القصة القصيرة أسئلة حارقة
«يوجد ضمن الخصائص الغالبة للقصة القصيرة شيء لا نجده كثيرًا في الرواية. إنه الوعي الحاد باستيحاش الإنسان».
(فرانك أوكونور «الصوت المنفرد»)
من هذا المنطلق، تمثّل القصة القصيرة أيقونة بالغة الأهمية من أيقونات الكتابة السردية، فهي الفن المتفرد والمتمرد على الأشكال والقوالب والتيمات السردية، وهي الصوت المنفرد المعبِّر عن أزمة تجذّر الإنسان المعاصر في صراعاته مع الحياة ومع ذاته، وفق تعبير الأيرلندي أوكونور، ومع هذا التلاحُق المستمر واللاهث في أمورها وشجونها، وهي خير معبّر عن ذلك من خلال تلاقُح الأنواع الأدبية والفنية فيها، التي تمتح من علاقتها البصرية والسمعية والحسية بكل ما يدور حول المبدع الذي يستشف ويمتصّ وينتج، فهي البوتقة التي تُختزل فيها المشاعر وتنفجر لتكوّن كونًا كاملًا متمثلًا في تشظّيها، كمعادل للحياة، وباحث بقوة عن أسباب الوجود التي تنبثق من الذات المتحرّقة؛ فهي بكل هذا الزخم الوجودي والحسّي المتكامل الفنّ المتجدد لا المستنسخ، من خلال تجدّد ما تطرحه كل يوم من رؤى ومن معادلات ومن طروحات إنسانية وفنيّة متشابكة، وثورة على الشكل والمضمون، وما يطرحه من وهج لأسئلته الحارقة في الكينونة والوجود.
واستمرارًا لتلك الحالة من التحديث والتجديد التي تكتنف الواقع وتعبّر عنه بموازاته، ومن خلاله كقاعدة عريضة، تنطلق كل الطموحات وكل الرغبات في معانقة معاني الحياة، التي ترتبط دومًا بفلسفة الحالة الباحثة عن إجابة من خلال سؤال يجدد ذاته بذاته كلما تسارع الزمن وتتالت دوراته. هذه الأسئلة التي تتكاثر كلما زاد استيحاش الإنسان وشعوره بالاغتراب في واقعه المحيط، ورفضه لآليات كثيرة تعترضه فيه، سواء كانت طبيعية أو غير طبيعية أو داخلية نفسية، ناتجة عن وعي حاد بهذا الاستيحاش أو الاغتراب، عن وعي القصة القصيرة وكاتبها الحاد والمؤلم بهذا الواقع الذي يراد تغييره أو العمل على تحسينه أو الخروج من ربقة الشعور المضاد به، بآليات للكتابة تلتمس بكارة الفكرة، مع الإحاطة بمنجز سردي يحمل جيناته التي تُكسبه هذه الهوية الحقيقية التي لا تنفصل عن هوية الإبداع، بما تكسبه من شخصية قادرة على الوعي والامتصاص وإعادة طرح صور الحياة المتغيرة والمتباينة!
«تلك الدرب التي لا يسلكها أحد»
وهي - وفق تعبير الشاعر الياباني ماتسو باشو - الفن الذي لا يتوقف عن التساؤلات الملحّة، ولا التعبير عن انفجارات الذات وتشظّيها وتحوّلها إلى علامات استفهام كبيرة تدخل في غالبها بمحور سؤال الذات والكينونة... سؤال الوجود، وفلسفة التعامل معه من زوايا وبيئات عدة ومتمايزة، وضاربة في أغوار النفس البشرية المجبولة على الشك واليقين، ومحاولات تأسيس واقع مواز لهذا الواقع الذي يمور بكثير من المتناقضات ومثيرات الأسئلة المتعلقة بهذا الوجود، وما يصاحبها من ظواهر ومعانٍ ودلالات؛ فتأتي براعة التعامل مع النمط القصصي من خلال قلم مبدع متوهج بهذه التساؤلات وهذا الوعي الحاد بالحياة ومفرداتها، مع حذق التعامل الماهر/ الفني مع تلك المفردات وتلك الأيقونات التي تمثّل عناصر الوجود وتحرّكها في هذا العالم المختزل، بما يعمل على سبر غور الحالة الإنسانية في تلك المعادلة الذهبية للإبداع.
