لجم السلطة يحيى الجمل

لجم السلطة

في كل مجتمع منظم لا بد من وجود السلطة. يغير السلطة لا يكون المجتمع مجتمعا، وإنما يكون مجموعة من الناس بغير ضابط ولا رابط. عندما ينتقل ذلك "التجمع البشري" لكي يصبح مجتمعا منظما، توجد ظاهرة السلطة. وقد أدى تطور المجتمعات البشرية خلال الزمن الطويل إلى بروز تلك الظاهرة - ظاهرة السلطة - والتي مازالت قائمة حتى الآن وإن نالها من التطور الشيء الكثير.

عندما أخذت الجماعات البشرية صورة الدول، كانت ظاهرة السلطة هي المحور الذي تدور حوله الدولة.

وتقديري أن ظاهرة السلطة منذ بداية وجودها وحتى الآن كان الهدف الأساسي منها هو: إشباع حاجة الناس إلى "الأمن" وإن تعددت معاني الأمن واتسعت اتساعا كبيرا بين الماضي والحاضر.

لقد تطورت السلطة كثيرا في شكلها وفي غاياتها وفي طرق ممارساتها، لكن مبررها الأساسي ظل دائما هو حاجة الجماعة الإنسانية إلى الأمن. وقد تغير مصدر الخطر الذي يهدد أمن الناس بتغير وتطور الحياة الإنسانية. ولكن الحاجة إلى الشعور بالأمن ظلت إنسانية دائمة وملحة، هـان تغير المحرك والمثير لها. ولما كانت حاجة المجتمع البشري إلى الأمن حاجة دائمة، فإن ظاهرة السلطة بدورها أصبحت ظاهرة لازمة.

هكذا من الممكن أن نقول إنه حيث وجدت الدولة، وجدت بالضرورة السلطة. والوجه الآخر للسلطة هو الحرية. فإذا كانت السلطة لازمة لبقاء المجتمع البشري واستمراره، فإن هذه السلطة يجب ألا تقضي على حريات الأفراد، وإنما لا بد أن تحميها وتصونها من العدوان عليها. إن السلطة ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها. وهنا لا بد أن يثور سؤال: ما هي الحدود التي يجب أن تقف عندها السلطة لا تعدوها بحيث لا تتحول إلى طغيان. وما هي ضمانات تلك الحدود؟

أو بعبارة أخرى كيف نكبح جماح السلطة لكي تظل في حدودها؟ كيف نلجم السلطة حتى لا تصبح كالحصان الجامح بغير لجام؟

في الدول البوليسية وفي الدول الاستبدادية، وفي كل صور الدكتاتورية والأنظمة الشمولية، لا تجد السلطة قيدا من خارجها. ويعتمد الأمر في النهاية على حسن تقدير الذين يمارسون السلطة. أما في الدول القانونية فالأمر يختلف. في الدولة القانونية يسود مبدأ المشروعية وهذا المبدأ يعني في الأساس سيادة حكم القانون فوق الإرادات جميعا: إرادات الحاكمين والمحكومين على سواء.

ولكن كيف يتحول هذا الكلام الجميل إلى حقائق تسعى على الأرض.

في الدول الحديثة لا يترك الأمر للنوايا الطيبة ولا لمكارم الأخلاق، وإنما توجد هناك آليات معينة تكبح جماح السلطة وتردها إلى جادة الصواب.

فما هي أهم هذه الآليات والوسائل التي اهتدت إليها الإنسانية بعد كفاح طويل من أجل أن تكون السلطة - وهي ضرورة - تقدر بقدر هذه الضرورة وتدور في حدودها؟

بعبارة أخرى كيف نخضع السلطة للقانون، وبذلك يتحقق مبدأ المشروعية وسيادة حكم القانون، ويختفي طغيان السلطة أو طغيان الإرادات الفردية الحاكمة؟

قطعت البشرية شوطا طويلا من تاريخها قبل أن تتحقق لها هذه الغاية النبيلة، وقبل أن تعلو فيها إرادة القانون على إرادة الحاكمين.

الوسائل والآليات

لا يعنينا هنا أن نتحدث عن تلك النظريات الفلسفية والقانونية التي قيلت لتبرير وضع السلطة في إطار القانون، سواء منها ما يتعلق بنظرية التحديد الذاتي للإرادة، أو نظرية القانون الطبيعي، أو غير ذلك من نظريات لا تعني جماهير الناس، ولا تعني الحاكمين أنفسهم في الوقت ذاته. ما يعنينا هنا هي تلك الوسائل والآليات العملية التي اهتدت إليها البشرية بعد كفاح طويل وبعد التجربة والخطأ.

فما هي هذه الوسائل والآليات؟

لعل أولها أن يوجد في الدولة "دستور" والدستور هو الذي يبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وينظم السلطات، ويحدد العلاقة بين الأجهزة المختلفة للدولة، ويضع الحدود لكل منها، ويقرر حقوق الأفراد، وينص على الوسائل الأساسية لحمايتها وضمانها. إذا كان الدستور هو الذي يبين نظام الحكم في الدولة ويضع للسلطات العامة حدودها التي لا تعدوها وينص على الإجراءات الواجبة الاتباع لبلوغ غايات معينة، فإنه بذلك كله يقيد ممارسة السلطة ويضع لتلك الممارسة ضوابط وروابط تعتبر الممارسة في إطارها مشروعة، وتعتبر - إن هي خرجت عنها - غير مشروعة.

