«الزيج الإيلخاني» الوجه الآخر لتاريخ المغول الدموي

«الزيج الإيلخاني» الوجه الآخر لتاريخ المغول الدموي

عيون لوزية ضيقة مستدقّة الأطراف، وجلود حيوانات تغطّي الجسد... قرع الطبول وصهيل الخيل وأصوات الصراخ والعويل تصمّ الآذان، وحرائق مشتعلة في كل مكان، رائحة الدم تزكم الأنوف، واللون الأحمر يغطي الطرقات، نفائس من المخطوطات تسحقها الأقدام.
تلك هي الصورة الذهنية التي يترجمها العقل فور سماع كلمة تتار أو مغول، أو اسم قائديهم جنكيز خان وحفيده هولاكو خان. صورة ليست متخيّلة ولا مبالغة في تفاصيلها، بل هي أقل بكثير من الواقع والأهوال التي عاشها المسلمون في القرن السابع الهجري، ممن كُتب عليهم معاصرة تلك الأحداث الجسيمة؛ ليفجعوا بفاجعة أكبر ونكبة أكثر حدّة عقب مقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد عام 656هـ/ 1258م على يد قائد المغول هولاكو خان. 

 

قُتل‭ ‬خليفة‭ ‬المسلمين‭ ‬وممثل‭ ‬سلطتهم‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬ونُهبت‭ ‬القصور‭ ‬والخزائن،‭ ‬وساد‭ ‬الصمت‭ ‬أنحاء‭ ‬بغداد‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬همهمات‭ ‬دعاء‭ ‬ومناجاة‭ ‬وتضرّع‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬تسأله‭ ‬العون‭ ‬والنجاة‭.‬

من‭ ‬بغداد،‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬هولاكو‭ ‬زاهرة‭ ‬عامرة‭ ‬بالخير‭ ‬الوفير‭ ‬إلى‭ ‬مراغة‭ ‬بأذربيجان؛‭ ‬حيث‭ ‬استقر‭ ‬هولاكو‭ ‬وأسّس‭ ‬دولة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬والعراق،‭ ‬عاصمتها‭ ‬ومقرها‭ ‬مراغة‭. ‬ليكتب‭ ‬التاريخ‭ ‬صفحة‭ ‬شديدة‭ ‬القسوة‭ ‬النفسية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬نفس‭ ‬سويّة؛‭ ‬فكيف‭ ‬لقاتل‭ ‬الخليفة‭ ‬والمسلمين‭ ‬وسارق‭ ‬خزائن‭ ‬دولتهم‭ ‬وشاقق‭ ‬بطون‭ ‬النساء‭ ‬ورقاب‭ ‬الأطفال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حاكمًا‭ ‬عليهم،‭ ‬يأتمرون‭ ‬بأمره‭ ‬ويدخلون‭ ‬غصبًا‭ ‬في‭ ‬ملكه‭ ‬الذي‭ ‬خرّبه‭ ‬بيده،‭ ‬فحوّل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬إلى‭ ‬أطلال،‭ ‬وجفّت‭ ‬القنوات‭ ‬وانهارت‭ ‬بعض‭ ‬السدود‭ ‬وقطعت‭ ‬الطرق؟‭!‬

لكن‭ ‬للحياة‭ ‬دومًا‭ ‬فصولًا‭ ‬جديدة‭ ‬مغايرة‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتوقّعها‭ ‬هولاكو‭ ‬نفسه،‭ ‬فيدمل‭ ‬الجُرح‭ ‬ويطيب،‭ ‬وتعود‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬حركتها‭ ‬واستمراريتها‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬لتصبح‭ ‬دولته‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬بعده؛‭ ‬دولة‭ ‬مسلمة‭ ‬يحرص‭ ‬حكّامها‭ ‬على‭ ‬التقرب‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬وبناء‭ ‬المساجد‭ ‬والمدارس‭ ‬وشقّ‭ ‬القنوات‭ ‬والترع،‭ ‬وإصلاح‭ ‬ما‭ ‬دمره‭ ‬أجدادهم‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ووقف‭ ‬الأوقاف‭ ‬الخيرية‭ ‬للحرمين‭ ‬الشريفين‭.‬

إنها‭ ‬دولة‭ ‬المغول‭ ‬الإيلخانيين‭ ‬في
‭ ‬فارس‭ ‬والعراق‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬كشوكة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬
جزء‭ ‬من‭ ‬نسيجه؛‭ ‬بإسلام‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬المغول‭ ‬وقادتهم‭.‬

