أستاذتي سَهير القلماوي

في الواقع أنا لا أعدُّ سهير القلماوي أستاذة لي فحَسب، تعلمتُ منها النقد الأدبي، خصوصًا في جوانبه التطبيقية، كما تعلمتُ منها أن أقرأ بلغات أجنبية، لكنّها - فوق ذلك كلّه - كانت أُمًّا حانية إذا لزم الحنوّ، قاسية مُتشددة إذا استدعى الموقف الذي يجمع بيننا الشدة أو القسوة.
عرفتُها منذ أن دخلت قسم اللغة العربية بكلية الآداب، فقد كانت رئيسة القسم في ذلك الوقت. والطريف أنّني عرفتُ هذه الصفة لها على سبيل السخرية من واحدٍ من كارهيها، والذين عُرفوا بالحقد عليها والغيرة منها في الوقت نفسه.
كان الرجل هو د. محمد كامل جمعة، الذي كان يُدرّس لنا مادة العَروض والأوزان في السنة الأولى الجامعية، وكان معروفًا بميله إلى الفكاهة والسُّخرية. وكان يقوم بتدريس الأوزان الشعرية وهو يؤدي حركات جسدية مصحوبة بإيقاعات صوتية لهذه الأبحر أو الأوزان، وكان يحلو له أن يُقطّع البيت الشعرى:
كُرَةٌ/ ضُربَت/ بصَوالجَةٍ/ فتَلَقَّفَها/ رَجُلٌ/ رَجُلُ
وهو من بحر المُتدارَك. وكان ينشدُ لنا تفاعيل الأبحر في إيقاعات حركية؛ لكي يُدخل إلى أذهاننا الإيقاعات الصوتية للأبحر العروضية. وكنا نراه خفيفَ الظلّ إلى أبعد حدٍّ، وكان مشهورًا بيننا بكلمته التي يردّدها على سبيل الهزل، وهي أنه سيدفعنا إلى التفوّق، كي يجعلنا نحيل كلمات الجرائد إلى أوزان منضبطة الإيقاع. وكنّا نصدقه، فرحين بهزله. ولكنّي أذكر أنه وصف قسمنا (قسم اللغة العربية) ذات مرة بأنه اقسم السيّدةب، وطبعًا ضحكنا من التسمية مُقلّدين الذين ضحكوا قبلنا من العارفين بعدائه لسهير القلماوي التي كانت تستخفّ به، ولم تكن تعدّه من أصحاب القامات في البحث العلمي كشوقي ضيف مثلًا، أو عبدالعزيز الأهواني. وعندما أدركتُ ما الذي يعنيه حقًّا بجملة اقسم السيدةب انتابني الغضب على الرجل منذ تلك اللحظة، وتباعدت علاقتي به بسبب حقده على سهير القلماوي التي لم أكن أعرُفها شخصيًّا، ولكنني كنتُ قد قرأتُ لها كتابًا عن المحاكاة، وأدهشني الكتاب؛ لما فيه من معارف تجمع بين علوم الغرب والشرق، وبهرني في الكتاب يُسرُ الحركة بين مذاهب النقد المختلفة، والتنقل الرشيق بين علوم العرب وعلوم الغرب. وكنتُ قد بدأتُ أعرف د. القلماوي من مقالاتها التي كانت تنشرها في أغلب المجلات المعنيّة بالثقافة والأدب، وقرَّبتها إلى قلبي، لُغتها السهلة، وقدرتها التشويقية على الحكي والسرد.
