إيليا أبو ماضي شاعر الحكمة والتأمّل والحَنين

إيليا أبو ماضي شاعر الحكمة والتأمّل والحَنين

الأدب المهجري هو النصوص الأدبية من شِعر ونثر، التي خلّفها في المهاجر الأدباء والشعراء، خاصة من اللبنانيين وبعض السوريين، أغلبهم من مدينة حمص، والتي كُتبت في بلدان أمريكا الشمالية - في نيويورك خاصة - وأمريكا الجنوبية، بالبرازيل في سان باولو، وبالأرجنتين في بوينس آيرس.
أسس بعض هؤلاء الشعراء والأدباء في بلاد الاغتراب عشرات الجرائد والمجلات التي كانت تنشر نتاجهم في المهجر.
ويرتكز الشعر المهجري على ثلاثة أعمدة؛ الحرية، والحب (حب الحياة وحب الوطن) والحنين.

 

يعتبر‭ ‬الشاعر‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي،‭ (‬الذي‭ ‬تمر‭ ‬130‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬رحيله‭) ‬أحد‭ ‬أكبر‭ ‬شعراء‭ ‬المهجر،‭ ‬ومن‭ ‬أبرز‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرين‭. ‬ولد‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬المحيدثة‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬بكفيّا‭/ ‬لبنان،‭ ‬سنة‭ ‬1889،‭ ‬حيث‭ ‬تلقّى‭ ‬علومه‭ ‬الابتدائية،‭ ‬ثم‭ ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ - ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬والكّتاب‭ ‬والصحفيين‭ ‬اللبنانيين‭ ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬ومطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬–‭ ‬ونزل‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬عام‭ ‬1900،‭ ‬حيث‭ ‬مكث‭ ‬إحدى‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭.‬

أصدر‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬تذكار‭ ‬الماضي‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يهاجر‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬عام‭ ‬1911‭. ‬وفي‭ ‬مصر‭ ‬بدأت‭ ‬موهبته‭ ‬الشعريّة‭ ‬تتفتح،‭ ‬وكان‭ ‬للأديب‭ ‬اللبناني‭ ‬أنطون‭ ‬الجميّل،‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬اكتشافها‭ ‬ونشر‭ ‬بعض‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬مجلته‭ ‬‮«‬الزهور‮»‬‭ (‬1910‭ - ‬1913‭) ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬مصر‭.‬

في‭ ‬مصر،‭ ‬عمل‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬في‭ ‬حقلي‭ ‬التجارة‭ ‬والصحافة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يهاجر‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬سنسناتي‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬حيث‭ ‬أمضى‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬ثم‭ ‬يقرّر‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬ليستقرّ‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬سنة‭ ‬1916،‭ ‬ويواصل‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬نظم‭ ‬الشعر‭ ‬والاتصال‭ ‬بالأدباء‭ ‬والكتّاب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الصحف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬هناك،‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬زحلة‭ ‬الفتاة‮»‬‭ ‬و«مرآة‭ ‬الغرب‮»‬‭. ‬

ثم‭ ‬أصدر‭ ‬ديوانه‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬ديوان‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1919،‭ ‬مما‭ ‬حقّق‭ ‬له‭ ‬شهرة‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الاغتراب،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭. ‬

ثمّ‭ ‬صدر‭ ‬ديوانه‭ ‬الثالث‭ ‬‮«‬الجداول‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1927،‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭: ‬‮«‬فبين‭ ‬هذه‭ ‬الجداول‭ ‬ما‭ ‬تنسكب‭ ‬معه‭ ‬روحي‭ ‬مترقرقة،‭ ‬مترنمة،‭ ‬مطمئنة،‭ ‬جذلة‭ ‬بنور‭ ‬في‭ ‬عينيها،‭ ‬وجمال‭ ‬على‭ ‬جانبيها‭. ‬مرِحة‭ ‬بِحُريِّة‭ ‬لا‭ ‬أرصاد‭ ‬عليها‭ ‬ولا‭ ‬قيود،‭ ‬ومدى‭ ‬لا‭ ‬آفاق‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬حدود‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1929‭ ‬أصدر‭ ‬‮«‬السمير‮»‬،‭ ‬وجعلها‭ ‬مجلة‭ ‬نصف‭ ‬شهرية،‭ ‬ثمّ‭ ‬يومية،‭ ‬شعارها‭:‬