واليوم؛‭ ‬يطلّ‭ ‬علينا‭ ‬هولاكو‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬لا‭ ‬بشخصه‭ ‬وهيئته؛‭ ‬ولا‭ ‬بويلاته‭ ‬وجحافله‭ ‬وخرابه،‭ ‬بل‭ ‬بواحد‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬ما‭ ‬أنتج‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الفلك،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الزيج‭ ‬الإيلخاني‮»‬،‭ ‬الصادر‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المرصد‭ ‬الفلكي‭ ‬الذي‭ ‬أمر‭ ‬هو‭ ‬ببنائه‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬مقتل‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي‭ ‬وسقوط‭ ‬دولة‭ ‬العباسيين‭. ‬ليشهد‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬بقاء‭ ‬العلم‭ ‬والفكر‭ ‬قوة‭ ‬كبرى‭ ‬تحارب‭ ‬الدمار‭ ‬والتخريب،‭ ‬قوة‭ ‬تظل‭ ‬باقية‭ ‬ببقاء‭ ‬أثرها‭ ‬ونفعها‭.‬

 

قصة‭ ‬الزيج‭ ‬الإيلخاني

تعرض‭ ‬صالة‭ ‬مزادات‭ ‬كريستيز‭ ‬بلندن؛‭ ‬حاليًا،‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬المعروف‭ ‬بالزيج‭ ‬الإيلخاني؛‭ ‬والزيج‭ ‬هو‭ ‬جداول‭ ‬حسابات‭ ‬فلكية‭ ‬لمواضع‭ ‬النجوم‭ ‬والكواكب‭ ‬والأبراج،‭ ‬ومواضع‭ ‬المدن‭ ‬من‭ ‬خط‭ ‬الاستواء‭ ‬وفقًا‭ ‬لخطوط‭ ‬الطول‭ ‬ودوائر‭ ‬العرض‭. ‬فعاش‭ ‬هذا‭ ‬الزيج‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬السنوات‭ ‬أضعاف‭ ‬عمر‭ ‬هولاكو‭ ‬وسيرته،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬نفعًا‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬وفي‭ ‬موته‭.‬

تبدأ‭ ‬قصة‭ ‬هذا‭ ‬الزيج‭ ‬المعروف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الإيلخاني‮»‬‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬لقب‭ ‬حاكم‭ ‬الدولة‭ (‬إيلخان‭: ‬إيلي‭ - ‬خان‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬التابع‭ ‬إلى‭ ‬الخان‭ ‬المغولي‭ ‬الموجود‭ ‬بقراقوم‭. ‬فعُرفت‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬هولاكو‭ ‬بدولة‭ ‬الإيلخانيين،‭ ‬لتبعيتهم‭ ‬لدولة‭ ‬المغول‭ ‬الكبرى‭ ‬وخانهم،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬التبعية‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬المسلم‭ ‬محمود‭ ‬غازان‭ ‬خان،‭ ‬الذي‭ ‬تلقّب‭ ‬بألقاب‭ ‬السلطان‭ ‬والملك‭. ‬

ففي‭ ‬يوم‭ ‬الثلاثاء‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬جمادى‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬657هـ‭/ ‬1259م،‭ ‬تم‭ ‬وضع‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬لبناء‭ ‬مرصد‭ ‬فلكي‭ ‬كبير‭ (‬رصد‭ ‬خانة‭) ‬تولّى‭ ‬أمره‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬الذي‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يقنع‭ ‬هولاكو‭ ‬خان‭ ‬ببناء‭ ‬مرصد‭ ‬لرصد‭ ‬حركة‭ ‬الكواكب‭ ‬والنجوم،‭ ‬فوقع‭ ‬الاختيار‭ ‬على‭ ‬تبّة‭ ‬أرضية‭ ‬مسطحة‭ ‬تصلح‭ ‬لهذا‭ ‬الغرض‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الشمالي‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬مراغة‭. ‬

