حكاية نجيب محفوظ مع سيدة فنون الآداب.. و«الحياة في مقام الحيرة»

حكاية نجيب محفوظ مع سيدة فنون الآداب.. و«الحياة في مقام الحيرة»

«سيدة فنون الآداب دون منازع لثلاثة قرون كاملة»، هكذا وصف نجيب محفوظ ذات يوم القصة القصيرة بأحد مقالاته. مثلما انتقد محفوظ مقياس المفكر عباس العقاد في ترتيب الآداب الذي كان قد اعتبر الشعر أرقى من القصة، حيث وصف الشعر بـ«الشجرة النامية ذات الزهر والثمر، بينما القصة مثل البذرة الضئيلة».

 

كان‭ ‬رأي‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬آنذاك،‭ ‬أن‭ ‬ترتيب‭ ‬العقاد‭ ‬للفنون‭ ‬هو‭ ‬‮«‬قول‭ ‬وجيه‭ ‬من‭ ‬الظاهر،‭ ‬لكنه،‭ ‬لا‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬خطير،‭ ‬فبمجرد‭ ‬انتشار‭ ‬فن‭ ‬في‭ ‬طبقة‭ ‬لا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬انتشاره‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭: ‬‮«‬القصة‭ ‬لاتزال‭ ‬أعظم‭ ‬انتشارًا‭ ‬من‭ ‬الشعر‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬الدفاع‭ ‬المحفوظي‭ ‬عن‭ ‬‮«‬سيدة‭ ‬فنون‭ ‬الآداب‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬دفاعًا‭ ‬نظريًا‭ ‬وفقط،‭ ‬فالشاعرة‭ ‬والكاتبة‭ ‬المصرية‭ ‬د‭. ‬عزة‭ ‬بدر‭ - ‬مؤلفة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الحيرة‭.. ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬المجهولة‮»‬‭ - ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬عشق‭ ‬محفوظ‭ ‬لكتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكرة‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬قراره‭ ‬بأن‭ ‬يتفرغ‭ ‬لكتابة‭ ‬الرواية‭. ‬وعندما‭ ‬حلت‭ ‬سنة‭ ‬1944‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬فيها‭ ‬ثالث‭ ‬رواياته‭ - ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬جميعها‭ ‬تاريخية‭ ‬حتى‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ - ‬كان‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬قد‭ ‬نشر‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬قصة،‭ ‬تناولت‭ ‬موضوعات‭ ‬مختلفة‭ ‬أغلبها‭ ‬كان‭ ‬معاصرًا‭. ‬وترى‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬تم‭ ‬جمع‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬لخرجت‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬أو‭ ‬أربع‭ ‬مجموعات‭ ‬قصصية‭. 

يكاد‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬العصر‭ ‬الحالي‭ ‬تفسير‭ ‬الكاتب‭ ‬المصري‭ - ‬الحائز‭ ‬على‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ - ‬لأسباب‭ ‬انتشار‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬وأربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭: ‬‮«‬فعصر‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬جديد‭ ‬يُوفق‭ ‬بين‭ ‬شغف‭ ‬الإنسان‭ ‬الحديث‭ ‬بالحقائق‭ ‬وحنانه‭ ‬القديم‭ ‬للخيال‭. ‬بذلك‭ ‬تكون‭ ‬القصة‭ ‬هي‭ ‬شعر‭ ‬الدنيا‭ ‬الحديثة،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬مرونتها‭ ‬واتساعها‭ ‬لجميع‭ ‬الأغراض،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬أبرع‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭ ‬التي‭ ‬أوجدها‭ ‬خيال‭ ‬الإنسان‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬العصور‮»‬‭. 

