يوسف كامل وراغب عياد طريق الفن.. وصداقة إنسانية بلا حدود

يوسف كامل وراغب عياد  طريق الفن.. وصداقة إنسانية بلا حدود

يوسف كامل، وراغب عياد، اثنان من الرواد الأوائل الذين حفروا في مجرى نهر الإبداع المصري الحديث، جيل مثَّال مصر محمود مختار... وتعد الصداقة التي جمعت بينهما صداقة نادرة رفيعة المستوى بكل المقاييس، وحكايتهما تمثل صورة فريدة في معنى الإنسانية، لم تحدث في تاريخ الفن، على الرغم من اختلاف أسلوب كل منهما وطريقته الخاصة في التعبير.
اتخذ يوسف كامل من التأثيرية أسلوبًا له، فميزته وأصبحت علامة على فنه، وظهرت مصريته واضحة حين صور بالنور معالم القاهرة القديمة... قاهرة المعز، وبهاء القرية بطيورها وحيواناتها الأليفة وأسواقها، وقادنا راغب إلى هدير الحياة الشعبية... من الزار والأسواق والمقاهي والحقول والحمامات الشعبية والأفراح والموالد والأديرة المنتشرة في صعيد مصر، بأسلوب مفعم بروح الفن القبطي.

 

الأمير‭ ‬‮«‬يوسف‭ ‬كمال‮»‬

في‭ ‬العام‭ ‬1908‭ ‬تم‭ ‬افتتاح‭ ‬أول‭ ‬مدرسة‭ ‬للفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬التي‭ ‬افتتحت‭ ‬بحي‭ ‬درب‭ ‬الجماميز‭ ‬بالدار‭ ‬رقم‭ ‬100،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬دور‭ ‬الأمير‭ ‬ايوسف‭ ‬كمالب،‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬من‭ ‬ماله‭ ‬الخاص،‭ ‬ويعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬رعاة‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وقد‭ ‬ساهم‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يعد‭ ‬حدثًا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬وحضاريًا،‭ ‬يتوازى‭ ‬فيه‭ ‬الإبداع‭ ‬مع‭ ‬الفكر‭ ‬المصري‭ ‬الحديث‭.‬

‭ ‬بدأت‭ ‬الفكرة‭ ‬حينما‭ ‬قام‭ ‬الفنان‭ ‬الفرنسي‭ ‬غاليوم‭ ‬لبلان،‭ ‬بعمل‭ ‬تمثال‭ ‬للأمير‭ ‬يوسف‭ ‬كمال،‭ ‬وأقنعه‭ ‬بإنشاء‭ ‬المدرسة‭ ‬فاستجاب‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬وأوقف‭ ‬عليها‭ ‬مساحة‭ ‬الأراضي‭ ‬الزراعية‭ ‬الواقعة‭ ‬بزمام‭ ‬مديرية‭ ‬المنيا‭ ‬من‭ ‬أملاكه،‭ ‬وقدرها‭ ‬127‭ ‬فدانًا،‭ ‬وأوقف‭ ‬أيضًا‭ ‬عدة‭ ‬عقارات‭ ‬بمدينة‭ ‬الإسكندرية‭, ‬وقد‭ ‬نص‭ ‬في‭ ‬حجة‭ ‬وقفه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يصرف‭ ‬ريعه‭ ‬فيما‭ ‬يلزم‭ ‬لتدريس‭ ‬وتعليم‭ ‬مئة‭ ‬وخمسين‭ ‬طالًبا،‭ ‬دون‭ ‬التفات‭ ‬إلى‭ ‬الجنسية‭ ‬أو‭ ‬الدين،‭ ‬ولا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الثلث‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬الأجانب‭. ‬ويكون‭ ‬المنهج‭ ‬الدراسي‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬العصرية،‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬الخطوط‭ ‬العربية‭ ‬والنقوش‭ ‬البارزة،‭ ‬واستعمال‭ ‬العمارات‭ ‬والتصميمات‭ ‬والرسومات،‭ ‬ويقوم‭  ‬بالتدريس‭ ‬بها‭ ‬مدرسون‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬وأن‭ ‬تمنح‭ ‬ميدالية‭ ‬برونزية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬الطالبين‭ ‬الأول‭ ‬والثاني‭ ‬الناجحين‭ ‬بالفرقة‭ ‬النهائية،‭ ‬مكتوب‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬وجهي‭ ‬الميدالية‭ ‬اإنا‭ ‬فتحنا‭ ‬لك‭ ‬فتحًا‭ ‬مبينًاب،‭ ‬وعلى‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬اتذكار‭ ‬من‭ ‬الأمير‭ ‬يوسف‭ ‬كمالب‭.‬