كل ذلك يجعل القصة القصيرة براحًا متّسعًا للتأويل وإثارة الصور والمدلولات التي تنطلق لتعبّر عن طموحات الإنسان وانكساراته على حد سواء، وكمدخل عميق ربما تسرّب من ثقب إبرة ليجتاز إلى سبر غور إشكاليات أخرى قد تسوقها الحالة الملتبسة بين ثنائيات الوجود المتناقضة والمتقابلة دومًا فيما بين الموت والحياة، والشك واليقين، والحقيقة والوهم، تلك التي قد تفرز الحالة/ العلاقة التي ربما لاحت لنا من مقولة جاك دريدا: «الوهم أشد رسوخًا من الحقيقة».
ولعل من خلالها تأتي بقوة عملية الاستيهام للحالة الخارجة من عباءة واقعها إلى براح التخييل، لتُعد عنصرًا مهمًا من عناصر السرد القصصي، إذ إنّ من الفن ما هو أصدق من الواقع، وأكثر تعبيرًا عنه، وأكثر قدرة على تجسيد إشكالياته وبلورتها وتقديمها في هذه الصورة المشعّة بما لها وما عليها، بعيدًا عن الصور الكربونية الناقلة للتفاصيل والمسجلة لها.
نقاط جوهرية
تلك النقاط الجوهرية التي تصوغها علاقة الفن بالواقع كمرآة أو انعكاس، أو ربما كظلال متوارية تتحكّم فيها العلاقة الماورائية التي تجسد السيريالي والعبثي واللامعقول والسحري الذي يقوم على أكتاف الواقع، ما يقدم دائمًا رؤية طازجة للعالم من حول المبدع والقارئ المهتم بتتبّع الحالات الكونية المنبثقة من العادي والمارّ والعابر على الوعي، فكما قال نجيب محفوظ، وهو الروائي الأبرز في تاريخ الرواية العربية، في أحد حواراته عن علاقته بالقصة القصيرة:
«صدقني... إنني أبدأ القصة القصيرة الآن دون أن أعرف كيف تنتهي... لكنني لا أستطيع أن أغلق على نفسي الباب عامًا كاملًا كي أكتب رواية، منصرفًا عما يحدث في الواقع وفي نفسي... الانفعال اليومي عذابي وعزائي... لهذا لا أستطيع تثبيت ما في الخارج وإطالة النظر إليه».
ذلك أن غواية القصة القصيرة هي الفتنة النائمة التي تتربص بالكاتب/ المبدع، لتُخرج منه أهم ما يعانيه ويظل مختبئًا تحت جلد الحقيقة حتى تأتي ساعة الانفجار التي لا يملك حيالها إلا الصياح بالتعبير الناجز واللغة المحكمة والفكرة المدوية عن تلك اللحظة الآنية المتفجّرة بالسؤال.
ومن هنا تأتي صعوبة الدرب التي ليس من السهل ولا المتاح أن يرتادها أيّ أحد، كفعل إبداعي انتقائي على مستويي الشكل والمضمون، ربما لتلقي بنا في دوامة سؤال جانبي عن ماهية ما اختلط في هذا الوعي الثقافي الحالي من مفاهيم خاطئة للقصة القصيرة التي هي في كلّ الأحوال ليست مجتزءًا من رواية، ولا جنينًا شعريًا غير مكتمل، كما نرى من حولنا وما يتاح نشره في جميع الوسائط الإعلامية المهتمة بالشأن الثقافي والإبداعي، وانفلات المعايير الحاكمة كإطار خارجي لقوانين الفن التي لا يغيّرها - من داخل الإطار لا من خارجه - إلا الفنّ ذاته وتجلياته.