تُشير‭ ‬د‭. ‬عزة‭ ‬بدر‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬محمود‭ ‬علي‭ ‬المعنون‭ ‬بـ«قصص‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تُنشر‮»‬،‭ ‬والذي‭ ‬استندت‭ ‬إليه‭ ‬غير‭ ‬مرة،‭ ‬مؤكدة‭ ‬على‭ ‬أهميته‭ ‬نقديًا،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬القصص‭ ‬كانت‭ ‬نواة‭ ‬بعض‭ ‬روايات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬لقيمتها‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها،‭ ‬إذ‭ ‬تكشف‭ ‬التكوين‭ ‬الفني‭ ‬الأول‭ ‬لعالم‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وتُعبر‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬تلك‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬القصة‭ ‬المصرية‭. ‬

نالت‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬الأولى‭ ‬لمحفوظ‭  ‬‮«‬همس‭ ‬الجنون‮»‬‭ ‬اهتمام‭ ‬النقاد،‭ ‬باعتبارها‭ ‬بداية‭ ‬الطريق‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬لتصوير‭ ‬وضع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬القضايا‭ ‬الكبرى،‭ ‬قضية‭ ‬الحرية،‭ ‬والحكم‭ ‬الصالح،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الوجود‭ ‬الروحي‭ ‬بالوجود‭ ‬المادي،‭ ‬والحياة‭ ‬بالموت،‭ ‬وهي‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬جانبًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬محفوظ‭ ‬الروائي،‭ ‬وعالمه‭ ‬القصصي‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬النضج‭. ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬حيرة‭ ‬الإنسان،‭ ‬وبحثه‭ ‬عن‭ ‬الكمال،‭ ‬إنها‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الحيرة‭. 

من‭ ‬مقام‭ ‬الحيرة‭ ‬انطلق‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬ومن‭ ‬مقام‭ ‬الحيرة‭ ‬أيضًا‭ ‬توالت‭ ‬إبداعاته،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬ذاته‭ ‬ومن‭ ‬حوله‭ ‬دارت‭ ‬الدراسة‭ ‬الثرية‭ ‬والشيقة‭ ‬للشاعرة‭ ‬المصرية‭ ‬الدكتورة‭ ‬عزة‭ ‬بدر،‭ ‬التي‭ ‬استلهمت‭ ‬عنوان‭ ‬كتابها‭ ‬من‭ ‬جُملة‭ - ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أحد‭ ‬أبطاله‭ - ‬تُجسد‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الحيرة،‭ ‬والتي‭ ‬خصصت‭ ‬لها‭ ‬الكاتبة‭ ‬فصلًا‭ ‬بأكمله‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحيرة‭ ‬والإقامة‭ ‬في‭ ‬متنها‭.  

 

تيمة‭ ‬متكررة

في‭ ‬ذلك‭ ‬الفصل‭ ‬تحدثت‭ ‬بدر‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬تيمة‭ ‬متكررة‭ ‬عند‭ ‬محفوظ‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬أعماله‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬تبدلت‭ ‬أسماؤها،‭ ‬وهيئتها‭ ‬أحيانًا‭. ‬إنها‭ ‬شخصية‭ ‬عبدربه‭ ‬التائه،‭ ‬ذلك‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬‮«‬أصداء‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‮»‬‭ ‬لمحفوظ‭. ‬إنه‭ ‬الشيخ‭ ‬المُفعم‭ ‬بالحنكة‭ ‬والحكمة،‭ ‬والتجربة،‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬أسئلته‭ ‬الشائكة‭ ‬حول‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬والموجودات‭ ‬ومصير‭ ‬الإنسان،‭ ‬وحقيقة‭ ‬الإيمان‭. ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬ظل‭ ‬حاضرًا‭ ‬بقوة‭ ‬كصوت‭ ‬داخلي‭ ‬مؤرق‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وكأنه‭ ‬الشاهد‭ ‬على‭ ‬الأحداث‭ ‬والمصائر،‭ ‬فمثلًا‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬لأديب‭ ‬نوبل‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬عندما‭ ‬التقت‭ ‬العينان‮»‬‭ ‬كتب‭: ‬

‮«‬قلت‭ ‬بعد‭ ‬تردد‭:  

‭- ‬أكاد‭ ‬أضيق‭ ‬بالدنيا،‭ ‬وأروم‭ ‬للهروب‭ ‬منها،‭ ‬فاقبلني‭ ‬في‭ ‬طريقك‭. ‬فقال‭ ‬الرجل‭ ‬بوضوح‭: ‬

