الطوسي مقارنة بين نظام الملك ونصير الدين

الطوسي مقارنة بين نظام الملك ونصير الدين

مع الفتح العربي الإسلامي لخراسان، بدأت العناصر العربية تستقر فيها، وبالتحديد بعض الصحابة وعلماء المسلمين الذين ساهموا في انتشار الفكر والعلوم الإسلامية، مما ساهم في تحقيق نهضة علمية وفكرية، لتتحول خراسان إلى جامعة يقصدها طلبة العلم، وليخرج منها عدد من كبار علماء المسلمين في مختلف المناحي . وترافق مع النهضة العلمية والفكرية ظهور الفرق الإسلامية المختلفة من الخوارج، والمعتزلة، والشيعة، والكرامية، مع غلبة لأتباع المذهبين الحنفي والشافعي، مما ساهم في ازدهار الحياة الفكرية، ولا سيما في القرنين الثالث والرابع الهجريين / التاسع والعاشر الميلاديين.

 

ساهمت‭ ‬الأسرة‭ ‬السامانية‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬خراسان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النهضة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دعمها‭ ‬للعلماء‭ ‬وتكريمهم،‭ ‬وتشجيعها‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬والتأليف‭. ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأمراء‭ ‬منصور‭ ‬بن‭ ‬نوح‭ ‬الساماني‭ (‬350‭ ‬ذ‭ ‬365هـ‭ /‬961‭ ‬ذ‭ ‬975م‭) ‬الذي‭ ‬احتضن‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإسلامي‭ ‬الفارابي‭ (‬ت‭ ‬339‭ ‬هـ‭ / ‬949‭ ‬م‭)‬،‭ ‬لتصبح‭ ‬بخارى،‭ ‬عاصمة‭ ‬السامانيين‭ ‬ابمنزلة‭ ‬المسجد،‭ ‬وكعبة‭ ‬الملك،‭ ‬ومجمع‭ ‬أفراد‭ ‬الزمان،‭ ‬ومطلع‭ ‬أدباء‭ ‬الأرض،‭ ‬وموسم‭ ‬فضلاء‭ ‬الدهرب‭.‬

واستمر‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬العلمي‭ ‬والفكري‭ ‬بعد‭ ‬السامانيين‭ ‬وخلال‭ ‬الحكم‭ ‬السلجوقي،‭ ‬حيث‭ ‬دعم‭ ‬السلاطين‭ ‬السلاجقة‭ ‬الحركةَ‭ ‬الفكرية‭ ‬عبر‭ ‬الاستعانة‭ ‬برجال‭ ‬أكفاء،‭ ‬أداروا‭ ‬الشؤون‭ ‬الإدارية‭ ‬والسياسية‭ ‬والعلمية‭ ‬من‭ ‬وزراء‭ ‬وحجّاب‭ ‬وكتّاب،‭ ‬ممن‭ ‬امتلكوا‭ ‬الخبرات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬بلاطات‭ ‬الحكّام‭ ‬السامانيين،‭ ‬والقراخاتائيين،‭ ‬والغرنويين،‭ ‬وغيرهم‭.‬

ومنهم‭ ‬الوزير‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬السلجوقي‭ (‬408‭ - ‬485هـ‭ /‬1018‭ ‬ذ‭ ‬1092‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬المدرسة‭ ‬النظامية،‭ ‬والتي‭ ‬هيمن‭ ‬عليها‭ ‬المذهب‭ ‬الواحد‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة،‭ ‬ظهر‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬والفقهاء،‭ ‬وتم‭ ‬تنشيط‭ ‬الحركة‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وإقليم‭ ‬خراسان‭ ‬خاصة،‭ ‬فقال‭ ‬فيليب‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭: ‬اوكان‭ ‬عهد‭ ‬طغرلبك،‭ ‬وابن‭ ‬أخيه‭ ‬ألب‭ ‬أرسلان،‭ ‬وملكشاه‭ ‬ابن‭ ‬ألب‭ ‬أرسلان‭ ‬من‭ ‬بعدهما،‭ ‬من‭ ‬ألمع‭ ‬الحقب‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السيادة‭ ‬السلجوقية‭ ‬على‭ ‬الشرق‭ ‬الإسلاميب‭.‬

ومن‭ ‬خراسان‭ ‬ظهرت‭ ‬شخصية‭ ‬ثانية،‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬إنقاذ‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إنقاذه‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬والفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬والعربي‭ ‬أمام‭ ‬غزوات‭ ‬المغول،‭ ‬وسقوط‭ ‬عاصمة‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية،‭ ‬بغداد‭ ‬سنة‭ ‬656‭ ‬هـ‭ / ‬1258‭ ‬م‭.‬

هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬هي‭ ‬الخواجة‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ (‬597‭ ‬ذ‭ ‬672‭ ‬هـ‭ / ‬1200‭ ‬ذ‭ ‬1273‭ ‬م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬بعد‭ ‬108‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬مقتل‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬السلجوقي،‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬سياسية‭ ‬وعسكرية‭ ‬أشدّ‭ ‬صعوبة،‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬مع‭ ‬الغزو‭ ‬المغولي،‭ ‬ليجد‭ ‬الطوسي‭ ‬نفسه‭ ‬متنقلًا‭ ‬من‭ ‬نيسابور‭ ‬في‭ ‬خراسان‭ ‬إلى‭ ‬قلاع‭ ‬ألموت‭ ‬الإسماعيلية،‭ ‬فمقربًا‭ ‬من‭ ‬هولاكو‭ ‬خان،‭ ‬الحاكم‭ ‬المغولي‭.‬

وهنا‭ ‬نطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬التالية‭:‬

1‭ - ‬ما‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬بين‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬وزير‭ ‬السلاجقة،‭ ‬ونصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬وزير‭ ‬المغول؟

2‭ - ‬أين‭ ‬أوجه‭ ‬التلاقي‭ ‬والتباعد‭ ‬بين‭ ‬نظامية‭ ‬انظام‭ ‬الملكب،‭ ‬واجامعة‭ ‬مراغةب‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬فيما‭ ‬بعد؟

3‭ - ‬ما‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬الرجلين‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬العلمية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬عصريهما؟

 

أولًا‭: ‬الوزارة‭ ‬

أ‭- ‬الوزير‭ ‬نظام‭ ‬الملك

كان‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬كاتبًا‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬السلطاني‭ ‬في‭ ‬خراسان‭ ‬وغزنة،‭ ‬ثم‭ ‬ترقّى‭ ‬ليصبح‭ ‬وزيرًا‭ ‬لحاكم‭ ‬خراسان‭ ‬السلجوقي‭ ‬ألب‭ ‬أرسلان،‭ ‬ومتصديًّا‭ ‬لكل‭ ‬شؤونه‭.‬

واستمر‭ ‬وزيرًا‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬ألب‭ ‬أرسلان،‭ ‬مع‭ ‬تسلّم‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬السلطنة‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬عمّه‭ ‬السلطان‭ ‬طغرلبك،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬وزيرًا‭ ‬لملكشاه‭ ‬بن‭ ‬ألب‭ ‬أرسلان،‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭: ‬افصار‭ ‬الملك‭ ‬حقيقة‭ ‬لنظامه‭ ‬ورسمًا‭ ‬للسلطان‭ ‬ملكشاه‭ ‬بن‭ ‬ألب‭ ‬أرسلان،‭ ‬واستمر‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬عشرين‭ ‬سنةب‭.‬

ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬فمع‭ ‬وجود‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬الخلافة‭ ‬بغداد،‭ ‬كان‭ ‬الشخص‭ ‬رقم‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسي‭ ‬نفسه‭: ‬اكان‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬يسوس‭ ‬الخلافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬عهدي‭ ‬القائم‭ ‬والمقتدر‭ ‬ومن‭ ‬ورائهما‭ ‬مدة‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًاب‭.‬

وينقل‭ ‬ابن‭ ‬خلكان‭ ‬ما‭ ‬يُظهر‭ ‬مكانة‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬عند‭ ‬الخليفة‭: ‬اودخل‭ ‬على‭ ‬الإمام‭ ‬المقتدي‭ ‬بالله،‭ ‬فأذن‭ ‬له‭ ‬بالجلوس‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬يا‭ ‬حسن،‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنك‭ ‬برضا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬عنكب‭.‬

ويعطينا‭ ‬أفضل‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬السلطان‭ ‬ألب‭ ‬أرسلان‭ ‬نفسه،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المنشور‭ ‬الذي‭ ‬أصدره‭ ‬افي‭ ‬تفويض‭ ‬وزارة‭ ‬ولده‭ ‬السلطان‭ ‬ملكشاه‭ ‬إلى‭ ‬الخواجة‭ ‬نظام‭ ‬الملكب‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬احادَّ‭ ‬الذكاء،‭ ‬وعبقريًّا،‭ ‬ومثلًا‭ ‬أعلى‭ ‬للسياسة،‭ ‬وقدوة‭ ‬للثبات‭ ‬على‭ ‬المبدأ،‭ ‬والسعي‭ ‬الحثيث‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافهب‭.‬

