المبدع الليبي في المنفى الدور والنموذج

المبدع الليبي في المنفى الدور والنموذج

لم يكن مستغربًا بالنسبة لي أن يكون شخص واحد هو البوابة التي أعبر منها للتعرّف على بلد كامل, فذلك هو أحد أدوار المثقف الحقيقي في رحلة مختلفة لبلد ظل لعقود يقدم نفسه من خلال شخص واحد زرع هيئته وكلماته في كل جزء من أجزائه.
كان أول ما لفت نظري في ذلك الرجل الوقور هو طريقته الهادئة في شرح الكثير من القضايا الساخنة في بلده، وتفسير أبرز المحطات التاريخية في حياته، وخصوصًا تجربته مع السجن والمنفى، وعندما علمت بوفاته حزنت كثيرًا، لأن بلده ليبيا خسر رجلًا جمع بين الدبلوماسية والشعر والثقافة، في وقت هو أحوج ما يكون إلى مثل ذلك النموذج القادر على تقديمه أمام العالم بأفضل صورة.

لم يكن مستغربًا بالنسبة لي أن يكون شخص واحد هو البوابة التي أعبر منها للتعرّف على بلد كامل, فذلك هو أحد أدوار المثقف الحقيقي في رحلة مختلفة لبلد ظل لعقود يقدم نفسه من خلال شخص واحد زرع هيئته وكلماته في كل جزء من أجزائه.
كان أول ما لفت نظري في ذلك الرجل الوقور هو طريقته الهادئة في شرح الكثير من القضايا الساخنة في بلده، وتفسير أبرز المحطات التاريخية في حياته، وخصوصًا تجربته مع السجن والمنفى، وعندما علمت بوفاته حزنت كثيرًا، لأن بلده ليبيا خسر رجلًا جمع بين الدبلوماسية والشعر والثقافة، في وقت هو أحوج ما يكون إلى مثل ذلك النموذج القادر على تقديمه أمام العالم بأفضل صورة.

في عام 2014 جمعتنا المصادفة في مدينة مراكش المغربية مع سفير ليبيا في إسبانيا، محمد الفقيه صالح، لنبدأ صداقة انطلقت من الأخوة العربية والهموم المشتركة، وانتهت بوفاته - يرحمه الله - في عام 2017.
كان السفير الشاعر، بالرغم من طبيعة عمله، منفتحًا إلى أبعد حد في الحديث عن ليبيا التي لا نعرفها من الداخل، ابن طرابلس الغرب الذي ولد عام 1953، درس الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وتخرج عام 1975.
عاد صالح إلى ليبيا ليعمل في وزارة الخارجية، ويواصل في الوقت نفسه نشاطه الأدبي، وقد توقف قليلًا عند مهمته القصيرة كقائم بأعمال السفير في جزر المالديف مدة سنة، ثم اعتقاله وسجنه مع مجموعة من الكتّاب عام 1978، مدة 10 سنوات بسبب قضية رأي.
وقد أصدر صالح إصدارات تنوعت بين الشعر والنقد والمقال، ومنها: «خطوط داخلية في لوحة الطلوع» (شعر)، «حنوّ الضمة، سموّ الكسرة» (شعر)، قصائد الظل (شعر)، وأخيرًا «في الثقافة الليبية المعاصرة... ملامح ومتابعات» (2016).

