أصبحت جدة في الأربعين

أصبحت جدة في الأربعين

أية‭ ‬مشاعر‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تنتابني‭ ‬اللحظة‭... ‬كمن‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬الشمس‭ ‬ويضعها‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬غيمة،‭ ‬أو‭ ‬كمن‭ ‬يجمع‭ ‬الحروف‭ ‬الأبجدية‭ ‬ويغلق‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة،‭ ‬يحتفظ‭ ‬بها‭ ‬داخل‭ ‬قلبه،‭ ‬أو‭ ‬كمن‭ ‬يضبط‭ ‬إيقاع‭ ‬الليل‭ ‬له‭ ‬وحده،‭ ‬ويشعل‭ ‬الصمت‭ ‬بجنون‭ ‬التعقل‭.‬

‭ ‬لست‭ ‬أدري‭ ‬ما‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أصف‭ ‬به‭ ‬نفسي؛‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ليسمح‭ ‬لي‭ ‬مثلًا‭  ‬لأتحامق،‭ ‬ولست‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬أيضًا‭ ‬لتقبل‭ ‬مني‭ ‬حكمة‭ ‬الجدات،‭ ‬فأنا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

تحضرني‭ ‬الآن‭ ‬ذكريات‭ ‬عديدة،‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والمشاعر‭ ‬تتقاذفني‭. ‬ما‭ ‬يقلقني‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬تمزيق‭ ‬الورقة‭ ‬بيدي‭ ‬وتكويرها‭ ‬وإلقاء‭ ‬ركامها‭ ‬بحركة‭ ‬مسرحية‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬المهملات‭ ‬ككاتبة‭ ‬محترفة،‭ ‬تختزل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬والدهشة‭ ‬بما‭ ‬تنوي‭ ‬لأن‭ ‬تخطه‭ ‬وترسمه‭ ‬بقلمها‭.‬

أستدعي‭ ‬كوبًا‭ ‬من‭ ‬القهوة‭ ‬مثلًا؛‭ ‬أطالب‭ ‬الجميع‭ ‬بالصمت،‭ ‬حتى‭ ‬الرضيع‭ ‬ألزمه‭ ‬الصمت‭ ‬لأني‭ ‬سأكتب‭... ‬جدته‭ ‬تنوي‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬عنه؛‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مطيعًا‭ ‬وإلا‭ ‬سأكتب‭ ‬عنه‭ ‬أشياء‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬ترضيه‭ ‬مستقبلًا؛‭ ‬كأنه‭ ‬يوقظ‭ ‬أمه‭ ‬ليلًا؛‭ ‬لا‭ ‬يجعلها‭ ‬ترتاح‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬حضوره‭ ‬لهذا‭ ‬العالم‭. ‬طفلتي‭ ‬الصغيرة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بالأمس‭ ‬فقط‭ ‬تستغرق‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬عميق،‭ ‬أجد‭ ‬صعوبة‭ ‬لإيقاظها‭ ‬للمدرسة،‭ ‬اليوم‭ ‬هي‭ ‬أم‭ ‬تمارس‭ ‬وظيفتها‭ ‬بالفطرة‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬يوم‭. ‬

أحتاج‭ ‬ورقتي‭ ‬الآن‭... ‬البياض‭ ‬الذي‭ ‬يطل‭ ‬علي‭ ‬من‭ ‬شاشة‭ ‬الهاتف‭ ‬يزعج‭ ‬أفكاري‭ ‬المبعثرة؛‭ ‬أراها‭ ‬فقط‭ ‬تترقب‭ ‬ما‭ ‬سأنقره؛‭ ‬تترقب‭ ‬حروفًا‭ ‬قد‭ ‬أتقن‭ ‬جمعها‭ ‬في‭ ‬كلمات،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬أفعل؛‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تبدي‭ ‬تعاطفًا‭ ‬ولا‭ ‬تأثرًا؛‭ ‬لا‭ ‬يهمها‭ ‬انفعالاتي،‭ ‬لا‭ ‬حزني‭ ‬ولا‭ ‬فرحي؛‭ ‬وأعلم‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬تخذلني‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬لحظة‭ ‬وتنفذ‭ ‬البطارية‭ ‬فتتركني‭ ‬معلقة‭ ‬بين‭ ‬حرف‭ ‬وحرف‭.‬

مازلت‭ ‬لا‭ ‬أصدق‭ ‬كيف‭ ‬أصبحت‭ ‬جدة؟‭ ‬وبداخلي‭ ‬طفلة‭ ‬مازالت‭ ‬تداعب‭ ‬ضفيرتها‭ ‬وتتسلق‭ ‬حواشي‭ ‬السرير،‭ ‬لتقفز‭ ‬بين‭ ‬أحضان‭ ‬أبيها‭ ‬تداعب‭ ‬لحيته؛‭ ‬وتحتك‭ ‬بها‭ ‬وتصرخ‭ ‬وهي‭ ‬تضحك‭:‬

‭- ‬أبي‭ ‬توخزني‭ ‬لحيتك‭.‬

يأخذني‭ ‬أبي‭ ‬بين‭ ‬أحضانه‭ ‬ويمطرني‭ ‬بالقبل؛‭ ‬وهو‭ ‬يبتسم‭ ‬ويجيبني‭: ‬

‭- ‬الآن‭ ‬لن‭ ‬تظلي‭ ‬كذلك،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬وجهك‭ ‬لم‭ ‬يلامسها‭.‬

أبي‭ ‬يحضرني‭ ‬طيفه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناسبة‭...‬

تبًا‭ ‬لهاته‭ ‬الشاشة‭ ‬اللعينة؛‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬ورقة‭ ‬لابتلت‭ ‬الآن‭ ‬وأحسست‭ ‬بتعاطفها؛‭ ‬تبًا‭ ‬لمارك‭ ‬أيضًا‭ ‬حين‭ ‬اختزل‭ ‬مشاعر‭ ‬إنسانية‭ ‬في‭ ‬أيقونات‭. ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬كافيًا‭ ‬أبدًا‭ ‬أن‭ ‬نعبر‭ ‬هكذا‭ ‬بكل‭ ‬بساطة؛‭ ‬بإشارات‭ ‬عالمية‭ ‬لغتها‭ ‬موحدة؛‭ ‬أنا‭ ‬غاضب؛‭ ‬أنا‭ ‬أبتسم؛‭ ‬أنا‭ ‬أبكي‭... ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعبر‭ ‬بلهجتي‭ ‬وبلغتي‭ ‬الأم‭ ‬عن‭ ‬أحاسيس‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬مارك‭ ‬ولا‭ ‬غيره،‭ ‬مهما‭ ‬حاول‭ ‬من‭ ‬تقنية،‭ ‬أن‭ ‬يوحدها‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬واحدة‭ ‬ونمضي‭ ‬بعدها‭.‬

هل‭ ‬هي‭ ‬محاولة‭ ‬لتمضي‭ ‬بنا‭ ‬الحياة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ندقق‭ ‬في‭ ‬معناها،‭ ‬ونتعلم‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬فن‭ ‬اللامبالاة؟‭■‬