ب‭- ‬الوزير‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي

تنّقل‭ ‬الخواجة‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬المحتشم‭ ‬ناصر‭ ‬الدين‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬منصور،‭ ‬متولي‭ ‬قهستان،‭ ‬إلى‭ ‬ديوان‭ ‬علاء‭ ‬الدين‭ ‬محمد‭ ‬زعيم‭ ‬الإسماعيليين،‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬ولده‭ ‬ركن‭ ‬الدين‭ ‬خورشاه‭. ‬وكانت‭ ‬كلمته‭ ‬مسموعة،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مرغماً‭ ‬على‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬قلاع‭ ‬الإسماعيلية‭.‬

وفي‭ ‬ذلك‭ ‬يقول‭ ‬بروكلمان‭ ‬عن‭ ‬وصول‭ ‬هولاكو‭ ‬إلى‭ ‬قلاع‭ ‬الإسماعيلية،‭ ‬وما‭ ‬حصل‭ ‬حينها‭ ‬لركن‭ ‬الدين،‭ ‬ونصيحة‭ ‬الطوسي‭: ‬امن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬تعيّن‭ ‬عليه‭ (‬ركن‭ ‬الدين‭) ‬أن‭ ‬يفرّ‭ ‬إلى‭ ‬حصن‭ ‬ميمون‭ ‬في‭ ‬ناحية‭ ‬ألموت،‭ ‬حيث‭ ‬أقام‭ ‬معه‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬الرياضي‭ ‬الفلكي‭ ‬الشهير،‭ ‬ونصح‭ ‬له‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬بالاستسلام‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬مقاومة‭ ‬البتّة،‭ ‬رغبة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ينجو‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬بهذه‭ ‬الوسيلة،‭ ‬لكنّ‭ ‬ركن‭ ‬الدين‭ ‬قتل‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬يُحمل‭ ‬إلى‭ ‬معسكر‭ ‬هولاكو،‭ ‬أمّا‭ ‬الطوسي‭ ‬فحظي‭ ‬عند‭ ‬هولاكو،‭ ‬وصحبه‭ ‬في‭ ‬حملاته‭ ‬التالية‭ ‬بوصفه‭ ‬منجم‭ ‬البلاطب‭.‬

ونظرًا‭ ‬لحدّة‭ ‬ذكاء‭ ‬الطوسي،‭ ‬فقد‭ ‬ااستطاع‭ ‬بتأثيره‭ ‬على‭ ‬مزاج‭ ‬هولاكو‭ ‬أن‭ ‬يستحوذ‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬على‭ ‬عقله،‭ ‬وأن‭ ‬يروّض‭ ‬شارب‭ ‬الدماء،‭ ‬فيوجهه‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬الأمور‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفنيةب‭. ‬واستمر‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬هولاكو‭ ‬مستشارًا‭ ‬لأباقا‭ ‬بن‭ ‬هولاكو‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬وفاته‭.‬

ويقول‭ ‬الصفدي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭: ‬اوكان‭ ‬منجمًا‭ ‬لأباقا‭ ‬بعد‭ ‬أبيه،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬لهولاكو‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يُدخل‭ ‬يده‭ ‬في‭ ‬الأموال،‭ ‬واحتوى‭ ‬على‭ ‬عقله،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يركب‭ ‬أو‭ ‬يسافر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬يأمره‭ ‬بهب‭.‬

 

ثانياً‭: ‬تأسيس‭ ‬المدارس‭ ‬والمعاهد

ويقول‭ ‬بروكلمان‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭: ‬اوفي‭ ‬ظل‭ ‬نظام‭ ‬الملك،‭ ‬نعمت‭ ‬فارس‭ ‬والعراق‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بفترة‭ ‬من‭ ‬الرخاء‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما،‭ ‬وإن‭ ‬يكن‭ ‬الوزير‭... ‬مدينًا‭ ‬بشهرته،‭ ‬في‭ ‬المحلّ‭ ‬الأول،‭ ‬لما‭ ‬أسبغه‭ ‬من‭ ‬عطف‭ ‬على‭ ‬الفقهاء‭ ‬والعلماء،‭ ‬وما‭ ‬ضمنه‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬بإنشاء‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المدن‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬الإمبراطوريةب‭.‬

وفي‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬يضيف‭ ‬بروكلمان‭: ‬اوبرعاية‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬أتم‭ ‬الغزالي،‭ ‬آخر‭ ‬مفكر‭ ‬ديني‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬رسالته‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬النظامية‭ ‬بنيسابور‭ ‬أولًا،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬نظامية‭ ‬بغدادب‭.‬

فمَن‭ ‬هو‭ ‬الغزالي؟‭ ‬وما‭ ‬تأثيره‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬النظامية‭ ‬وعلى‭ ‬الحياة‭ ‬الفكرية‭ ‬والعلمية‭ ‬في‭ ‬زمانه؟‭ ‬وكيف‭ ‬ردّ‭ ‬عليه‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي؟

