الأدب في خدمة السُّلطة والتاريخ إبان الحكم العثماني في الجزائر

الأدب في خدمة السُّلطة والتاريخ إبان الحكم العثماني في الجزائر

عَرف النص الأدبي بالجزائر خلال العهد العثماني تجاذبًا قويًّا بين الإبداع الفني الخالص والتوثيق التاريخي، حيث شهدنا ميلاد نصوص أدبية من جنسَي المقامة والرحلة، كانت تلحّ على التسجيل التاريخي للمرحلة، وعلى التأريخ للأحداث التي عايشها الأدباء آنذاك، وتخليد مآثر السلطة العثمانية في الجزائر، وهو ما جعلها نصوصا جديدة وغريبة عن الجنس المنتمية له، غير مخلصة لتقاليده، ونموذجًا عن هذه النصوص مجموعة مقامات ألّفها أحد مثقفي الجزائر في بداية القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي.

 

‭ ‬تحكي‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬سيرة‭ ‬أحد‭ ‬دايات‭ ‬الجزائر،‭ ‬وتسجّل‭ ‬أهم‭ ‬مراحل‭ ‬حياته‭ ‬وحكمه،‭ ‬مضمنة‭ ‬بقصائد‭ ‬من‭ ‬نظم‭ ‬الكاتب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يضعنا‭ ‬أمام‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجناس‭ ‬أدبية؛‭ ‬المقامة‭ ‬والسّيرة‭ ‬والشّعر‭ ‬في‭ ‬نصّ‭ ‬واحد‭ ‬موضوعه‭ ‬واقعي‭ - ‬تاريخي،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬إحدى‭ ‬الرحلات‭ ‬المنجزة‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء‭ ‬الجزائرية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كاتبها‭ ‬هو‭ ‬المهيمن،‭ ‬والفاعل،‭ ‬كما‭ ‬عوّدتنا‭ ‬به‭ ‬أغلب‭ ‬نصوص‭ ‬الرحلة‭ ‬العربية،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬بطلها‭ ‬الرئيس‭ ‬باي‭ ‬الغرب‭ ‬الجزائري،‭ ‬وبدت‭ ‬الرحلة‭ ‬المدونة‭ ‬شبيهة‭ ‬بتقرير‭ ‬حربي‭ ‬عن‭ ‬غزوة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬الباي‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بروز‭ ‬وعي‭ ‬الرحال‭ ‬الكاتب‭ ‬بتقنيات‭ ‬التأليف‭ ‬الرحلي‭.‬

 

ابن‭ ‬ميمون‭ ‬محب‭ ‬الدولة‭ ‬البكداشية

ألّف‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬الجزائري‭ ‬كتاب‭ ‬التحفة‭ ‬المرضية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬البكداشية‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الجزائر‭ ‬المحمية،‭ ‬بسبب‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬التأريخ‭ ‬لأحد‭ ‬الحكام‭ ‬الأتراك،‭ ‬وتخليد‭ ‬مآثره،‭ ‬وتبيان‭ ‬محامده‭ ‬وخصاله،‭ ‬وقد‭ ‬اختار‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬فن‭ ‬المقامة‭ ‬للكتابة‭ ‬التاريخية،‭ ‬عرض‭ ‬فيها‭ ‬ست‭ ‬عشرة‭ ‬مقامة،‭ ‬سرد‭ ‬فيها‭ ‬سيرة‭ ‬الداي‭ ‬محمد‭ ‬بكداش،‭ ‬وعرّف‭ ‬بأخلاقه،‭ ‬وتصوّفه،‭ ‬وجهاده‭ ‬ضد‭ ‬النصارى‭ ‬الإسبان،‭ ‬ولم‭ ‬يكتف‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬بالمقامة‭ ‬للترجمة‭ ‬لمحمد‭ ‬بكداش،‭ ‬بل‭ ‬نظم‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬غرض‭ ‬المدح،‭ ‬ومن‭ ‬أجملها‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬ختم‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬بها‭ ‬تحفته،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭:‬