والدستور هو قمة النظام القانوني. هو أبوالقوانين جميعا كما يقال. ويترتب على ذلك أن كل القواعد القانونية التي تأتي تحته يجب ألا تخرج عن أحكامه ومبادئه، وإلا كانت تلك القواعد القانونية غير دستورية. وفي البلاد التي يوجد فيها قضاء دستوري وتوجد فيها رقابة لدستورية القوانين - كما هو الحال في مصر والكويت وفي بلاد أخرى - فإن القضاء الدستوري يحكم بعدم إنفاذ حكم القواعد القانونية المخالفة للدستور.

وهكذا فإن وجود الدستور يجعل ممارسة السلطة مقيدة غير مطلقة، فإذا خرج القائمون بالسلطة على حكم الدستور، فإن سلطانهم يغدو غير قانوني أو غير مشروع. وبذلك تخرج الدولة عن أن تكون دولة قانونية. والوسيلة الثانية أو الآلية الثانية التي اهتدت إليها البشرية وأصبحت ميراثا عاما في ميدان تقييد السلطة وكبح جماحها، هي وسيلة الفصل بين السلطات وعدم تركيزها في يد واحدة.

والواقع أن الدولة في الماضي البعيد كانت وظائفها محدودة، ولم تبرز الحاجة إلى ضرورة تعدد السلطات والفصل بينها، ولكن وظائف السلطة في الدولة الحديثة تعددت، وغاياتها اتسعت، ولم تعد السلطة كما كانت ملكا للحكام. أصبحت السلطة اختصاصا يمنحه الدستور لمؤسسات بعينها، وهكذا انفصلت السلطة عن أشخاص الحاكمين، وبدأت فكرة دولة المؤسسات، وأوضحت التجربة أنه لمنع إساءة استعمال السلطة فإنه يتعين عدم تركيزها أو جمعها في يد واحدة. إن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولا بد من توزيع وظائف الدولة بين سلطات ومؤسسات متعددة لكي توازن كل سلطة السلطات الأخرى، ولكي تكون بمثابة الحدود لها. وإذا كانت أهم وظائف الدول ثلاثا: الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية، فقد كان من المتعين أن تستقل بكل وظيفة من هذه الوظائف سلطة من سلطات الدولة، وأن تتعاون تلك السلطات جميعا وأن تكون في الوقت نفسه كل منها رقيبا على غيرها. وهكذا تحد السلطة السلطة، وهكذا يمتنع الاستبداد، وتحمى الحريات، وتخضع السلطات كلها لحكم الدستور والقانون.

السلطة القضائية في المواجهة

يتصل بهذه الوسيلة التأكيد على استقلال السلطة القضائية، في مواجهة كل من السلطتين الأخريين: سلطة التشريع وسلطة التنفيذ.

واستقلال السلطة القضائية لا يعنى أبدا انفصالها عن المجتمع الذي تعيش فيه، ذلك أمر مستحيل.

فما الذي يعنيه إذن قولنا بضرورة استقلال السلطة القضائية.

يعني ذلك أول ما يعني أن القضاة وحدهم دون غيرهم هم الذين يستقلون بالفصل في المنازعات بين الناس، وتوقيع العقوبات على الجرائم التي يرتكبها أي أحد، ولا يجوز لأي جهة أو سلطة في الدولة، أن تباشر شيئا من عمل الوظيفة القضائية أو أن تتدخل لدى القضاة وهم يباشرون تلك الوظيفة، كذلك فإن استقلال السلطة القضائية يعني أن القضاة أنفسهم لا يجوز عزلهم ولا تأديبهم ولا نقلهم إلا بواسطة السلطة القضائية نفسها، ووفقا للقوانين التي تنظم أمور تلك السلطة. هذا هو جوهر استقلال السلطة القضائية عن غيرها من سلطات الدولة، وهو استقلال في إطار الدولة الواحدة بطبيعة الحال.

هذه هي أهل الآليات والوسائل في الدولة الحديثة التي تؤدي إلى أن تظل السلطة في إطار القانون، وألا تتحول إلى سلطة مستبدة أو سلطة مطلقة تبث في الأرض فسادا وتذل البلاد والعباد.

الضمانة النهائية

ولكن ما تقدم كله من وجود دستور، ووجود توزيع للسلطات، واستقلال للسلطة القضائية، كل ذلك لا بد أن يحيط به ويدعمه وجود رأي عام قوي ومستنير. إن الرأي العام الواعي هو الضمانة النهائية ضد كل انحراف بالسلطة وكل استبداد.

والرأي العام يعبر عن نفسه بوسائل متعددة، لعل أهمها أجهزة الإعلام من صحافة وإذاعة مسموعة ومرئية، وتنظيمات للتجمعات البشرية في عديد من الصور.

وقد تكون النكتة والإشاعة أحيانا بعض وسائل الرأي العام في التعبير عن نفسه، إذا تعذرت طرق ووسائل التعبير المباشر. كذلك فإن الانتخابات الجادة والحرة هي وسيلة من أهم الوسائل الرسمية التي تعبر عن اتجاهات الرأي العام، وتنتقل تلك الاتجاهات إلى قلب الحياة العملية وممارسة السلطة.

وبهذه الإشارات السريعة إلى وسائل وضع السلطة في إطار القانون في الدولة الحديثة، أرجو أن أكون قد بينت كيف نلجم ذلك الحصان الجامح، الذي هو السلطة، لكي نرده إلى جادة الصواب، وبذلك نحمي الحرية، غاية البشرية التي ليس بعدها غاية.

 

يحيى الجمل