 

الغزالي‭ ‬بين‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬ونصير‭ ‬الدين

هو‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬الغزالي‭ ‬الطوسي،‭ ‬أبو‭ ‬حامد‭ (‬450‭ - ‬505هـ‭/ ‬1058‭ ‬‭- ‬1111م‭)‬،‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬وصلت‭ ‬مؤلفاته‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬مئتي‭ ‬مصنّف‭. ‬ولد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الطابران‭ ‬قرب‭ ‬طوس،‭ ‬وتعلّم‭ ‬في‭ ‬نيسابور،‭ ‬وقصد‭ ‬بعدها‭ ‬مراكز‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬كُل‭ ‬من‭ ‬بغداد،‭ ‬والحجاز،‭ ‬ودمشق،‭ ‬ومصر‭.‬

فتح‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬أمامه‭ ‬باب‭ ‬التعليم‭ ‬بالمدرسة‭ ‬النظامية‭ ‬في‭ ‬نيسابور‭ ‬أولًا،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬في‭ ‬بغداد‭.‬

ابدأ‭ ‬الغزالي‭ ‬حياته‭ ‬العلمية‭ ‬بدراسة‭ ‬عميقة‭ ‬لمذاهب‭ ‬علماء‭ ‬الكلام‭ ‬الشرعية‭ ‬والفقهية،‭ ‬ثم‭ ‬بعرضها‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬مشرقة‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬التدريس،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬قتل‭ ‬وليّه‭ ‬ونصيره‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬بخنجر‭ ‬أحد‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬المتعصبين،‭ ‬عكف‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬العقائد‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬ليكتب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬المباحث‭ ‬الجدلية‭ ‬في‭ ‬نقدها‭ ‬وتنفيذهاب‭.‬

لقد‭ ‬وضع‭ ‬الغزالي‭ ‬كتابه‭ ‬اتهافت‭ ‬الفلاسفةب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬موجهًا‭ ‬ضد‭ ‬فلسفة‭ ‬ابن‭ ‬سينا،‭ ‬وردًّا‭ ‬عليه،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬كفّر‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الغزالي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬الشافعي‭ ‬الأشعري،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬الشيعي‭ ‬الإسماعيلي‭.‬

ويقول‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬اإن‭ ‬رد‭ ‬الغزالي‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بريئًا‭! ‬وإلا‭ ‬فلماذا‭ ‬تجنّد‭ ‬لابن‭ ‬سينا‭ ‬وسكت‭ ‬عن‭ ‬الآخرين؟‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬ردًّا‭ ‬أيديولوجيًّا‭... ‬والرد‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬خطاب‭ ‬لا‭ ‬ينطق‭ ‬باسم‭ ‬الشخص‭ ‬المنتج‭ ‬له‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬ينطق‭ ‬باسم‭ ‬الجماعة‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص،‭ ‬ويتحدث‭ ‬باسمها،‭ ‬ولفائدتها،‭ ‬ضد‭ ‬جماعة‭ ‬أو‭ ‬جماعات‭ ‬أخرى‭. ‬وهذا‭ ‬الطابع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬في‭ ‬الردّ‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬يتكرر‭ ‬بصورة‭ ‬لافتة‭ ‬للنظر،‭ ‬كما‭ ‬يتكرر‭ ‬الرد‭ ‬المضاد‭ ‬المنافح‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬سينا،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬أجيال‭ ‬ثلاثة‭ ‬متتابعة‭ ‬تلت‭ ‬الغزالي‭ ‬مباشرة‭.‬

وتلى‭ ‬الغزالي‭ ‬في‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬كُلّ‭ ‬من‭ ‬الشهرستاني‭ (‬ت‭ ‬548‭ ‬هـ‭/ ‬1153م‭)‬،‭ ‬والفخر‭ ‬الرازي‭ (‬ت‭ ‬606هـ‭/ ‬1210م‭)‬،‭ ‬وغيرهما‭.‬

 