إلى طرابلس الغرب
لقد هيمن الحنين على أغلب مفردات محمد الفقيه الذي لم تغادر روحه جدران وأزقة وحواري طرابلس الغرب، وترجمها شعرًا في أكثر من قصيدة، وأجملها التي حملت عنوان «إلى طرابلس الغرب»: 
جرحان...
إيقاع المدى...
والخاطر المفتون...
جرحان...
ذاكرتي التي تهمي،
وجمرٌ في اشتهاءات العيون
جرحان يا قلبي
وصمتُك حائط يعلو
لماذا كلما انتابت حديقتك اختلاجات الندى والعشق
سربلَكَ السكون؟
أختار من بين اللغات: الصخرَ،
من بين الجهات: الفقر
من بين المرايا: وجهَها
ويسلّ درب من رُبى قلبي إلى ميعادها
في ساحة للحلم إبّانٍ الهطول
ليكن حضورًا قاصمًا...
ولتجرف الريح العفية ما تبقّى من صراخ يابس في الأرض،
ولتعصف غيوم الوجد بالأشعار...
ها هنا انشقت غيوب عن هبوب،
فانجلى عن كل عين حاجب
عن كل قلب ليلة
وهنا ازدهى في نبضك الدّامي
أريج من صهيل الحلم،
وانداحت سهول خصبة،
فهفت إلى النبع الطفوليّ الرهيف رصانة الأحجار...
«سبحان من خلق النساء»
وأضرم الإيقاع في أجسادهن،
وسبحان الذي لا يكتئب...
قال السجين وقد تلفّع بالحنين وبالحسَب
وتهاطلت في القلب جدران الأزقة والحواري والقباب
وتقاطر الصنّاع
أينعت المطارق في الأكفّ،
فأزهر الإيقاع
أيقظني...
وكان النبض موصولًا بمن رفع السقوف،
وموغلًا بالصبح في جسد المدينة وهي ترفل في الأيادي
يا أبي…
واستغرقتني في جنون الطرق حمّى القارعة
(الحلم يا محبوبتي زادي
دم الرؤيا الذي أحيا به،
موتي وميلادي
والحلم ميعادي،
وذاكرة الهوى المخضرّ في وجه الخريف
والحلم لم يصهر دمي صهرًا،
ولم يشهق عميقًا في يدي جرح الرغيف
هذا اعترافي،
فاشهدي)
***
لمدينتي يتهدّج الحرف العنيد
وبطيبة الصناع والفقراء يختلج النشيد…
مسّت يدي - في الصبح - خاصرة المدينة،
فاستفاقت في المواعيد الندية (كوشة الصفار)
وارتحلت بيَ الصبوات
حين تفتقت في (زنقة العربي) شمس - طفلة
وانشق باب عن قوام عامر بالخوخ والنوّار
البرق...
يا لأناقة التكوين، يا لعراقة الأسرار
البرق قد يأتي من الحناء
إذ يتفتح الصبح البهيج على أصابعهن
باقات من الضحكات والأشعار...
ومن البخار الصاعد الموّار أزمنة تطل وتختفي
في كل منعطف ودار...
وفتحت صدري - عبر باب البحر- للريح التي تنحل
فوق الشاطئ الصخري في الزبد الكثيف...
البحر حين تخضّه الأشواق،
والصياد حين يؤوب،
محتدمان في قلبي إلى حد النزيف..
***
أمضي...
تسير بجانبي الطرقات والأقواس والدور العتيقة،
تحتويني في المساء نقاوة المشموم والأطفال
إذ آوي إلى مقهى بباب البحر
سيدتي تطل الآن من شبّاكها
وتذوب في ريقي
حليب صوتها
ورموشها تنساب في لغتي
إلى أن لا يصير القيظ تحت جنونها قيظًا
أشم عبيرها ينثال من حجر،
وأرشف سلسبيلًا من تفتّحها
ويعصمني من الإغراق في الرمز
اشتعال علاقةٍ ما بين قهوتها وطيب ضفيرتيها
إنني أمشي على حد الزمان الصعب تفعمني
اختلاجتها
وأشهدني محاطًا بالبهاء
كأن سيدتي استفاضت من كيان الصمت
وانداحت مع الأنفاس في جسد الهواء
فسبحان التي فتحت خزائنها لمن يحتاج،
سبحان التي أسرت بعاشقها إلى لغة الندى والارتواء
***
زبدٌ هدير القحط - سيدتي - إذا اخضلّ اللقاء...
الليل والطاعون والباشا وجند الانكشاريين/ ماذا
يتركون؟
حطت على رأسي المدينة كفّها الزيتي
فاشتعلت على صدري الحبيبة بالغناء:
إن البيوت كثيرة
والسقف واحد...
والأمنيات جريحة
والقلب صامد...
والكادحون تناهبتهم غابة الإسمنت
غول هائل
والنفط - لو أدركت - شاهد...
فأرقص إذا ما شئت أن يبقى الهوى حيًا
على إيقاعه الصاعد...
إن المدى واعد...
إن المدى واعد...