كان‭ ‬مثَّال‭ ‬مصر‭ ‬محمود‭  ‬مختار‭ ‬الطالب‭ ‬رقم‭ ‬1‭ ‬بالمدرسة،‭ ‬وانضم‭ ‬إليها‭ ‬تباعًا‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬وراغب‭ ‬عياد‭ ‬ومحمد‭ ‬حسن‭ ‬وأحمد‭ ‬صبري‭ ‬من‭ ‬الرعيل‭ ‬الاول،‭ ‬وكان‭ ‬لبلان‭ ‬الناظر‭ ‬وأستاذ‭ ‬النحت،‭ ‬وفورشيللا‭ ‬الإيطالي‭ ‬أستاذ‭ ‬التصوير،‭ ‬وكولون‭ ‬أستاذ‭ ‬الزخرفة،‭ ‬بينما‭ ‬بيرون‭ ‬أستاذ‭ ‬العمارة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬بدأت‭ ‬نهضة‭ ‬مصر‭ ‬الفنية‭.‬

 

إخوة‭ ‬وأصدقاء

يقول‭ ‬راغب‭ ‬عياد‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭: ‬اكنا‭ ‬إخوة‭ ‬وأصدقاء،‭ ‬نتقاسم‭ ‬الرغيف‭ ‬ونتبارى‭ ‬في‭ ‬المعرفة،‭ ‬والتفوق‭ ‬بيننا‭ ‬سجالب‭.‬

نشأ‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬بحي‭ ‬باب‭ ‬الشعرية‭ ‬بين‭ ‬أسرة‭ ‬فنية،‭ ‬والده‭ ‬وأعمامه‭ ‬ومعظم‭ ‬أقاربه‭ ‬من‭ ‬المهندسين‭ ‬وهواة‭ ‬كبار‭ ‬لفن‭ ‬الرسم،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فتح‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬الرسم،‭ ‬وعندما‭ ‬التحق‭ ‬بمدرسة‭ ‬باب‭ ‬الشعرية‭ ‬الابتدائية‭ ‬بدأت‭ ‬موهبته‭ ‬تتفتح‭ ‬للرسم‭ ‬مثل‭ ‬زهرة‭ ‬يانعة،‭ ‬يختلي‭ ‬بنفسه‭ ‬بين‭ ‬الحصص‭ ‬ووقت‭ ‬الفسحة،‭ ‬ومعه‭ ‬كراسة‭ ‬الرسم‭ ‬يرسم‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يعن‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬وصور‭ ‬وأخيلة،‭ ‬وظل‭ ‬يرسم‭ ‬حتى‭ ‬التحق‭ ‬بمدرسة‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭.‬

أما‭ ‬راغب‭ ‬عياد‭ ‬فنشأ‭ ‬بحي‭ ‬الفجالة‭ ‬وامتلأ‭ ‬بسحر‭ ‬الحياة‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة،‭ ‬والتحق‭ ‬بمدرسة‭ ‬الفرير،‭ ‬وفي‭ ‬السنة‭ ‬النهائية،‭ ‬عندما‭ ‬قرأ‭ ‬عن‭ ‬إنشاء‭ ‬أول‭ ‬مدرسة‭ ‬للفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬التحق‭ ‬بها‭ ‬سرًا‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الأهل،‭ ‬الذين‭ ‬عرفوا‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬كامل،‭ ‬وبرغم‭ ‬المفاجأة‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬فضل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تشجيعه‭.‬

وفي‭ ‬العام‭ ‬1911‭ ‬تخرجت‭ ‬الدفعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬باستثناء‭ ‬محمود‭ ‬مختار،‭ ‬الذي‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬لدراسة‭ ‬النحت،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬للفن‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي،‭ ‬واضطر‭ ‬يوسف‭ ‬للعمل‭ ‬مدرسًا‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الإعدادية‭ ‬بميدان‭ ‬الظاهر،‭ ‬وعمل‭ ‬زميله‭ ‬راغب‭ ‬بمدرسة‭ ‬الأقباط،‭ ‬وكانا‭ ‬أول‭ ‬مصريين‭ ‬يعينان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬التي‭ ‬اقتصرت‭ ‬على‭ ‬الأجانب،‭ ‬وأصبحا‭ ‬متلازمين،‭ ‬فقد‭ ‬ارتوت‭ ‬الصداقة‭ ‬بينهما‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الينبوع‭ ‬الصافي‭ ‬للشعب‭ ‬المصري‭ ‬بكل‭ ‬أصالته،‭ ‬فجاءت‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬شقي‭ ‬الأمة‭ ‬في‭ ‬أبهى‭ ‬الصور،‭ ‬صداقة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الحدود‭ ‬ولا‭ ‬القيود‭ ‬بين‭ ‬ايوسفب‭ ‬المسلم‭ ‬واراغبب‭ ‬المسيحي،‭ ‬صداقة‭ ‬بها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬شخصية‭ ‬مصر‭.‬

