«قادش»... قُدسُ الفراعنة

«قادش»... قُدسُ الفراعنة

ترجع أهمية مدينة قادش قديمًا لموقعها الاستراتيجي والتجاري المهم في قلب الشام، حيث كانت تعدّ الطريق الواصل جنوبًا مع سهول لبنان، ثم فلسطين، وصولًا إلى سيناء وأرض وادي النيل، وغربًا تجاه سواحل البحر الأبيض المتوسط.
كما اعتُبرت مدخلًا مهمًا ومفترق طرق لبقية أراضي الشام شرقًا حتى بلاد ما بين النهرين، وشمالًا نحو منطقة الأناضول عند البحر الأسود.
تقع «قادش» في سورية جنوب غرب مدينة حمص قرب الحدود مع لبنان، ومكانها هذا المطل على نهر العاصي يسمّى حاليًا «تل النبي مندو».
كانت قادش جزءًا مهمًا من تاريخ مصر القديمة وتوسعاتها في آسيا عهد الدولة الحديثة، ومع أهمية الموقع ووجوده في منطقة صراعات بين الممالك الكبرى في ذلك الوقت، ظلت قادش هدفًا ثمينًا، لأنها كانت عنق الزجاجة والممر الآمن والباب المحصّن لأي حاكم أراد أن ينشر نفوذه بالشرق الأدنى القديم خلال الألف الثانية قبل الميلاد. 

 

منذ‭ ‬طرْد‭ ‬الهكسوس‭ ‬أصحاب‭ ‬الأصول‭ ‬الآسيوية‭ ‬من‭ ‬مصر‭ (‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬1580‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭) ‬على‭ ‬يد‭ ‬الملك‭ ‬أحمس،‭ ‬وتأسيسه‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬حوالي‭ ‬خمسمئة‭ ‬عام‭ (‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬حتى‭ ‬الأسرة‭ ‬العشرين‭)‬،‭ ‬تطورت‭ ‬المهارات‭ ‬الحربية‭ ‬والاستراتيجية‭ ‬لدى‭ ‬المصريين‭ ‬القدماء،‭ ‬فاهتموا‭ ‬بالتوسع‭ ‬الآسيوي‭ ‬شرقًا‭ ‬لتأمين‭ ‬بلادهم،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬تعاظُم‭ ‬ممالك‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ميتاني‮»‬‭ ‬و‮«‬آشور‮»‬‭ ‬و«خيتا‮»‬‭ (‬في‭ ‬سورية‭ ‬والعراق‭ ‬وتركيا‭).‬

ويعدّ‭ ‬تحتمس‭ ‬الأول‭ ‬ثالث‭ ‬ملوك‭ ‬الأسرة‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬توغّل‭ ‬بفتوحاته‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ (‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬1525‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭)‬،‭ ‬فوصل‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬كركميش‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬الفرات‭ (‬وهي‭ ‬مدينة‭ ‬سوريّة‭ ‬ذات‭ ‬موقع‭ ‬استراتيجي‭ ‬مهم‭ ‬تقع‭ ‬حاليًا‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬مدينة‭ ‬حلب‭ ‬عند‭ ‬الحدود‭ ‬مع‭ ‬تركيا‭)‬،‭ ‬وأقام‭ ‬بها‭ ‬لوحة‭ ‬تخلّد‭ ‬أعماله،‭ ‬وترك‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬حفيده‭ ‬الملك‭ ‬تحتمس‭ ‬الثالث‭ - ‬أعظم‭ ‬ملوك‭ ‬الأسرة‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ (‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬1450‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭) - ‬أقصى‭ ‬حدود‭ ‬للمملكة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬تاريخها،‭ ‬فهذا‭ ‬الملك‭ ‬الفاتح‭ ‬قد‭ ‬وسّع‭ ‬رقعتها‭ ‬بستّ‭ ‬عشرة‭ ‬حملة‭ ‬عسكرية‭ ‬جعلت‭ ‬مصر‭ ‬تتوّج،‭ ‬عن‭ ‬جدارة،‭ ‬بلقب‭ ‬الإمبراطورية،‭ ‬مع‭ ‬طول‭ ‬للبلاد‭ ‬ناهز‭ ‬3200‭ ‬كيلومتر،‭ ‬حيث‭ ‬وصل‭ ‬بفتوحاته‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬ميتاني‮»‬،‭ ‬متخطيًا‭ ‬نهر‭ ‬الفرات‭ ‬عند‭ ‬مدينة‭ ‬كركميش‭ ‬شرقًا،‭ ‬وبلاد‭ ‬‮«‬كوش‮»‬‭ ‬و«نباتا‮»‬‭ ‬جنوبًا‭ ‬بالسودان،‭ ‬ومساحات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الصحارى‭ ‬الليبية‭ ‬غربًا‭.‬

كما‭ ‬كانت‭ ‬الجزيات‭ ‬تأتيه‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬محيطة‭ ‬في‭ ‬‮«‬آشور‮»‬‭ ‬و«قبرص‮»‬‭ ‬و«بونت‮»‬‭ (‬القرن‭ ‬الإفريقي‭) ‬وغيرها‭.‬

 