الجسر الحي
لقد امتلك السفير والشاعر الراحل محمد الفقيه صالح ملكة الوصف والتصوير الدقيق بأقصر العبارات، حتى أوشكت بر الزهر والحنّة (ليبيا) أن تتمثل أمامنا، كما تطلّع بنظرة واعية مستقبل وطنه وفق معطيات تلك المرحلة، والحقيقة أني وجدت فيه المثقف الذي لعب دور الجسر الحي الذي أوصلنا إلى بلد هيمنت عليه الصور النمطية والنماذج التي لا تخرج عن دائرة النموذج الأوحد.
ولا أنكر أني تعرفت على ليبيا من خلال كتّاب أغلبهم عاش في الخارج، مثل إبراهيم الكوني والصادق النيهوم وغيرهما، فضلًا عن الكتاب الوثائقي لرئيس الوزراء الأسبق من العهد الملكي، مصطفى أحمد بن حليم، «صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي»، الذي سجل فيه شهادته على مرحلة مهمة من تاريخ ليبيا المعاصر منذ بدايات العهد الملكي وإلى قيام ثورة 1969م.
إلا أن صالح كان أمامي، وربما لأن توقيت اللقاء كان مهمًا ضمن سلسلة المتغيرات الجذرية في المشهد الليبي بعد عام 2011، هو ما جعل أسئلتي تنهمر عن القديم والحاضر وما هو قادم، ولعل السؤال عن دور المثقف الليبي ما بعد عام 2011 هو الذي تكرر أكثر من مرة لأهميته في صناعة وطن جميل يوازي طموحات من ضحّوا بأرواحهم لأجله.
وهذا السؤال يحمل الكثير من الظلم والإجحاف إذا ما تجاوز طبيعة النظام السابق طوال أربعة عقود ونظرته إلى المثقفين وأصحاب الرأي بشكل خاص، ولكنه إن وضع ضمن سياقه التاريخي نجد أن الإجابة صعبة، لكنها ليست مستحيلة.

المبدع المقتدر
لقد تحدث السفير والشاعر محمد الفقيه صالح كثيرًا عن التحركات التي تتم على الأرض وأنوار الأمل والتفاؤل التي عمت أرض الزهر والحنة، وكذلك تحدث عن الاهتزازات الارتدادية الناجمة عن القوى التي تسعى لملء الفراغات الكبيرة، إلا أنه لم يفقد الأمل بأن القادم أفضل.
وكان ذلك التفاؤل هو الذي دفعه لأن يطلب أن تمد الجسور من الكتّاب والمثقفين الليبيين داخل ليبيا وخارجها، وقد قدّم لي قائمة طويلة من الأسماء، وظل يواصل - بعد افتراقنا - إمدادي بما يتوافر له، على أمل التواصل معهم وترشيحهم لدى المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تبحث عنهم.
من بين تلك الأسماء الكثيرة، لفت نظري اسم الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه (1942م – 2019م) ليس بسبب إنتاجه الغزير فقط، بل لأنه أحد الكتّاب الذين سبق لهم الكتابة لمجلة العربي منذ زمن طويل، لذلك بادرت إلى التواصل معه، وحصل بالفعل أن كتب للمجلة أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، لكن القدر لم يمهلنا ورحل عن دنيانا، يرحمه الله.
لقد وجدت في د. أحمد إبراهيم الفقيه نموذجًا مهمًا في المبدع المقتدر عن غرس اسم بلاده في العديد من المحافل، من خلال إنتاجه الوفير في مجالات عدة، نحن هنا نتحدث عن أستاذ جامعي في الأدب العربي الحديث، روائي وقصاص ومترجم، لذلك سأخصص الأسطر القادمة للحديث عنه وفاء للصداقة القصيرة التي نشأت بيني وبينه عن بُعد، ووفاء لمن دلّني عليه، وهذا أقل القليل.

