المقاهي من بيت القهوة أمس إلى «كافيه شوب» اليوم
بيت القهوة، مصطلح نجده في كتب التاريخ والتراث، يطلق على ذاك المكان الذي يتجمع به مجموعات من الأشخاص من أجل احتساء القهوة، والترويح عن النفس، وقد اتخذ اسمه من مشروب القهوة المميز الشهير، المشروب الرئيس الذي كان يقدم في هذه الأماكن، وقد أنشأت هذه الأماكن خصيصًا لتقديم هذا المشروب الذي ارتبط في بعض الفترات كالعصر العثماني بالطبقة الأرستقراطية العليا، حتى كان يُسمى حينها بمشروب النخبة والوجهاء والأعيان، وكانت له طقوس خاصة لتقديمه واحتسائه عندهم، وعلى الرغم من ذلك فلم يكن هذا المشروب حكرًا على الوجهاء والأعيان فحسب، بل كانت تحتسيه في بيوت القهوة كل الطبقات الاجتماعية، أغنياء وفقراء، علماء وجهلاء، فقد صار منذ انتشاره المشروب الأول في البلاد الإسلامية.
المقاهي، (بيوت القهوة) قديمًا، كانت عبارة عن حجرات صغيرة بلا تخطيطات معمارية منسقة أو زخارف منمقة، لها في الغالب واجهة بسيطة من الخشب المشبك، ويجلس روادها على مصاطب مبنية من الحجر وأرائك من الخشب بسيطة الشكل، ويبدو روادها في غاية السعادة والسرور باحتساء القهوة وتدخين التبغ بعد انقضاء عملهم اليومي. وقد انبهر الرحالة الغربيون والمستشرقون عند زياراتهم ورحلاتهم للشرق بهذا الاهتمام الذي يوليه الشرقيون لبيوت القهوة، ومدى ارتباط السعادة لديهم بتلك الأماكن.
تحريم القهوة وتحليلها
وعن بداية ظهور المقاهي (بيوت القهوة) تمدنا المصادر ببعض المعلومات عن هذه المنشآت الاجتماعية، التي تذكر أن أول ظهور لها كان ببلاد اليمن السعيد، في القرن التاسع الهجري والخامس عشر الميلادي، وإن كانت بعض الروايات الأخرى قد أرجعتها إلى مطلع القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي، حيث حُسمت في تلك الفترة مشكلة تحريم القهوة وتحليلها، وذلك بإقرار عدم حرمانيتها، وقد تبع ذلك انتشار المقاهي، التي انتقلت مع الصوفية اليمنيين إلى حي الأزهر بمصر، ثم انتقلت بعد ذلك من القاهرة إلى اسطنبول في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي، عن طريق رجل شامي الأصل ذهب إلى اسطنبول حاملًا معه مشروب القهوة، الذي أحبه أهل اسطنبول وأقاموا من أجله المقاهي الكثيرة، وبمرور الوقت انتشرت المقاهي في كل البلاد الإسلامية.
كما عرفت أوربا المقاهي بدءًا من النصف الثاني من القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي، وذلك عن طريق التجار الأرمن واليهود القادمين إليها من الشرق، وكانت البداية في فينيسيا، تلتها إنجلترا وفرنسا، وكانت المقاهي بالنسبة للأوربيين شيئًا مختلفًا عن الفنادق والمطاعم التي كانت منتشرة لديهم آنذاك. وتأتي القاهرة حاضرة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت عند بداية ظهور المقاهي في المقدمة من حيث انتشار المقاهي ووجودها، التي بلغت في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي ما يقرب من ألف ومئتي مقهى، دارت بين جنباتها كثير من الأحداث، وامتزجت داخلها عادات وتقاليد وثقافات متنوعة بتنوع فئات روادها وجنسياتهم وأصولهم، وعن المقاهي يذكر المستشرق الفرنسي كونت دي شابرول الذي صاحب الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، أن المقاهي بالقاهرة تختلف اختلافًا كبيرًا عن المقاهي في أوربا بصفة عامة، وفرنسا بصفة خاصة، ووجه الشبه بينها يتمثل في مشروب القهوة الشهير الذي تختلف طريقة تحضيره واحتسائه في مصر وبلاد الشرق عن أوربا، حيث يحتسيه الشرقيون من دون سكر.
المقاهي بين الماضي والحاضر
هذا عن بيوت القهوة في الماضي، وإن كان كثير من المقاهي الآن يقام على نفس النسق القديم، باستثناء بعض الاختلافات البسيطة المرتبطة بالتقدم والحداثة، ويطلق عليها في هذه الحالة اقهوة بلدي أو قهوة شعبيب، وتختلف هذه المقاهي بالطبع عن االكافيه شوبب في الوقت الحاضر، الذي يمثل الوجه الأحدث لبيوت القهوة، ليتناسب مع التطورات التي طرأت على المجتمعات، ولكن شتان ما بين مقاهي الأمس بدككها الخشبية وفناجينها وصوانيها النحاسية وأساليب الترفيه بها، المتمثلة في لعبة خيال الظل، وقصص الحكواتية، وألعاب النرد والشطرنج، وبين اكافيهاتب اليوم، بواجهاتها المميزة، المزينة بأدوات الإضاءة المتنوعة، وكراسيها الفاخرة، وشاشات العرض بها، التي تجذب أنظار روادها، بالإضافة إلى المشروبات والعصائر والأطعمة التي تقدم بها والتي لم تكن تُعرف من قبل، كما أن هذه الكافيهات روادها من الجنسين، وليست قاصرة على الرجال فحسب، مثل بيت القهوة قديمًا وإنما تذهب إليها النساء أيضًا, والقاسم المشترك بين بيت القهوة بالأمس واالكافيه شوبب اليوم هو مشروب القهوة الذي يربط الماضي بالحاضر, والمكان الذي يتجمع به فئات من أعمار وبيئات وثقافات متنوعة.
لقد كانت ومازالت المقاهي سواء بمسماها القديم أو الحديث مسرحًا لكثير من الأحداث الاجتماعية، التي تعكس بشكل أو بآخر جانبًا مهمًا من ثقافات وعادات المجتمعات، وما يطرأ عليها من تطور وتقدم، كما يتشكل عليها رأي عام مهم مؤثر في كثير من مجريات الأحداث ■