الشّعر... والإنسان العربي

كان العرب خلال العصر الجاهلي ومَن تعقّب أثرهم في صدر الإسلام والعصر العباسي، ينسجون كلامهم على عادةٍ جروا عليها في تفخيم اللفظ والإحاطة بجمال المنطق، وكان الشِّعر أحد أقسام وأركان هذا المنطق، لذلك كان من حقّه أن يُختصّ بفضلِ تهذيبٍ، ويُفرد بزيادةِ عنايةٍ، فإذا اجتمعت العادة والطبيعة، وأُضيف إلى ذلك فنياتُ الصّنعة خرج كما قرأناه في دواوينهم الكثيرة فخمًا جزلًا قويًّا متينًا.
ولا شكّ في أن هذه العناية من جهة الشكل إنما تعكس ما يكنّونه في أنفسهم وفي ضمائرهم من أهميّة وقيمة لما يجب أن يكون عليه مضمون أشعارهم، إذْ لم تعتنِ القبيلة العربية بشيء كما اعتنتْ بالشِّعر، ولم تحتفِ بإنسان كاحتفائها بشعرائها المميّزين، ذلك أن الشاعر كان يمثّل صوت القبيلة في السِّلم والحرب، كما أنه مؤرخ القبيلة ومخلّد أيامها وانتصاراتها، والمنافح عن مآثرها وأمجادها.
ولما جاء الإسلام ظلّ هذا الإدراك سائدًا مُعْتَرفًا بجدواه، وقد ورد أن رسول الله [ كان يقول إبان اشتداد أذى المشركين اما يمنع الذين نصروا الله ورسوله بأسلحتهم أن ينصروه بألسنتهمب؟
ولما قام الشاعر حسان بن ثابت ]عنه بدور المنافح عن الدعوة الناشئة يومئذ، كان النبي [ يقول عنه الا يُحبّه إلاّ مؤمنٌ ولا يُبغضه إلّا منافقب، وكان يدعو له بهذا الدعاء االلهم أيّده بروح القدُسب.
وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: اجعلوا الشّعر أكبر همّكم وأكثر آدابكم، فإنّ فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير (اليوم الأخير من واقعة صفين الأليمة)، وقد عزمتُ على الفرار، فما ردّني إلّا قولُ عمرو بن الإطنابة الأنصاري (الإطنابة هي أمّ الشاعر، أما أبوه فهو زيد مناة):
أبتْ لي عفّتي وأبى بلائي
وأخْذي الحمدَ بالثّمن الربيحِ
وإجشامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيحِ
وقولي كلّما جشأتْ وجاشتْ
مكانك تُحمدي أو تستريحي
لأدفعَ عن مآثرَ صالحاتٍ
وأحمي بعدُ عن عرضٍ صريحِ
هكذا كان الشعر حافزًا وملهمًا للإنسان العربي قبل الإسلام وإبان عصور الإسلام المتتابعة، لأن فيه سِيَر الماضين وقِيَم الأجداد وطرائق تفكيرهم وأنماط أذواقهم، ولقد صوّر ابن سلاّم الجُمحي منزلة الشّعر بالنسبة لهُويّة العرب الثقافية فقال: اكان الشّعر عند العرب ديوان علمهم، ومُنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرونب.
ولعلّ أفضل مَنْ عبّر عن هذه المنزلة هو الشاعر العباسي الحكيم أبو تمام في قوله:
ولولا خِلالٌ سنّها الشّعرُ ما درى
بناةُ العُلا من أين تُؤتى المكارمُ ■