 

تصفيق‭ ‬من‭ ‬البرلمان‭ ‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬جلس‭ ‬يوسف‭ ‬وراغب‭ ‬يتحدثان‭ ‬عن‭ ‬آمالهما‭ ‬الواسعة،‭ ‬ويتمنيان‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬لمشاهدة‭ ‬الفن‭ ‬هناك،‭ ‬وتأمل‭ ‬أعمال‭ ‬أعمدة‭ ‬النهضة‭ ‬الكبار‭: ‬دافنشي‭ ‬صاحب‭ ‬االموناليزاب،‭ ‬ومايكل‭ ‬أنجلو‭ ‬الذي‭ ‬صور‭ ‬النبي‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬على‭ ‬حجر‭ ‬من‭ ‬الرخام،‭ ‬وجسد‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬روائعه‭ ‬على‭ ‬مصلى‭ ‬االسستيناب،‭ ‬ورفائيل‭ ‬الذي‭ ‬رحل‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الزهور‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أبدع‭ ‬الصور‭ ‬في‭ ‬أيقونات‭ ‬للحياة‭ ‬والخلود،‭ ‬وكتب‭ ‬على‭ ‬قبره‭: ‬اهنا‭ ‬مرقد‭ ‬ذلك‭ ‬الشهير‭ ‬رفائيل،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تخشاه‭ ‬الطبيعة‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬ينافسها‭ ‬جمالها‭ ‬وهو‭ ‬حي‭... ‬ولما‭ ‬مات‭ ‬كانت‭ ‬تخشى‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬أن‭ ‬تموت‭ ‬معهب،‭ ‬ورابعهم‭ ‬بوتشيللي‭ ‬الذي‭ ‬صور‭ ‬الربيع‭ ‬في‭ ‬لوحته‭ ‬بنفس‭ ‬الاسم،‭ ‬رمزًا‭ ‬للحب‭ ‬وتجدد‭ ‬الحياة،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬روائع‭ ‬النهضة‭ ‬الإيطالية،‭ ‬حيث‭ ‬تتوسط‭ ‬افينوسب‭ ‬اللوحة‭ ‬وتوزع‭ ‬الحب‭ ‬على‭  ‬شخصياتها‭ ‬الأسطورية‭. ‬وفوق‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬استكمال‭ ‬الدراسة‭ ‬هناك‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬بفكر‭ ‬جديد،‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬فننا‭ ‬وتراثنا‭ ‬التاريخي‭ ‬العريق‭.‬

كان‭ ‬باب‭ ‬البعوث‭ ‬الفنية‭ ‬موصدًا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالبعثات‭ ‬الفنية‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬واتفق‭ ‬الاثنان‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يسافر‭ ‬أحدهما‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ويقوم‭ ‬الآخر‭ ‬بالتدريس‭ ‬بدلًا‭ ‬منه‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬عمله‭ ‬بمدرسته،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يتقاضى‭ ‬مرتبه‭ ‬ويرسله‭ ‬له‭... ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬دراسته‭ ‬يعود‭ ‬ويتبادلا‭ ‬السفر،‭ ‬وبالفعل‭ ‬توجها‭ ‬معًا‭ ‬إلى‭ ‬ناظري‭ ‬مدرسة‭ ‬الأقباط‭ ‬والمدرسة‭ ‬الإعدادية‭ ‬اللذين‭ ‬وافقا‭ ‬وشجعاهما‭.‬

وفي‭ ‬العام‭ ‬1922‭ ‬سافر‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬مبعوثًا‭ ‬من‭ ‬زميله‭ ‬راغب‭ ‬عياد،‭ ‬ثم‭ ‬لحق‭ ‬به‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬الإجازة‭ ‬الصيفية‭.‬