ضاءت‭ ‬بنور‭ ‬إيابك‭ ‬الأيام‭  

واعتزّ‭ ‬تحت‭ ‬لوائك‭ ‬الإسلام

أمّا‭ ‬الجميع‭ ‬ففي‭ ‬أعمّ‭ ‬مسرّة‭ ‬

لمّا‭ ‬انجلى‭ ‬بظهورك‭ ‬الإظلام

فاهنأ‭ ‬مزيّة‭ ‬ظافـــــــر‭ ‬متأيّـد‭ ‬

جفّت‭ ‬برفعة‭ ‬شأنه‭ ‬الأقلام

إني‭ ‬وإن‭ ‬خلّفت‭ ‬عنك‭ ‬فلم‭ ‬يزل‭ ‬

منّي‭ ‬إليــــــــك‭ ‬تحيّة‭ ‬وسلام

ورغم‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬لم‭ ‬يتصل‭ ‬اتصالًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬بالداي‭ ‬محمد‭ ‬بكداش،‭ ‬فإنه‭ ‬ظل‭ ‬متقربًا‭ ‬منه‭ ‬بكتاباته،‭ ‬كعادة‭ ‬علماء‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬مباشرة‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬تأليفه‭ ‬الكتاب؛‭ ‬ومنها‭ ‬إعجابه‭ ‬بالداي‭ ‬محمد‭ ‬بكداش،‭ ‬ونيّته‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬سيرته‭ ‬دون‭ ‬زيادة‭ ‬أو‭ ‬تحريف،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭: ‬اأردت‭ ‬أن‭ ‬أخدم‭ ‬مجلسه‭ ‬بزفِّ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬إليه،‭ ‬المحتوي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نُشر‭ ‬من‭ ‬السّيرة‭ ‬المحمدية‭ ‬عليه،‭ ‬وأشرفَ‭ ‬محاسنه‭ ‬بمثوله‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬فوسمته‭ ‬باسمه،‭ ‬وكسوته‭ ‬نور‭ ‬وسمه‭... ‬ولم‭ ‬آلُ‭ ‬جهدًا‭ ‬في‭ ‬تنقيحه‭ ‬وتأليفه‭ ‬من‭ ‬صادق‭ ‬الخبر‭ ‬وصحيحهب‭. ‬

مَن‭ ‬يَطلّع‭ ‬على‭ ‬عناوين‭ ‬مقامات‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬يلاحظ‭ ‬أنها‭ ‬تشف‭ ‬عمّا‭ ‬في‭ ‬داخلها‭ ‬من‭ ‬مضامين‭ ‬كلها‭ ‬تمحورت‭ ‬حول‭ ‬الداي‭ ‬بكداش،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬مقامته‭ ‬المعنونة‭ ‬بـ‭ ‬افي‭ ‬نبذة‭ ‬عن‭ ‬أخلاقه‭ ‬المرضية،‭ ‬ومما‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬بعض‭ ‬السادات‭ ‬الصوفيةب،‭ ‬ومقامته‭ ‬الثانية‭ ‬افي‭ ‬كونه‭ ‬سانجاق‭ ‬دار‭ ‬بلغة‭ ‬المجاهدين‭ ‬الأخيارب،‭ ‬ومقامته‭ ‬السابعة‭ ‬افي‭ ‬اسمه‭ ‬وأهل‭ ‬مملكته‭ ‬ورسمهب،‭ ‬والثامنة‭ ‬افي‭ ‬تهنئة‭ ‬الشعراء‭ ‬ومدحهم‭ ‬له،‭ ‬وتعريف‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬بما‭ ‬سطره‭ ‬أو‭ ‬نقلهب،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬المقامات‭ ‬التي‭ ‬أرّخت‭ ‬لفتح‭ ‬حصون‭ ‬كثيرة‭ ‬بوهران‭ ‬كحصن‭ ‬الجبل،‭ ‬وحصن‭ ‬العيون،‭ ‬وحصن‭ ‬مدينة‭ ‬وهران،‭ ‬وبرج‭ ‬الأحمر،‭ ‬والجديد،‭ ‬وحصن‭ ‬المرسى،‭... ‬وغيرها،‭ ‬والحاصل‭ ‬أن‭ ‬بكداش‭ ‬في‭ ‬مقامات‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬أيّ‭ ‬نقيصة،‭ ‬فلم‭ ‬ينتقده‭ ‬الكاتب‭ ‬قط،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الحكم‭ ‬التركي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقامات‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭ ‬حياة‭ ‬تختلف‭ ‬عما‭ ‬صوّره‭ ‬الفرنسيون‭ ‬في‭ ‬مؤلفاتهم‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬ظلم‭ ‬وقهر‭ ‬وفقر‭.‬

