عالم خارج نطاق السيطرة.. وكل شيء مباح: عودة ساحرات سالم شوقي رافع

عالم خارج نطاق السيطرة.. وكل شيء مباح: عودة ساحرات سالم

"خارج نطاق السيطرة" هو العنوان الذي اختاره مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبغنيو بريجنسكي لكتاب صدر الشهر الماضي، حاول أن يرسم فيه ملامح العالم على أعتاب القرن الواحد والعشرين. فقال إنه "عالم يعيش حالة غليان". وبعد انهيار الشيوعية، وهو الانهيار الذي تنبأ به عام 1987 في كتابه "السقوط العظيم"، فإن بريجنسكي يرى أن الأزمة المقبلة هي أزمة الديمقراطيات الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية التي يتهددها خطر "كل شيء مباح" حيث يسود نظام يسعى فيه كل فرد إلى تحقيق ما يريده دون اعتبار لمصالح المجتمع أو للفارق بين الخير والشر، استنادا إلى الدين أو القيم الأخلاقية.

يقول بريجنسكي: "إن الخواء الروحي أفقد أمريكا تماسكها وقدرتها على استقطاب العالم". وهو بالتأكيد لا يتحدث كواعظ أو كرجل دين، ولكنه لا يخفي اقتناعه بأن القيم والمعتقدات لا تقل أهمية عن الاقتصاد والتطور التكنولوجي، وأن استباحة كل شيء يجعل العالم خارج نطاق السيطرة.

عبارة "كل شيء مباح" استخدمها أيضا أحد المسئولين في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بعد مذبحة "الفرقة الداودية" التي كان يقودها دافيد كورش، قال المسئول: "إننا بالتأكيد لم يكن باستطاعتنا أن نتركه (كورش) يغتصب الأطفال، إذا فعلنا، فعندئذ يصبح كل شيء مباحا".

العبارة في الأصل كان قد أطلقها الروائي الروسي فيودور دستويفسكي قبل حوالي قرن ونصف القرن، عندما هتف أحد أبطاله: "إذا لم يكن الله موجودا، فإن كل شيء عندئذ يصبح مباحا"، ولكن دستويفسكي كان مؤمنا عظيما بالكنيسة، أما بريجنسكي ومسئول مكتب التحقيقات الفيدرالي فإنما كانا يتحدثان عن مملكة القيصر وليس مملكة السماء.

الباحث الفرنسي "جيل كيبل" في كتابه "الحركات الأصولية المعاصرة في الديانات الثلاث" يسير خطوة أبعد في توصيف نظام "كل شيء مباح" ويعطيه بعدا كونيا لا يقتصر على الديمقراطيات الغربية وحدها بل "يشمل المعمورة كلها" ويقول في تقديمه للحركات الأصولية: "إن هذه الحركات تأخذ على المجتمع تفتته وفوضاه وبعده عن الجادة وافتقاده لمشروع متكامل يؤمن به وينتسب إليه، وهي لا تقاتل خلقية علمانية تعتبرها غير موجودة، ولكنها تعتبر أن حداثة ينتجها عقل بدون الله، هي حداثة لم تستطع في النهاية أن تولد قيما. وحين عطلت أزمة السبعينيات أوليات "ميكانيزم" التضامن التي كانت تسيرها دولة العناية والرعاية الاجتماعية فإنها أظهرت قلقا إنسانيا، وأبدت بؤسا بشريا لا مثيل له، وهم يرون أنها كشفت خواء الطوباويات الدنيوية الليبرالية أو الماركسية التي نجد ترجمتها الملموسة في الغرب في أنانيات الاستهلاك، أو فيما يخص البلدان (الاشتراكية) والعالم الثالث في الإدارة القمعية للعوز والقصور وإغفال مجتمع البشر".

في سياق هذا الإطار النظري يبدو أن "المؤسسة" سواء كانت دينية مؤمنة أو علمانية ليبرالية هي ما تحدق به الأخطار في عالم يصبح يوما بعد يوم "خارج نطاق السيطرة"، فكيف تنعكس هذه الأخطار في إطار الواقع؟ هنا بعض المحطات ذات الدلالة.