وتناقلت‭ ‬قصة‭ ‬هذين‭ ‬الشابين،‭ ‬وأعجب‭ ‬بهما‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سمعها‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب،‭ ‬واجتمع‭ ‬البرلمان‭ ‬المصري‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1924‭ ‬ووقف‭ ‬ويصا‭ ‬واصف‭ ‬باشا‭ ‬يروي‭ ‬قصة‭ ‬كفاحهما‭ ‬معًا،‭ ‬ودعا‭ ‬البرلمان‭ ‬إلى‭ ‬تشجيع‭ ‬الفنون،‭ ‬وفتح‭ ‬اعتماد‭ ‬سنوي‭ ‬لسفر‭ ‬الموهوبين‭ ‬من‭ ‬ميزانية‭ ‬وزارة‭ ‬المعارف،‭ ‬وأثارت‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬عاصفة‭ ‬من‭ ‬التصفيق‭ ‬داخل‭ ‬البرلمان،‭ ‬وأيد‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬مطلب‭ ‬ويصا،‭ ‬ووافق‭ ‬المجلس‭ ‬بالإجماع،‭ ‬وتقرر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬أول‭ ‬اعتماد‭ ‬بتشجيع‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬قدره‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬جنيه،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أوفدت‭ ‬أول‭ ‬بعثة‭ ‬رسمية‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1925،‭ ‬وسافر‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬وراغب‭ ‬عياد‭ ‬ومحمد‭ ‬حسن‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭... ‬وأحمد‭ ‬صبري‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭.‬

 

أسلوبان‭ ‬مختلفان‭ ‬

العجيب‭ ‬أنه‭ ‬برغم‭ ‬تلك‭ ‬الصداقة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬وراغب‭ ‬عياد،‭ ‬إلا‭ ‬أنهما‭ ‬مختلفان‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭ ‬الفني،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬أحدهما‭ ‬في‭ ‬التنازل‭ ‬عن‭ ‬أسلوبه‭.‬

 

رائد‭ ‬التأثيرية‭ ‬

كان‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬ايمثل‭ ‬رائد‭ ‬التأثيرية‭ ‬المصرية‭ ‬بتلك‭ ‬اللمسات‭ ‬القصيرة‭ ‬والتي‭ ‬تتوهج‭ ‬بالأضواء‭ ‬والظلالب،‭ ‬والتأثيرية‭ ‬مذهب‭ ‬أو‭ ‬مدرسة‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬بالنصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وأحدثت‭ ‬دويًا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن،‭ ‬وكانت‭ ‬البداية‭ ‬الحقيقية‭ ‬للحداثة،‭ ‬وقد‭ ‬حررت‭ ‬الرؤية‭ ‬الفنية‭ ‬للطبيعة‭ ‬من‭ ‬الأكاديمية‭ ‬وخرجت‭ ‬على‭ ‬تسجيل‭ ‬الواقع،‭ ‬واستبدلت‭ ‬الخطوط‭ ‬بالرسم‭ ‬بالضوء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬اللمسات‭ ‬القصيرة،‭ ‬كما‭ ‬جاءت‭ ‬انعكاسًا‭ ‬للأساس‭ ‬العلمي‭ ‬لطبيعة‭ ‬الضوء‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفه‭ ‬العالم‭ ‬إسحق‭ ‬نيوتن‭.‬

وظل‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬مع‭ ‬مقولته‭ ‬الشهيرة‭: ‬اولدت‭ ‬تأثيريًا‭ ‬وسأظل‭ ‬كذلكب،‭ ‬حيث‭ ‬سكنت‭ ‬لوحاته‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬ملاحم‭ ‬الضوء‭ ‬المصري‭ ‬الساطع،‭ ‬ملاحم‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬التأثيرية‭ ‬ابتهالات‭ ‬شرقية،‭ ‬يسمو‭ ‬فيها‭ ‬اللون‭ ‬في‭ ‬تفاؤل‭ ‬وإشراق،‭ ‬مع‭ ‬تنوع‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬صورها‭ ‬بلمساته‭ ‬الشاعرية‭ ‬القصيرة،‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬الذي‭ ‬تألق‭ ‬بالحقول‭ ‬والمروج‭ ‬والبيوت،‭ ‬والبشر‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬والفلاحات‭ ‬تحت‭ ‬أشجار‭ ‬الجميز،‭ ‬وفي‭ ‬الأسواق‭. ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬كامل‭ ‬ألوانه‭ ‬في‭ ‬مساحات‭ ‬أرحب‭ ‬ولمسات‭ ‬أكثر‭ ‬سخاء،‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الموضوع‭ ‬والمناخ‭ ‬النفسي‭ ‬البهيج‭ ‬المريح،‭ ‬كما‭ ‬اهتم‭ ‬بالمعايير‭ ‬الجمالية‭ ‬الخالصة،‭ ‬التي‭ ‬شملت‭ ‬التكوين‭ ‬والإيقاع‭ ‬والاستقرار‭ ‬والارتباط‭ ‬بين‭ ‬العناصر،‭ ‬وتموجات‭ ‬الضوء‭ ‬بين‭ ‬المساحات‭ ‬والمسافات‭.‬