أنا‭ ‬لا‭ ‬أُهدي‭ ‬إليكم‭ ‬ورقًا

غيركم‭ ‬يرضى‭ ‬بحبرٍ‭ ‬وورقْ

إنما‭ ‬أُهدي‭ ‬إلى‭ ‬أرواحكم

فِكَرًا‭ ‬تبقى‭ ‬متى‭ ‬الطِّرس‭ ‬احترقْ

 

ترك‭ ‬الشاعر‭ ‬وطنه‭ ‬مرغمًا‭ ‬حاقدًا‭ ‬شاكيًا‭ ‬ومتألمًا‭ ‬لما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬حاله‭ ‬من‭ ‬التردّي‭. ‬يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬وداع‭ ‬وشكوى‮»‬‭ ‬أرسلها‭ ‬من‭ ‬أمريكا‭ ‬إلى‭ ‬مجلة‭ ‬الزهور‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬الجزء‭ ‬الرابع‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬1912‭ (‬ص‭ ‬199‭ - ‬200‭)‬،‭ ‬ومنشورة‭ ‬بتوسّع‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‮»‬‭ (‬ص‭ ‬510‭ ‬–‭ ‬516‭):‬

وطن‭ ‬أردناه‭ ‬على‭ ‬حُبّ‭ ‬العُلا

فأبى‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يستكينَ‭ ‬إلى‭ ‬الشّقا

وطنٌ‭ ‬يضيقُ‭ ‬الحرُّ‭ ‬ذرعًا‭ ‬عنده

وتراه‭ ‬بالأحرار‭ ‬ذرعًا‭ ‬أضيقا

مشتِ‭ ‬الجهالةُ‭ ‬فيه‭ ‬تسحبُ‭ ‬ذيلها

تيهًا،‭ ‬وراحَ‭ ‬العلمُ‭ ‬يمشي‭ ‬مُطرقا

 

متأملًا‭ ‬أن‭ ‬تتحسن‭ ‬حاله‭ ‬في‭ ‬‮«‬الدنيا‭ ‬الجديدة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬هاجر‭ ‬إليها‭ ‬عساه‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬السعادة،‭ ‬ولكن‭ ‬هيهات،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬الشقاء‭.‬

إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي،‭ ‬شاعر‭ ‬التأمل‭ ‬والتساؤل‭ ‬والتفاؤل‭ ‬والحنين‭. ‬يتأمل‭ ‬الطبيعة‭ ‬ومظاهرها‭ ‬ويتتبَّع‭ ‬أسرارها‭. ‬في‭ ‬شعره‭ ‬نزعة‭ ‬إنسانية‭ ‬ودعوة‭ ‬إلى‭ ‬تقديس‭ ‬الجمال‭. ‬يختصر‭ ‬دعوته‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬كنْ‭ ‬جميلًا‭ ‬ترَ‭ ‬الوجودَ‭ ‬جميلا‮»‬‭. ‬من‭ ‬قصيدته‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

أيّهذا‭ ‬الشّاكي‭ ‬وما‭ ‬بك‭ ‬داءٌ

كيف‭ ‬تغدو‭ ‬إذا‭ ‬غدوتَ‭ ‬عليلا؟

إنّ‭ ‬شرّ‭ ‬الجُناةِ‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬نفسٌ

تتوقّى،‭ ‬قبل‭ ‬الرّحيل،‭ ‬الرّحيلا

والذي‭ ‬نفسه‭ ‬بغيرِ‭ ‬جَمالٍ

لا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الوجودِ‭ ‬شيئًا‭ ‬جميلًا

أيّهذا‭ ‬الشّاكي‭ ‬وما‭ ‬بك‭ ‬داءً

كُنْ‭ ‬جميلًا،‭ ‬تَرَ‭ ‬الوجودَ‭ ‬جميلا

 