البحر لا ماء فيه
وُلد أحمد إبراهيم الفقيه في 28 ديسمبر 1942م ببلدة مزده على ضفاف صحراء الحمادة الحمراء، جنوب طرابلس، وكان والده يعمل بالتجارة، في حين كان جده الفقيه معلمًا للقرآن وعلوم الدين بالمدرسة القرآنية في البلدة.
غادر الفقيه بلدته إلى مدينة طرابلس، بعد أن أكمل دراسته الابتدائية، ليبدأ مشوار الدراسة غير النظامية، التي اقترنت أحيانًا بالعمل، حتى نال درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة أدنبره عام 1982.
عمل بالصحافة منذ وقت مبكر، وبدأ بنشر قصصه القصيرة ومقالاته في الصحف الليبية منذ عام 1959، وفي عام 1965، فازت مجموعته القصصية «البحر لا ماء فيه» بالمرتبة الأولى في جوائز اللجنة العليا للآداب والفنون بليبيا، وهي المجموعة التي حققت لصاحبها اعتراف المجتمع الأدبي في الوطن العربي.
وفي عام 1966 أسهم في تأسيس مجلة الرواد الأدبية، وعمل ضمن هيئة تحريرها، وأنشأ صحيفة «الأسبوع الثقافي» في مطلع السبعينيات، وعمل رئيسًا لتحريرها، وقدّم من خلالها كتّابًا صاروا في طليعة الحركة الأدبية والشعرية، مثل إبراهيم الكوني، وخليفة حسين مصطفى، وجيلاني طريبشان، ورضوان أبوشويشة، كما أسهم في إنشاء مجلة الثقافة العربية في بيروت، وعمل لفترة من الوقت رئيسًا لتحريرها، واستطاع عن طريق هذه المنابر تقديم أقلام وأصوات أدبية جديدة، هي التي تثري المجالين الفكري والإبداعي في الوطن العربي الآن.
واهتم الفقيه بكتابة أعمدة الرأي التي كان ينشرها يوميًا في صحافة الستينيات بليبيا، ثم انتقل بهذا الباب إلى الصحافة العربية، فنشر مقالاته في مجلات الدستور والكفاح العربي والتضامن والموقف العربي، قبل أن ينتقل لنشر مقالاته اليومية بصحيفة الشرق الأوسط، ويحرر بابًا يوميًا بعنوان «كل يوم»، ثم ينضم عام 1996 إلى أسرة كتّاب جريدة الأهرام المصرية، ليكتب لها أحد أعمدة الرأي كل أسبوع.
وفي عام 1967 نشر أحمد الفقيه، الفصول الأولى من روايته «فئران بلا جحور» في مجلة الرواد الأدبية، وهي الرواية التي أكمل كتابة فصولها ونشرها في سلسلة «روايات الهلال» بعد ذلك بسنوات عديدة، وبالتحديد عام 2000، أعقبتها رواية «حقول الرماد» الصادرة عام 1985.
وفي عام 1991، نشر عمله الكبير الثلاثية الروائية التي نالت شهرة واسعة، وفازت بجائزة أفضل عمل إبداعي من معرض بيروت للكتاب، وترجمت إلى عدد من لغات العالم، لتضع اسم ليبيا على خريطة الأدب العالمي.

شهادات مهمة 
حظي أحمد الفقيه بالكثير من الشهادات المهمة، ومن أبرزها ما كتبه الشاعر صلاح عبدالصبور عام 1966م في تقديم الكتاب الأول للفقيه: «اكتشفت من أسلوبك أنك كاتب غني بروح الشعر، وروح الشعر هي أعظم هبة يمنحها الله لمن يحب».
أما الأديب السوداني الطيب صالح، فقد قال خلال الاحتفال الذي أقامه النادي العربي للكاتب بمدينة لندن، بمناسبة صدور خمسة كتب مترجمة للغة الإنجليزية من أعمال الفقيه «كان الكاتب الراحل د. يوسف إدريس يعتبرني وأحمد الفقيه أفضل كاتبين بالنسبة له من كتاّب القصة في العالم العربي، وكان يقول إنه يريد منّي ومن أحمد الفقيه أن نكمل ما لم يستطع إكماله، في مجال الإنجاز القصصي والروائي، هذه كانت وصية إدريس، وحيث إنني شخصيًا صرت أميل إلى أسلوب المتقاعدين في الحياة، فإنني أقول لصديقي أحمد الفقيه إنني سأضم صوتي لصوت إدريس، وأقول إن المهمة موكولة له وحده، لتحقيق مزيد من التطوير والتحديث والتجويد على طريق الإنجاز القصصي والروائي، وهذا الاحتفال بإصدار خمسة كتب من إبداعه إلى قرّاء اللغة الإنجليزية يؤكد أنه يسير على الطريق الصحيح».
وأبدى الشاعر العراقي د. صلاح نيازي إعجابه الشديد بكل ما يكتبه أحمد الفقيه، وقال: «بدأت علاقتي بإبداعه منذ أن شاهدت مسرحيته الغزالات تُعرض في لندن، وفتنتني تلك المسرحية، وصرت أبحت عن أدبه وأستمتع بقراءته وأضعه في لائحة أفضل المبدعين باللغة العربية في وقتنا الحاضر، فإذا كان هؤلاء المبدعون الكبار عشرة، فهو واحد منهم، وإذا كانوا ثلاثة فقط فهو واحد منهم».
ونختم مع الشاعر والناقد والأديب المصري
د. عبدالقادر القط، حيث لخّص الكثير من ملامح البنية النصية لكتابات الفقيه القصصية: «حين يهتدي أحمد إبراهيم الفقيه إلى تجربة مركّزة تصلح لكي يبلور بها حدود الواقع إلى المثال الرمز، تتحول القصة عنده إلى قصيدة من الشعر القصصي متوترة العبارات شفافة الألفاظ موحية الصور، يكسر فيها المعنى الواحد على عشرات من المعاني الجزئية المتكاملة التي تحيل المألوف إلى شيء جديد، وتجعل من المعاد المستهلك شيئًا أصيلًا ومبتكرًا» ■