وبالفعل‭ ‬تحدد‭ ‬الموقع،‭ ‬وبقي‭ ‬توفير‭ ‬الأموال‭ ‬اللازمة‭ ‬لبناء‭ ‬المرصد‭ ‬وشراء‭ ‬الآلات‭ ‬والأدوات‭ ‬الخاصة‭ ‬بعلم‭ ‬الفلك،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬باهظة‭ ‬الكُلفة‭. ‬فاستطاع‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬أن‭ ‬يتوصل‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬مع‭ ‬هولاكو‭ ‬يمكنه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يخصص‭ ‬له‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬أموال‭ ‬الأوقاف‭ ‬في‭ ‬دولته‭ ‬لشراء‭ ‬الأغراض‭ ‬من‭ ‬اسطرلابات‭ ‬وكور‭ ‬فلكية‭ ‬وإتمام‭ ‬البناء‭. ‬

 

استكمال‭ ‬المرصد

لم‭ ‬يتبقّ‭ ‬سوى‭ ‬فريق‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬سيعاونه‭ ‬في‭ ‬المرصد،‭ ‬فأخذ‭ ‬الطوسي‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬مراسلة‭ ‬بعض‭ ‬الفلكيين‭ ‬المشهورين‭ ‬بحنكتهم‭ ‬وتميّزهم،‭ ‬وضمّ‭ ‬إلى‭ ‬فريقه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬مؤيد‭ ‬الدين‭ ‬عرضى‭ ‬الدمشقي،‭ ‬وفخر‭ ‬الدين‭ ‬أخلاطي،‭ ‬ونجم‭ ‬الدين‭ ‬دبيران‭ ‬القزويني،‭ ‬وفخر‭ ‬الدين‭ ‬المراغي،‭ ‬وقطب‭ ‬الدين‭ ‬الشيرازي‭ ‬ومحيي‭ ‬الدين‭ ‬المغربي‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬العلم‭.‬

بدأ‭ ‬الفريق‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬بهمّة‭ ‬ونشاط،‭ ‬وكان‭ ‬اكتمال‭ ‬المرصد‭ ‬يستلزم‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬لاكتمال‭ ‬آلاته‭ ‬ومستلزماته،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬أمر‭ ‬هولاكو‭ ‬خان‭ ‬بعمله‭ ‬هو‭ ‬الزيج‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬رصدًا‭ ‬للنجوم‭ ‬وقياس‭ ‬زمان‭ ‬دورانها‭ ‬والكواكب‭ ‬وتصحيح‭ ‬الأخطاء‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬فيما‭ ‬عُرف‭ ‬من‭ ‬أزياج‭ ‬قديمة‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬مرصد‭ ‬مراغة‭.‬

واستجاب‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬وفريقه‭ ‬لهذا‭ ‬الطلب،‭ ‬وكان‭ ‬اكتمال‭ ‬الزيج‭ ‬يستلزم‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭ ‬تكتمل‭ ‬فيها‭ ‬القياسات‭ ‬وتُدقق‭ ‬فيها‭ ‬الأخطاء‭ ‬وتنقّح؛‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هولاكو‭ ‬طلب‭ ‬أن‭ ‬تختزل‭ ‬الفترة‭ ‬في‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬فقط‭.‬

لكن‭ ‬هولاكو‭ ‬توفي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬نتاج‭ ‬عمل‭ ‬المرصد‭. ‬وتولّى‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬ابنه‭ ‬آباقا‭ ‬خان‭ ‬الذي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يستكمل‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬والده‭ ‬وأخذ‭ ‬يدعم‭ ‬المرصد،‭ ‬والعمل‭ ‬فيه‭ ‬واستكمال‭ ‬نواقصه‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬663هـ‭ ‬خرج‭ ‬فريق‭ ‬العمل‭ ‬برئاسة‭ ‬الطوسي‭ ‬بهذا‭ ‬الزيج‭ ‬المعروف‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬بالزيج‭ ‬الإيلخاني‭.‬

واستمر‭ ‬مرصد‭ ‬مراغة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬واهتم‭ ‬الحكام‭ ‬والسلاطين‭ ‬به‭ ‬وبذلوا‭ ‬له‭ ‬أموالًا‭ ‬طائلة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬خرب‭ ‬المرصد‭ ‬وأصابه‭ ‬التدمير‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬السطان‭ ‬محمد‭ ‬خدابنده‭ ‬أولجايتو،‭ ‬وربما‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬ابنه‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬بهادر‭ ‬خان،‭ ‬فاستباح‭ ‬العامة‭ ‬موقع‭ ‬المرصد‭ ‬وأحجاره‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أنه‭ ‬خرب‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬أغلب‭ ‬المدن‭ ‬الإيرانية‭ ‬التي‭ ‬دمّرت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬تيمورلنك،‭ ‬ليصبح‭ ‬مرصد‭ ‬مراغة‭ ‬والزيج‭ ‬الإيلخاني‭ ‬شاهدين‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬مغايرة‭ ‬لتاريخ‭ ‬المغول‭ ‬الدموي،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الصراعات‭ ‬والدماء،‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى؛‭ ‬لكنها‭ ‬تظل‭ ‬شهادة‭ ‬على‭ ‬التحول‭ ‬وقوة‭ ‬العقل‭ ‬والفكر‭.‬

