جان بيرينديسي فنان إيطالي في إسطنبول القرن الـ19

جان بيرينديسي  فنان إيطالي في إسطنبول القرن الـ19

تزخر المكتبة الغربية بعديد من الدراسات والكتب والأعمال الفنية الاستشراقية الخاصة بدراسة الشرق الأوسط وشعوبه وعاداتهم وتقاليدهم. وقد بدأت هذه الدراسات بعد سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين عام 1453م، وجنوح الأوربيين لما يسمى بـ «الإكزوتية»، أي الاهتمام بزيارة البلاد الغريبة عليهم، والتعلّق بكل ما هو جميل وخيالي ورومانسي من هذه البلاد، خاصة تركيا والشام ومصر وشمال إفريقيا.
ومع مطلع القرن الثامن عشر، احتلت الطرز التركية مكانة زخرفية بارزة في العديد من اللوحات الفنية، وتخصص فنانو البندقية وفرنسا وإيطاليا في رسم مشاهد الحياة والمناظر الطبيعية في القسطنطينية (الأستانة، أو إسطنبول فيما بعد).

 

‭ ‬لقيت‭ ‬صور‭ ‬المناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬والمعالم‭ ‬إقبالًا‭ ‬لا‭ ‬يُبارى،‭ ‬وتعددت‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وإنجلترا‭ ‬كتب‭ ‬الرحلات‭ ‬المصورة‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬صورًا‭ ‬مطبوعة‭ ‬بطريقة‭ ‬الحفر‭ ‬على‭ ‬الحجر‭ ‬أو‭ ‬المعدن‭ ‬للعمائر‭ ‬الشرقية،‭ ‬وفقًا‭ ‬للرسوم‭ ‬التي‭ ‬حملها‭ ‬الفنانون‭ ‬من‭ ‬رحلاتهم،‭ ‬وللأزياء‭ ‬الشرقية‭ ‬وللأطلال‭ ‬والأشخاص‭ ‬الشرقيين‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية،‭ ‬نجد‭ ‬ألبومين‭ ‬عن‭ ‬تركيا‭ ‬والأتراك‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬رسمهما‭ ‬فنانٌ‭ ‬إيطالي‭ ‬مجهولٌ‭ ‬نوعًا‭ ‬ما،‭ ‬لكنه‭ ‬خلّد‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الاستشراق‭ ‬الفني‭ ‬بهذين‭ ‬العملين؛‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬جيوفاني‭ ‬بيرينديسي‭.‬

لا‭ ‬يُعرف‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الرسام‭ ‬الإيطالي‭ ‬بيرينديسي‭ (‬1826‭ ‬–‭ ‬1889م‭). ‬بدأ‭ ‬حياته‭ ‬المهنية‭ ‬رسامًا‭ ‬بالألوان‭ ‬المائية،‭ ‬وكان‭ ‬أعسر،‭ ‬أي‭ ‬يرسم‭ ‬بيده‭ ‬اليسرى‭. ‬وقد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬السلطان‭ ‬عبدالمجيد‭ (‬1831‭ ‬–‭ ‬1861م‭). ‬كانت‭ ‬معظم‭ ‬أعماله‭ ‬الفنية‭ ‬تتركز‭ ‬على‭ ‬تصوير‭ ‬المشاهد‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة،‭ ‬والحياة‭ ‬الخاصة،‭ ‬والأنشطة‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬تركيا‭.‬

كان‭ ‬مرسمه‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬بيرا‭ ‬بإسطنبول،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يقع‭ ‬قبره‭ ‬في‭ ‬المقبرة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬بحي‭ ‬فريكوي‭ ‬بإسطنبول‭. ‬اشتهر‭ ‬بيرينديسي‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الفنية‭ ‬الاستشراقية‭ ‬بألبومين‭ ‬عن‭ ‬تركيا،‭ ‬نشرهما‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬لوميرسييه‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭.‬

