التربية ... أداة للتغيير محمد سليم العوا

التربية ... أداة للتغيير

نستقبل بعد بضع سنين القرن الحادي والعشرين الميلادي. والأيام والسنون شهود على الناس، أو شهود لهم، شهود عليهم إن أساءوا، وشهود لهم إن أحسنوا. وقد تختلف الآراء اختلافا كبيرا في خلاصة شهادة القرن العشرين: أهي للأمة العربية والإسلامية أم عليها؟ ولكن الذي لا تكاد تجد حوله خلافا هو حقيقة أن الأمة العربية والإسلامية تحتل مكانا - ولا أقول مكانة - لا يليق بمقوماتها وقدراتها وثرواتها وطاقات أبنائها، بين أمم الأرض قاطبة.

المخلصون من أبناء هذه الأمة - وهم الكثرة الغالبة - يوقنون بأن تغيير هذا الوضع العجيب واجب يتحمل التبعة الكبرى فيه القادة والحكام والزعماء والمفكرون والرواد المبدعون في كل مجال.. وهذا اليقين صحيح، غير أنه وحده لا يكفي لإحداث التغيير المنشود لواقع العرب والمسلمين وإخراجهم من حال التبعية والهوان التي يؤذي الملايين منهم بقاؤها واستمرارها، إلى حال الريادة العزيزة اللائقة بهم والتي هم أحرص ما يكونون على استعادتها ثم استدامتها.

أقول إن هذا اليقين لا يكفي، لأن التطلع إليه وترقب حصوله هو "اتكال" على تغيير علوي، يأتي بجرة قلم، أو بقرار سياسي، أو بطفرة في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. وذلك كله غير مأمون العواقب، ولا يشكل في الواقع تغييرا حقيقيا إلى الأفضل، بل قد يكون - كما حدث في تجارب معاصرة قريبة - سببا في دمار شامل وإنهاك لقوى الأمة كلها.

لذلك يعتقد فريق من المهتمين بقضية التغيير أنه لا بد أن يأتي من القواعد الاجتماعية، ومن المؤسسات المجتمعية أولا، بحيث يحمل الرواد - في أي مجال كانت ريادتهم - على الاستجابة لواقع جديد ينشئه المستفيدون منه، ويحافظون بمسلكهم الواعي على استقراره واستمراره.

والواقع الذي تطمح الأمة العربية إلى تحقيقه، وهو استعادة مكانتها اللائقة بها بين أمم الأرض، له تفاصيل لا تحصى في مثل هذا المقال، وهو يقتضي اتخاذ وسائل لا تحصى - عددا - للوصول إليه.

وحديثنا اليوم عن وسيلة واحدة من وسائل تحقيقه، بعد أن سبق لنا حديث عن وسيلة أخرى من وسائله. نتحدث اليوم عن التربية باعتبارها وسيلة للتغيير في المجالات كافة، بعد أن تحدثنا في مناسبة سابقة (العربي: يناير 1993) عن الحرية باعتبارها أداة للتغير الاجتماعي.

التربية الأصل

والتربية التي نعنيها ليست هي التربية النظامية المدرسية، مع شدة حاجتنا إلى إعادة النظر في مقوماتها كافة، ولكنني أعني التربية الأصل، التي تسبق التربية النظامية في تكوين شخصية الإنسان وتحديد ملامحها وتركيب خصائصها الحسنة أو القبيحة. وهي التربية التي تبدأ في البيت، وتستمر فيه منذ يوم الميلاد إلى يوم الخروج من "بيت الأسرة" لتكوين أسرة جديدة وبيت جديد.

هذه التربية هي مفتاح التغيير الحقيقي في المجتمع كله، وهي الأداة الكفيلة، إذا أحسن استخدامها، بحمل الرواد في المجالات كافة على تغيير الأنماط الحاكمة والنظم السائدة في العلاقات الاجتماعية، وفي البناء المجتمعي بما يقود الأمة العربية والإسلامية في طريق بعث جديد ونهضة حقيقية تتناول القيم والمكونات الداخلية البناءة قبل أن تتناول الطرق والمباني ووسائل الاتصال والانتقال والرفاهية والدعة والراحة الدائمة.