ويمكن‭ ‬التدليل‭ ‬على‭ ‬نصوص‭ ‬المدح‭ ‬بقول‭ ‬ابن‭ ‬ميمون‭: ‬اسيرة‭ ‬أخذت‭ ‬بمجامع‭ ‬قلوبهم،‭ ‬وتوجهوا‭ ‬إليه‭ ‬لبشاشته‭ ‬وحُسن‭ ‬خلقه‭ ‬في‭ ‬قضاء‭ ‬مرغوبهمب،‭ ‬وفي‭ ‬وصف‭ ‬لسانه‭ ‬يقول‭ ‬الكاتب‭: ‬ايقذف‭ ‬لسانه‭ ‬لؤلؤه‭ ‬المكنون،‭ ‬ويصرف‭ ‬من‭ ‬بدائعه‭ ‬الأنواع‭ ‬والفنون،‭ ‬فلا‭ ‬يجارى‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬إحسان،‭ ‬ولا‭ ‬يبارى‭ ‬في‭ ‬بلاغة‭ ‬وبراعة‭ ‬لسان،‭ ‬يقصر‭ ‬كل‭ ‬كريم‭ ‬عن‭ ‬نَداه،‭ ‬ويظهر‭ ‬الإعجاز‭ ‬فيما‭ ‬أظهره‭ ‬من‭ ‬البيان‭ ‬وأبداهب،‭ ‬لقد‭ ‬صار‭ ‬بكداش‭ ‬بما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬حميدة‭ ‬وبما‭ ‬أثبته‭ ‬من‭ ‬أخلاق‭ ‬وصفات‭ ‬كريمة‭: ‬اغرّة‭ ‬في‭ ‬جبين‭ ‬الملك،‭ ‬ودرة‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬إلا‭ ‬لذلك‭ ‬السلك،‭ ‬تباهت‭ ‬به‭ ‬الأيام،‭ ‬وتاهت‭ ‬في‭ ‬يمينه‭ ‬الأقلام‭.‬ب‭ ‬

ابن‭ ‬هطال‭ ‬التلمساني‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالباي‭ ‬محمد‭ ‬الكبير

يمكن‭ ‬ضم‭ ‬كاتب‭ ‬الدولة‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬هطال‭ ‬التلمساني‭ ‬إلى‭ ‬الفئة‭ ‬المثقفة،‭ ‬التي‭ ‬تشرّفت‭ ‬بالحُكم‭ ‬التركي‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬وعاشت‭ ‬مساندة‭ ‬وموالية‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬مماتها،‭ ‬إذ‭ ‬شغل‭ ‬مناصب‭ ‬مهمة‭: ‬اكمستشار،‭ ‬وكاتب‭ ‬دبلوماسي‭ ‬ومحارب‭ ‬عاش‭ ‬فترة‭ ‬خصبة‭ ‬من‭ ‬تطوّر‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬جديرة‭ ‬بالتسجيل‭ ‬والبعثب،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬كاتبًا‭ ‬خلال‭ ‬حُكم‭ ‬باي‭ ‬الغرب‭ ‬الجزائري‭ ‬محمد‭ ‬الكبير،‭ ‬واستمر‭ ‬بمنصبه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬الكبير،‭ ‬كما‭ ‬رافق‭ ‬الباي‭ ‬مصطفى‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬العجمي‭ ‬في‭ ‬غزوته‭ ‬على‭ ‬الشريف‭ ‬الدرقاوي‭ ‬والموالين‭ ‬له‭ ‬عام‭ ‬1215هـ‭/ ‬1800م،‭ ‬لكن‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭  ‬قتل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغزوة‭ ‬وفي‭ ‬معركة‭ ‬فرطاسة‭ ‬سنة‭ ‬1219هـ‭/ ‬1804م‭. ‬