 

‭ ‬ألبوما‭ ‬بيرينديسي

الألبوم‭ ‬الأول‭ ‬المنشور‭ ‬عام‭ ‬1855،‭ ‬هو‭ ‬‮«‬ألبسة‭ ‬عتيقة‭ ‬–‭ ‬متحف‭ ‬الملابس‭ ‬القديمة‭ ‬التركية‭ ‬بإسطنبول‮»‬،‭ ‬ويحتوي‭ ‬على‭ ‬22‭ ‬لوحة‭ ‬عن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الملابس‭ ‬الرسمية‭ ‬لأفراد‭ ‬الحكومة‭ ‬العثمانية‭ ‬وبعض‭ ‬الملابس‭ ‬الشعبية‭ ‬للأتراك‭. ‬

بينما‭ ‬الألبوم‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬ذكريات‭ ‬من‭ ‬إسطنبول‮»‬،‭ ‬المنشور‭ ‬بنفس‭ ‬الدار‭ ‬عام‭ ‬1860،‭ ‬فيتضمن‭ ‬عشرين‭ ‬لوحة‭ ‬رائعة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وأحيائها‭ ‬وحي‭ ‬بورصا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬

ومما‭ ‬يشدّ‭ ‬الاهتمام‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الألبوم‭ ‬تصوير‭ ‬عربات‭ ‬الخيول‭ ‬الخاصة‭ ‬بالحريم‭ ‬وغيرها،‭ ‬والمشهد‭ ‬البانورامي‭ ‬لإسطنبول‭ ‬الذي‭ ‬رسمه‭ ‬من‭ ‬منزله‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬فيه‭ ‬بحي‭ ‬بيرا‭ ‬الشهير‭.. ‬وتم‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬برسوم‭ ‬بيرينديسي‭ ‬الأصلية‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬طوب‭ ‬قابي‭ ‬بإسطنبول‭ ‬وبجامعة‭ ‬إسطنبول‭.‬

سجل‭ ‬بيرينديسي‭ ‬اسمه‭ ‬بين‭ ‬أهمّ‭ ‬المستشرقين‭ ‬الفنانين،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬إلا‭ ‬هذين‭ ‬العملين‭. ‬وكان‭ ‬الفنان‭ ‬الفرنسي‭ ‬شارل‭ ‬بور‭ ‬يعرض‭ ‬أعمال‭ ‬بيرينديسي‭ ‬عن‭ ‬تركيا‭ ‬والأتراك‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬بالمعرض‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1844‭ ‬إلى‭ ‬1880،‭ ‬وعبّر‭ ‬بيرينديسي‭ ‬بلوحاته‭ ‬عن‭ ‬المناصب‭ ‬الحربية‭ ‬والإدارية‭ ‬العثمانية،‭ ‬وقام‭ ‬بعمل‭ ‬تباين‭ ‬قوي‭ ‬بين‭ ‬الضوء‭ ‬والظل‭ ‬في‭ ‬لوحاته‭. ‬وتتميز‭ ‬أعماله‭ ‬بأنها‭ ‬تمثّل‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬من‭ ‬المذهب‭ ‬الفني‭ ‬الرومانسي‭ ‬إلى‭ ‬المذهب‭ ‬الواقعي‭.‬

 

