أسئلة حارقة

القصة القصيرة أسئلة حارقة

«يوجد ضمن الخصائص الغالبة للقصة القصيرة شيء لا نجده كثيرًا في الرواية. إنه الوعي الحاد باستيحاش الإنسان».
 (فرانك أوكونور «الصوت المنفرد»)

 

من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق،‭ ‬تمثّل‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬أيقونة‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬من‭ ‬أيقونات‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية،‭ ‬فهي‭ ‬الفن‭ ‬المتفرد‭ ‬والمتمرد‭ ‬على‭ ‬الأشكال‭ ‬والقوالب‭ ‬والتيمات‭ ‬السردية،‭ ‬وهي‭ ‬الصوت‭ ‬المنفرد‭ ‬المعبِّر‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬تجذّر‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬صراعاته‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬ومع‭ ‬ذاته،‭ ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬الأيرلندي‭ ‬أوكونور،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬التلاحُق‭ ‬المستمر‭ ‬واللاهث‭ ‬في‭ ‬أمورها‭ ‬وشجونها،‭ ‬وهي‭ ‬خير‭ ‬معبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلاقُح‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭ ‬فيها،‭ ‬التي‭ ‬تمتح‭ ‬من‭ ‬علاقتها‭ ‬البصرية‭ ‬والسمعية‭ ‬والحسية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬يستشف‭ ‬ويمتصّ‭ ‬وينتج،‭ ‬فهي‭ ‬البوتقة‭ ‬التي‭ ‬تُختزل‭ ‬فيها‭ ‬المشاعر‭ ‬وتنفجر‭ ‬لتكوّن‭ ‬كونًا‭ ‬كاملًا‭ ‬متمثلًا‭ ‬في‭ ‬تشظّيها،‭ ‬كمعادل‭ ‬للحياة،‭ ‬وباحث‭ ‬بقوة‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬الوجود‭ ‬التي‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬المتحرّقة؛‭ ‬فهي‭ ‬بكل‭ ‬هذا‭ ‬الزخم‭ ‬الوجودي‭ ‬والحسّي‭ ‬المتكامل‭ ‬الفنّ‭ ‬المتجدد‭ ‬لا‭ ‬المستنسخ،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجدّد‭ ‬ما‭ ‬تطرحه‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬رؤى‭ ‬ومن‭ ‬معادلات‭ ‬ومن‭ ‬طروحات‭ ‬إنسانية‭ ‬وفنيّة‭ ‬متشابكة،‭ ‬وثورة‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬وما‭ ‬يطرحه‭ ‬من‭ ‬وهج‭ ‬لأسئلته‭ ‬الحارقة‭ ‬في‭ ‬الكينونة‭ ‬والوجود‭.‬

واستمرارًا‭ ‬لتلك‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬التحديث‭ ‬والتجديد‭ ‬التي‭ ‬تكتنف‭ ‬الواقع‭ ‬وتعبّر‭ ‬عنه‭ ‬بموازاته،‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬كقاعدة‭ ‬عريضة،‭ ‬تنطلق‭ ‬كل‭ ‬الطموحات‭ ‬وكل‭ ‬الرغبات‭ ‬في‭ ‬معانقة‭ ‬معاني‭ ‬الحياة،‭ ‬التي‭ ‬ترتبط‭ ‬دومًا‭ ‬بفلسفة‭ ‬الحالة‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬إجابة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سؤال‭ ‬يجدد‭ ‬ذاته‭ ‬بذاته‭ ‬كلما‭ ‬تسارع‭ ‬الزمن‭ ‬وتتالت‭ ‬دوراته‭. ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تتكاثر‭ ‬كلما‭ ‬زاد‭ ‬استيحاش‭ ‬الإنسان‭ ‬وشعوره‭ ‬بالاغتراب‭ ‬في‭ ‬واقعه‭ ‬المحيط،‭ ‬ورفضه‭ ‬لآليات‭ ‬كثيرة‭ ‬تعترضه‭ ‬فيه،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬طبيعية‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬طبيعية‭ ‬أو‭ ‬داخلية‭ ‬نفسية،‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬حاد‭ ‬بهذا‭ ‬الاستيحاش‭ ‬أو‭ ‬الاغتراب،‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬وكاتبها‭ ‬الحاد‭ ‬والمؤلم‭ ‬بهذا‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬يراد‭ ‬تغييره‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تحسينه‭ ‬أو‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬ربقة‭ ‬الشعور‭ ‬المضاد‭ ‬به،‭ ‬بآليات‭ ‬للكتابة‭ ‬تلتمس‭ ‬بكارة‭ ‬الفكرة،‭ ‬مع‭ ‬الإحاطة‭ ‬بمنجز‭ ‬سردي‭ ‬يحمل‭ ‬جيناته‭ ‬التي‭ ‬تُكسبه‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬الإبداع،‭ ‬بما‭ ‬تكسبه‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الوعي‭ ‬والامتصاص‭ ‬وإعادة‭ ‬طرح‭ ‬صور‭ ‬الحياة‭ ‬المتغيرة‭ ‬والمتباينة‭!   