تمثل‭ ‬لوحته‭ ‬االذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الحقلب‭ ‬مساحة‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬ببلاغة‭ ‬التشكيل‭ ‬والتعبير،‭ ‬صور‭ ‬فيها‭ ‬رجلًا‭ ‬بجلباب‭ ‬أبيض‭ ‬وامرأتين‭ ‬في‭ ‬ألوان‭ ‬بين‭ ‬الكحلي‭ ‬والأسود‭ ‬والأحمر،‭ ‬مع‭ ‬الحمار‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬بلمسة‭ ‬رمادية‭ ‬وفي‭ ‬الخلفية‭ ‬تطل‭ ‬الزروع‭ ‬والبيوت‭.‬

ولاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬لوحاته‭ ‬قد‭ ‬اتسعت‭ ‬للأسواق‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬نقل‭ ‬فيها‭ ‬هدير‭ ‬الحياة‭ ‬وأنفاس‭ ‬البشر‭. ‬أما‭ ‬قاهرة‭ ‬المعز،‭ ‬فقد‭ ‬مضى‭ ‬يرسمها‭ ‬بشغف‭ ‬من‭ ‬بدايته‭ ‬الأولى،‭ ‬يطوف‭ ‬وبشكل‭ ‬دائم‭ ‬بأحياء‭ ‬القلعة‭ ‬وبوابة‭ ‬المتولي،‭ ‬يصور‭ ‬تلك‭ ‬الشخوص‭ ‬الواضحة‭ ‬الملامح،‭ ‬من‭ ‬الشحاذين‭ ‬والفقراء‭ ‬والبسطاء‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬والأطفال‭ ‬في‭ ‬الحواري‭ ‬والأزقة‭.‬

 

فلاحة‭ ‬يوسف‭ ‬

  ‬من‭ ‬بين‭ ‬روائع‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬الصورة‭ ‬الشخصية‭ ‬االفلاحةب،‭ ‬التي‭ ‬صورها‭ ‬في‭ ‬رداء‭ ‬وغطاء‭ ‬أسود‭ ‬ممزوج‭ ‬بالكحلي‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬رمادية،‭ ‬لكن‭ ‬النور‭ ‬يشع‭ ‬من‭ ‬وجهها‭ ‬الهادئ‭ ‬المسكون‭ ‬بالجمال‭ ‬الفطري،‭ ‬تكاد‭ ‬تضارع‭ ‬االموناليزاب‭ ‬في‭ ‬جمالها‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬واختلاف‭ ‬اللمسة‭... ‬بنظرتها‭ ‬البريئة‭ ‬الساذجة‭.‬

وهناك‭ ‬فلاحة‭ ‬أخرى‭ ‬لكامل‭ ‬ذات‭ ‬إيــقـاع‭ ‬أحمر،‭ ‬فقد‭ ‬صور‭ ‬فتاة‭ ‬بعصبة‭ ‬حمراء‭ ‬مزدانة‭ ‬باللولي‭ ‬الأبيض،‭ ‬ورداء‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬اللــون‭ ‬بنقــوش‭ ‬من‭ ‬الكحلي،‭ ‬واكولةب‭ ‬عريضة‭ ‬مسحوبة‭ ‬على‭ ‬الصدر،‭ ‬وتطل‭ ‬ضفيرتاها‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬الصدر‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬اليمنى‭ ‬والثانية‭ ‬مسترسلة‭ ‬على‭ ‬الظهر،‭ ‬وببراعة‭ ‬شديدة‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬التقسيم‭ ‬الأفقي‭ ‬في‭ ‬الخلفية،‭ ‬فأوجد‭ ‬علاقة‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الراسي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الشخصية‭ ‬أو‭ ‬الموديل‭ ‬والأفقي‭ ‬في‭ ‬الأرض‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬أعمال‭ ‬الفنان‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬بالأبيض‭ ‬والأسود‭ ‬والمفعمة‭ ‬بقوة‭ ‬الشخصية‭ ‬وملامحها،‭ ‬صوره‭ ‬الشخصية‭ ‬لزميله‭ ‬مثَّال‭ ‬مصر‭ ‬مختار،‭ ‬وصورة‭ ‬للزعيم‭ ‬أحمد‭ ‬عرابي،‭ ‬وأخرى‭ ‬لفلاح‭ ‬مصري‭ ‬بملامح‭ ‬الطيبة،‭ ‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬يلتقط‭ ‬ملامح‭ ‬الشخصية‭ ‬وينفذ‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬ثم‭ ‬يسجلها‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الصورة‭ ‬محملة‭ ‬بالصدق‭ ‬وروح‭ ‬الشخصية‭... ‬الوجه‭ ‬وحده‭ ‬مركز‭ ‬التعبير‭ ‬والإشعاع‭ ‬في‭ ‬اللوحة،‭ ‬أما‭ ‬الرداء،‭ ‬وخاصة‭ ‬لوحات‭ ‬نماذجه‭ ‬الريفية،‭ ‬فهو‭ ‬عنصر‭ ‬مكمل‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬ألوان‭.‬

بلغ‭ ‬كامل‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬التألق‭ ‬والاختزال‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أعماله‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬لوحته‭ ‬اأحمال‭ ‬البرسيمب،‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬صورة‭ ‬بليغة‭ ‬من‭ ‬التلخيص‭ ‬والاختزال،‭ ‬تحولت‭ ‬فيها‭ ‬العناصر‭ ‬إلى‭ ‬مسطحات‭ ‬لونية‭ ‬في‭ ‬حيوية‭ ‬وبراعة‭ ‬في‭ ‬التكوين‭.‬

وفي‭ ‬لوحة‭ ‬ابناني‭ ‬الحمامب‭ ‬صور‭ ‬بيت‭ ‬الحمام،‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬أربعة‭ ‬صناديق‭ ‬خشبية‭ ‬ذات‭ ‬فتحات‭ ‬ورفوف‭ ‬باللون‭ ‬البني،‭ ‬بينما‭ ‬تبدو‭ ‬الحمامات‭ ‬السوداء‭ ‬والبيضاء‭ ‬في‭ ‬أوضاع‭ ‬وحركات،‭ ‬مع‭ ‬الروح‭ ‬البادية‭ ‬من‭ ‬السلام‭ ‬والاطمئنان‭ ‬تجدها‭ ‬في‭ ‬مأمن‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬واغش‭ ‬الحياة‭ ‬بالخارج،‭ ‬خاصة‭ ‬وقد‭ ‬جعل‭ ‬لها‭ ‬السقاية‭ ‬من‭ ‬آنية‭ ‬خزفية‭. ‬وقد‭ ‬أجاد‭ ‬كامل‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬التكوين‭ ‬مع‭ ‬الترديد‭ ‬والانسجام‭ ‬اللوني‭... ‬من‭ ‬البنــي‭ ‬في‭ ‬البنانـي‭ ‬والأبيض‭ ‬والأسود‭ ‬في‭ ‬الحمام‭ ‬ولمسات‭ ‬قليلة‭ ‬موزعة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬الأزرق‭ ‬والأخضر‭.‬

لكن‭ ‬يظل‭ ‬عشقه‭ ‬الخاص‭ ‬لرسم‭ ‬حيوانات‭ ‬الريف‭ ‬المصري‭ ‬وطيوره،‭ ‬وهناك‭ ‬لوحات‭ ‬عديدة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬مثل‭ ‬لوحة‭ ‬الماعز،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬أصدقاؤه‭ ‬الفلاحون‭ ‬من‭ ‬جيران‭ ‬مرسمه‭ ‬في‭ ‬اعين‭ ‬شمسب‭ ‬يحضرون‭ ‬له‭ ‬الحمير‭ ‬والخراف‭ ‬والماعز‭ ‬والطيور‭ ‬الداجنة‭ ‬ليصورها‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬مرسمه‭ ‬مقتنصًا‭ ‬الحركة‭ ‬بلمساته‭ ‬الفورية‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬روح‭ ‬الأشياء‭. ‬

