أَنتَ لا تَقرَأ!

أَنتَ لا تَقرَأ!

في‭ ‬هذا‭ ‬الزَّمن‭ ‬الذي‭ ‬نظنُّ‭ ‬أنَّ‭ ‬التَّعليم‭ ‬قضى‭ ‬على‭ ‬الأُمِّيَّة،‭ ‬والجهل‭ ‬والتَّخلُّف‭ ‬في‭ ‬شتَّى‭ ‬أنحاء‭ ‬الكرة‭ ‬الأَرضيَّة،‭ ‬سأقول‭ ‬للقارئ‭:‬

إذا‭ ‬كنتَ‭ ‬تقرأ‭ ‬ولا‭ ‬تتأثَّر‭ ‬أو‭ ‬تؤثِّر،‭ ‬فأنتَ‭ ‬لا‭ ‬تقرأ،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬القراءة‭ ‬حجابًا،‭ ‬أَو‭ ‬تأكيدًا‭ ‬لما‭ ‬كنتَ‭ ‬عليه،‭ ‬أَو‭ ‬طردًا‭ ‬لا‭ ‬تلاقح‭ ‬فيها،‭ ‬فأنتَ‭ ‬لا‭ ‬تقرأ،‭ ‬وإذا‭ ‬كنتَ‭ ‬تقرأ‭ ‬للفريق‭ ‬الذي‭ ‬تشجِّعُه،‭ ‬أو‭ ‬تقرأ‭ ‬وعقلك‭ ‬وراء‭ ‬عَينَيك،‭ ‬فأنتَ‭ ‬لا‭ ‬تقرأ،‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تقرأ؛‭ ‬لأنَّك‭ ‬كائنٌ‭ ‬يتغيَّر‭!‬

القراءة‭ ‬مفهوم‭ ‬ضارب‭ ‬في‭ ‬العمق،‭ ‬فالشُّعوب‭ ‬التي‭ ‬نسافر‭ ‬إليها،‭ ‬ولا‭ ‬نشعر‭ ‬معها‭ ‬بضيق‭ ‬في‭ ‬فكرة،‭ ‬أو‭ ‬حرج‭ ‬في‭ ‬سؤال،‭ ‬ولا‭ ‬نلمس‭ ‬منها‭ ‬انفعالًا‭ ‬في‭ ‬اختلاف‭ ‬رأي،‭ ‬شعوب‭ ‬قارئة‭ ‬بامتياز،‭ ‬فهي‭ ‬متحضِّرة؛‭ ‬لأنَّها‭ ‬آمنت‭ ‬بالقراءة‭ ‬حتَّى‭ ‬أصبحت‭ ‬ضمن‭ ‬حاجتها‭ ‬اليوميَّة‭ ‬التي‭ ‬تغيِّر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬هواء‭ ‬غرفها‭ ‬الدَّاخليَّة،‭ ‬وتطرد‭ ‬بها‭ ‬غبار‭ ‬ماضٍ‭ ‬لم‭ ‬تُثِره،‭ ‬وتطير‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬متعة‭ ‬البحث،‭ ‬في‭ ‬صحبة‭ ‬الحياة،‭ ‬ومنادمة‭ ‬السُّؤال‭.‬

الذين‭ ‬يمارسونها‭ ‬يتبلور‭ ‬في‭ ‬أذهانهم‭ ‬مفهومهم‭ ‬الخاص‭ ‬عنها،‭ ‬وعلى‭ ‬ضوئه‭ ‬يتحرَّكون‭ ‬ويختارون‭ ‬وينقدون‭ ‬وينمون‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬إلى‭ ‬آخر؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬القراءة‭ ‬ليست‭ ‬وظيفة‭ ‬تؤدِّي‭ ‬مهمَّة‭ ‬وتنتهي،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬الوظيفة‭ ‬للقارئ،‭ ‬وبمعنى‭ ‬آخر‭ ‬تجعله‭ ‬يكتشف‭ ‬ذاته،‭ ‬ويتلمَّس‭ ‬طريقه‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عصا‭ ‬أو‭ ‬دليل،‭ ‬وبذلك‭ ‬يصلُ‭ ‬إلى‭ ‬لذَّة‭ ‬الاكتشاف‭ ‬الحقيقيَّة،‭ ‬ويقف‭ ‬وجهًا‭ ‬لوجه‭ ‬بلا‭ ‬معين،‭ ‬وبلا‭ ‬أسلحة‭ ‬أمام‭ ‬الفكرة‭ ‬المجرَّدة،‭ ‬والحقيقة‭ ‬المرعبة؛‭ ‬ليخوض‭ ‬هذا‭ ‬الغمار‭ ‬المتلاطم،‭ ‬فيعيد‭ ‬صياغة‭ ‬الوحشة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ويتبدَّل‭ ‬مفهوم‭ ‬الألفة‭ ‬لديه‭.‬