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬عِشْ‭ ‬للجمال‮»‬‭ ‬يقول‭:‬

عِشْ‭ ‬للجمال‭ ‬تراه‭ ‬هَهُنا‭ ‬وهُنا

وعش‭ ‬له‭ ‬وهو‭ ‬سرٌّ‭ ‬جدُّ‭ ‬مكنونِ

خيرٌ‭ ‬وأَفضلُ‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬حنينَ‭ ‬لهم

إلى‭ ‬الجمالِ،‭ ‬تماثيلٌ‭ ‬من‭ ‬الطينِ

 

إلى‭ ‬دعوته‭ ‬للجمال،‭ ‬فهو‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الحبّ‭. ‬فالحبُّ‭ ‬أحلى‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬ولولاه‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الكونُ‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬اتّساع‭ ‬وتناغم‭ ‬وتماسك‭.‬

يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬ليل‭ ‬الأشواق‮»‬‭:‬

فإذا‭ ‬الحبّ‭ ‬كالفضاء،‭ ‬وقلبي

طائٌر‭ ‬في‭ ‬الفضاءِ‭ ‬ضلَّ‭ ‬وتاها

إنَّ‭ ‬نفسًا‭ ‬لم‭ ‬يُشرقِ‭ ‬الحبُّ‭ ‬فيها

هي‭ ‬نفسٌ‭ ‬لمْ‭ ‬تدرِ‭ ‬ما‭ ‬معناها

أنا‭ ‬بالحبِّ‭ ‬قد‭ ‬وصَلتُ‭ ‬إلى‭ ‬نفـ

سي،‭ ‬وبالحبِّ‭ ‬قد‭ ‬عَرَفتُ‭ ‬الله‭!‬

 

كما‭ ‬يدعو‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يبتسم‭ ‬مهما‭ ‬قسَت‭ ‬عليه‭ ‬الحياة،‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬ابتسم‮»‬‭:‬

قال‭: ‬‮«‬السماءُ‭ ‬كئيبةٌ‭!‬‮»‬‭ ‬وتجهَّما

قلتُ‭: ‬ابتسم،‭ ‬يكفي‭ ‬التجهّمُ‭ ‬في‭ ‬السما‭!‬

قلتُ‭: ‬ابتسم‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬بينك‭ ‬والردى

شبرٌ،‭ ‬فإنك‭ ‬بعدُ‭ ‬لن‭ ‬تتبسّما‭!‬

 

حب‭ ‬الوطن

إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه،‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬حنينًا‭ ‬وحبًا‭ ‬لوطنه‭ ‬لبنان‭ ‬الذي‭ ‬يتغَنّى‭ ‬به،‭ ‬ويصوِّر‭ ‬حياة‭ ‬المهاجرين‭ ‬الذين‭ ‬اضطروا‭ ‬إلى‭ ‬تركه‭ ‬والعيش‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنه،‭ ‬يكافحون‭ ‬في‭ ‬الغربة‭.‬

يقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬شبح‮»‬‭:‬

لبنانُ‭! ‬لا‭ ‬تعذل‭ ‬بنيك‭ ‬إذا‭ ‬هُمُ

ركبوا‭ ‬إلى‭ ‬العلياء‭ ‬كلّ‭ ‬سفينِ

لم‭ ‬يهجروكَ‭ ‬ملالةً‭ ‬لكنّهم

خلقوا‭ ‬لصيد‭ ‬اللؤلوّ‭ ‬المكنونِ

لمّا‭ ‬ولدتهم‭ ‬نسورًا‭ ‬حلّقوا

لا‭ ‬يقنعون‭ ‬من‭ ‬العُلا‭ ‬بالدونِ

والنسر‭ ‬لا‭ ‬يرضى‭ ‬السجونَ‭ ‬وإن‭ ‬تكُن

ذهبًا،‭ ‬فكيف‭ ‬محاسن‭ ‬من‭ ‬طينِ؟

الأرض‭ ‬للحشرات‭ ‬تزحفُ‭ ‬فوقها

والجوّ‭ ‬للبازي‭ ‬وللشاهينِ

 