‭- ‬حب‭ ‬الدنيا‭ ‬محور‭ ‬طريقتنا‭ ‬وعدونا‭ ‬الهروب‭. ‬فشعرت‭ ‬بأنني‭ ‬أنطلق‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬الحيرة‮»‬‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬تُواصل‭ ‬المؤلفة‭ ‬شروحها‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬صاحب‭ ‬الطريقة‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الحياة‭ ‬الذي‭ ‬تتردد‭ ‬كلماته‭ ‬ورؤاه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬منذ‭ ‬قصصه‭ ‬الباكرة‭ ‬المجهولة،‭ ‬فنراه‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الشيخ‭ ‬إبراهيم‭ ‬بقصة‭ ‬‮«‬الأراجوز‭ ‬المُحزن‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬بمجلة‭ ‬‮«‬الرواية‮»‬‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬فبراير‭ ‬1939‭.  ‬تتناول‭ ‬المؤلفة‭ ‬بالدراسة‭ ‬والتحليل‭ ‬قصص‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬المجهولة‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬والأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لتقديم‭ ‬قراءة‭ ‬مقاربة‭ ‬تغلب‭ ‬عليها‭ ‬حاسة‭ ‬التذوق‭ ‬الأدبي،‭ ‬متتبعة‭ ‬لحظات‭ ‬اكتشاف‭ ‬العوالم‭ ‬الأولى،‭ ‬والكاتبة‭ ‬تُورد‭ ‬كل‭ ‬قصة‭ ‬مرفقة‭ ‬بالتحليل‭ ‬النقدي‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬يسهل‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬تتبع‭ ‬الأفكار‭ ‬والتواصل‭ ‬سواء‭ ‬بالاتفاق‭ ‬أو‭ ‬الاختلاف‭ ‬معها‭ ‬بمرونة‭ ‬ويُسر‭ ‬شديدين‭. ‬

تتجلى‭ ‬بوضوح‭ ‬أهمية‭ ‬دراسة‭ ‬د‭. ‬عزة‭ ‬بدر‭ - ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬المعارف،‭ ‬مصر،‭ ‬2019‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬دواوين‭  ‬شعرية‭ ‬وروايات‭ ‬ودراسات‭ ‬أدبية‭ - ‬في‭ ‬جانبين‭ ‬شديدي‭ ‬الأهمية؛‭ ‬أولهما‭ ‬أن‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬القصص‭ ‬المجهولة‭ ‬يُشير‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬الأرشيف،‭ ‬والتوثيق‭ ‬للمجلات‭ ‬والصحف‭ ‬والدوريات‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬فالأرشيف‭ ‬ودار‭ ‬الوثائق‭ ‬هما‭ ‬كنز‭ ‬أي‭ ‬أمة،‭ ‬وحافظ‭ ‬لذاكرة‭ ‬الأجيال‭. ‬فهذه‭ ‬المجلات‭ ‬الأدبية‭ ‬تعد‭ ‬الحافظ‭ ‬الأمين‭ ‬لسجل‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬لأنها‭ ‬ضمت‭ ‬بدايات‭ ‬وبواكير‭ ‬الكتابات‭ ‬الأولى‭ ‬لمحفوظ‭ ‬بين‭ ‬طيات‭ ‬صحائفها‭. ‬أما‭ ‬الشق‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬فيتمثل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬تُلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬كتابات‭ ‬محفوظ‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تحظ‭ ‬بعناية‭ ‬أو‭ ‬رعاية‭ ‬الدارسين،‭ ‬واعتبرها‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬لا‭ ‬تُشكل‭ ‬فى‭ ‬أدبه‭ ‬سوى‭ ‬خطوات‭ ‬البداية‭ ‬دون‭ ‬التعمق‭ ‬فى‭ ‬دراستها‭. 