حملات‭ ‬الممالك‭ ‬الآسيوية

‭ ‬حظيت‭ ‬الممالك‭ ‬الآسيوية‭ ‬بنصيب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحملات،‭ ‬فموقعة‭ ‬‮«‬مجـــدو‮»‬‭ ‬الشهيــرة‭ ‬بشمال‭ ‬فلسطين،‭ ‬وأولى‭ ‬حملات‭ ‬‮«‬تحتمس‭ ‬الثالث‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬ضد‭ ‬الحلف‭ ‬السوري‭ ‬المعارض‭ ‬للهيمنة‭ ‬المصرية‭ ‬على‭ ‬الأصقاع‭ ‬الآسيوية‭ ‬بإمرة‭ ‬حاكم‭ ‬قادش،‭ ‬وانتصر‭ ‬فيها‭ ‬الملك‭ ‬المصري،‭ ‬والحملة‭ ‬الثانية‭ ‬لتفقّد‭ ‬الأحوال‭ ‬بسورية،‭ ‬وتأمين‭ ‬مناطق‭ ‬كانت‭ ‬خاضعة‭ ‬للآشوريين،‭ ‬وحملته‭ ‬الخامسة‭ ‬استولى‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الساحلية،‭ ‬وجعلها‭ ‬قاعدة‭ ‬حربية‭ ‬استعدادًا‭ ‬لمهاجمة‭ ‬قادش،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬حملته‭ ‬السادسة‭ ‬وحاصر‭ ‬فيها‭ ‬تحتمس‭ ‬الثالث‭ ‬مدينة‭ ‬قـــادش‭ ‬لفترة،‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها،‭ ‬والحملة‭ ‬السابعة‭ ‬كانت‭ ‬لإخضاع‭ ‬عدة‭ ‬مدن‭ ‬ساحلية‭ ‬بالشام،‭ ‬والحملة‭ ‬الثامنة‭ ‬–‭ ‬وهي‭ ‬أعظم‭ ‬حملاته‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬فيها‭ ‬بفتوحاته‭ ‬حتى‭ ‬كركميش‭ ‬واستيلائه‭ ‬على‭ ‬أراضي‭ ‬شرق‭ ‬الفرات،‭ ‬والحملة‭ ‬التاسعة‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬لزيادة‭ ‬استتباب‭ ‬سلطانه‭ ‬هناك،‭ ‬والعاشرة‭ ‬قام‭ ‬فيها‭ ‬بمعارك‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين،‭ ‬وجلب‭ ‬الجزيات‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المناطق،‭ ‬والحملة‭ ‬الثالثة‭ ‬عشرة‭ ‬لإخماد‭ ‬ثورات‭ ‬قامت‭ ‬في‭ ‬لبنان‭.‬

وفي‭ ‬آخر‭ ‬حملاته،‭ ‬زحف‭ ‬بجيشه‭ ‬على‭ ‬قادش‭ ‬مجددًا‭ ‬بسبب‭ ‬عصيان‭ ‬واستقلالية‭ ‬ملكها‭ ‬عن‭ ‬النفوذ‭ ‬المصري،‭ ‬وأحكم‭ ‬ملك‭ ‬مصر‭ ‬المخضرم‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬بكل‭ ‬سهولة‭. ‬وجاء‭ ‬ابنه‭ ‬الملك‭ ‬‮«‬أمنحتب‭ ‬الثاني‮»‬‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬محافظًا‭ ‬بدوره‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الفتوحات،‭ ‬وذهب‭ ‬لزيارة‭ ‬مدينة‭ ‬قادش‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬حكمه،‭ ‬وقدّم‭ ‬له‭ ‬أهلها‭ ‬فروض‭ ‬الولاء‭ ‬والطاعة،‭ ‬وقام‭ ‬الملك‭ ‬بعمل‭ ‬استعراض‭ ‬شخصي‭ ‬بالرماية‭ ‬أمام‭ ‬أهل‭ ‬المدينة،‭ ‬حيث‭ ‬أصاب‭ ‬هدفين‭ ‬من‭ ‬النحاس‭ ‬بسهامه‭ ‬بكل‭ ‬دقّة‭.‬

 

صراعات‭ ‬داخلية

ثم‭ ‬جاء‭ ‬عهد‭ ‬الملكين‭ ‬تحتمس‭ ‬الرابع‭ ‬وأمنحتب‭ ‬الثالث،‭ ‬وقد‭ ‬هدأت‭ ‬في‭ ‬عهدهما‭ ‬شعلة‭ ‬الروح‭ ‬الحربية‭ ‬التي‭ ‬تأججت‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الأسرة،‭ ‬وإن‭ ‬نجحا‭ ‬في‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬إرثهما‭ ‬الإمبراطوري‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬النفوذ‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬حتى‭ ‬أتى‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬إخناتون‭ ‬بعدهما،‭ ‬وتفرّغ‭ ‬لتأملاته‭ ‬ونشر‭ ‬عقيدة‭ ‬معبوده‭ ‬الأوحد‭ ‬‮«‬آتون‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬انشغاله‭ ‬في‭ ‬الصراعات‭ ‬الداخلية‭ ‬مع‭ ‬كهنة‭ ‬وأتباع‭ ‬المعبود‭ ‬السائد‭ ‬وقتها‭ ‬‮«‬آمون‮»‬،‭ ‬فأهمل‭ ‬شؤون‭ ‬البلاد‭ ‬الخارجية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬انفراط‭ ‬عقد‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬المصرية‭ ‬وإعلان‭ ‬استقلال‭ ‬غالبية‭ ‬المناطق‭ ‬والمدن‭ ‬الآسيوية‭ ‬وضمّها‭ ‬للممالك‭ ‬المجاورة‭.‬

وفي‭ ‬عهد‭ ‬خلفه‭ ‬الملك‭ ‬‮«‬توت‭ ‬عنخ‭ ‬آمون‮»‬‭ ‬تعاظمت‭ ‬قوة‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬،‭ ‬وشنّت‭ ‬حربها‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬استيلائها‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الممالك‭ ‬الآسيوية‭ ‬المتاخمة‭ ‬للحدود‭ ‬المصرية‭ ‬المتراجعة،‭ ‬وكان‭ ‬وقتها‭ ‬‮«‬حور‭ ‬محب‮»‬‭ ‬هو‭ ‬قائد‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬والوصيّ‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الفرعون‭ ‬الصغير‭.‬