 

‮«‬تلك‭ ‬الدرب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يسلكها‭ ‬أحد‮»‬‭ ‬

وهي‭ - ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬الشاعر‭ ‬الياباني‭ ‬ماتسو‭ ‬باشو‭ - ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬التساؤلات‭ ‬الملحّة،‭ ‬ولا‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬انفجارات‭ ‬الذات‭ ‬وتشظّيها‭ ‬وتحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬علامات‭ ‬استفهام‭ ‬كبيرة‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬غالبها‭ ‬بمحور‭ ‬سؤال‭ ‬الذات‭ ‬والكينونة‭... ‬سؤال‭ ‬الوجود،‭ ‬وفلسفة‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬زوايا‭ ‬وبيئات‭ ‬عدة‭ ‬ومتمايزة،‭ ‬وضاربة‭ ‬في‭ ‬أغوار‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬المجبولة‭ ‬على‭ ‬الشك‭ ‬واليقين،‭ ‬ومحاولات‭ ‬تأسيس‭ ‬واقع‭ ‬مواز‭ ‬لهذا‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬يمور‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬المتناقضات‭ ‬ومثيرات‭ ‬الأسئلة‭ ‬المتعلقة‭ ‬بهذا‭ ‬الوجود،‭ ‬وما‭ ‬يصاحبها‭ ‬من‭ ‬ظواهر‭ ‬ومعانٍ‭ ‬ودلالات؛‭ ‬فتأتي‭ ‬براعة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬النمط‭ ‬القصصي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قلم‭ ‬مبدع‭ ‬متوهج‭ ‬بهذه‭ ‬التساؤلات‭ ‬وهذا‭ ‬الوعي‭ ‬الحاد‭ ‬بالحياة‭ ‬ومفرداتها،‭ ‬مع‭ ‬حذق‭ ‬التعامل‭ ‬الماهر‭/ ‬الفني‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬المفردات‭ ‬وتلك‭ ‬الأيقونات‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬عناصر‭ ‬الوجود‭ ‬وتحرّكها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المختزل،‭ ‬بما‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬سبر‭ ‬غور‭ ‬الحالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المعادلة‭ ‬الذهبية‭ ‬للإبداع‭.‬