مذبحة سالم

في عام 1902 وفي ولاية نيوجيرسي في أمريكا سقطت 20 ضحية من الفتيات المراهقات تحت سياط الجلاد. الجلد حتى الموت كان العلاج الذي اقترحته الكنيسة لطرد "الجن" من أجساد الفتيات، والعلاج كان يتم ضمن طقوس جماعية شرطها الرئيسي هو "اعتراف" الفتاة بأنها مسكونة "بالجن"، وكانت الضحية تعلم أن الاعتراف هو طريقها إلى الموت، ومع ذلك فإن 20 فتاة تطوعن للإدلاء بهذه الاعترافات، بعدئذ كانت الكنيسة تقوم بواجباتها فترسل الأب المتخصص في طرد "الجن" عبر الجلد، وكان "الجن" نادرا ما يفارق جسد الضحية قبل أن تفارق الحياة!

ومن بلدة سالم على الساحل الشرقي لأمريكا انتشرت الظاهرة ووصلت إلى كاليفورنيا بالغرب وسقط ضحاياها بالألوف.

لعنة بلدة "سالم" كانت تتكرر للمرة الثانية، الأولى وقعت في بلدة سالم التابعة لولاية ماسوستشي عام 1692، والثانية وقعت في "سالم" نيوجرسي في مطلع القرن وتحولت بعد حوالي نصف قرن إلى مسرحية كتبها المؤلف المبدع "آرثر ميلر" وحملت عنوان "ساحرات سالم"، المسرحية أحدثت موجة ذعر في أمريكا العلمانية والليبرالية. علماء النفس شاركوا في نقد المسرحية، وفسروا المأساة بأنها كانت نوعا من "المس الجماعي"، علماء الاجتماع رأوا فيها نظرية للخلاص، فالمجتمع عندما يتعرض لضغوط يعجز وعيه عن تحملها يلجأ إلى تقديم "القرابين"، وكانت الفتيات قربانا سهلا. وفي عام 1990 عادت "ساحرات سالم" لتستقطب اهتمام المجتمع الأمريكي. فقد عرضت إحدى شبكات التلفزيون فيلما وثائقيا عن "مجزرة سالم" وقامت بتمويل الفيلم شقيقة إحدى الضحايا، وتبين فيه من خلال تلك الوثائق براءة الجن من دماء المراهقات. وتؤكد تلك الوثائق والشهادات أن القضية بدأت في الأساس نتيجة خلاف على الأرض بين الكنيسة والمزارعين. وفي ذروة الصراع بين الطرفين دخل "الجن" المعمعة.. وانتصرت الكنيسة (!)، ولم يلبث أن تحول هذا النصر إلى وباء، ينتقل بالعدوى ويضرب كنائس كثيرة في أمريكا، ولكن من دون أن يكون هناك خلاف على أية أرض بل على مملكة السماء، وكانت جرثومة الجنس تجد أرضا خصبة في الخيال الشعبي لتنمو وتتكاثر.

وما حدث في مطلع هذا القرن مع الكنيسة يكاد يتكرر اليوم مع إطلالة القرن الواحد والعشرين، ولكنه يقع داخل أرقى المؤسسات المدنية العلمانية وهي مؤسسة القضاء.. وهو ما يعيدنا إلى ولاية نيوجيرسي.

الشيطان .. امرأة

يوم 17 نيسان - أبريل العام الجاري نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية تقريرا مرعبا عن سيدة ارتكبت 115 جريمة جنسية، وكان ضحاياها 20 طفلا في روضة للأطفال تابعة لإحدى الكنائس، وكان مبنى روضة الأطفال يقع في الكنيسة نفسها التي نادرا ما تخلو من المصلين. وقد أصدرت المحكمة حكما يقضي بسجن السيدة مدة 47 عاما (!).