دور «الأداة» في الفنون
وإن أنسى فلن أنسى المقالة الأولى التي قرأتُها لها، وكانت بعنوان: الاوكونب التي قرأتُها في أحد أعداد مجلات الرسالة أو الثقافة في قاعة الدوريات بدار الكتب القديمة. وكان المقال مكتوبًا في قالب حكائي، يحكي عن راهبٍ يوناني اسمه لاوكون. ويبدو أن هذا الراهب قد نطق في حقّ الآلهة بما لا يجوز له النطق به، فعاقبته الآلهة، وأرسلت له أفاعي ضخمة ظلّت تنهش في جسده، معتصرةً أولاده في الوقت نفسه، عقابًا على تجديفه في حقّ الآلهة. وحكت د. القلماوي في بقية المقال عن أن أسطورة الاوكونب قد خلّدها الفن الإغريقي في تماثيل عديدة وفي رسوم شهيرة، مركزها الراهب المسكين الذي يصرخُ من الألم وحوله أطفاله الصغار الذين يعانون الألم والعذاب بدورهم، فيما لا ذنب لهم فيه. ومضت القلماوي تحكي في ذلك المقال الجميل عن فيلسوفٍ ألماني في الفن أخذ أسطورة الاوكونب هذه وبنى من فهمه لها ودراسته لدلالاتها نظريةً مهمةً عن دور االأداةب في الفنون واختلافها باختلاف هذه الفنون وخصائصها النوعية. وهكذا اكتشف هذا الفيلسوف ما أسمته د. القلماوي، أو ما أسماه أحد الشارحين اللاحقين بـ امكانية الرسم والنحتب؛ وازمكانية الشّعرب، فالرسم أو النحت هما تصوير آنيٌّ في المكان، يقع في برهةٍ من الزمن الآني، وإذا أراد النحّات أو الرسام أن يُحييَ لنا ما قبل هذه البرهة أو ما بعدها، فإنه يفعل ذلك من خلال ما يثير فينا الخيال الذي يدفعنا إليه عن طريق الإيحاءات المكانية التي تفترش اللوحة، أو التي تمتد على فراغها اللوحة.
أما الشّعر فلم يكن فنًّا من هذه الفنون المكانية فحسب، وإنّما هو فن زماني ومكاني في الوقت نفسه، فهو قادرٌ من خلال سرده النَّظمي على أن يحكي لنا ما حدث في الماضي، وما يظلّ حادثًا في الحاضر، وما سوف يمتدُ في المستقبل.
الشعر فنٌّ زماني مكاني
هكذا اختلفت أنواع الفنّ باختلاف قدرة أدواته على تجسيد الزمان والمكان، فأصبحت هناك أنواع مكانية حيّزها المكان كالرسم أو النّحت أو العمارة. وفي مقابلها أنواع حيّزها الزمان كالموسيقى مثلًا أو ما يشبهها في الاعتماد على حركية الإيقاع وامتداه المُتغيّر عبر لحظات الزمن. أما اللغة فظلّت تتميز عن فنون الزمان والمكان بأنّها تجمع بينهما في أداء وظيفتها؛ ففنون اللغة بما فيها كل أنواع الأدب، ابتداء من الشّعر وليس انتهاء بالقص نقرأها بأعيننا أو نسمع حكاياتها بآذاننا مُنطلقين معها عبر الزمان، ومتنقلين بها عبر المكان. وهكذا فهمتُ أن الشعر هو فنٌّ زماني مكاني يتميّز عن غيره من أنواع الفن بقدرته على أن يتجسّد زمنيًّا ومكانيًّا في آن، ولا يقتصر على الزمان وحده أو المكان وحده. ولذلك كانت له ميزته الخاصة التي يمتاز بها عن غيره من أنواع الفن بأداته المتميزة، وهي اللغة التي تصل ما بين الزمان والمكان في دلالاتها أو حتى في تعاقب أصواتها.
ولن أنسى فتنتي بذلك المقال وإعجابي به، فقد أدخلني بلغةٍ قصصيةٍ سهلةٍ إلى واحدةٍ من أعقد نظريات الفن، وهي نظرية: االأداةب. ومنذ ذلك اليوم أحببتُ أن أقرأ لسهير القلماوي قبل أن أعرفها، وصرت أُتابع مقالاتها التي كانت تنشرها في مجلات المجلة أو الكاتب أو الهلال أو غيرها من مجلات ذلك الزمن البعيد في الخمسينيات والستينيات، ولذلك استأتُ من المرحوم محمد كامل جمعة عندما وصف قسم اللغة العربية بأنه اقسم السيدةب، ورغم ضحكي على التكنية المرحة، لكنني رفضتُ عقلًا أن تمسّ هذه السيدة الفاضلة التي كنتُ أراها تدخل إلى القسم محاطة بالمهابة والإجلال على نحوٍ دفعني إلى الخوف من الاقتراب منها، أو حتى التعرف عليها.