نصير‭ ‬الدين‭  ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬الحكمة

انعكس‭ ‬فكر‭ ‬الغزالي‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬النظامية،‭ ‬افإن‭ ‬التعليم‭ ‬والعلوم‭ ‬العقلية‭ ‬وتعلّمها‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬أنشئت‭ ‬بخراسان‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬وما‭ ‬بعده،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وسائر‭ ‬البلاد‭ ‬الإسلامية‭ ‬كان‭ ‬محظورًا،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدرس‭ ‬فيها‭ ‬ويتعلّم‭ ‬سوى‭ ‬الآداب‭ ‬والعلوم‭ ‬الدينية،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ - ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ - ‬يقلّل‭ ‬من‭ ‬رواج‭ ‬العلوم‭ ‬العقلية،‭ ‬واهتمام‭ ‬المتعلمين‭ ‬بها،‭ ‬ويُذهب‭ ‬بهاءَها‭. ‬هكذا،‭ ‬كانت‭ ‬حال‭ ‬المدارس‭ ‬النظامية،‭ ‬وكانت‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬طلابها‭ ‬كانوا‭ ‬محرومين‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬إثارة‭ ‬الفكر،‭ ‬وإيجاب‭ ‬البحث،‭ ‬وإظهار‭ ‬النظر‭ ‬والاستدلال‭. ‬لقد‭ ‬كانوا‭ ‬يربّون‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬محدودية‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬العلوم‭ ‬النقلية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬ابتلي‭ ‬فيها‭ ‬فضلاؤنا‭ ‬بالجمود‭ ‬والركودب‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الغزالي‭ ‬من‭ ‬الداعين‭ ‬إلى‭ ‬حصر‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬والحديث‭ ‬وحدهما،‭ ‬وحرّم‭ ‬ما‭ ‬عداهما‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬صنوف‭ ‬المعرفة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬واجهه‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬الذي‭ ‬انتهج‭ ‬نهج‭ ‬الحكماء‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬الحكمة‭ ‬العملية،‭ ‬وتبنّى‭ ‬مدرسة‭ ‬العقل‭ ‬الكلامية‭.‬

لقد‭ ‬دافع‭ ‬الخواجة‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الحكمة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انحسرت‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬تحت‭ ‬ضربات‭ ‬الغزالي‭.‬

ويقول‭ ‬الجابري‭: ‬انصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بالنسبة‭ ‬للفكر‭ ‬الشيعي‭ ‬كالرازي‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الأشعري،‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬وظّف‭ ‬الفلسفة‭ ‬السينوية‭  (‬ابن‭ ‬سينا‭)  ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬المذهب‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬الفارق،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬الطوسي‭ ‬كان‭ ‬شيعيًّا‭ ‬كابن‭ ‬سينا‭ ‬على‭ ‬مذهب‭ ‬الإمامية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كلّا‭ ‬منهما‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالإسماعيلية،‭ ‬وكما‭ ‬تخرّج‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الرازي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الأشاعرة‭ ‬الذين‭ ‬نشروا‭ ‬المذهب‭ ‬وذادوا‭ ‬عنه،‭ ‬كذلك‭ ‬كان‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬للطوسي‭ ‬الذي‭ ‬تتلمذ‭ ‬عليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬علماء‭ ‬الشيعة‭ ‬الإمامية‭ ‬وفلاسفتها‭. ‬وكان‭ ‬الطوسي‭ ‬أفضل‭ ‬أهل‭ ‬عصره‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬العقلية‭ ‬والنقليةب‭.‬

لقد‭ ‬دافع‭ ‬الخواجة‭ ‬الطوسي‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬سينا،‭ ‬وردّ‭ ‬على‭ ‬منتقديه،‭ ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬انتقد‭ ‬منهج‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬نظامية‭ ‬نظام‭ ‬الملك،‭ ‬فكانت‭ ‬جامعة‭ ‬مراغة‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬تسلك‭ ‬منهجًا‭ ‬تعليميًّا‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬والتحليل،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬الجامد‭ ‬الذي‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬النظامية‭.‬

 

نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬وجامعة‭ ‬مراغة

استطاع‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬أن‭ ‬يقنع‭ ‬هولاكو‭ ‬ببناء‭ ‬المرصد‭ ‬في‭ ‬مراغة،‭ ‬ولم‭ ‬يكتفِ‭ ‬الطوسي‭ ‬ببنائه،‭ ‬بل‭ ‬حوّل‭ ‬موضعه‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬ضمت‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬العلماء،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أورده‭ ‬ابن‭ ‬كثير‭. ‬ونقل‭ ‬إليه‭ ‬شيئًا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬الأوقاف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬وعمل‭ ‬دار‭ ‬حكمة‭ ‬ورتّب‭ ‬فيها‭ ‬فلاسفة،‭ ‬ورتّب‭ ‬لكل‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬والليلة‭ ‬ثلاثة‭ ‬دراهم،‭ ‬ودار‭ ‬طب‭ ‬فيها‭ ‬للطبيب‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬درهمان،‭ ‬ومدرسة،‭ ‬لكل‭ ‬فقيه‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬درهم،‭ ‬ودار‭ ‬حديث‭ ‬لكل‭ ‬محدّث‭ ‬نصف‭ ‬درهم‭ ‬في‭ ‬اليومب‭.‬