وفي التفاصيل أن السيدة مارغريت ميتشيل (26 عاما) عملت في مطلع الثمانينيات ولمدة 7 أشهر مربية في روضة للأطفال تابعة للأسقفية البروتستانتية في مدينة "بطرسبرغ" القريبة من بلدة سالم (!)، وقد تركت السيدة عملها لتلتحق بأعمال أخرى ولتتابع دراسة الدراما، ولكنها فوجئت بعد أعوام - وبالتحديد في 15 مارس عام 1988 - أنها تحولت في شبكات التلفزيون إلى "وحش جنسي" وأن 20 طفلا من ضحاياها قد شهدوا بأنها اغتصبتهم جنسيا، وعبر طرق وصفها المحققون العلمانيون والليبراليون بأنها "شيطانية"، وهذه الطرق تراوحت بين إدخال الملاعق الخشبية في الأعضاء الجنسية للأطفال، وإرغامهم على اللعب عراة، أو على شرب بول المعلمة وأكل برازها ومعذرة لهذه التفاصيل لأنها ذات دلالة على المدى الذي يمكن أن ينحدر إليه العقل الليبرالي - والأهم من كل ذلك أن هذه الطرق الشيطانية لم تترك أي أثر على أجساد الأطفال (!).

مع ذلك، فإن المحققين التابعين لإحدى هيئات منع "إساءة استخدام الأطفال" ومعهم المحلفون في المحكمة، ثم القاضي اقتنعوا جميعا بصحة شهادة الأطفال، ودفعوا بالسيدة إلى السجن للتكفير عن جرائمها. وفي العام الجاري، وإثر جهود مضنية بذلتها الكنيسة المعنية للوصول إلى الحقيقة تم الإفراج عن السيدة ميتشيل، بعد أن أمضت 5 أعوام في السجن، إذ تبين لمحكمة الاستئناف أن المحققين أنفسهم أساءوا استخدام الأطفال عندما "أوحوا" إليهم بالإجابات والشهادة ضد السيدة إلى حد التهديد بعقابهم إذا لم يفعلوا (!).

وفي هذه القضية فإن المؤسسة العلمانية وليس الكنيسة هي من تورط في "الشعوذة" وتحويل مؤسسات منع الإساءة للأطفال إلى رهبانيات مقدسة تطارد شياطين تسكن القارة الأمريكية كلها، وتتناسل من نيويورك وحتى كاليفورنيا.

الداودية 600

فرقة "اغتصاب الأطفال" كانت التهمة نفسها التي وجهها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إلى دافيد كورش وفرقته "الداودية" قبل أسابيع، عند اقتحام معقله، مما أدى إلى احتراق ما يزيد على 80 شخصا من أتباعه وبينهم 17 طفلا، في " أسوأ كارثة مدنية" تقع في أمريكا خلال القرن العشرين، على حد وصف أحد المعلقين. " مذبحة الداوديين" ربما كانت هي الثمرة الناضجة لعالم يخرج يوما بعد يوم عن نطاق السيطرة، ويكاد يكون كل سلوك فيها مباحا، فالداودية هي واحدة فقط من 600 فرقة متشابهة تنتشر في أمريكا، وهذه الفرق - كما تقول مؤسسة "ميليوم ووتش" المتخصصة بمتابعة الحركات الدينية في أمريكا - تبشر بنهاية العالم، وتزعم القدرة على إنقاذ أتباعها وشق طريق الخلاص أمامهم، وهي فرق تستخدم الإيحاء الجماعي. بل وتقوم في بعض المناسبات بمعجزات جماعية في شفاء المرضى أمام عدسات التلفزيون (!)، وتختلف هذه الفرق في تحديد موعد نهاية العالم، فبينما الداودية استعجلت هذه النهاية لتحقيق الخلاص الفوري، فإن فرقا أخرى تمدد الموعد حتى عام 2000، وهو ما يتفق مع بعض الفرق الدينية في المشرق التي تردد القول المأثور "تؤلف ولا تؤلفان" بمعنى أن دورة الحياة ستتوقف عام 2000 (!).

إن هذه "التعددية" في الفرق الدينية تقوم بدور سلبي، وبدلا من إغناء الفكر الديني وتدعيم المؤسسة الكنسية، فإنها على العكس تكاد تلغيها وتحولها إلى "شظايا" تصيب في الوقت نفسه المجتمع العلماني والليبرالي، وهنا تقع المواجهة، وتحدث المجزرة، لتكشف عن فشل مزدوج: فشل الكنيسة في تكريس قيم مشتركة تؤدي إلى تماسك المجتمع، وفشل المؤسسة المدنية في حماية مواطنيها وهي المهمة الرئيسية التي قامت من أجلها.