إن البيت العربي يعاني - لا شك - من آثار التخلف والتبعية والهوان الذي يستشعره كل منصف متابع لشئون أمته. ولكن هذا البيت لا يسعه أن يلقي تبعة هذه المعاناة، وتبعات أسبابها- كما يحلو لأكثرنا أن يفعل- على الأسباب الخارجية من استعمار غربي وعداوة صليبية، وطغيان مستمر، وإعلام يساء توجيهه، وصحافة تقدم بعض الحق وتكتم بعضه، وقدوة مفقودة.. وغيرها. تلك الأسباب الحقيقية والواقعية، ولكنها - قطعا - لا تصلح وحدها لتعليل ما نحن فيه كله. ولولا أن "البيت العربي" بالمعنيين الحقيقي الضيق والمجازي الواسع قد استجاب لهذه الأسباب، واستنام لفعلها في المجتمع، وترك مقاومتها منذ البدء، واستمد في أحيان كثيرة قيمه المقبولة لدى العامة من مصادرها، لولا ذلك ما كانت هذه الأسباب قادرة على أن تفعل فعلها الشنيع الواقع الآن بأمة العرب والمسلمين.

واتخاذ "التربية" بصورتها الأولية الأسرية طريقا للتغيير يقتضي استشعار كل أسرة مسئوليتها الكاملة عن الآفات المجتمعية السائدة كلها. ويقتضي تكاتف كل أسرة لمواجهة هذه الآفات المجتمعية في أبنائها وبناتها وأنفسها، ليخلص مجتمعها الصغير أولا من آثارها، ثم ليتكاتف البراء من المرض الاجتماعي لنشر العافية، بدلا من أن يسهموا بسكوتهم واستكانتهم في نشر البلاء واتساع نطاق الأدواء.

التأويلات في التفسير

يقول الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم (المائدة: 105) فربط الله تبارك وتعالى امتناع الضرر باتباع الهدى. فإذا استكانت الأمة لما يصنع بها ويكاد لها فإنها - قطعا - لا تكون من المهتدين.

ولذلك وقف أبوبكر رضي الله عنه خطيبا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فسر بعضهم هذه الآية على غير وجهها الصحيح، وقال لهم: إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه.

وفي بيان صحة هذا الفهم للآية الكريمة قال. الإمام الطبري وإنما قلنا إن هذا أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لأن الله، تعالى ذكره، أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط ويتعاونوا على البر والتقوى، ومن القيام بالقسط الأخذ على يد الظالم، ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف..( و) قد دخل في معنى قوله (إذا اهتديتم)... أن ذلك إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر (تفسير الطبري، 11/ 152).

ومن جميل فهم بعض المفسرين في هذه الآية الكريمة أن قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) يقتضي إغراء الإنسان بمصالح نفسه، ويتضمن الإخبار أنه لا يعاقب بضلال غيره، وهي (أي الآية) تدل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدليل قوله تعالى فيها (إذا اهتديتم).

وليس أولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البيت المسلم من أفراده أنفسهم، لأننا إذا جمعنا معاني هذه الآية الكريمة مع الأمر القرآني: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (التحريم: 6) وجدنا أن واجب الإنسان ليس محض إصلاح نفسه، بل إن واجبه السعي - في الوقت نفسه - إلى إصلاح غيره، وأولى الذين يجب عليه السعي إلى صلاحهم هم ذووه وأهله.

طريق أصحاب الدعوات الصادقة

وآفات المجتمع العربي والإسلامي تدخل كلها في المنكرات التي يجب تغييرها، وللتغيير طريقان: طريق خارجي بمواجهة أصحاب هذه الآفات والمنكرات، والأخذ على أيديهم ومنعهم من تثبيت أسباب التخلف والهوان التي نعاني منها، وطريق داخلي هو إعادة صياغة النفوس وصناعتها من جديد، بحيث ترفض الأمة ما يقدم إليها من أسباب الفساد والانحراف والتبعية والتخلف مهما حاول أصحابه تزيينه وتجميله وإخفاء قبحه..