واستطاع‭ ‬الطوسي‭ ‬أن‭ ‬يقنع‭ ‬هولاكو‭ ‬باستقدام‭ ‬العلماء،‭ ‬وإعادة‭ ‬من‭ ‬فرّ‭ ‬منهم‭ ‬أمام‭ ‬الغزو‭ ‬المغولي،‭ ‬حيث‭ ‬أوفد‭ ‬هولاكو‭ ‬فخر‭ ‬الدين‭ ‬لقمان‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬المراغي‭ ‬اإلى‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬وغيرها،‭ ‬ليحثّ‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬فرّوا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬من‭ ‬الحملة‭ ‬المغولية،‭ ‬فلجأوا‭ ‬إلى‭ ‬أربيل،‭ ‬والموصل،‭ ‬والجزيرة،‭ ‬والشام،‭ ‬ويشوّقهم‭ ‬للعودة،‭ ‬وأن‭ ‬يدعو‭ ‬علماء‭ ‬تلك‭ ‬البلاد‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬مراغة‭... ‬فعاد‭ ‬العلماء‭ ‬إلى‭ ‬بلادهمب‭.‬

فالطوسي‭ ‬العالِم‭ ‬والفيلسوف،‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬المسلمين‭ ‬قد‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الانحلال‭ ‬الفكري،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬عندهم‭ ‬أصبح‭ ‬قشورًا،‭ ‬حيث‭ ‬حصر‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬والحديث‭ ‬وحدهما،‭ ‬وحرموا‭ ‬ما‭ ‬عداهما‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬صنوف‭ ‬المعرفة،‭ ‬مبتعدين‭ ‬عن‭ ‬العلوم‭ ‬العقلية‭ ‬والعملية،‭ ‬فأعلن‭ ‬افتتاح‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬الفقه،‭ ‬والحديث،‭ ‬والطب،‭ ‬والفلسفة،‭ ‬وتولّى‭ ‬هو‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المدارس‭ ‬وطلّابها‭.‬

ولم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بذلك،‭ ‬بل‭ ‬استطاع‭ ‬إقناع‭ ‬هولاكو‭ ‬بأن‭ ‬يعهدَ‭ ‬إليه‭ ‬بالإشراف‭ ‬على‭ ‬سائر‭ ‬الأوقاف‭ ‬الإسلامية‭ ‬والتصرف‭ ‬بمواردها‭ ‬بما‭ ‬يراه‭ ‬مناسبًا‭.‬

لقد‭ ‬ضمّ‭ ‬مرصد‭ ‬مراغة‭ ‬علماء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬منهم‭ ‬محيي‭ ‬الملة‭ ‬والدين‭ ‬القرطبي،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الأندلس،‭ ‬والمؤيد‭ ‬العرضي‭ ‬الدمشقي،‭ ‬والفخر‭ ‬المراغي‭ ‬الموصلي،‭ ‬والفخر‭ ‬الخلاطي‭ (‬وهو‭ ‬جورجي‭ ‬أو‭ ‬أرمني‭)‬،‭ ‬ونجم‭ ‬الدين‭ ‬القزويني،‭ ‬وقطب‭ ‬الدين‭ ‬الشيرازي،‭ ‬وكمال‭ ‬الدين‭ ‬الفارسي‭.‬

 

ثالثًا‭: ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المذهبية

أ‭- ‬كان‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬الشافعي،‭ ‬لذا‭ ‬نجده‭ ‬يؤسس‭ ‬النظاميات،‭ ‬ويقصر‭ ‬التعليم‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬الشافعي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سواه،‭ ‬اكان‭ ‬نظام‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬النظامة‭ ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬التعصب‭ ‬للمذهب‭ ‬الشافعي‭ ‬الذي‭ ‬يتأتى‭ ‬منه‭ ‬ردّ‭ ‬المذاهب‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬التلاميذب‭.‬

يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬ابن‭ ‬الجوزي‭: ‬اهذه‭ ‬المدرسة‭ ‬وسقوفها‭ ‬الموقوف‭ ‬عليها،‭ ‬وفي‭ ‬كتاب‭ ‬شرطها‭ ‬أنها‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬الشافعي‭ ‬أصلًا‭ ‬وفرعًا،‭ ‬وكذلك‭ ‬الوقوف‭ ‬عليها‭ ‬شرط‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬الشافعي‭ ‬أصلاً‭ ‬وفرعًاب‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ساهم‭ ‬بوقوع‭ ‬الفتنة‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬بين‭ ‬الشافعية‭ ‬والحنبلية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬الوعّاظ‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬النظامية‭ ‬يكفرّون‭ ‬أتباع‭ ‬المذهب‭ ‬الحنبليب‭. ‬هذا‭ ‬التعصب‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬السعي‭ ‬لمحو‭ ‬أتباع‭ ‬الفرق‭ ‬الإسلامية‭ ‬الأخرى‭ ‬اخاصة‭ ‬الشيعة‭ ‬والإسماعيليةب‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬الشيعة‭ ‬أو‭ ‬الرافضة،‭ ‬والإسماعيلية،‭ ‬من‭ ‬الخصوم،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬مهادنتهم،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبرهم‭ ‬اضالّين‭ ‬غواة،‭ ‬ولم‭ ‬يتورع‭ ‬عن‭ ‬سبّهم‭ ‬وإلصاق‭ ‬شتى‭ ‬أنواع‭ ‬التُّهم‭ ‬بهمب‭.‬