وصرّح‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬مؤلفه‭ ‬عن‭ ‬هدف‭ ‬تدوين‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬هدف‭ ‬حربي‭ ‬سلطوي‭ ‬بقوله‭: ‬اوقد‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬منه‭ ‬نبذة،‭ ‬أخدم‭ ‬بها‭ ‬حضرة‭ ‬قامع‭ ‬المبغضين‭ ‬ومدوّخ‭ ‬المارقين،‭ ‬من‭ ‬جمع‭ ‬الله‭ ‬له‭ ‬خصال‭ ‬الشرف‭ ‬والمجد،‭ ‬وموجات‭ ‬الشكر‭ ‬والحمد؛‭ ‬محل‭ ‬الجلال‭ ‬والعظمة‭ ‬والجود،‭ ‬المخصوص‭ ‬بنصر‭ ‬الآراء‭ ‬والبنود،‭ ‬ذا‭ ‬الأيادي‭ ‬العميمة،‭ ‬والمنن‭ ‬العظيمة،‭ ‬والسياسة‭ ‬السديدة،‭ ‬والنعم‭ ‬المديدة،‭ ‬الذي‭ ‬انعقد‭ ‬على‭ ‬تفضيله‭ ‬الإجماع،‭ ‬وجعل‭ ‬من‭ ‬فلك‭ ‬اليُمْن‭ ‬والسعد‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬الارتفاع،‭ ‬كهف‭ ‬المستريح‭ ‬والعاني،‭ ‬الملحوظ‭ ‬برعاية‭ ‬الله‭ ‬السيد‭ ‬محمد‭ ‬باي‭ ‬ابن‭ ‬مولانا‭ ‬السيد‭ ‬عثمان‭ ‬باي،‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬السلف،‭ ‬وجعل‭ ‬البركة‭ ‬في‭ ‬الخلف‭ ‬وخلف‭ ‬الخلف،‭ ‬آمينب‭. ‬

 

هدف‭ ‬ثانٍ

وأكّد‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬غرض‭ ‬التدوين‭ ‬للرحلة‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬عمله،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬بعد‭ ‬شكر‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬التوفيق‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭: ‬انسأله‭ - ‬سبحانه‭ - ‬أن‭ ‬يجعله‭ ‬موافقًا‭ ‬لمن‭ (‬يقصد‭ ‬الباي‭) ‬جمع‭ ‬لغرضه،‭ ‬لأكون‭ ‬مؤديًا‭ ‬لبعض‭ ‬حقّه‭ ‬علينا‭ ‬وفرضه،‭ ‬فهو‭ ‬أكبر‭ ‬داع‭ ‬إلى‭ ‬جمعه،‭ ‬وأقوى‭ ‬سبب‭ ‬وحامل‭ ‬على‭ ‬وضعهب‭.‬

ويمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬رغبة‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬في‭ ‬الإسهام‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬التاريخية‭ ‬هدفًا‭ ‬ثانيًا‭ ‬في‭ ‬تدوين‭ ‬رحلة‭ ‬الباي؛‭ ‬لأنّ‭ ‬علم‭ ‬التاريخ‭ ‬أجل‭ ‬العلوم‭ ‬قدرًا،‭ ‬وبفضله‭ ‬تُعرف‭ ‬الأمم‭ ‬القديمة،‭ ‬وتحفظ‭ ‬أعمالها‭ ‬وأخلاقها،‭ ‬وهو‭ ‬أحقّ‭ ‬العلوم‭ ‬بعناية‭ ‬الحكام‭ ‬وإنفاقهم‭ ‬عليه،‭ ‬ولهذا‭ ‬حاول‭ ‬ابن‭ ‬هطّال‭ ‬تسجيل‭ ‬بعض‭ ‬مفاخر‭ ‬الباي‭ ‬محمد‭ ‬الكبير،‭ ‬والأحداث‭ ‬السياسية‭ ‬العسكرية‭ ‬المراهنة‭ ‬لحكمه،‭ ‬فتتبّع‭ ‬الكاتب‭ ‬الباي‭ ‬عبْر‭ ‬مراحل‭ ‬الحملة‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬شنّها‭ ‬على‭ ‬قبائل‭ ‬الصحراء،‭ ‬لحملهم‭ ‬على‭ ‬دفع‭ ‬الضرائب‭ ‬المفروضة‭ ‬عليهم‭ ‬سنويًا،‭ ‬ولذلك‭ ‬أخذت‭ ‬الرحلة‭ ‬طابعًا‭ ‬عسكريًّا‭ ‬حربيًّا‭ ‬اعتمد‭ ‬فيها‭ ‬كاتبها‭ ‬الأسلوب‭ ‬التسجيلي‭ ‬التاريخي،‭ ‬غير‭ ‬مهمل‭ ‬لتقاليد‭ ‬الكتابة‭ ‬الرحلية،‭ ‬كالتركيز‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬السفر‭ ‬والرحلة،‭ ‬وذكر‭ ‬المراحل،‭ ‬والمشاهدات‭ ‬والأحداث‭ ‬المصاحبة‭ ‬لهذا‭ ‬السفر،‭ ‬وإضاءة‭ ‬الأماكن‭ ‬البارزة‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬بالوصف‭ ‬الدقيق‭ ‬أو‭ ‬الموجز‭. ‬