هذا‭ ‬الاغتراب‭ ‬وهذه‭ ‬الهجرة‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬سهلين‭ ‬على‭ ‬المهاجرين‭ ‬اللبنانيين‭. ‬كانت‭ ‬حياتهم‭ ‬ملحمة‭ ‬مريرة‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬فقر‭ ‬وحرمان،‭ ‬وذلّ‭ ‬واحتقار‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬غريبة‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬لغتها‭ ‬وعاداتها،‭ ‬وعُرفوا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬التوركو‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬الأتراك،‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭.‬

يصف‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬حياتهم‭ ‬فيقول‭:‬

نحن‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬تائهون‭ ‬كأنّا

قومُ‭ ‬موسى‭ ‬في‭ ‬الليلةِ‭ ‬الليلاءِ

ضعفاءُ‭ ‬مُحقّرون‭ ‬كأنّا

من‭ ‬ظلامٍ‭ ‬والناسُ‭ ‬من‭ ‬لألاءِ

واغترابُ‭ ‬القويّ‭ ‬عزٌّ‭ ‬وفخرٌ

واغترابُ‭ ‬الضعيفِ‭ ‬بدءُ‭ ‬الفناءِ

 

وطن‭ ‬النجوم

إن‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬نُظم‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬وطن‭ ‬النجوم‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬منبر‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬وست‭ ‬هول‮»‬‭ ‬بالجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬زيارة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬لبنان،‭ ‬وكنت‭ ‬أحد‭ ‬الحاضرين،‭ ‬التي‭ ‬مطلعها‭: ‬

وطنَ‭ ‬النجومٍ‭... ‬أنا‭ ‬هنا

حدّق‭... ‬أتذكرُ‭ ‬من‭ ‬أَنا؟

 

التي‭ ‬تغنيها‭ ‬فيروز،‭ ‬والتي‭ ‬يندمج‭ ‬فيها‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬تربة‭ ‬وطنه،‭ ‬ويعلن‭ ‬على‭ ‬الملأ‭:‬

أنه‭ ‬لم‭ ‬ينسَ‭ ‬وطنه‭ ‬الذي‭ ‬استأثر‭ ‬بالجمال‭ ‬كله‭...!‬

عاشَ‭ ‬الجمالُ‭ ‬مشردًا

في‭ ‬الأرض‭ ‬ينشدُ‭ ‬مسكنا

حتَّى‭ ‬انكشفتَ‭ ‬له‭ ‬فألــ

ــقى‭ ‬رَحْلَهُ‭ ‬وتوطّنا

 

في‭ ‬سنة‭ ‬1946،‭ ‬صدر‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬الخمائل‮»‬‭. ‬وهكذا،‭ ‬من‭ ‬‮«‬الجداول‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الخمائل‮»‬‭ ‬لا‭ ‬نزال‭ ‬نرتع‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬التي‭ ‬أحبَّها‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬وخلَّدها‭.‬

كما‭ ‬انعكس‭ ‬جمالها‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬نفسه،‭ ‬وصفاء‭ ‬سمائها‭ ‬في‭ ‬صفاء‭ ‬ألحانه،‭ ‬وانعكست‭ ‬عذوبة‭ ‬مائها‭ ‬في‭ ‬عذوبة‭ ‬ألفاظه،‭ ‬ودقّة‭ ‬نواميسها‭ ‬في‭ ‬دقّة‭ ‬ملاحظاته‭. ‬كأنّ‭ ‬الطبيعة‭ ‬شعرت‭ ‬بصدق‭ ‬حبِّه‭ ‬لها،‭ ‬فباحت‭ ‬له‭ ‬بأسرار‭ ‬سحرها‭.‬

 

أدوار‭ ‬متداخلة

يمتاز‭ ‬شعره‭ ‬بأنه‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬أعمق‭ ‬الأفكار‭ ‬بأسلوب‭ ‬سهل‭ ‬وكلام‭ ‬واضح‭ ‬وبسيط‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬ثار‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬التقليدي،‭ ‬فجدّد‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬وبدّل‭ ‬بالقوافي،‭ ‬فحرّر‭ ‬الشّعر‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬قيوده،‭ ‬وبعث‭ ‬شعر‭ ‬الموشّحات،‭ ‬واعتمد‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬قصائده‭.‬

كان‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬أحد‭ ‬أعضاء‭ ‬‮«‬الرابطة‭ ‬القلمية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أسّست‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬سنة‭ ‬1920‭.‬

ويرى‭ ‬الدكتوران‭ ‬إحسان‭ ‬عباس‭ ‬ومحمد‭ ‬يوسف‭ ‬نجم‭ ‬في‭ ‬كتابهما‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬المهجر‭ - ‬أميركا‭ ‬الشمالية‮»‬‭ (‬ص‭ ‬136‭ ‬–‭ ‬137‭) ‬أنَّ‭ ‬شعر‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬بثلاثة‭ ‬أدوار؛‭ ‬دور‭ ‬التقليد،‭ ‬ودور‭ ‬القلب،‭ ‬ودور‭ ‬العقل؛‭ ‬وهي‭ ‬أدوار‭ ‬متداخلة‭.‬

ففي‭ ‬دور‭ ‬التقليد،‭ ‬لا‭ ‬يدلّ‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬أبي‭ ‬ماضي‭ ‬الحقيقية،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬نفسيّته‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬مشاعره‭ ‬الرومانطيقيّة‭. ‬أمّا‭ ‬دور‭ ‬القلب‭ ‬فيشمل‭ ‬كل‭ ‬شعر‭ ‬قاله،‭ ‬وهو‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬غمرة‭ ‬النزعة‭ ‬الرومانطيقيّة،‭ ‬مسحور‭ ‬بالأحلام‭ ‬والرؤى‭.‬

فإذا‭ ‬زحف‭ ‬إليه‭ ‬الأثر‭ ‬العقلي،‭ ‬وأخذت‭ ‬الأشياء‭ ‬تفقد‭ ‬تلاوينها‭ ‬الحالمة،‭ ‬ورؤاها‭ ‬الخلاّبة،‭ ‬وقع‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬مسقط‭ ‬ضوء‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬المفهومات‭ ‬الاجتماعيّة،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬خاضعًا‭ ‬لسيطرة‭ ‬ذهنيّة،‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬حدّة‭ ‬العاطفة‭ ‬تملك‭ ‬زمامه،‭ ‬وتتحكّم‭ ‬في‭ ‬توجيهه‮»‬‭.‬

لا‭ ‬بأس‭ ‬أن‭ ‬نختم‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬بهذه‭ ‬الأبيات،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬الشعر،‭ ‬والتي‭ ‬تصوّر‭ ‬لنا‭ ‬غربته‭ ‬وحالته‭ ‬النفسيّة‭ ‬خير‭ ‬تمثيل،‭ ‬فيقول‭:‬

ليس‭ ‬بي‭ ‬داءٌ‭ ‬ولكّني‭ ‬امرؤ

لستُ‭ ‬في‭ ‬أرضي‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬صحابي

مرّتِ‭ ‬الأعوامُ‭ ‬تتلو‭ ‬بعضها

للورى‭ ‬ضِحْكي‭ ‬ولي‭ ‬وحدي‭ ‬اكتئابي

كلّما‭ ‬استولدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬أملًا

مدَّتِ‭ ‬الدنيا‭ ‬له‭ ‬كفَّ‭ ‬اغتصابِ

أَفلتتْ‭ ‬منِّي‭ ‬حَلاواتُ‭ ‬الرؤى

عندما‭ ‬أَفلَتُّ‭ ‬من‭ ‬كفِّي‭ ‬شبابي

بتُّ‭ ‬لا‭ ‬الإِلهامُ‭ ‬بابٌ‭ ‬مُشرَعٌ

لي،‭ ‬ولا‭ ‬الأَحلام‭ ‬تمشي‭ ‬في‭ ‬ركابي

 

هذا‭ ‬هو‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬شاعر‭ ‬الحكمة‭ ‬والتأمل‭ ‬والحَنين،‭ ‬وأحد‭ ‬أبرز‭ ‬شعراء‭ ‬المهجر‭ ‬اللبنانيين‭ ‬■