ب‭- ‬أما‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الشيعة‭ ‬الاثني‭ ‬عشرية‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬يورد‭ ‬الصفدي‭: ‬اوكان‭ ‬للمسلمين‭ ‬به‭ ‬نفع،‭ ‬خصوصًا‭ ‬الشيعة‭ ‬والعلويين،‭ ‬والحكماء‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وكان‭ ‬يبرّهم‭ ‬ويقضي‭ ‬أشغالهم‭ ‬ويحمي‭ ‬أوقافهمب‭.‬

فهو‭ ‬في‭ ‬صغره‭: ‬ادرس‭ ‬المنطق‭ ‬والحكمة‭ ‬على‭ ‬خاله‭ ‬نور‭ ‬الدين‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬الشيعي،‭ ‬وعلى‭ ‬خال‭ ‬أبيه‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬أبو‭ ‬طالب‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬حمزة‭ ‬الطوسي،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬الشيعةب،‭ ‬وغيرهما‭.‬

وبذلك‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬الرجلين؛‭ ‬نظام‭ ‬الملك،‭ ‬ونصير‭ ‬الدين،‭ ‬كانا‭ ‬على‭ ‬طرفَي‭ ‬نقيض‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬التوجّه‭ ‬المذهبي،‭ ‬فنظام‭ ‬الملك‭ ‬شافعي‭ ‬متطرف،‭ ‬ونصير‭ ‬الدين‭ ‬شيعي‭ ‬اثنا‭ ‬عشري،‭ ‬سعى‭ ‬بكل‭ ‬جهوده‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬الشيعة‭ ‬والعلويين،‭ ‬يساعدهم،‭ ‬ويحمي‭ ‬أوقافهم‭.‬

 

رابعًا‭: ‬ميزات‭ ‬نصير‭ ‬الدين

تميّز‭ ‬الخواجة‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬بالعِلم‭ ‬الواسع،‭ ‬والعقل‭ ‬الكبير،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬رجل‭ ‬السّاعة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬المثخن‭ ‬بالجراح‭. ‬وها‭ ‬هي‭ ‬الأقدار‭ ‬تشاء‭ ‬أن‭ ‬تعدّ‭ ‬الطوسي‭ ‬لمهمة‭ ‬شاقة،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬ينهض‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬مَن‭ ‬اتصف‭ ‬بصفات‭ ‬حُسن‭ ‬التدبير‭ ‬وبُعد‭ ‬النظر،‭ ‬حيث‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭:‬

‭-  ‬التجديد‭ ‬والإحياء‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬7هـ‭/ ‬13‭ ‬م،‭ ‬وفي‭ ‬مختلف‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬العالَم‭ ‬الإسلامي‭ ‬فريسة‭ ‬سهلة‭ ‬للمغول‭ ‬الذين‭ ‬استباحوا‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬القوى‭ ‬الإسلامية‭ ‬والعربية‭ ‬المفككة‭ ‬أصلًا‭ ‬أن‭ ‬تُحدث‭ ‬توازنًا‭ ‬للقوى‭ ‬سوى‭ ‬عبر‭ ‬معركة‭ ‬عين‭ ‬جالوت‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬مصر‭ ‬أمام‭ ‬المماليك،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مصر‭ ‬قد‭ ‬بقيت‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الغزو‭ ‬المغولي،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬كانت‭ ‬فريسة‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬إنقاذ‭ ‬الحواضر‭ ‬العلمية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منارات‭ ‬ومداميك‭ ‬للحضارات‭ ‬سوى‭ ‬بالعقل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬إليه‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

1‭ - ‬إحداث‭ ‬حراك‭ ‬علمي‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬العلمية‭.‬

2‭ -  ‬إنقاذ‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬اقتحمها‭ ‬المغول،‭ ‬وتجميعها،‭ ‬والحفاظ‭ ‬عليها‭.‬

3‭ -  ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬ينجّي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬حكَم‭ ‬عليهم‭ ‬بالموت‭.‬

4‭ - ‬وجود‭ ‬الطوسي‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬هولاكو،‭ ‬واعتماد‭ ‬الأخير‭ ‬عليه،‭ ‬مما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬انجذاب‭ ‬المغول‭ ‬نحو‭ ‬الإسلام‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭.‬