وليس الطريق الأول ممكنا لكل أحد، ولا هو مأمون العاقبة في كل مكان وفي كل الأزمان، لذلك كان لا بد من سلوك الطريق الثاني الذي لا يكاد يعجز عنه إنسان واع مدرك لمسئولياته الفردية والاجتماعية. وهو طريق مؤكد النجاح مهما بدت نتائجه بعيدة، وبقدر طول المدى الذي يستغرقه سلوكه، بقدر ثبات النتائج التي يوصل به إليها.

هذا الطريق هو طريق أصحاب الدعوات الصادقة على مر التاريخ، وليتأمل من شاء صنيع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أيسر شيء أن يحاط بمكة وأهلها وأصنامها عند بادرة تكذيبها الأولى لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم يكن لينشئ تلك الأمة العظيمة التي حفظت الرسالة الإسلامية وبلغتها في سنوات معدودة إلى أقطار الأرض المعروفة يومئذ كلها.

ولهذا المنهج التربوي في التغيير قسمات قرآنية ونبوية ظاهرة، فقد ربى القرآن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على معاني هي أهم ما نحتاج إليه لإعادة بناء الأمة العربية والإسلامية لتخرج من محنتها الحاضرة.

* ربى القرآن الكريم على التوحيد الذي يعني - فيما يعنيه - أن الإنسان ليس عبدا إلا لله تبارك وتعالى:

وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (البقرة: 163).

قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون (الأنعام: 19).

قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (ص:65).

والتربية على التوحيد الخالص هي العلاج الناجع لكل أدواء القهر والطغيان والفردية، وما يورثه ذلك من آفات النفاق والرياء وما إليها.. ولذلك قيل - بحق - إن "المرء كلما ازداد عبودية لله تعالى، ازداد تحررا عمن سواه"!!

* وربى القرآن الكريم على الصدق، والكذب آفة من آفاتنا الكبرى لا ينجو منها إلا من عصم الله وقليل ماهم، ولعلاجها يأمرنا القرآن الكريم بمثل قول الله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (التوبة: 119)

وقوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (الأحزاب: 70)

* والقرآن الكريم ربى على طهارة النفس، التي هي مجمع الفضائل البشرية كلها، وحجاب السيئات البشرية جميعها، فيقول الله تبارك وتعالى:

ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها (الشمس:7 - 10).

وإبراهيم يحكي عن يوم القيامة والقرآن ينقل قوله مقرا له.. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم (الشعراء: 88 - 89)

ويقول سبحانه وتعالى وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. (ق: 31 - 33).

* والقرآن الكريم ربى على التحكم في الأهواء، فيقول الله تبارك وتعالى:

ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله (ص: 26)

ويقول تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن (المؤمنون: 71)

ويقول سبحانه وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى. (النازعات: 40 - 41)

وهكذا ربى القرآن الكريم على مئات المبادئ الخلقية الكفيلة - إذا استدعيت أصولها القرآنية، وأعيدت صياغة العلاقات الفردية والاجتماعية على أساسها - أن تغير كل مظاهر الخلل المتغلغلة في أوضاع حياتنا كلها.

وقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع حين وضع المبادئ القرآنية السامية موضع التطبيق العملي في تربية جيل الصحابة، فتحولوا من عبدة أوثان إلى أئمة التوحيد الحق، ومن وائدي البنات إلى أعظم حماة لحقوق الإنسان في التاريخ البشري كله، ولم يهدم النبي صلى الله عليه وسلم من أوضاع العرب الجاهليين إلا ما كان فاسدا فسادا تاما، مستعصيا على الإصلاح بأية صورة من الصور، وأبقى ما سوى ذلك مما ينفع الناس، ولا يعارض القواعد القرآنية في العقيدة والأخلاق السلوك.