واعتمد‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬التلمساني‭ ‬أسلوبًا‭ ‬وصفيًّا‭ ‬تقريريًا‭ ‬مادحًا،‭ ‬به‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬عبارات‭ ‬التنويه‭ ‬والشكر‭ ‬الشائعة‭ ‬آنذاك،‭ ‬وبلُغة‭ ‬بسيطة‭ ‬تصل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواضع‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الركاكة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬من‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنتقد‭ ‬قطّ‭ ‬العثمانيين،‭ ‬لإيمانه‭ ‬بدورهم‭ ‬المهم‭ ‬في‭ ‬الحماية‭ ‬والأمن‭ ‬من‭ ‬الأعداء‭ ‬النصارى‭.‬

 

مسوّغ‭ ‬كبير

نجد‭ ‬مدح‭ ‬الباي‭ ‬محمد‭ ‬الكبير‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬مبثوثًا‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬نص‭ ‬الرحلة‭ ‬العسكرية،‭ ‬ويجد‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬مسوّغًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬لحملة‭ ‬الباي‭ ‬على‭ ‬السكان‭ ‬المتمردين‭ ‬على‭ ‬قوانين‭ ‬الحكم،‭ ‬حيث‭ ‬عدّهم‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬كالأمة‭ ‬المتنكرة‭ ‬لأهلها‭ ‬والخارجة‭ ‬عن‭ ‬الجماعة،‭ ‬أو‭ ‬كالمرأة‭ ‬الناشز‭ ‬الخارجة‭ ‬عن‭ ‬طاعة‭ ‬زوجها‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬عرض‭ ‬جميع‭ ‬مقاطع‭ ‬المدح‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬محمد‭ ‬الكبير،‭ ‬وإنما‭ ‬نقتصر‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يدلّل‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬دفاع‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬عن‭ ‬الباي،‭ ‬وموالاته‭ ‬التامة‭ ‬له،‭ ‬ولذلك‭ ‬نسب‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬الباي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخصال،‭ ‬كحُسن‭ ‬المعاملة،‭ ‬وحسن‭ ‬التدبير،‭ ‬والتحضير‭ ‬للحرب،‭ ‬والكرم‭ ‬الفياض‭ ‬مع‭ ‬السكان،‭ ‬والرحمة‭ ‬بالضعفاء،‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬والشيوخ‭ ‬والنساء،‭ ‬والتائبين‭ ‬كذلك،‭ ‬ورجاحة‭ ‬العقل،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬حلّ‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬القبائل،‭ ‬والأعراب،‭ ‬والعمل‭ ‬بالسنّة‭ ‬أثناء‭ ‬الإغارة‭ ‬على‭ ‬العدو،‭ ‬كالنهي‭ ‬عن‭ ‬قطع‭ ‬الأشجار‭ ‬والنخيل‭.‬