5‭ -  ‬لعب‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬الفكر‭ ‬الشيعي‭ ‬وعلى‭ ‬مؤسسته‭ ‬الدينية،‭ ‬وساهم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مناهجها‭ ‬الفكرية‭ ‬والعقائدية،‭ ‬ليكون‭ ‬المؤسس‭ ‬الأول‭ ‬لعلم‭ ‬الكلام‭ ‬عند‭ ‬الشيعة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابه‭ ‬اتجريد‭ ‬الاعتقادب‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬الجمع‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬والنقل‭.‬

6‭ -  ‬دافع‭ ‬عن‭ ‬الحكمة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انحسرت‭ ‬أمام‭ ‬الإمام‭ ‬الغزالي،‭ ‬وذلك‭ ‬عَبر‭ ‬مدرسة‭ ‬الحلّة‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬الملهم‭ ‬الرئيس‭ ‬لعلم‭ ‬الكلام،‭ ‬فهو‭ ‬يتبنى‭ ‬موقف‭ ‬مدرسة‭ ‬العقل‭ ‬الكلامية،‭ ‬وساهم‭ ‬في‭ ‬إحياء‭ ‬فلسفة‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬والفلسفة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭.‬

7‭ - ‬كان‭ ‬الطوسي‭ ‬ذا‭ ‬فكر‭ ‬منظّم،‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يخطّط‭ ‬ويفكر،‭ ‬فاستغل‭ ‬حاجة‭ ‬هولاكو‭ ‬إليه،‭ ‬كعالِم‭ ‬بالنجوم،‭ ‬واكتسب‭ ‬ثقته‭ ‬واحترامه،‭ ‬فأنقذ‭ ‬بالتالي‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬الضياع‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬صاخبة،‭ ‬ترافقت‭ ‬مع‭ ‬أحداث‭ ‬جسام‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬يقول‭ ‬العالم‭ ‬الأزهري‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالمتعال‭ ‬الصعيدي‭:‬

‭ ‬الم‭ ‬يمت‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جدّد‭ ‬ما‭ ‬بلي‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬التتار‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وأحيا‭ ‬ما‭ ‬مات‭ ‬من‭ ‬آمال‭ ‬المسلمين‭ ‬بها‭... ‬إن‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬التتار‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬بردّهم‭ ‬عن‭ ‬الشام‭ ‬في‭ ‬موقعة‭ ‬عين‭ ‬جالوت،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬بفتح‭ ‬قلوبهم‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬وهدايتهمب‭.‬

 

أبرز‭ ‬مميزات‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬

1‭ - ‬أسس‭ ‬أول‭ ‬مدرسة‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬المساعدة‭ ‬للطلاب،‭ ‬وأوقفت‭ ‬عليها‭ ‬الأوقاف‭.‬

2‭ - ‬انتشرت‭ ‬فروع‭ ‬النظامية‭ ‬في‭ ‬أمهات‭ ‬المدن‭ ‬الإسلامية،‭ ‬مما‭ ‬شجع‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬العلم،‭ ‬وتخرّج‭ ‬طلابها،‭ ‬ليملأوا‭ ‬وظائف‭ ‬الدولة‭ ‬ودواوينها،‭ ‬وليلعبوا‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬ونشر‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي،‭ ‬والرد‭ ‬على‭ ‬أسئلة‭ ‬العامة‭ ‬الفقهية‭ .‬

3‭ - ‬كان‭ ‬نظام‭ ‬الملك‭ ‬إداريًّا‭ ‬مرموقًا،‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يؤسس‭ ‬لنظام‭ ‬حكم‭ ‬قوي،‭ ‬كان‭ ‬يتربع‭ ‬على‭ ‬عرشه‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬السلطان‭ ‬السلجوقي‭.‬

4‭ - ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسي‭ ‬من‭ ‬أهواء‭ ‬ملكشاه‭ ‬السلجوقي،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬الشخصية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬السلطان‭ ‬السلجوقي‭.‬

5‭ - ‬استقطب‭ ‬العلماء‭ ‬والفقهاء،‭ ‬فشهد‭ ‬عصره‭ ‬نهضة‭ ‬علمية‭ ‬وفكرية‭ ‬مميزة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تعصبه‭ ‬للمذهب‭ ‬الشافعي‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الأشاعرة،‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬إيقاظ‭ ‬الفتنة‭ ‬بين‭ ‬الشافعية‭ ‬والحنبلية،‭ ‬وفي‭ ‬ترسيخ‭ ‬الحقد‭ ‬المذهبي‭ ‬بين‭ ‬السنّة‭ ‬والشيعة‭ ‬الاثني‭ ‬عشرية‭ ■‬