ومع‭ ‬الوفاة‭ ‬المبكّرة‭ ‬للملك‭ ‬توت‭ ‬عنخ‭ ‬آمون،‭ ‬حَكَم‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬وزيره‭ ‬المدعو‭ ‬‮«‬آي‮»‬‭ ‬مدة‭ ‬وجيزة‭ ‬دون‭ ‬إنجازات‭ ‬داخلية‭ ‬أو‭ ‬خارجية‭ ‬تُذكر‭ ‬سوى‭ ‬إعادة‭ ‬الهيمنة‭ ‬الدينية‭ ‬للمعبود‭ ‬‮«‬آمون‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬اعتلى‭ ‬‮«‬حور‭ ‬محب‮»‬‭ ‬عرش‭ ‬البلاد،‭ ‬ليصبح‭ ‬خاتمة‭ ‬ملوك‭ ‬الأسرة‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬النجاح‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حليفه‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬ضد‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬،‭ ‬برغم‭ ‬حنكته‭ ‬العسكرية،‭ ‬وذلك‭ ‬لضعف‭ ‬الدولة‭ ‬وقتها‭ ‬بسبب‭ ‬استنزاف‭ ‬قوتها‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬‮«‬إخناتون‮»‬‭ ‬الديني،‭ ‬فاضطر‭ ‬إلى‭ ‬وقف‭ ‬القتال‭ ‬وعمل‭ ‬صلح‭ ‬يشوبه‭ ‬التوتر‭ ‬حتى‭ ‬عهد‭ ‬خليفته‭ ‬‮«‬رعمسيس‭ ‬الأول‮»‬‭.‬

 

عهد‭ ‬الرعامسة‭ ‬

مع‭ ‬تربّع‭ ‬رعمسيس‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬البلاد‭ ‬وتأسيسه‭ ‬الأسرة‭ ‬التاسعة‭ ‬عشرة،‭ ‬بدأ‭ ‬عهد‭ ‬الرعامسة‭ ‬الشهير،‭ ‬لكنّه‭ ‬لم‭ ‬يمكث‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬سوى‭ ‬بضعة‭ ‬أعوام‭ ‬لتقدّمه‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬وجاء‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬ابنه‭ ‬القوي‭ ‬‮«‬سيتي‭ ‬الأول‮»‬‭ ‬ملكًا‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬والذي‭ ‬احتذى‭ ‬بسيرة‭ ‬تحتمس‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬العسكرية‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬وعلى‭ ‬رأس‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬قادش‭ ‬تمهيدًا‭ ‬للحرب‭ ‬ضد‭ ‬مملكة‭ ‬خيتا‭ ‬الفتية،‭ ‬والند‭ ‬الشرس‭ ‬للإمبراطورية‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬آسيا‭. ‬والمرجّح‭ ‬أن‭ ‬‮«‬سيتي‭ ‬الأول‮»‬‭ ‬قد‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬‮«‬قادش‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬تفرّغ‭ ‬بعدها‭ ‬لبعض‭ ‬الحملات‭ ‬في‭ ‬الغرب‭.‬

وعند‭ ‬عودته‭ ‬لاستكمال‭ ‬حروبه‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬قادش‭ ‬وتقابل‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬مع‭ ‬الحيثيين‭ - ‬أهل‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ - ‬في‭ ‬موقعة‭ ‬ضخمة،‭ ‬واستولى‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأسرى‭ ‬والغنائم‭ - ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬نقوشه‭ - ‬دون‭ ‬إحراز‭ ‬انتصار‭ ‬حاسم،‭ ‬لتكافؤ‭ ‬القوتين‭ ‬المتحاربتين،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ترجيح‭ ‬فقدان‭ ‬السيطرة‭ ‬المصرية‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬قادش‭ ‬مجددًا‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عهده،‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬تقدير‭.‬

ومع‭ ‬عجز‭ ‬‮«‬سيتي‭ ‬الأول‮»‬‭ ‬عن‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الشام،‭ ‬عقد‭ ‬معاهدة‭ ‬سلام‭ ‬مع‭ ‬ملك‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬وقتها،‭ ‬وكان‭ ‬يدعى‭ ‬‮«‬مواتالو‮»‬،‭ ‬واستمرت‭ ‬تلك‭ ‬المعاهدة‭ ‬قائمة‭ ‬حتى‭ ‬وفاة‭ ‬الملك‭ ‬المصري،‭ ‬وتولّى‭ ‬الحكم‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬ابنه‭ ‬الشاب‭ ‬‮«‬رعمسيس‭ ‬الثاني‮»‬‭ ‬أشهر‭ ‬ملوك‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬1280‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭.‬

 

أصل‭ ‬بلاد‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬وبداية‭ ‬ظهور‭ ‬‮«‬قادش‮»‬

ظهر‭ ‬الحيثيون‭ ‬كشعب‭ ‬ذي‭ ‬أصول‭ ‬هندو‭ - ‬أوربية‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الأناضول‭ (‬آسيا‭ ‬الصغرى‭) ‬شمال‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬3000‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وربما‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬بداياتهم‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬الغموض‭. ‬وازدهرت‭ ‬مملكتهم‭ ‬التي‭ ‬سميّت‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2000‭ ‬وحتى‭ ‬عام‭ ‬1200‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬تقريبًا‭.‬

اتخذوا‭ ‬عاصمتهم‭ ‬‮«‬حاتوشا‮»‬‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬كشفت‭ ‬أطلاله‭ ‬بمنطقة‭ ‬‮«‬بوغاز‭ ‬كوي‮»‬‭ ‬الحالية‭ ‬شرق‭ ‬أنقرة‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬وعثر‭ ‬على‭ ‬كمّ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الألواح‭ ‬الفخارية‭ ‬كُتبت‭ ‬بالخط‭ ‬المسماري‭ ‬أظهرت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تاريخهم‭ ‬الحافل‭ ‬والزاخر‭ ‬بمعضلات‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬حلّها‭ ‬بصورة‭ ‬كاملة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬

كانت‭ ‬مدينة‭ ‬قادش‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬مملكة‭ ‬سوريّة‭ ‬قديمة‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬قطنا‮»‬‭ ‬ظهرت‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬2700‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وظهر‭ ‬اسم‭ ‬قادش‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬بالسجلات‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬كمقرّ‭ ‬لمملكة‭ ‬‮«‬قطنا‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬اجتاحتها‭ ‬مملكة‭ ‬خيتا‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬1340‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ (‬من‭ ‬ضمن‭ ‬خسائر‭ ‬الممالك‭ ‬الآسيوية‭ ‬لمصر‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬أخناتون‭).‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬قادش‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كانت‭ ‬بوابة‭ ‬الحيثيين‭ ‬نحو‭ ‬الشام‭ ‬ومصر،‭ ‬وحصنهم‭ ‬الجنوبي‭ ‬الحصين،‭ ‬وأصبحت‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬ومعها‭ ‬‮«‬ميتاني‮»‬‭ ‬أكبر‭ ‬منافستين‭ ‬لمصر‭ ‬في‭ ‬توسعاتها‭ ‬الآسيوية‭ ‬بعهد‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭.‬

وفقدت‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬قوتها‭ ‬وسلطانها‭ ‬بفعل‭ ‬موجات‭ ‬هجمات‭ ‬ضخمة‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬قبائل‭ ‬وشعوب‭ ‬البحار‭ ‬التي‭ ‬زحفت‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وهي‭ ‬الهجمات‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬صدها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الملك‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثالث‭ - ‬ثاني‭ ‬ملوك‭ ‬الأسرة‭ ‬العشرين‭ - ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬1180‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وخلّد‭ ‬ذكراها‭ ‬على‭ ‬نقوش‭ ‬معابده‭ ‬كواحدة‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬المعارك‭ ‬البحرية‭ ‬التي‭ ‬دوّنت‭ ‬وصورت‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬بل‭ ‬ووصل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬تبديل‭ ‬لفظة‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬قادش‮»‬‭ ‬في‭ ‬نقش‭ ‬لهذا‭ ‬الملك‭ ‬بمعبد‭ ‬‮«‬آمون‮»‬‭ ‬بالكرنك،‭ ‬نقله‭ ‬عن‭ ‬الملك‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬موضوع‭ ‬أسرى‭ ‬الأقوام‭ ‬المقهورة،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬بموقعة‭ ‬قادش‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬الأخير،‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬اضمحلال‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثالث‭ ‬وتفتتها‭ ‬إلى‭ ‬دويلات‭ ‬ومدن‭ ‬صغيرة‭. ‬

   

‮«‬رعمسيس‭ ‬الثاني‮»‬‭ ‬وموقعة‭ ‬‮«‬قادش‮»‬

من‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬مملكة‭ ‬خيتا‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬بدأت‭ ‬بتحريض‭ ‬أمراء‭ ‬الدويلات‭ ‬الآسيوية‭ - ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحت‭ ‬لواء‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬المصرية‭ - ‬على‭ ‬العصيان‭ ‬والثورة‭ ‬ضد‭ ‬المصريين،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬الملك‭ ‬سيتي‭ ‬الأول،‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬العام‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني،‭ ‬ووصل‭ ‬استفزاز‭ ‬الحيثيين‭ ‬أقصاه،‭ ‬فجهّز‭ ‬الملك‭ ‬المصري‭ ‬الشاب‭ ‬جيشًا‭ ‬قدّره‭ ‬المؤرخون‭ ‬بحوالي‭ ‬20‭ ‬ألف‭ ‬مقاتل،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬ذكرت‭ ‬بعض‭ ‬المصادر‭ ‬أن‭ ‬أعداد‭ ‬جيش‭ ‬خيتا‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬37‭ ‬ألف‭ ‬مقاتل،‭ ‬حيث‭ ‬اعتمد‭ ‬الحيثيون‭ ‬على‭ ‬جنود‭ ‬مرتزقة‭ ‬بأعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬بحر‭ ‬‮«‬إيجة‮»‬‭ ‬وممالك‭ ‬آسيا‭ ‬الصغرى‭ ‬والفرات‭ ‬بجانب‭ ‬جنود‭ ‬بلادهم‭.‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كانت‭ ‬مدينة‭ ‬قادش‭ ‬قد‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬السيطرة‭ ‬المصرية،‭ ‬لتصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬خيــتا‮»‬‭ ‬المعادية،‭ ‬وأصـــبح‭ ‬الوضع‭ ‬خطيرًا‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الشـــرقية‭ ‬لــحدود‭ ‬مصر،‭ ‬حيــث‭ ‬تعدّ‭ ‬تلك‭ ‬المديـــنة‭ ‬رمانـــة‭ ‬ميــــزان‭ ‬النفـــوذ‭ ‬فـــــي‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬وقد‭ ‬أدرك‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬خطورة‭ ‬الموقف،‭ ‬سواء‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أمن‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬تأمين‭ ‬عرشه،‭ ‬فعمل‭ ‬على‭ ‬إتمام‭ ‬مقر‭ ‬للحكم‭ ‬بالدلتا،‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬الآسيوية،‭ ‬وهي‭ ‬مدينة‭ ‬برعمسيس،‭ ‬عندها‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بتلك‭ ‬المعركة‭ ‬المصيرية‭.‬