ومن‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬أبدعها‭ ‬أواخر‭ ‬حياته‭ ‬االحمامب‭ ‬واالدجاجب،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تزعجه‭ ‬حركة‭ ‬تلك‭ ‬الحيوانات‭ ‬والطيور،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬ريشته‭ ‬وألوانه‭ ‬سباقة‭ ‬في‭ ‬رسمها،‭ ‬تفوقها‭ ‬سرعة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬والتجسيد،‭ ‬ريشة‭ ‬فصيحة‭ ‬لماحة‭... ‬ويظل‭ ‬اديكهب‭ ‬الشهير‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬لوحاته،‭ ‬حيث‭ ‬صوره‭ ‬متربعًا‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الصورة‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬من‭ ‬الأزرق‭ ‬الهادئ،‭ ‬مزهوًا‭ ‬في‭ ‬ألوان‭ ‬غنائية‭ ‬من‭ ‬الأحمر‭ ‬الناري‭ ‬والأصفر‭ ‬البرتقالي‭ ‬مع‭ ‬الكحلي‭.‬

ولقد‭ ‬قدم‭ ‬يوسف‭ ‬كامل‭ ‬بتعبير‭ ‬ناقدنا‭ ‬بدر‭ ‬الدين‭ ‬أبوغازي‭: ‬صورة‭ ‬أصيلة‭ ‬لمصر،‭ ‬جاهد‭ ‬في‭ ‬صياغتها،‭ ‬ورحل‭ ‬وتعلم‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬نبض‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬أحبها،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬سفره‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬وطوافه‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬امتلاك‭ ‬أسرار‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬البقعة‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬والضواحي‭ ‬حولها‭.. ‬وكم‭ ‬من‭ ‬فنان‭ ‬عظيم‭ ‬خاض‭ ‬العوالم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اكتشاف‭ ‬الكون‭ ‬التنشكيلي‭ ‬في‭ ‬عالمه‭ ‬الصغير‭.‬

‭ ‬

‭ ‬مصري‭ ‬حتى‭ ‬النخاع‭ ‬

يقول‭ ‬راغب‭ ‬عياد‭: ‬اإنني‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬وطأت‭ ‬قدماي‭ ‬رصيف‭ ‬ميناء‭ ‬الإسكندرية‭ ‬عقب‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬البعثة‭ ‬بإيطاليا،‭ ‬أقسمت‭ ‬أن‭ ‬ألقي‭ ‬بالقبعة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬الأبدب‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬عياد‭ ‬يقصد‭ ‬خلع‭ ‬القبعة‭ ‬التي‭ ‬يتقي‭ ‬بها‭ ‬الشمس‭ ‬والمطر‭ ‬عندما‭ ‬درس‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬لكنه‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بذلك‭ ‬مصريًا‭ ‬من‭ ‬قمة‭ ‬رأسه‭ ‬حتى‭ ‬قدميه‭... ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصريًا‭ ‬حتى‭ ‬النخاع‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬راح‭ ‬يطوف‭ ‬بالأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬والقرى‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬التجمعات‭ ‬البشرية،‭ ‬وطافت‭ ‬ريشته‭ ‬بالحقول‭ ‬والدروب‭ ‬الضيقة‭ ‬والمقاهي‭ ‬البلدية‭ ‬وحفلات‭ ‬السمر،‭ ‬وصور‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بأدق‭ ‬تفاصيله،‭ ‬كما‭ ‬صور‭ ‬الأفراح‭ ‬والموالد‭ ‬الشعبية‭ ‬وحلقات‭ ‬الذكر‭ ‬والرقص‭ ‬الشعبي‭ ‬والتحطيب‭.‬