إن سفينة المجتمع العربي الإسلامي المعاصر قد جرت بها أنواء سوء غريبة فأخرجتها من مياه بحرها الطبيعي الذي تعهده وتعرف مسارها فيه. ونحن اليوم نتعامل مع سفينة أضر بجسمها طول السفر بلا هدى، والرسو في غير مرفأ، ومع الآثار النفسية السيئة التي تركها التيه في نفس ربانها المعاصر، وفي نفوس ملاحيها وركابها على السواء.

وإصلاح جسم السفينة يحتاج إلى نوع الخشب الأصلي الذي صنع منه بناؤها وإصلاح نفوس ربانها وملاحيها وركابها لا يكون إلا بدواء يناسب طبيعة الأرض ومكونات البيئة، ليؤتي أحسن الأثر في أدنى زمن ممكن.

عصر المحن

وهمم الأمم التي ترى مجدها في المساهمة الفاعلة في صنع الحضارة الإنسانية لا تقف عند حد، وعزيمة الذين يدركون دورهم من أبنائها لا يؤثر فيها العجز العارض أو الخلل الموقوت.

واقتراب القرن الحادي والعشرين داع جديد يضاف إلى الدواعي الدائمة التي تنادينا أن نودع عصر المحن الذي عانينا منه أمدا طويلا، وأن نبدأ من حيث يستطيع كل منا - ولو وحده - أن يبدأ.

وإذا كان جيلنا - معشر الآباء - لن يستطيع أن يشهد الثمرة التي يسعى إلى إنضاجها، فحسبه أن يضع بذورا مختارة بعناية في أرض العروبة الخصبة المعطاءة لتؤتي أكلها بعد حين، بإذن ربها، أو أن يفتح ما يستطيع من النوافذ ليدخل الهواء النقي الشافي والنور الطبيعي الهادي إلى غرفات البيت التي طال بها الإظلام والإعتام، وأن يحدث ما يمكن إحداثه من ثغرات في جدار الأزمة الخانقة التي تعيشها الأمة، ليسهل بعد ذلك لجيل تال أن يتجاوز الأزمة كلها، وأن يهدم بقاياها في الأرض العربية والإسلامية، وأن يقدم دليلا صحيحا على أننا أهل للحفاظ على ما ورثنا من علم، وحضارة وثقافة، وثروة، وتنمية ذلك كله لخير الإنسان حيث كان. ولا يجوز لأحد أن يقعد عن أداء نصيبه من محاولة التغيير المنشود بدعوى أنه ليس قادرا وحده على مواجهة التيار الغالب في مجتمعه، الذي لا يؤمن بمثل مقدساته، ولا يتوجه نحو أهدافه وغاياته.. لا يجوز لأحد ذلك لأن الواجب لا يسقط بترك الناس له، والقيم الصحيحة لا تموت لانحراف الناس عنها. والإرادة الصادقة لا تعجز عن مواجهة القوى المخالفة، مهما بدت طاغية ومسيطرة في لحظة زمنية بعينها.

وهذا هو سر النماذج الكثيرة التي نراها في حياتنا اليومية فنصفها: "بالتفرد" ونصفها: "بالغرابة" ونصفها: بأنها تنتمي إلى "جيل قديم" ونصفها: بأنها "الاستثناء" من قاعدة لا تشبهها في كثير ولا قليل. هذه النماذج نتيجة محاولات فردية للمحافظة على القيم الأصيلة لهذه الأمة قام بها "أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض"..

والذي ندعو إليه هو توسيع قاعدة هؤلاء المناهين عن الفساد، والداعين إلى الصلاح، الممارسين ذلك فعلا في أنفسهم وفيمن يلون أمورهم من الناس بأية صفة كانت هذه الولاية، لئلا نكون - أو يكون جيلنا - كمن وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله:

واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. (هود: 116)

فإذا تم ذلك فإن الاستكانة إلى الأوضاع المتردية الحاضرة ستنتهي، والرضا بالهوان المتزايد في كل مجال سيتحول إلى غضب شريف بناء، وستعطي النفس الحرة الأبية من أنواع العطاء ما لا يتخيله أكثر الناس اليوم تفاؤلا وأبعدهم أملا.. وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون. (هود: 121 - 123).

 

محمد سليم العوا