وقد‭ ‬أفرد‭ ‬الملك‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬تفاصيل‭ ‬وقائعها‭ ‬وتصوير‭ ‬مشاهدها‭ ‬على‭ ‬نقوش‭ ‬خمسة‭ ‬معابد‭ ‬مهمة‭ ‬بجنوب‭ ‬مصر‭ (‬أبيدوس‭ ‬والكرنك‭ ‬والأقصر‭ ‬والرمسيوم‭ ‬وأبو‭ ‬سمبل‭)‬،‭ ‬وذكر‭ ‬بطولات‭ ‬أسطورية‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬هو‭ ‬وفيالق‭ ‬جيشه،‭ ‬حتى‭ ‬تمّ‭ ‬له‭ ‬النصر‭ ‬الكبير‭. ‬ومع‭ ‬اكتشاف‭ ‬مصادر‭ ‬وثائق‭ ‬الحيثيين‭ ‬بعاصمتهم‭ ‬القديمة،‭ ‬والتي‭ ‬تتحدث‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬عن‭ ‬فوز‭ ‬ضخم‭ ‬ضد‭ ‬المصريين،‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬المحقق‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬تحدث‭ ‬الغلبة‭ ‬لأي‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬موقعة‭ ‬قادش‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭ ‬بالتعادل‭ ‬بينهما‭.‬

وأن‭ ‬انتصار‭ ‬‮«‬رعمسيس‭ ‬الثاني‮»‬‭ ‬الحقيقي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬إنقاذه‭ ‬لنفسه‭ ‬وبقية‭ ‬جيشه‭ ‬من‭ ‬مكيدة‭ ‬وحصار‭ ‬وقع‭ ‬فيهما‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬القتال،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يحسب‭ ‬للحيثيين‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬قادش‭ ‬تحت‭ ‬سيطرتهم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬المصريين‭.‬

وبعد‭ ‬حوالي‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬المناوشات‭ ‬بين‭ ‬البلدين،‭ ‬قام‭ ‬خلالها‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الضربات‭ ‬المؤثرة‭ ‬وأعمال‭ ‬الحصار‭ ‬لعديد‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الآسيوية‭ - ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬حملاته‭ ‬الناجحة‭ ‬ببلاد‭ ‬النوبة‭ ‬جنوبًا‭ ‬وحروبه‭ ‬الحاسمة‭ ‬ضد‭ ‬أقوام‭ ‬البحار‭ ‬شمالاً‭ - ‬ومع‭ ‬موت‭ ‬الملك‭ ‬العنيد‭ ‬‮«‬مواتالو‮»‬‭ ‬وتعاظُم‭ ‬قوى‭ ‬الآشوريين‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬تم‭ ‬عقد‭ ‬معاهدة‭ ‬سلام‭ ‬رسمية‭ ‬بين‭ ‬ملك‭ ‬مصر‭ ‬وملك‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬الحكيم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدعى‭ ‬‮«‬حاتوشيل‮»‬‭ - ‬ليتفرغ‭ ‬الأخير‭ ‬لمواجهة‭ ‬آشور‭ ‬المجاورة‭ ‬له‭ - ‬وعاش‭ ‬بعدها‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الهدوء‭ ‬التام‭ ‬مع‭ ‬الحيثيين،‭ ‬ولم‭ ‬تجسر‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬آسيوية‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬منازلته‭ ‬بعد‭ ‬إبرام‭ ‬تلك‭ ‬المعاهدة‭ ‬الشهيرة‭.‬

 

مصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬رعمسيس‭ ‬الثاني‮»‬

ترك‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬المملكة‭ ‬المصرية‭ ‬لابنه‭ ‬بعد‭ ‬حكم‭ ‬دام‭ ‬سبعة‭ ‬وستين‭ ‬عامًا،‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬بداخلها‭ ‬بذور‭ ‬الضعف،‭ ‬فقامت‭ ‬الثورات‭ ‬بالممالك‭ ‬المصرية‭ ‬المتبقية‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬وأغار‭ ‬الليبيون‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الغرب،‭ ‬وظهرت‭ ‬مطامع‭ ‬شعوب‭ ‬وأقوام‭ ‬البحار،‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬خروج‭ ‬الجيوش‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬ثكناتها‭ ‬مدة‭ ‬طويلة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جنح‭ ‬المصريون‭ ‬والحيثيون‭ ‬للسلام‭.‬

كما‭ ‬أسرف‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬استهلاك‭ ‬موارد‭ ‬البلاد‭ ‬لإشباع‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬الخلود‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إقامة‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬المنشآت‭ ‬باسمه‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬المملكة‭ ‬كافة،‭ ‬فنضبت‭ ‬أموال‭ ‬مصر‭ ‬بنهاية‭ ‬حكمه،‭ ‬وورث‭ ‬ابنه‭ ‬المسنّ‭ ‬الملك‭ ‬‮«‬مرنبتاح‮»‬‭ ‬تركة‭ ‬صعبة‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬مفلسة‭ ‬وحدود‭ ‬تحت‭ ‬الحصار‭ ‬والتهديد‭.‬

وما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬الحال‭ ‬ضعف‭ ‬وبداية‭ ‬انهيار‭ ‬دولة‭ ‬الحيثيين‭ ‬الحليفة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬صاحبة‭ ‬سيادة‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬ولايات‭ ‬آسيا‭ ‬الصغرى،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الصغار‭ ‬يطمعون‭ ‬في‭ ‬الكبار‭.‬

وقد‭ ‬ترك‭ ‬مرنبتاح‭ ‬نقوشًا‭ ‬على‭ ‬لوحتين‭ ‬تذكاريتين‭ ‬بالمتحف‭ ‬المصري‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬إحداهما‭ ‬من‭ ‬الجرانيت‭ ‬الوردي،‭ ‬والأخرى‭ ‬من‭ ‬الجرانيت‭ ‬الأسود،‭ ‬ويعدّد‭ ‬الملك‭ ‬فيهما‭ ‬انتصاراته‭ ‬الحربية،‭ ‬وكيف‭ ‬دحر‭ ‬زحف‭ ‬الليبيين‭ ‬وأقوام‭ ‬البحار،‭ ‬واستولى‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬وسورية‭.‬

ومع‭ ‬تقدّمه‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬وضعف‭ ‬البلاد،‭ ‬أصبح‭ ‬هناك‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬إثبات‭ ‬صحة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬بالنقوش،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬مرنبتاح‭ ‬قد‭ ‬اغتصب‭ ‬اللوحة‭ ‬الجرانيتية‭ ‬السوداء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬للملك‭ ‬أمنحتب‭ ‬الثالث،‭ ‬ونقش‭ ‬مرسومه‭ ‬على‭ ‬ظهرها،‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬إفلاس‭ ‬مريع‭ ‬في‭ ‬عهده،‭ ‬ومن‭ ‬المحتمل‭ ‬قيامه‭ ‬بنقل‭ ‬أسماء‭ ‬الأمم‭ ‬المقهورة‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬أسلافه‭ ‬الفاتحين،‭ ‬لكنّ‭ ‬المرجح‭ ‬أنه‭ ‬قام‭ ‬بحروب‭ ‬فعليّة‭ ‬ضد‭ ‬الليبيين،‭ ‬لذكره‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬المواجهات‭ ‬على‭ ‬نقش‭ ‬من‭ ‬أطول‭ ‬الوثائق‭ ‬المصرية‭ ‬المحفوظة‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬عند‭ ‬البوابة‭ ‬السابعة‭ ‬بمعبد‭ ‬الكرنك‭ ‬بالأقصر‭.‬

ويظل‭ ‬من‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬مرنبتاح‭ ‬ضمن‭ ‬أضعف‭ ‬حكام‭ ‬مصر‭ ‬القديمة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬التطاحن‭ ‬على‭ ‬العرش‭ ‬شاغلهم‭ ‬الرئيسي،‭ ‬حتى‭ ‬مقابرهم‭ ‬كانوا‭ ‬يغتصبونها‭ ‬من‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬وبهم‭ ‬انتهت‭ ‬الأسرة‭ ‬التاسعة‭ ‬عشرة‭ ‬بفاجعة‭ ‬أليمة،‭ ‬وهي‭ ‬اعتلاء‭ ‬حكم‭ ‬مصر‭ ‬آسيوي‭ ‬مجهول‭ ‬السيرة‭ ‬يدعى‭ ‬‮«‬إرسو‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬المصريون‭ ‬بتملّك‭ ‬زمام‭ ‬السيطرة‭ ‬سريعًا‭ ‬وعودة‭ ‬الحُكم‭ ‬لأبناء‭ ‬الوطن‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الملك‭ ‬‮«‬ستنخت‮»‬‭ ‬مؤسس‭ ‬الأسرة‭ ‬العشرين،‭ ‬ووالد‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثالث‭ ‬آخر‭ ‬الملوك‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭.‬

أما‭ ‬ممالك‭ ‬مصر‭ ‬الآسيوية‭ ‬فيبدو‭ ‬أنها‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬منذ‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬ولم‭ ‬يظهر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ملك‭ ‬مصري‭ ‬فاتح‭ ‬مثل‭ ‬تحتمس‭ ‬الثالث‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭.‬

وأصبحت‭ ‬‮«‬كركميش‮»‬‭ ‬و«قادش‮»‬‭ ‬و«مجدو‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬والممالك‭ ‬الآسيوية‭ ‬المهمة‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬مجيد‭ ‬لإمبراطورية‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬انتهى‭ ‬بلا‭ ‬رجعة‭. 

 

أهمية‭ ‬‮«‬قادش‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬ملوك‭ ‬مصر‭ ‬القديمة

عند‭ ‬ظهور‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬بشكلها‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الرابعة‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬أنداد‭ ‬بالمنطقة‭ ‬سوى‭ ‬حضارة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭ ‬بالعراق،‭ ‬ومع‭ ‬اتّساع‭ ‬الرقعة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬الحضارتين‭ ‬وبدائية‭ ‬الأصقاع‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬حولهما،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المواجهات‭ ‬والمنافسات‭ ‬محتومة‭.‬

كانت‭ ‬مصر‭ ‬خلال‭ ‬الدولتين‭ ‬القديمة‭ ‬والوسطي‭ ‬آمنة‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬شبه‭ ‬ثابتة‭ ‬ساعدتها‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الموانع‭ ‬الجغرافية،‭ ‬حيث‭ ‬الشمال‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬والغرب‭ ‬الصحراء‭ ‬الليبية،‭ ‬والجنوب‭ ‬شلالات‭ ‬النوبة،‭ ‬والشرق‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬وصحراء‭ ‬سيناء‭.‬

وكانت‭ ‬الحملات‭ ‬تخرج‭ ‬إما‭ ‬سلميّة‭ ‬للتجارة‭ ‬وجلب‭ ‬المعادن‭ ‬والأحجار،‭ ‬أو‭ ‬عسكرية‭ ‬لتأمين‭ ‬الطرق‭ ‬والحدود‭.‬

ولكن‭ ‬مع‭ ‬تقدّم‭ ‬الزمن‭ ‬وتغيّر‭ ‬الظروف‭ ‬تطورت‭ ‬حضارات‭ ‬وممالك،‭ ‬وسقطت‭ ‬أخـــرى،‭ ‬وظهر‭ ‬أقوام‭ ‬حول‭ ‬مصر‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬مجتمعات‭ ‬بسيطة‭ ‬تسعى‭ ‬للعيش‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬خيرات‭ ‬وادي‭ ‬النيل‭.‬

فبلاد‭ ‬النوبة‭ ‬ظهرت‭ ‬لها‭ ‬ثقافات‭ ‬متميزة‭ ‬وتقدّم‭ ‬حضاري‭ ‬ملموس،‭ ‬وسكان‭ ‬الصحراء‭ ‬الليبية‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬فترات‭ ‬قوة‭ ‬أقلقت‭ ‬ملوك‭ ‬مصر‭ ‬والشام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬تجاري‭ ‬شبه‭ ‬دائم‭ ‬بمصر،‭ ‬لتوافر‭ ‬الثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أخشاب‭ ‬وغيرها،‭ ‬حتى‭ ‬الشمال‭ ‬كان‭ ‬زاخرًا‭ ‬بقبائل‭ ‬وشعوب‭ ‬البحار‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطمع‭ ‬في‭ ‬الاستقرار‭ ‬بالأودية‭ ‬الخصيبة‭.‬