ثم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬راحت‭ ‬ريشته‭ ‬اللماحة‭ ‬تكمل‭ ‬جولتها‭ ‬في‭ ‬أديرة‭ ‬مصر‭ ‬القبطية،‭ ‬تشارك‭ ‬الرهبان‭ ‬التقشف‭ ‬والزهد،‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬الناقد‭ ‬الفنان‭ ‬حسين‭ ‬بيكار،‭ ‬وتعكس‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭ ‬بنفس‭ ‬الزهد‭ ‬اللوني‭ ‬والخطي‭ ‬في‭ ‬تكوينات‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬البساطة،‭ ‬وتتميز‭ ‬بطرافة‭ ‬وخشونة‭ ‬مشبعة‭ ‬بروح‭ ‬صوفية‭ ‬تشوبها‭ ‬زرقة‭ ‬أثيرية‭ ‬ممزوجة‭ ‬برماديات‭ ‬ترابية‭. ‬وقد‭ ‬ساعد‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬هذا‭ ‬الجو‭ ‬الرهباني‭ ‬اختياره‭ ‬سطوحًا‭ ‬للوحاته‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأوراق‭ ‬الخشنة‭ ‬واستعمال‭ ‬الأحبار‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬الزيتية،‭ ‬وكان‭ ‬يغمس‭ ‬فيها‭ ‬أعواد‭ ‬الخشب‭ ‬التي‭ ‬يشحذها‭ ‬بنفسه‭ ‬بمنزلة‭ ‬أقلام‭ ‬بخطوط‭ ‬قاسية‭ ‬تتشابك‭ ‬في‭ ‬إيقاعات‭ ‬بطيئة‭ ‬تعكس‭ ‬لهذا‭ ‬الجو‭ ‬من‭ ‬الزهد،‭ ‬مع‭ ‬معمارية‭ ‬الأبنية‭ ‬وطرازها‭ ‬وما‭ ‬تحوي‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬وإيماءات‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬صوره‭ ‬عياد‭ ‬خلال‭ ‬حياته‭ ‬الطويلة،‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬90‭ ‬عامًا،‭ ‬يعد‭ ‬وصفًا‭ ‬جديدًا‭ ‬لمصر‭ ‬أكثر‭ ‬صدقًا‭ ‬وعمقًا‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬اوصف‭ ‬مصرب،‭ ‬الذي‭ ‬سجل‭ ‬الحياة‭ ‬المصرية‭ ‬أثناء‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬فجاء‭ ‬أشبه‭ ‬بموال‭ ‬مصحوب‭ ‬بمعزوفة‭ ‬من‭ ‬ربابة‭ ‬شعبية،‭ ‬وهو‭ ‬فنان‭ ‬تعبيري‭ ‬لا‭ ‬يطيل‭ ‬تأمل‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬ونوازعهم،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬همه‭ ‬هو‭ ‬التعبير‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬تجمعاتهم‭ ‬وحركتهم‭ ‬وارتباطهم‭ ‬بالعالم‭ ‬المحيط‭ ‬حولهم،‭ ‬محيط‭ ‬البيئة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬وما‭ ‬تحفل‭ ‬بعناصر،‭ ‬وهو‭ ‬هنا‭ ‬يحقق‭ ‬تلك‭ ‬الملامح‭ ‬من‭ ‬الأصالة‭ ‬والحداثة‭ ‬والتراث‭ ‬واللمسة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬التي‭ ‬تتجول‭ ‬بحرية‭ ‬وحركة‭ ‬لا‭ ‬تهدأ‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الصورة‭.‬

يقول‭ ‬الفنان‭ ‬حامد‭ ‬ندا‭ ‬وهو‭ ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الجيل‭ ‬التالي‭ ‬للرواد‭ ‬وأحد‭ ‬نجوم‭ ‬مصوري‭ ‬مصر‭: ‬القد‭ ‬تبينت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬راغب‭ ‬عياد‭ ‬في‭ ‬لوحاته‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬الشعبية‭ ‬قرابة‭ ‬روحية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الفارق‭ ‬شاسعًا‭ ‬بين‭ ‬معالجة‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬للموضوع‭ ‬وللشخوص‭ ‬الشعبية،‭ ‬فصور‭ ‬راغب‭ ‬بموهبة‭ ‬غير‭ ‬منكورة‭ ‬واقع‭ ‬الحياة‭ ‬الشعبية،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فقد‭ ‬عنيت‭ ‬بالغوص‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تحت‭ ‬الواقع،‭ ‬مقتنصًا‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬الشعبية‭ ‬من‭ ‬رواسب‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تنعكس‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬البيئة‭ ‬الشعبية‭ ‬وسلوك‭ ‬رجالها‭ ‬ونسائهاب‭.‬

ولقد‭ ‬أحس‭ ‬بعبقريته‭ ‬المبكرة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬العالميين‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬شارل‭ ‬تيراس‭ ‬الناقد‭ ‬الفرنسي،‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬مديرًا‭ ‬عامًا‭ ‬للفنون‭: ‬اإن‭ ‬راغب‭ ‬هو‭ ‬فنان‭ ‬التجمعات‭ ‬البشرية،‭ ‬يذهب‭ ‬وراءها‭ ‬أينما‭ ‬كان،‭ ‬فهو‭ ‬مثل‭ ‬تولوز‭ ‬لوتريك‭ ‬مصور‭ ‬حانات‭ ‬امونمارترب،‭ ‬ودومييه‭ ‬فنان‭ ‬المكافحين‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الطبقة‭ ‬الفقيرة،‭ ‬وهو‭ ‬يرقى‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬إلى‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬السخرية‭ ‬والشعر‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحدب‭.‬

تحية‭ ‬إلى‭ ‬فنانين‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الرواد‭... ‬التقيا‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬والفن‭ ‬وظلا‭ ‬أوفياء‭ ■‬