تتدخَّل‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬تكوينك‭ ‬كما‭ ‬يتدخَّل‭ ‬الحليب‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الرضيع،‭ ‬إلَّا‭ ‬أنَّ‭ ‬القراءة‭ ‬الحقيقيَّة‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬معجمها‭ ‬الفطام‭ ‬بالمعنى‭ ‬العام،‭ ‬ولكنْ‭ ‬في‭ ‬التَّفاصيل‭ ‬ثمَّة‭ ‬فطام،‭ ‬كيف؟‭!‬

كتب‭ ‬تُقرَأ‭ ‬لمرَّة‭ ‬واحدة،‭ ‬وربَّما‭ ‬رَميتَ‭ ‬بكتابٍ‭ ‬من‭ ‬أوَّل‭ ‬صفحة؛‭ ‬لأنَّك‭ ‬تجاوزته،‭ ‬فأنتَ‭ ‬مفطوم‭ ‬عنه،‭ ‬وبعض‭ ‬الكتب‭ ‬تصبح‭ ‬كالنَّديم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفارقك،‭ ‬وربَّما‭ ‬قادتك‭ ‬إلى‭ ‬كتب‭ ‬أُخرى‭ ‬في‭ ‬مُتواليةٍ‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬فأنت‭ ‬متَّصل‭ ‬بها‭ ‬ومتجدِّد،‭ ‬والعلاقة‭ ‬بالكتاب‭ ‬مثل‭ ‬علاقة‭ ‬الجذر‭ ‬بالتُّربة،‭ ‬والقراءة‭ ‬هي‭ ‬الماء،‭ ‬وبها‭ ‬يُزهرُ‭ ‬الجِذر،‭ ‬ويُثمر‭.‬

القراءة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬بالوصاية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬اندفاع‭ ‬ظامئ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬النَّبع‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عناء‭ ‬ومكابدة‭ ‬ذاتيَّة،‭ ‬وتجيء‭ ‬القراءة‭ ‬حين‭ ‬يتحرَّك‭ ‬حلمٌ‭ ‬أو‭ ‬سؤالٌ‭ ‬في‭ ‬داخلك،‭ ‬فهي‭ ‬كالقصيدة‭ ‬لا‭ ‬تتواصل‭ ‬معها‭ ‬إلَّا‭ ‬أن‭ ‬تكونَ‭ ‬مفعمًا‭ ‬بأحاسيس‭ ‬غامضة،‭ ‬وليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬هذه‭ ‬الأحاسيس‭ ‬ما‭ ‬دمتَ‭ ‬تقرأ‭.‬

إذا‭ ‬سلكتَ‭ ‬الطَّريق،‭ ‬فلن‭ ‬تعرف‭ ‬متى‭ ‬تتوقف؟‭ ‬فقد‭ ‬تنهي‭ ‬كتابين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬وأكثر،‭ ‬بل‭ ‬تشعر‭ ‬أنَّك‭ ‬ستُنهي‭ ‬مكتبة‭ ‬كاملة،‭ ‬وأنت‭ ‬تعيش‭ ‬حالة‭ ‬الشَّغف‭ ‬المعرفي‭.‬

والقراءة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬تفصيل‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة،‭ ‬ففي‭ ‬البحر‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬الصحراء‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬النجوم‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬رأسك‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬السنين‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬الغد‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬الأحداث‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬الأشخاص‭ ‬كتاب،‭ ‬وفي‭ ‬الكتاب‭ ‬كتاب‭.‬

أنتَ‭ ‬تقرأ،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬منصتٌ‭ ‬جيِّد؟‭ ‬الإنصات‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء‭ ‬فيك‭ ‬ساكنًا‭ ‬لتستمع‭ ‬بصفاء‭ ‬خالص،‭ ‬فيتحرَّر‭ ‬خيالك‭ ‬حتَّى‭ ‬يصبح‭ ‬خيالك‭ ‬المعلِّمَ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفارقك،‭ ‬ذاك‭ ‬هو‭ ‬الإنصات‭ ‬حين‭ ‬يأخذ‭ ‬صيغة‭ ‬التأمُّل‭ ‬والتفكُّر‭ ‬والمساءلة‭.‬

أنتَ‭ ‬تقرأ،‭ ‬إذا‭ ‬كنتَ‭ ‬تكتبُ‭ ‬جيِّدًا؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأنَّ‭ ‬القراءَة‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬بناء‭ ‬للأفكار،‭ ‬ومفتاح‭ ‬لتنظيمها‭ ■