 

النسخة‭ ‬المعروضة‭ ‬حاليًا

‭ ‬تتميز‭ ‬النسخة‭ ‬المعروضة‭ ‬حاليًا‭ ‬من‭ ‬الشاهد‭ ‬الأول‭ (‬الزيج‭ ‬الإيلخاني‭) ‬للبيع؛‭ ‬بجودتها‭ ‬ووضوحها،‭ ‬واحتفاظ‭ ‬صفحتها‭ ‬الأولى‭ ‬ببعض‭ ‬الأختام‭ ‬والتوقيعات‭ ‬والتعليقات‭ ‬والتملّكات‭ ‬الخاصة‭ ‬بمن‭ ‬اقتنوها‭ ‬واحتفظوا‭ ‬بها‭ ‬وانتفعوا‭ ‬بما‭ ‬فيها‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬التوقيعات‭ ‬توقيع‭ ‬بصيغة‭: ‬‮«‬صاحبه‭ ‬ومالكه‭ ‬تقي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬معروف‭ ‬الراصد‭ ‬السلطاني‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬قسطنطينية‮»‬،‭ ‬وتوقيع‭: ‬‮«‬دخل‭ ‬ملك‭ ‬الفقير‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬المنجم‮»‬،‭ ‬ونص‭ ‬كتابي‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬جامع‭ ‬السلطان‭ ‬سليم‭ ‬خان،‭ ‬عليه‭ ‬الرحمة‭ ‬والغفران‭. ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬بعض‭ ‬الأختام،‭ ‬ومنها‭ ‬ختم‭ ‬إسماعيل‭ ‬نبي‭ ‬الله،‭ ‬وختم‭: ‬‮«‬الملك‭ ‬المعظم‭ ‬أمير‭ ‬رستم‭ ‬بن‭ ‬سالار‮»‬‭. ‬

أما‭ ‬متن‭ ‬الزيج‭ ‬فهو‭ ‬باللغة‭ ‬الفارسية،‭ ‬وتبدأ‭ ‬صفحته‭ ‬الأولى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم‭ ‬وبه‭ ‬نستعين،‭ ‬وعليه‭ ‬نتوكل،‭ ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬رب‭ ‬العالمين‭ ‬والعاقبة‭ ‬للمتقين،‭ ‬ولا‭ ‬عدوان‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬الظالمين،‭ ‬والصلاة‭ ‬والسلام‭ ‬والتحية‭ ‬والرضوان‭ ‬على‭ ‬سيد‭ ‬المرسلين‭ ‬محمد‭ ‬وآله‭ ‬أجمعين‭ ‬بـ‭... ‬مولانا‭ ‬معظم‭ ‬سلطان‭ ‬المحققين‭ ‬أفضل‭ ‬المتقدمين‭ ‬والمتأخرين‭ ‬مكمل‭ ‬العلوم‭ ‬والأولين‭ ‬والآخرين‭ ‬نصير‭ ‬الحق‭ ‬والدين،‭ ‬برهان‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين،‭ ‬حجة‭ ‬الحق‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الخلق‭ ‬أجمعين،‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ ‬الطوسي،‭ ‬سقى‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬وجعل‭ ‬الجنة‭ ‬مثواه‮»‬‭. ‬

وكذلك‭ ‬ورد‭ ‬بالزيج‭ ‬أسماء‭ ‬بعض‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬بمرصد‭ ‬مراغة،‭ ‬وهم‭ ‬فخر‭ ‬الدين‭ ‬مراغى‭ ‬من‭ ‬الموصل،‭ ‬ومؤيد‭ ‬الدين‭ ‬عرضي‭ ‬من‭ ‬دمشق،‭ ‬وفخر‭ ‬الدين‭ ‬أخلاطي‭ ‬من‭ ‬تفليس،‭ ‬ونجم‭ ‬الدين‭ ‬دبيران‭ ‬من‭ ‬قزوين‭.‬