أسلوب‭ ‬تصويري

كان‭ ‬الأسلوب‭ ‬التصويري‭ ‬لبيرينديسي‭ ‬في‭ ‬ألبومه‭ ‬عن‭ ‬إسطنبول‭ ‬وندرة‭ ‬ما‭ ‬كُتب‭ ‬عنه‭ ‬حافزيْن‭ ‬لي‭ ‬لتعريف‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭ ‬به،‭ ‬ليرتشف‭ ‬منه‭ ‬لمحاته‭ ‬الجمالية‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬إسطنبول‭ ‬قبل‭ ‬أفول‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬وما‭ ‬عليها،‭ ‬وقبل‭ ‬زحف‭ ‬المباني‭ ‬الإسمنتية‭ ‬القبيحة‭ ‬على‭ ‬أحيائها‭ ‬وحجْب‭ ‬قصورها‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬وصفها‭ ‬الرحالة‭ ‬الأوربيون‭ ‬في‭ ‬كتبهم‭ ‬وسجّلها‭ ‬الفنانون‭ ‬في‭ ‬لوحاتهم‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬لوحات‭ ‬برينديسي‭ ‬عن‭ ‬الأزياء‭ ‬الرسمية‭ ‬العثمانية،‭ ‬فالظاهر‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬شهد‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الفنان‭ ‬الفلمنكي‭ ‬جان‭ ‬بابتيست‭ ‬فانمور‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬مجموعة‭ ‬الصور‭ ‬المطبوعة‭ ‬المئة‭ ‬التي‭ ‬تصوّر‭ ‬مختلف‭ ‬شعوب‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‮»‬‭ ‬المطبوع‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬عام‭ ‬1714‭ ‬م،‭ ‬ودراسة‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬السويدي‭ ‬إجناس‭ ‬دوسون‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬التركي‭ ‬وتاريخ‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬بمجلدين‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬عام‭ ‬1790‭ ‬م،‭ ‬فأوحى‭ ‬ذلك‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يستأثر‭ ‬برسم‭ ‬ألبوم‭ ‬عن‭ ‬الملابس‭ ‬التركية‭ ‬العثمانية‭ ‬بالألوان،‭ ‬يَفضُل‭ ‬ما‭ ‬رسمه‭ ‬فانمور‭ ‬بريشته‭ ‬وما‭ ‬سجّله‭ ‬دوسون‭ ‬برسوماته‭ ‬على‭ ‬الفحم‭. ‬وإن‭ ‬مَن‭ ‬يقارن‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الرسوم‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬الثلاثة،‭ ‬لفانمور‭ ‬ودوسون‭ ‬وبيرينديسي،‭ ‬لَيشهد‭ ‬مدى‭ ‬إتقان‭ ‬بيرينديسي‭ ‬لعمله،‭ ‬وبراعته‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬اللوحات‭ ‬الاثنتين‭ ‬والعشرين‭ ‬التي‭ ‬تسجّل‭ ‬برشاقة‭ ‬أصابعه‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬الملابس‭ ‬العثمانية‭ ‬الرسمية‭ ‬للعاملين‭ ‬في‭ ‬القصور‭ ‬العثمانية‭ ‬وضباط‭ ‬وأفراد‭ ‬الجيش‭ ‬وغيرهم‭. ‬

لذا‭ ‬أجدني‭ ‬أسوق‭ ‬للقارئ‭ ‬العربي‭ ‬–‭ ‬سواءٌ‭ ‬كان‭ ‬مهتمًا‭ ‬بالتاريخ‭ ‬العثماني،‭ ‬أو‭ ‬محبًا‭ ‬للفنون‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬بعض‭ ‬لوحات‭ ‬الألبومين‭ ‬ليرتشف‭ ‬منها‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬إسطنبول،‭ ‬حاضرة‭ ‬التاريخ‭ ‬العثماني،‭ ‬وروعة‭ ‬الأزياء‭ ‬الرسمية‭ ‬لرجال‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ■

السكرجي(‬بائع‭ ‬الحلوى) ‬وفي‭ ‬الخلفية‭ ‬برج‭ ‬جلاطا‭ ‬المطل‭ ‬على‭ ‬مضيق‭ ‬البوسفور

مشهد‭ ‬لاستجمام‭ ‬الأتراك‭ ‬عند‭ ‬نهير‭ ‬مياه‭ ‬آسيا‭ ‬العذبة‭ ‬المسمى‭ ‬بالتركية‭ (عيون‭ ‬سوبو)