كل‭ ‬ذلك‭ ‬يجعل‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬براحًا‭ ‬متّسعًا‭ ‬للتأويل‭ ‬وإثارة‭ ‬الصور‭ ‬والمدلولات‭ ‬التي‭ ‬تنطلق‭ ‬لتعبّر‭ ‬عن‭ ‬طموحات‭ ‬الإنسان‭ ‬وانكساراته‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬وكمدخل‭ ‬عميق‭ ‬ربما‭ ‬تسرّب‭ ‬من‭ ‬ثقب‭ ‬إبرة‭ ‬ليجتاز‭ ‬إلى‭ ‬سبر‭ ‬غور‭ ‬إشكاليات‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬تسوقها‭ ‬الحالة‭ ‬الملتبسة‭ ‬بين‭ ‬ثنائيات‭ ‬الوجود‭ ‬المتناقضة‭ ‬والمتقابلة‭ ‬دومًا‭ ‬فيما‭ ‬بين‭ ‬الموت‭ ‬والحياة،‭ ‬والشك‭ ‬واليقين،‭ ‬والحقيقة‭ ‬والوهم،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تفرز‭ ‬الحالة‭/ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬لاحت‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬مقولة‭ ‬جاك‭ ‬دريدا‭: ‬‮«‬الوهم‭ ‬أشد‭ ‬رسوخًا‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تأتي‭ ‬بقوة‭ ‬عملية‭ ‬الاستيهام‭ ‬للحالة‭ ‬الخارجة‭ ‬من‭ ‬عباءة‭ ‬واقعها‭ ‬إلى‭ ‬براح‭ ‬التخييل،‭ ‬لتُعد‭ ‬عنصرًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬السرد‭ ‬القصصي،‭ ‬إذ‭ ‬إنّ‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أصدق‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬وأكثر‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عنه،‭ ‬وأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تجسيد‭ ‬إشكالياته‭ ‬وبلورتها‭ ‬وتقديمها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬المشعّة‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬وما‭ ‬عليها،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الصور‭ ‬الكربونية‭ ‬الناقلة‭ ‬للتفاصيل‭ ‬والمسجلة‭ ‬لها‭.‬

 

نقاط‭ ‬جوهرية

تلك‭ ‬النقاط‭ ‬الجوهرية‭ ‬التي‭ ‬تصوغها‭ ‬علاقة‭ ‬الفن‭ ‬بالواقع‭ ‬كمرآة‭ ‬أو‭ ‬انعكاس،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬كظلال‭ ‬متوارية‭ ‬تتحكّم‭ ‬فيها‭ ‬العلاقة‭ ‬الماورائية‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬السيريالي‭ ‬والعبثي‭ ‬واللامعقول‭ ‬والسحري‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬الواقع،‭ ‬ما‭ ‬يقدم‭ ‬دائمًا‭ ‬رؤية‭ ‬طازجة‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬حول‭ ‬المبدع‭ ‬والقارئ‭ ‬المهتم‭ ‬بتتبّع‭ ‬الحالات‭ ‬الكونية‭ ‬المنبثقة‭ ‬من‭ ‬العادي‭ ‬والمارّ‭ ‬والعابر‭ ‬على‭ ‬الوعي،‭ ‬فكما‭ ‬قال‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وهو‭ ‬الروائي‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬حواراته‭ ‬عن‭ ‬علاقته‭ ‬بالقصة‭ ‬القصيرة‭:‬

‮«‬صدقني‭... ‬إنني‭ ‬أبدأ‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬الآن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬تنتهي‭... ‬لكنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أغلق‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬الباب‭ ‬عامًا‭ ‬كاملًا‭ ‬كي‭ ‬أكتب‭ ‬رواية،‭ ‬منصرفًا‭ ‬عما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وفي‭ ‬نفسي‭... ‬الانفعال‭ ‬اليومي‭ ‬عذابي‭ ‬وعزائي‭... ‬لهذا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬تثبيت‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬وإطالة‭ ‬النظر‭ ‬إليه‮»‬‭.‬

ذلك‭ ‬أن‭ ‬غواية‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬هي‭ ‬الفتنة‭ ‬النائمة‭ ‬التي‭ ‬تتربص‭ ‬بالكاتب‭/ ‬المبدع،‭ ‬لتُخرج‭ ‬منه‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يعانيه‭ ‬ويظل‭ ‬مختبئًا‭ ‬تحت‭ ‬جلد‭ ‬الحقيقة‭ ‬حتى‭ ‬تأتي‭ ‬ساعة‭ ‬الانفجار‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬حيالها‭ ‬إلا‭ ‬الصياح‭ ‬بالتعبير‭ ‬الناجز‭ ‬واللغة‭ ‬المحكمة‭ ‬والفكرة‭ ‬المدوية‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬الآنية‭ ‬المتفجّرة‭ ‬بالسؤال‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬صعوبة‭ ‬الدرب‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬ولا‭ ‬المتاح‭ ‬أن‭ ‬يرتادها‭ ‬أيّ‭ ‬أحد،‭ ‬كفعل‭ ‬إبداعي‭ ‬انتقائي‭ ‬على‭ ‬مستويي‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬ربما‭ ‬لتلقي‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬سؤال‭ ‬جانبي‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬ما‭ ‬اختلط‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬الثقافي‭ ‬الحالي‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬خاطئة‭ ‬للقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬الأحوال‭ ‬ليست‭ ‬مجتزءًا‭ ‬من‭ ‬رواية،‭ ‬ولا‭ ‬جنينًا‭ ‬شعريًا‭ ‬غير‭ ‬مكتمل،‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬وما‭ ‬يتاح‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الوسائط‭ ‬الإعلامية‭ ‬المهتمة‭ ‬بالشأن‭ ‬الثقافي‭ ‬والإبداعي،‭ ‬وانفلات‭ ‬المعايير‭ ‬الحاكمة‭ ‬كإطار‭ ‬خارجي‭ ‬لقوانين‭ ‬الفن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يغيّرها‭ - ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الإطار‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬خارجه‭ - ‬إلا‭ ‬الفنّ‭ ‬ذاته‭ ‬وتجلياته‭. ‬