 

حاجز‭ ‬نفسي

لم‭ ‬يكن‭ ‬سماع‭ ‬شهادة‭ ‬الشاهد‭ ‬الثاني‭ - ‬رصد‭ ‬خانة‭ ‬مراغة‭/ ‬مرصد‭ ‬مراغة‭ - ‬أمرًا‭ ‬صعب‭ ‬المنال‭ ‬والتحقق‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الحاجز‭ ‬النفسي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يثقل‭ ‬كاهلي‭ ‬ويُقيد‭ ‬الروح‭ ‬طوال‭ ‬المدة‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬بداخله‭ ‬أتفقّد‭ ‬أحجاره‭ ‬وكأنني‭ ‬أستنطقها‭ ‬لتروي‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يدور‭ ‬تحت‭ ‬قدمي‭... ‬فربما‭ ‬هنا‭ ‬فوق‭ ‬نفس‭ ‬البقعة‭ ‬التي‭ ‬أقف‭ ‬عليها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬وقف‭ ‬فيها‭ ‬هولاكو‭ ‬عندما‭ ‬جاء‭ ‬لمتابعة‭ ‬سير‭ ‬العمل‭ ‬سعيدًا‭ ‬منتشيًا‭ ‬بدولته‭ ‬الجديدة،‭ ‬ويداه‭ ‬لم‭ ‬تجفّان‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬دماء‭ ‬سفكها‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭.‬

وكيف‭ ‬لعام‭ ‬واحد‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬دمار‭ ‬وتخريب‭ ‬وبين‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬والإصلاح؟‭ ‬هكذا‭ ‬هي‭ ‬الحياة،‭ ‬فبعد‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ثمانمئة‭ ‬عام،‭ ‬جئت‭ ‬من‭ ‬البلد‭ ‬التي‭ ‬تصدّت‭ ‬له‭ ‬وقيدت‭ ‬طموحه‭ ‬ومطامعه،‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬أرض‭ ‬الخير‭ ‬والسلام،‭ ‬فاجتزت‭ ‬باب‭ ‬المرصد،‭ ‬وتجاوزت‭ ‬آلامي‭ ‬وثقل‭ ‬الروح‭ ‬الذي‭ ‬لازمني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الزيارة،‭ ‬واستعدت‭ ‬تاريخ‭ ‬المكان‭ ‬وأشخاصه،‭ ‬فاستقبلني‭ ‬تمثال‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬الشاخص‭ ‬بمراغة،‭ ‬وأغفلت‭ ‬هولاكو‭ ‬وأسقطته‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭ ‬عمدًا،‭ ‬وتذكرت‭ ‬غازان‭ ‬خان‭ ‬وزياراته‭ ‬المتكررة‭ ‬للمرصد،‭ ‬واهتمامه‭ ‬به‭ ‬وبتطويره،‭ ‬ومآثره‭ ‬وأياديه‭ ‬البيضاء‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬بغداد‭ ‬وفارس،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬بالذنب‭ ‬والألم‭ ‬جراء‭ ‬ما‭ ‬اقترفه‭ ‬أجداده‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

وبين‭ ‬رصّات‭ ‬من‭ ‬الحجر‭ ‬وبقايا‭ ‬ما‭ ‬كان؛‭ ‬قرأت‭ ‬الفاتحة‭ ‬ترحُّمًا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬روح‭ ‬زُهقت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬جنكيز‭ ‬خان‭ ‬في‭ ‬بخارى‭ ‬وسمرقند،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬بلدان‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى،‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬مخطوط‭ ‬نفيس‭ ‬مزقته‭ ‬الأقدام‭ ‬عمدًا‭ ‬في‭ ‬بغداد‭. ‬واليوم‭ ‬أيضًا‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬النسخة‭ ‬من‭ ‬الزيج‭ ‬الإيلخاني‭ ‬لتعكّر‭ ‬صفو‭ ‬هولاكو‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وتثبت‭ ‬له‭ ‬ولمن‭ ‬يتبنى‭ ‬أفكاره،‭ ‬أنه‭ ‬زائل‭ ‬والعلم‭ ‬باقٍ،‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ينتفع‭ ‬به‭ ‬الناس‭ ‬■