سيريالية القصة القصيرة
لا تتوقف القصة القصيرة في مشهدها المتوهج عن تقديم النماذج التي تغيّر من المفاهيم القارة في الذات من وظائف ومميزات يقدّمها المنتج الإبداعي المتمثل في تلك الظاهرة التي خلخلت الواقع السردي والأدبي العربي منذ ظهورها وانطلاقها من واقعية (الروسي) الأشهر أنطون تشيكوف الساخرة على الجانب الآخر من العالَم، وتلاقيها بسرديات إدجار آلان بو (الأمريكي)، وبينهما جي دي موباسان (الفرنسي) كثالوث مؤثر ومؤشّر على انفجار ذلك الفن القصصي المؤلم المعبّر عن خلجات الإنسان وتداعياته وانهياراته، وبدء طوفان كبير من الأسئلة المتنوعة عن ماهية الوجود ومدى معاناة البؤس الإنساني والنفسي كنماذج تشريحية تتناولها عملية الإبداع القصصية في متونها، ومدى امتداد ذلك في ظاهرة القصة القصيرة العربية المتمثّلة في يوسف إدريس بعبقريته التي نقلت القصة العربية إلى هذا المعترك، بعد محاولات بائسة ربما افتقرت إلى الصدق الفني والإنساني في بعض الأحيان، وتفاوتت بين القوة والضعف، إضافة إلى بزوغ نجم آخر مثل السوري الأشهر زكريا تامر ومجموعاته القصصية التي تشكّل علامة كبيرة في واقع وحاضر، بل ومستقبل القصة القصيرة العربية، وتأثير كل منهما في المشهد الإبداعي.
رؤية سريالية عبثية
وتأتي ظاهرة (المصري) محمد حافظ رجب الذي قلَب المفهوم السائد للقصة العربية بارتياد مناطق أكثر وعورة ربما تلمّس السابقون عليه أطرافها، ولكن لم تتوغل فيها أقلامهم، وفعل ذلك الذي انطلق من إساره ليقدّم لنا انعتاقًا كان له التأثير في صبغ علاقة الذات/ الفرد بالواقع من خلال رؤية سريالية عبثية ربما كانت لها جذورها في مسرح العبث وبعض السرديات الأخرى، استفادة من تقنيات جديدة، ودخولًا في مناطق العتمة واللامعقول، وذلك النمط السريالي الذي تخطّى تلك التلامسات ليعبر إلى حيّز التعبير الكامل بهذا الحس والتوغل من خلال أنسنة كل الجمادات، بل وتخطّى ذلك إلى تحويل الإنسان إلى حيوان وجماد يتنفس به رؤية مغايرة مغرقة في العبث والتعبير عن نوع جديد من أسئلة الوجود، ربما لتتغير صيغة السؤال وتنطلق من تأسيسات جديدة تعكس حالات أكثر عمقًا من الاغتراب، وأكثر إغراقًا في سوداوية الحالة التي ربما عبّرت في تضاعيفها، وأشارت إلى الخلل النفسي الذي تطبعه حقبة من الحقب الزمنية المرتبطة بحياة الإنسان ووعيه واستيحاشه، في هذا العالم الذي ربما تماثل الصراع مع أفلام الرسوم المتحركة، كتقنية من التقنيات التي ربما لجأ إليها الكاتب في تجلياته بـ «مخلوقات برّاد الشاي المغلي»، و«الكرة ورأس الرجل» وغيرها!
ذلك الذي يردنا إلى ذلك الشعور بالاستيحاش الذي يميّز تلك الكتابة الفارقة، يكمل ويحكم الدائرة حول تلك الثنائيات المتضادة المتناحرة على وعي الإنسان، بل والأحرى على وعي المبدع الذي يدفع به ازدياد وعيه بالحياة وحدته إلى تلك المتاهة من الأسئلة المتشابكة التي لا تنتهي لهذا الفن الأكثر صعوبة، والأجدر بكثير من الاهتمام والحفاظ عليه من الهجمات الشرسة التي تشنّها عوامل الاستسهال والتسارع وعدم الدراية بمفاتيحه، بل وآلياته التي لا بُدّ أن تنطلق منها ومن تأسيسها أي محاولات للتجريب والتجديد، بل والإبداع ■