 

سيريالية‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة

لا‭ ‬تتوقف‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬مشهدها‭ ‬المتوهج‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬النماذج‭ ‬التي‭ ‬تغيّر‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬القارة‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬وظائف‭ ‬ومميزات‭ ‬يقدّمها‭ ‬المنتج‭ ‬الإبداعي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬خلخلت‭ ‬الواقع‭ ‬السردي‭ ‬والأدبي‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬ظهورها‭ ‬وانطلاقها‭ ‬من‭ ‬واقعية‭ (‬الروسي‭) ‬الأشهر‭ ‬أنطون‭ ‬تشيكوف‭ ‬الساخرة‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬العالَم،‭ ‬وتلاقيها‭ ‬بسرديات‭ ‬إدجار‭ ‬آلان‭ ‬بو‭ (‬الأمريكي‭)‬،‭ ‬وبينهما‭ ‬جي‭ ‬دي‭ ‬موباسان‭ (‬الفرنسي‭) ‬كثالوث‭ ‬مؤثر‭ ‬ومؤشّر‭ ‬على‭ ‬انفجار‭ ‬ذلك‭ ‬الفن‭ ‬القصصي‭ ‬المؤلم‭ ‬المعبّر‭ ‬عن‭ ‬خلجات‭ ‬الإنسان‭ ‬وتداعياته‭ ‬وانهياراته،‭ ‬وبدء‭ ‬طوفان‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬المتنوعة‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬الوجود‭ ‬ومدى‭ ‬معاناة‭ ‬البؤس‭ ‬الإنساني‭ ‬والنفسي‭ ‬كنماذج‭ ‬تشريحية‭ ‬تتناولها‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع‭ ‬القصصية‭ ‬في‭ ‬متونها،‭ ‬ومدى‭ ‬امتداد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ظاهرة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬العربية‭ ‬المتمثّلة‭ ‬في‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬بعبقريته‭ ‬التي‭ ‬نقلت‭ ‬القصة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المعترك،‭ ‬بعد‭ ‬محاولات‭ ‬بائسة‭ ‬ربما‭ ‬افتقرت‭ ‬إلى‭ ‬الصدق‭ ‬الفني‭ ‬والإنساني‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬وتفاوتت‭ ‬بين‭ ‬القوة‭ ‬والضعف،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬بزوغ‭ ‬نجم‭ ‬آخر‭ ‬مثل‭ ‬السوري‭ ‬الأشهر‭ ‬زكريا‭ ‬تامر‭ ‬ومجموعاته‭ ‬القصصية‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬علامة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬وحاضر،‭ ‬بل‭ ‬ومستقبل‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وتأثير‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الإبداعي‭.‬

 