مذكرات طالب بعثة
ظلّت علاقتي بالدكتورة القلماوي علاقة الطالب القارئ برئيسة القسم التي يتابع كتاباتها في كل مكان.
وقد أسعدني الزمن حقًّا بأن أخبرني بعض الزملاء أنها سوف تذهب إلى نادي القصة؛ لكي تناقش كتاب د. لويس عوض: امذكرات طالب بعثةب. وقد ذهبتُ إلى تلك الندوة في النادي الذي كان يقع في شارع القصر العيني (ولا أعرف إذا كان موجودًا أم ذهب به الزمن كما ذهب بكثيرٍ من الأشياء الجميلة). وما بهرني في مناقشتها كتاب لويس عوض أنّها كانت تناقشه بثقةٍ وحسمٍ وفي نوعٍ من التعنيف والزَّجر في الوقت نفسه. وكان عوض في ذلك الوقت عَلمًا من أعلام الثقافة العربية، ونجمًا ساطعًا من نجومها. وما كنتُ أظنّ أن أحدًا يستطيع أن يخاطبه بنوع ذلك الخطاب الذي كانت تخاطبه به أستاذتي التي بدأتُ أفخر بأنها رئيسة قسمي منذ ذلك الوقت.
ومرّت الأيام وعرفنا أن د. شكري عيّاد الذي كان من المفترض أن يُدرّس لنا مادة النقد العربي القديم قد ذهب ليعمل مستشارًا ثقافيًّا لمصر في أحد بلدان أمريكا اللاتينية، وهو الأمر الذي اقتضى أن تحلّ محلّه في تدريس مادته، د. القلماوي، التي كنّا نعرف أنها مختصة في النقد العربي الحديث. وفرحتُ في داخلي بأنها جاءت للتدريس لنا في الفرقة الثالثة - أعني ما يقرب من سنة 1963 - إن لم تُخنّي الذاكرة. وبدأت
د. القلماوي تقرأ معنا كتاب المرحوم محمد مندور، الذي كان حيًّا يملأ الدنيا حيوية ونشاطًا في ذلك الوقت، قبل أن يرحل عن دنيانا عام 1965.
القلماوي ومندور
لم تكن د. القلماوي تعتمد على كتاب مندور بوصفه كتابًا مُقرَّرًا أو حتى كتابًا مُعتمدًا، وإنما بوصفه مرجعًا من المراجع التي كانت تحبّ أن نقرأها، وأن نتابع فيها استكمال ما كانت تقوله لنا في المحاضرات، لكنّي كنتُ أُلاحظ نوعًا من القرب بين أفكارها وأفكار مندور. وكنتُ أردُّ ذلك التقارب إلى أن كليهما درس في فرنسا ونهل من المنابع الثقافية نفسها.
ومرّ العام في يُسرٍ وسلاسةٍ وسهولةٍ إلى أن وصلنا إلى السنة الرابعة، وأخذت تدرّس لنا النقد العربي الحديث. وهنا فتحت سهير القلماوي آذاننا وعقولنا على نظريات واتجاهات لم نكن نسمع عنها من قبل، وبفضلها عرفنا للمرّة الأولى أسماء نقادٍ كبار من الغرب على وجه التحديد لم نكن نسمع عنهم من قبل. هكذا عرفنا: ت. إس. إليوت، وآي. إيه. ريتشاردز، ومدرسة النقد الجديد ما بين أوربا وأمريكا، وغير ذلك من المذاهب النقدية.
وكنتُ أشعر من خلال محاضرات د. القلماوي في النقد الحديث أنها مُنحازة - ربما بسبب دراستها - إلى النظريات الغربية الرأسمالية، ولم تكن متقبّلة للواقعية الاشتراكية التي كنّا قد بدأنا نسمع عنها ونقرأ لأعلامها، وعلى رأسهم مكسيم جوركي في روايته الرائعة االأمب. وأذكر أنني كنتُ أريد أن أناقشها في قيمة هذه الرواية، ولكنّي خفتُ وشعرتُ بالخجل، فقد كان من طبعي أن أسكت في محاضرات الأساتذة، وأن أحرص على استيعاب كلّ ما يقولون إلى أن أنضج بما يكفي لأن أصل إلى المرتبة العلمية التي تضعني في المكانة التي تسمح لي بمناقشتهم. ولهذا مرّ العام الرابع دون أن تعرفني د. القلماوي أو حتى تسمع عنّي، مع أني كنتُ الأوّل على أبناء فَصلي أو دُفعتي، كما كُنا نقول في تلك الأيام البعيدة.