ربما‭ ‬ساهم‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحالة،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬رقيبًا‭ ‬علي‭ ‬كتاباته،‭ ‬فوفق‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الرؤية‭ ‬والأداة‭ - ‬نجيب‭ ‬محفوظ‮»‬‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صاحب‭ ‬نوبل‭ ‬المصري،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬بداياته‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة،‭ ‬لكنه‭ ‬مزق‭ ‬منها‭ ‬خمسيناً،‭ ‬ونشرت‭ ‬الصحف‭ ‬له‭ ‬نحو‭ ‬ثمانين،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬نٌشر‭ ‬في‭ ‬‮«‬همس‭ ‬الجنون‮»‬‭ ‬30‭ ‬قصة‭ ‬فقط‭. ‬

 

كتابة‭ ‬اضطرارية

اللافت‭ ‬أنه‭ ‬رغم‭ ‬دفاع‭ ‬محفوظ‭ ‬عن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬ورغم‭ ‬إنتاجه‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬غزيرًا‭ ‬للبعض،‭ ‬لكن‭ ‬المتأمل‭ ‬يكتشف‭ ‬أن‭ ‬اتجاهه‭ ‬وقراره‭ ‬بكتابة‭ ‬القصة‭ ‬كان‭ ‬اضطراريًا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياته،‭ ‬بسبب‭ ‬عزوف‭ ‬الناشرين‭ ‬عن‭ ‬الرواية،‭ ‬فلجأ‭ ‬إلى‭ ‬تحويل‭ ‬أفكار‭ ‬رواياته‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬قصيرة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تلقى‭ ‬رواجًا‭ ‬وترحيبًا‭ ‬من‭ ‬الصحف،‭ ‬فالمعروف‭ ‬عن‭ ‬أديب‭ ‬نوبل‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬بكتابة‭ ‬الرواية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتخرج‭ ‬من‭ ‬الجامعة،‭ ‬فقد‭ ‬تجمعت‭ ‬عنده‭ ‬ثلاث‭ ‬روايات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬نشرها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طاف‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬الناشرين،‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1939‭ ‬نشر‭ ‬له‭ ‬سلامة‭ ‬موسى‭ ‬أول‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬عبث‭ ‬الأقدار‮»‬‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬المجلة‭ ‬الجديدة،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1943‭ ‬نشر‭ ‬له‭ ‬عبدالحميد‭ ‬جودة‭ ‬السحار‭ ‬الرواية‭ ‬الثانية‭ ‬‮«‬رادوبيس‮»‬،‭ ‬وأثناء‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬كان‭ ‬محفوظ‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬كفاح‭ ‬طيبة‮»‬،‭ ‬و«القاهرة‭ ‬الجديدة‮»‬‭. ‬

يُؤكد‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬محفوظ‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬حواراته‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬بهدف‭ ‬كتابتها،‭ ‬أنا‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬روايات‭ ‬ودرت‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬الناشرين‭ ‬الذين‭ ‬رفضوا‭ ‬نشرها،‭ ‬ولأني‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أنشر‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الدافع‭ ‬إلى‭ ‬كتابتها،‭ ‬ولاحظ‭ ‬أنني‭ ‬أخذت‭ ‬موضوعات‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬لي،‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬قصصي‭ ‬القصيرة‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬روايات،‭ ‬لكن،‭ ‬العكس‭ ‬هو‭ ‬الصحيح‮»‬‭. ‬

ربما‭ ‬يُفسر‭ ‬التصريح‭ ‬المحفوظي‭ ‬السابق‭ ‬رد‭ ‬فعله‭ ‬عندما‭ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬السحار‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬بتوقيعه‭ ‬لينشرها‭ ‬له،‭ ‬إذ‭ ‬أجابه‭ ‬محفوظ‭: ‬‮«‬أي‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬الآن؟‭ ‬لقد‭ ‬فات‭ ‬أوانها‮»‬‭. ‬

تناولتْ‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬دراستها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجوانب‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭ ‬النفسية‭ ‬بسبب‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬كاتبنا‭ ‬الكبير‭ ‬هو‭ ‬وأبناء‭ ‬جيله‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الشباب،‭ ‬تطرقتْ‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬السبيل‭ ‬الذي‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬محفوظ‭ ‬على‭ ‬جنته‭ ‬وجحيمه‭ ‬الأدبي،‭ ‬مشيرة‭ ‬إلى‭ ‬قصصه‭ ‬الأولى‭ ‬وكيف‭ ‬تشكلت‭ ‬ملامح‭ ‬أسلوبه‭ ‬وعالمه‭ ‬الأدبي،‭ ‬مستعينة‭ ‬في‭ ‬تحليلها‭ ‬بشهادت‭ ‬محفوظ‭ ‬نفسه،‭ ‬وبقراءات‭ ‬وتحليل‭ ‬آخرين‭ ‬أحيانًا‭ ‬لتوضيح‭ ‬رؤيتها‭ ‬وفكرتها‭ ‬الجوهرية‭. ‬