ولم‭ ‬ينسَ‭ ‬المصريون‭ ‬القدماء‭ ‬صدمتهم‭ ‬الكبرى‭ ‬لدى‭ ‬تولّي‭ ‬الهكسوس‭ ‬حكم‭ ‬البلاد‭ ‬وسيطرتهم‭ ‬عليها‭ ‬لثلاث‭ ‬أسر‭ ‬كاملة‭ (‬في‭ ‬فترة‭ ‬تجاوزت‭ ‬المئة‭ ‬عام‭) ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬الوسطى‭.‬

وعليه،‭ ‬فور‭ ‬إقصائهم‭ ‬وطردهم‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬وقيام‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬القوية،‭ ‬كان‭ ‬تأمين‭ ‬الجانب‭ ‬الشرقي‭ ‬بآسيا‭ ‬ركنًا‭ ‬أساسيًّا‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬الملك‭ ‬المصري،‭ ‬وكانت‭ ‬قادش‭ ‬هي‭ ‬الحصان‭ ‬الأسود‭ ‬والموقع‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يضع‭ ‬الملك‭ ‬سيطرته‭ ‬عليه‭ ‬حتى‭ ‬يشعر‭ ‬بأنه‭ ‬امتلك‭ ‬الباب‭ ‬السحري‭ ‬للتوسّع‭ ‬الآسيوي‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الفتوحات،‭ ‬أو‭ ‬الإغلاق‭ ‬والمنع‭ ‬حال‭ ‬القلاقل‭ ‬والتأمين‭ ‬والتقاط‭ ‬الأنفاس‭.‬

ولم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الحملات‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ ‬الآسيوية‭ ‬استعراضًا‭ ‬للقوة‭ ‬والتأديب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سبب،‭ ‬أو‭ ‬حبًّا‭ ‬للزهو‭ ‬وتملُّك‭ ‬الأصقاع‭ ‬المترامية‭ ‬بشهوة‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭.‬

‭ ‬فقد‭ ‬رأينا‭ ‬الملك‭ ‬تحتمس‭ ‬الأول‭ ‬يتمدد‭ ‬في‭ ‬فتوحاته‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬وذلك‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬فلول‭ ‬الهكسوس،‭ ‬وتحتمس‭ ‬الثالث‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بالهجوم‭ ‬كخير‭ ‬وسيلة‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬إمبراطوريته‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬ممالك‭ ‬قوية‭ ‬بآسيا‭ ‬وقتها‭.‬

كما‭ ‬نجد‭ ‬رعمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬يقوم‭ ‬بذات‭ ‬الفتوحات‭ ‬لوقف‭ ‬الزحف‭ ‬الخيتي‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬و«رعمسيس‭ ‬الثالث‮»‬‭ ‬آخر‭ ‬ملوك‭ ‬مصر‭ ‬الفاتحين‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬محاصرة‭ ‬المدن‭ ‬بالشام،‭ ‬لتشتيت‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أقوام‭ ‬البحار‭ ‬الذين‭ ‬هجموا‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬و«خيتا‮»‬‭ ‬كالجراد‭. ‬

ومع‭ ‬انتهاء‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬دخلت‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ضمور‭ ‬حضاري‭ ‬تدريجي،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬إمبراطورية،‭ ‬فأصبح‭ ‬الملك‭ ‬المصري‭ ‬يصارع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬شطري‭ ‬البلاد‭ ‬القبلي‭ ‬والبحري‭ ‬تحت‭ ‬سلطانه،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بأحدهما،‭ ‬وصار‭ ‬وجود‭ ‬بلاد‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬تحت‭ ‬السيطرة‭ ‬المصرية‭ ‬أمرًا‭ ‬بالغ‭ ‬الصعوبة‭ ‬ولا‭ ‬يستمر‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭.‬

وبدأت‭ ‬عهود‭ ‬الأسر‭ ‬الحاكمة‭ ‬غير‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬ليبيا‭ ‬والسودان،‭ ‬تخللتها‭ ‬فترات‭ ‬قصيرة‭ ‬من‭ ‬أُسر‭ ‬مصرية‭ ‬مستقلة،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬سقطت‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬الآشوري‭ ‬أو‭ ‬الفارسي‭.‬

 

نهاية‭ ‬‮«‬قادش‮»‬‭ ‬وشرق‭ ‬أدنى‭ ‬قديم‭/ ‬جديد

انتهت‭ ‬أسطورة‭ ‬وأهمية‭ ‬مدينة‭ ‬قادش‭ ‬مع‭ ‬هجوم‭ ‬قبائل‭ ‬البحر‭ ‬على‭ ‬الممالك‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬بالقرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وابتلعت‭ ‬مملكة‭ ‬آشور‭ ‬القوية‭ ‬‮«‬كركميش‮»‬‭ ‬و«مجدو‮»‬‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الاستراتيجية‭.‬

وتغيّر‭ ‬شكل‭ ‬الخريطة‭ ‬بالمنطقة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬فكانت‭ ‬أشبه‭ ‬بشرق‭ ‬أدنى‭ ‬قديم‭/ ‬جديد،‭ ‬فتمّ‭ ‬تفتيت‭ ‬ممالك‭ ‬كبرى‭ ‬وتدمير‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المدن،‭ ‬وبرزت‭ ‬قوى‭ ‬جديدة‭.‬