يوم اغتيال الرئيس

رئيس تحرير صحيفة "وول ستريت جورنال" روبرت بارتلي يعود بجذور الأزمة في أمريكا الحديثة إلى الثاني من نوفمبر عام 1962 "في ذلك اليوم الذي تم فيه اغتيال رئيس فيتنام الجنوبية "نفو وييم" بقرار من الرئيس جون كنيدي. وبعده اكتشفت النخبة أن الحرب في فيتنام ليست أخلاقية"، ويطور بارتلي هذه الخطيئة، فيشير إلى أن التظاهرات المعادية للحرب رفعت شعار "أوقفوا القتل في فيتنام" ثم لم يلبث أن تطور هذا الشعار، لدى حركة مناهضة الإجهاض، فرفعت شعار "أوقفوا القتل في عيادات الإجهاض" وكرست هذا الشعار عندما أقدم أحد عناصر هذه الحركة على ذبح أحد الأطباء في فلوريدا لأنه كان يقوم بعمليات إجهاض (!)، وبعد أن يشير إلى أن القضايا الجنسية تكاد تحتل الساحة السياسية، من الإجهاض، إلى الشاذين جنسيا، مرورا بفضائح العلاقات غير الشرعية التي تضرب "قيم العائلة" يكشف أن الشعار الذي كرسته أمريكا وهو يقول "اعملها بنفسك" يؤدي إلى قيام عالم لا وجود لأية حماية لأفراده فهو "عالم بلا أسوار".

إعدام المرتد حزبيا

هذه النماذج الأمريكية هل يمكن أن تفسر بعض ما يجري في العالم العربي، وفي هذا العالم الثالث الذي يزداد اتساعا يوما بعد يوم ويتحول إلى عالم خارج حدود السيطرة؟

نتوقف عند بعض المحطات.

في العراق ينص الدستور "العلماني" على الحكم بالإعدام على أي عضو في حزب السلطة يرتد عن الحزب ويختار حزبا آخر، وفي أثناء احتلال الكويت كرس البرلمان العراقي المنتخب عدة جلسات لمناقشة قضية "الغجر" وفيما إذا كان ينبغي السماح لهم بالإقامة داخل مدينة بغداد بعد أن شكلوا فرقا للزار باتت تستقطب بغنائها ورقصها سكان بغداد، وحسم صدام حسين القضية فأبقاهم في بغداد باعتبارهم مصدر "وناسة".

العراق هو نموذج للدولة العلمانية الديمقراطية (!) التي تمنح نفسها حقوق القداسة كلها والتي كانت تقتصر على الدول الثيوقراطية، وفي غياب حرية التعبير السياسي فإن القيم الاجتماعية المشتركة تنفصم ويتحول المجتمع إلى البحث عن وحدته من خلال طقوس الزار، متى عزت الثورة الجامعة.

في مصر، بالمقابل، تتناسل "الفرق الدينية" بتنظيماتها المسلحة، وتقرر على الطريقة الأمريكية أن "تفعلها بنفسها" فتحمل سيف القصاص ضد المؤسسة الدينية (اغتيال الشيخ الذهبي) والمؤسسة المدنية بمختلف رموزها، وترى أن تدمير الأرض وما عليها سوف يجعلها أقرب إلى مملكة السماء.. ولن نتساءل عما إذا كان وباء الإغماء الجماعي للمراهقات الذي ضرب محافظات مصر هو أحد مظاهر هذه المواجهة، ولكن عندما يحاول بعضهم تفسير هذه الظاهرة باعتبارها "مؤامرة على خصوبة الفتيات" فإنه من المنطقي الاستنتاج بأن هذه الجماعات المسلحة تعيد إنتاج "ساحرات سالم" وتهيئ سياطها.. للإنقاذ ( !).

 

شوقي رافع







زبغنيو بريجنسكي





اغتصاب الأطفال