رؤية‭ ‬سريالية‭ ‬عبثية

وتأتي‭ ‬ظاهرة‭ (‬المصري‭) ‬محمد‭ ‬حافظ‭ ‬رجب‭ ‬الذي‭ ‬قلَب‭ ‬المفهوم‭ ‬السائد‭ ‬للقصة‭ ‬العربية‭ ‬بارتياد‭ ‬مناطق‭ ‬أكثر‭ ‬وعورة‭ ‬ربما‭ ‬تلمّس‭ ‬السابقون‭ ‬عليه‭ ‬أطرافها،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬تتوغل‭ ‬فيها‭ ‬أقلامهم،‭ ‬وفعل‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬انطلق‭ ‬من‭ ‬إساره‭ ‬ليقدّم‭ ‬لنا‭ ‬انعتاقًا‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬صبغ‭ ‬علاقة‭ ‬الذات‭/ ‬الفرد‭ ‬بالواقع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رؤية‭ ‬سريالية‭ ‬عبثية‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬العبث‭ ‬وبعض‭ ‬السرديات‭ ‬الأخرى،‭ ‬استفادة‭ ‬من‭ ‬تقنيات‭ ‬جديدة،‭ ‬ودخولًا‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬العتمة‭ ‬واللامعقول،‭ ‬وذلك‭ ‬النمط‭ ‬السريالي‭ ‬الذي‭ ‬تخطّى‭ ‬تلك‭ ‬التلامسات‭ ‬ليعبر‭ ‬إلى‭ ‬حيّز‭ ‬التعبير‭ ‬الكامل‭ ‬بهذا‭ ‬الحس‭ ‬والتوغل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أنسنة‭ ‬كل‭ ‬الجمادات،‭ ‬بل‭ ‬وتخطّى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تحويل‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬حيوان‭ ‬وجماد‭ ‬يتنفس‭ ‬به‭ ‬رؤية‭ ‬مغايرة‭ ‬مغرقة‭ ‬في‭ ‬العبث‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬أسئلة‭ ‬الوجود،‭ ‬ربما‭ ‬لتتغير‭ ‬صيغة‭ ‬السؤال‭ ‬وتنطلق‭ ‬من‭ ‬تأسيسات‭ ‬جديدة‭ ‬تعكس‭ ‬حالات‭ ‬أكثر‭ ‬عمقًا‭ ‬من‭ ‬الاغتراب،‭ ‬وأكثر‭ ‬إغراقًا‭ ‬في‭ ‬سوداوية‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬عبّرت‭ ‬في‭ ‬تضاعيفها،‭ ‬وأشارت‭ ‬إلى‭ ‬الخلل‭ ‬النفسي‭ ‬الذي‭ ‬تطبعه‭ ‬حقبة‭ ‬من‭ ‬الحقب‭ ‬الزمنية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بحياة‭ ‬الإنسان‭ ‬ووعيه‭ ‬واستيحاشه،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬تماثل‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬أفلام‭ ‬الرسوم‭ ‬المتحركة،‭ ‬كتقنية‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬لجأ‭ ‬إليها‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬تجلياته‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬مخلوقات‭ ‬برّاد‭ ‬الشاي‭ ‬المغلي‮»‬،‭ ‬و«الكرة‭ ‬ورأس‭ ‬الرجل‮»‬‭ ‬وغيرها‭! ‬

ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يردنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬بالاستيحاش‭ ‬الذي‭ ‬يميّز‭ ‬تلك‭ ‬الكتابة‭ ‬الفارقة،‭ ‬يكمل‭ ‬ويحكم‭ ‬الدائرة‭ ‬حول‭ ‬تلك‭ ‬الثنائيات‭ ‬المتضادة‭ ‬المتناحرة‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان،‭ ‬بل‭ ‬والأحرى‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬يدفع‭ ‬به‭ ‬ازدياد‭ ‬وعيه‭ ‬بالحياة‭ ‬وحدته‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المتاهة‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬المتشابكة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬لهذا‭ ‬الفن‭ ‬الأكثر‭ ‬صعوبة،‭ ‬والأجدر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬والحفاظ‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الهجمات‭ ‬الشرسة‭ ‬التي‭ ‬تشنّها‭ ‬عوامل‭ ‬الاستسهال‭ ‬والتسارع‭ ‬وعدم‭ ‬الدراية‭ ‬بمفاتيحه،‭ ‬بل‭ ‬وآلياته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬بُدّ‭ ‬أن‭ ‬تنطلق‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬تأسيسها‭ ‬أي‭ ‬محاولات‭ ‬للتجريب‭ ‬والتجديد،‭ ‬بل‭ ‬والإبداع‭ ‬■