سقطت‭ ‬‮«‬خيتا‮»‬‭ ‬وخُربت‭ ‬‮«‬ميتاني‮»‬‭ ‬وهَرِمت‭ ‬مصر،‭ ‬وسَطَعَت‭ ‬قوة‭ ‬الآشوريين‭ ‬والبابليين‭ ‬وظهرت‭ ‬مدنية‭ ‬العبرانيين‭.‬

حاولت‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الأسرات‭ ‬المتأخرة‭ ‬فرض‭ ‬نفوذها‭ ‬على‭ ‬ممالك‭ ‬آسيا،‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬يائسة‭ ‬لعودة‭ ‬الهيمنة‭ ‬المصرية‭ ‬عليها،‭ ‬فالملك‭ ‬‮«‬شيشنق‭ ‬الأول‮»‬‭ ‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬الثانية‭ ‬والعشرين‭ ‬الليبية،‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬حملة‭ ‬ضخمة‭ ‬واستثنائية‭ ‬بفلسطين،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬اندثر‭ ‬صداها‭ ‬بضعف‭ ‬مَن‭ ‬خلفوه‭ ‬على‭ ‬العرش‭.‬

و«تهراقا‮»‬‭ ‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬الخامسة‭ ‬والعشرين‭ ‬الكوشية،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬العظماء‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬حكموا‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬عهودها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬الإخفاق‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نصيبه‭ ‬بحملات‭ ‬آسيا‭ ‬لتفوّق‭ ‬الآشوريين‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭.‬

والملك‭ ‬نكاو‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬السادسة‭ ‬والعشرين‭ ‬المصرية،‭ ‬الذي‭ ‬انتصر‭ ‬على‭ ‬العبرانيين‭ ‬بمدينة‭ ‬مجدو،‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬ضم‭ ‬فلسطين‭ ‬وسورية‭ ‬لفترة‭ ‬قصيرة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُهزم‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬البابليين،‭ ‬وتفقد‭ ‬مصر‭ ‬كل‭ ‬ممالكها‭ ‬الآسيوية‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬605‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭. ‬وقامت‭ ‬محاولات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أخلاف‭ ‬‮«‬نكاو‭ ‬الثاني‮»‬،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ذات‭ ‬شأن‭ ‬يُذكر‭.‬

ومع‭ ‬سقوط‭ ‬مملكة‭ ‬بابل‭ ‬وظهور‭ ‬إمبراطورية‭ ‬الفرس،‭ ‬ازداد‭ ‬ضعف‭ ‬مصر‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬حضارية‭ ‬حرجة‭.‬

واحتل‭ ‬الجيش‭ ‬الفارسي‭ ‬أرض‭ ‬وادي‭ ‬النيل‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬525‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وبحكم‭ ‬ملوكهم‭ ‬بدأت‭ ‬الأسرة‭ ‬السابعة‭ ‬والعشرين،‭ ‬ونجح‭ ‬المصريون‭ ‬ببسالة‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬البلاد‭ ‬منهم‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬400‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وتأسيس‭ ‬آخر‭ ‬ثلاث‭ ‬أسر‭ ‬مصرية‭ ‬حاكمة،‭ ‬والتي‭ ‬صارعت‭ ‬بيأس‭ ‬القوتين‭ ‬الكبيرتين‭ ‬بالعالم‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وهما‭ ‬الفرس‭ ‬والإغريق،‭ ‬ليتم‭ ‬بعدها‭ ‬الاحتلال‭ ‬الفارسي‭ ‬الثاني‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬343‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬لينتهي‭ ‬تمامًا‭ ‬عهد‭ ‬الأسرات‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬بدخول‭ ‬الإسكندر‭ ‬الأكبر‭ ‬لمصر‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬332‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭.‬

 

معنى‭ ‬‮«‬قادش‮»‬‭ ‬وأصلها‭ ‬بمصر‭ ‬القديمة

ونعود‭ ‬أخيرًا‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬قادش‮»‬‭ ‬لبيان‭ ‬أصلها‭ ‬ومعناها،‭ ‬إذ‭ ‬تنسب‭ ‬الكلمة‭ ‬إلى‭ ‬المعبودة‭ ‬الكنعانية‭ ‬قادش،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُعبد‭ ‬بالمدينة‭.‬

وقد‭ ‬انتقلت‭ ‬عبادتها‭ ‬لمصر‭ ‬القديمة‭ ‬عهد‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬بعد‭ ‬ضم‭ ‬أراضي‭ ‬الشام‭ ‬لإمبراطورية‭ ‬وادي‭ ‬النيل،‭ ‬لتدخل‭ ‬تلك‭ ‬المعبودة‭ ‬الآسيوية‭ ‬في‭ ‬زمرة‭ ‬المعبودات‭ ‬المصريات،‭ ‬والمحتمل‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تلفظ‭ ‬بالمصرية‭ ‬‮«‬قاتيشا‮»‬،‭ ‬وتشكّلت‭ ‬في‭ ‬النقوش‭ ‬والرسوم‭ ‬بهيئة‭ ‬امرأة‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬أسد،‭ ‬ورمز‭ ‬لها‭ ‬بالخصوبة‭.‬

ولفظة‭ ‬‮«‬قادش‮»‬‭ ‬أتت‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬الكلمة‭ ‬الكنعانية‭ ‬‮«‬قَـدِشَ‮»‬‭ ‬بمعنى‭ ‬مُقدّس،‭ ‬لتكون‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬بحقّ‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المغانم‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬و«قُـدسُ‮»‬‭ ‬فراعنة‭ ‬مصر‭ ‬الفاتحين‭ ‬■

تحتمس‭ ‬الثالث‭ ‬صانع‭ ‬الامبراطورية‭ ‬المصرية(‬تمثال‭ ‬من‭ ‬متحف‭ ‬الأقصر)‭

تحتمس‭ ‬الأول‭... ‬أول‭ ‬الفاتحين‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬لقلب‭ ‬آسيا‭ - ‬رأس‭ ‬تمثال‭ ‬بالمتحف‭ ‬البريطاني