‭ ‬ناقشتْ‭ ‬المؤلفة،‭ ‬كذلك،‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والإشكاليات،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الفن‭ ‬حياة‭ ‬لا‭ ‬مهنة‮»‬،‭ ‬قضية‭ ‬الاغتراب،‭ ‬خصوصًا‭ ‬اغتراب‭ ‬الفنان،‭ ‬وحكاية‭ ‬ظلم‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬واتهامه‭ ‬بأن‭ ‬رواياته‭ ‬التاريخية‭ ‬كانت‭ ‬تقليدًا‭ ‬لجورجي‭ ‬زيدان،‭ ‬ثم‭ ‬تفنيد‭ ‬المؤلفة‭ ‬لذلك‭ ‬الاتهام،‭ ‬وأثناء‭ ‬طرحها‭ ‬لتلك‭ ‬القضايا‭ ‬كانت‭ ‬د‭. ‬عزة‭ ‬بدر‭ ‬تقدم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬المحفوظية‭. ‬لكن،‭ ‬يظل‭ ‬الأمر‭ ‬اللافت‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بسردها‭ ‬المؤلفة‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬التجربة‭ ‬الفريدة‭ ‬التي‭ ‬اشترك‭ ‬فيها‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬وعبدالحميد‭ ‬جودة‭ ‬السحار‭ ‬والشاعر‭ ‬صالح‭ ‬جودت،‭ ‬وهي‭ ‬تجربة‭ ‬كتابة‭ ‬قصة‭ ‬مشتركة‭ ‬كانت‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬على‭ ‬البلاج‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬تُعد‭ ‬إرهاصة‭ ‬لكتابات‭ ‬أخرى‭ ‬حداثية‭ ‬تُعنى‭ ‬بالإيقاع‭ ‬الخاص‭ ‬للكاتب‭ ‬متفاعلًا‭ ‬مع‭ ‬نبض‭ ‬آخرين‭ ‬لهم‭ ‬حق‭ ‬الإضافة،‭ ‬وحق‭ ‬التأثر‭ ‬والتأثير،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أشكال‭ ‬الكتابة‭ ‬الحديثة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُسمى‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬التفاعلية‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬على‭ ‬الإنترنت،‭ ‬فيكتب‭ ‬النص‭ ‬كاتب‭ ‬واحد‭ ‬ثم‭ ‬يتفاعل‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬آخرون‭ ‬بالإضافة‭ ‬والتعليق‭ ‬وربما‭ ‬الحذف‭. ‬مثلما‭ ‬أشارت‭ ‬المؤلفة‭ ‬إلى‭ ‬التجربة‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وتوفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬كتابهما‭ ‬‮«‬القصر‭ ‬المسحور‮»‬‭.  ‬أما‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬نختم‭ ‬به‭ ‬مقالنا‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬طرحه‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬حواراته‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬والذي‭ ‬أوردته‭ ‬المؤلفة‭ ‬ضمن‭ ‬كتابها‭ ‬القيم‭: ‬‮«‬أتعلم‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬أستمر‭ ‬ولا‭ ‬أيأس؟‭ ‬أنني‭ ‬اعتبرت‭ ‬الفن‭ ‬حياة‭ ‬لا‭ ‬مهنة،‭ ‬فحينما‭ ‬تعتبر‭ ‬الفن‭ ‬مهنة‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تشغل‭ ‬بالك‭ ‬بانتظار‭ ‬الثمرة،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فقد‭ ‬حصرت‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالإنتاج‭ ‬نفسه،‭ ‬وليس‭ ‬بما‭ ‬وراء‭ ‬الإنتاج‭. ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬ألفت‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬كتاباتي‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬معتقداً‭ ‬أني‭ ‬سأظل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬دائمًا‮»‬‭ ‬■