ومن‭ ‬جميل‭ ‬ما‭ ‬عبّر‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬الباي‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬مواجهة‭ ‬صعوبات‭ ‬الإغارة‭ ‬على‭ ‬المتحصنين‭ ‬بالجدران‭ ‬في‭ ‬الأغواط‭ ‬قوله‭: ‬اوحين‭ ‬تأمّل‭ ‬سيدنا‭ ‬المدينة،‭ ‬وميّز‭ ‬سهلها‭ ‬ووعرها،‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬العسكر‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬منزله‭ ‬وتحقق‭ ‬أن‭ ‬يدخلها،‭ ‬لأنه‭ - ‬أطال‭ ‬الله‭ ‬بقاه‭ - ‬كانت‭ ‬له‭ ‬فطنة‭ ‬زائدة،‭ ‬وتجربة‭ ‬صادقة‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬ممارسة‭ ‬الحروب،‭ ‬وفهمه‭ ‬لما‭ ‬ترمزه‭ ‬العيون،‭ ‬وما‭ ‬تضمره‭ ‬الجيوب،‭ ‬وأمّا‭ ‬ثبوت‭ ‬الجنان‭ ‬والشجاعة‭ ‬فشيء‭ ‬تحار‭ ‬فيه‭ ‬العقول‭ ‬وتقصر‭ ‬عنه‭ ‬العبارةب‭. ‬

وكذلك‭ ‬يجري‭ ‬مدح‭ ‬الباي‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬ابن‭ ‬هطال‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬اوقد‭ ‬كان‭ ‬وضعت‭ ‬يد‭ ‬التجارب‭ ‬في‭ ‬كفّه‭ ‬مرآة‭ ‬العواقب،‭ ‬وتوجته‭ ‬بتصاريف‭ ‬الدهور،‭ ‬وعرفته‭ ‬بمصاريف‭ ‬الأمور،‭ ‬فأربى‭ ‬على‭ ‬ملوك‭ ‬العصر،‭ ‬بما‭ ‬أربت‭ ‬به‭ ‬الشمس‭ ‬على‭ ‬البدر،‭ ‬والقمر‭ ‬على‭ ‬النورب‭. ‬

 

ضريبة‭ ‬غير‭ ‬مجانية

من‭ ‬أمثلة‭ ‬خطابات‭ ‬الباي‭ ‬القوية‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عند‭ ‬تدخّله‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬أسر‭ ‬الميزابيين‭ ‬المحتجزين‭ ‬عند‭ ‬أهل‭ ‬الأغواط،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬لبني‭ ‬الأغواط‭ ‬اأن‭ ‬أطلقوا‭ ‬بني‭ ‬ميزاب‭ ‬الذين‭ ‬حبستم‭ ‬ولا‭ ‬نسرّح‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬أولادكم،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬أتاني‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بني‭ ‬ميزاب،‭ ‬وأنكم‭ ‬سرّحتم‭ ‬أولادهم،‭ ‬وأما‭ ‬الصلح‭ ‬فلا‭ ‬أحملكم‭ ‬عليه،‭ ‬فأنتم‭ ‬أعلم‭ ‬بما‭ ‬يصلح‭ ‬بكم‭ ‬والسلامب‭. ‬

ويبدي‭ ‬الباي‭ ‬في‭ ‬العبارة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬رسالته‭ ‬حيادًا‭ ‬فيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالصلح‭ ‬بين‭ ‬الأعراب‭ ‬الجزائريين،‭ ‬وذلك‭ ‬حتى‭ ‬يحقق‭ ‬لهم‭ ‬الاستقلالية‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الباي‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬مطلقًا‭ ‬بالتنصل‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬الضرائب‭ ‬للدولة،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الضريبة‭ ‬ليست‭ ‬مجانية،‭ ‬بل‭ ‬تلزم‭ ‬الدولة‭ ‬بحماية‭ ‬الذين‭ ‬يدفعون‭ ‬الضرائب،‭ ‬وتأمينهم‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭ ‬وأعراضهم‭ ‬وأموالهم‭.‬

وإن‭ ‬كان‭ ‬الباي‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬السابق‭ ‬حازمًا‭ ‬قويًّا،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬التالي‭ ‬رحيمًا‭ ‬منبهًا‭ ‬للعامة‭ ‬من‭ ‬المستضعفين،‭ ‬والخاصة‭ ‬من‭ ‬العلماء،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬اإلى‭ ‬كافة‭ ‬علماء‭ ‬بني‭ ‬الأغواط،‭ ‬بعد‭ ‬السلام‭ ‬عليكم‭ ‬ورحمة‭ ‬الله؛‭ ‬إن‭ ‬بلغكم‭ ‬كتابي‭ ‬هذا‭ ‬أخرجوا‭ ‬غدًا‭ ‬عيالكم‭ ‬وأولادكم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬الظالم‭ ‬أهلها‭ ‬وانحازوا‭ ‬خارج‭ ‬المدينة‭ ‬إلى‭ ‬جهة،‭ ‬وعليكم‭ ‬أمان‭ ‬الله،‭ ‬وإن‭ ‬خفتم‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬العسكر‭ ‬أن‭ ‬يوقع‭ ‬بكم،‭ ‬وكّلْت‭ ‬بكم‭ ‬مَن‭ ‬يحرسكم،‭ ‬ولا‭ ‬تختلطوا‭ ‬بالقوم،‭ ‬التي‭ ‬أراد‭ ‬الله‭ ‬هلاكها،‭ ‬فإن‭ ‬قبلتم‭ ‬النصيحة‭ ‬فاحذروا‭ ‬الفضيحة،‭ ‬وإن‭ ‬أبيتم‭ ‬فإثم‭ ‬أولادكم‭ ‬عليكمب‭. ‬

 

صراعات‭ ‬وخلافات

لقد‭ ‬تم‭ ‬اختيار‭ ‬هذين‭ ‬النموذجين‭ ‬في‭ ‬المقامة‭ ‬والرحلة‭ ‬للتعريف‭ ‬بظاهرة‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬وتلاقح‭ ‬الأدب‭ ‬مع‭ ‬التاريخ،‭ ‬وخدمته‭ ‬كذلك‭ ‬للسلطة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذان‭ ‬النموذجان‭ ‬هما‭ ‬الوحيدين؛‭ ‬إذ‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬ذاتها‭ ‬العالم‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬الجزائري‭ ‬المتوفى‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬12‭ ‬هـ،‭ ‬قد‭ ‬خلّد‭ ‬مآثر‭ ‬محمد‭ ‬عثمان‭ ‬باشا‭ ‬داي‭ ‬الجزائر‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االرحلة‭ ‬القمرية‭ ‬في‭ ‬السيرة‭ ‬المحمديةب،‭ ‬وكذلك‭ ‬ألّف‭ ‬أحمد‭ ‬البوني‭ ‬مقامته‭ ‬المشهورة‭ ‬اأعلام‭ ‬الأحبار‭ ‬بغرائب‭ ‬الوقائع‭ ‬والأخبارب‭ ‬التي‭ ‬خصّت‭ ‬علاقة‭ ‬العلماء‭ ‬بالسلطة،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬المراسلات‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬بين‭ ‬يوسف‭ ‬باشا‭ ‬ومحمد‭ ‬ساسي‭ ‬البوني،‭... ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬النتاجات‭ ‬النثرية‭ ‬والشعرية‭.‬

وفي‭ ‬الأخير،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التقارب‭ ‬والتوادّ‭ ‬قد‭ ‬سعت‭ ‬إليه‭ ‬السلطة‭ ‬العثمانية‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬لأن‭ ‬العلماء‭ ‬والأدباء‭ ‬والمرابطين‭ ‬كانوا‭ ‬يمثّلون‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬ويؤثرون‭ ‬بالنصح‭ ‬والموعظة‭ ‬والنفوذ‭ ‬الروحي‭ ‬على‭ ‬العامة،‭ ‬كما‭ ‬نبّه‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬د‭. ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬سعد‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬تجارب‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والرحلة،‭ ‬لكنّ‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الطيبة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬المشاكل‭ ‬والعوائق؛‭ ‬لوجود‭ ‬صراعات‭ ‬وخلافات‭ ‬بين‭ ‬السلاطين‭ ‬الأتراك‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬وبين‭ ‬الأعراب‭ ‬والقبائل‭ ‬والشيوخ‭ ‬الجزائريين‭■‬