ممتاز مع مرتبة الشرف
مرّت الأيام وتخرّجنا بالكلية، ولاحظت د. القلماوي - فيما حَكت لي - أنها أعطت الدرجة النهائية لطالبٍ من طلابها في النقد الأدبي الحديث، وأنّها حاولت أن تتذكر وجه ذلك الطالب أو حتى حواراته معها فلم تخرج بطائل؛ ذلك لأنّ الطالب الذي كنتُهُ كان صموتًا لا يميل إلى النقاش أو الجدال، وإنّما إلى الإنصات والتزود من العلم فحسب. ولم تعرف القلماوي ذلك الطالب الذي بهرها - فيما قالت لي بعد ذلك، رحمة الله عليها - كي تتحمّس له وقت التعيين مُعيدًا. ولسوء الحظ لم تعد هي في ذلك الوقت رئيسة للقسم، وكان رئيس القسم زميلها أو نقيضها الفكري، د. شوقي ضيف. وكان كلاهما على خلافٍ حول تعيين مُعيدين قُدامى، سبق لهم التخرُّج قبلي بسنوات معدودة، ولهذا انشغل القسم بموضوع العراك، ونسي طالبًا من طلابه تخرّج بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف - وهو أمرٌ لم يحدث منذ خمسة عشر عامًا على الأقل - ونسي القسم أن يطلب تكليف هذا الطالب بأن يكون معيدًا فيه، وتركه ليواجه بعد التخرّج مشكلات العمل والوظيفة، بعيدًا عن الرعاية أو عون الأساتذة، أو حتى مساعداتهم، ولذلك وجدتُ نفسي مُتخرجًا من القسم، لكن وجدتني مَحرومًا من أن أذهب إلى اعيد العلمب، وأتولَّى تحية الرئيس عبدالناصر العظيم الذي كنتُ أحبّه كل الحب، وأشعر أنه لولاه ما دخلتُ الجامعة المصرية، وما أصبح التعليم مجانيًّا، يتيح لأمثالي من أبناء الفقراء أن يتعلموا وأن يتفوّقوا، وأن يكونوا الأوائل على أقسامهم، وكان الإحباط قرين الفرحة بالتخرج في آنٍ.
شكوايَ إلى عبدالناصر
الغريب أنني لم أذهب إلى مقابلة د. القلماوي، وأستعين بنفوذها، أو حتى أطلب منها العون كي أكونَ مُعيدًا في قسم اللغة العربية، وأكد هذا الموقف في ذهني أنّها لم تسأل عني ولم تَسْعَ إلى التعرّف إليَّ، رغم إعجابها الشديد بأوراقي ودرجاتي في الامتحانات النهائية. قد يكون خجلي في ذلك الوقت هو المسؤول، وقد تكون مشاغلها أنستها أن تمضي في البحث عنّي كي تجدني. وكانت النتيجة أنّني أصبحت مُعلمًا في إحدى المدارس الإعدادية في قرية صغيرة بمحافظة الفيوم هي قرية طُبْهار، التي لا أزال أذكرها بنوعٍ من الحنوّ والأسى في آن. وبالطبع كان لا بُدّ أن أحضر محاضرات الدراسات العليا حتى أتابع دراستي للحصول على الماجستير والدكتوراة. وحاولتُ أن أُقابل رئيس الجامعة ولكنّي فشلتُ. ومرت الأيام.
وعندما عُدتُ من قرية طُبْهار إلى القاهرة في إحدى الإجازات، عرفتُ أن رئيس الجامعة - آنذاك - طلب رؤيتي بإلحاح، فذهبتُ للقائه مُتصورًا أن
د. سهير قد عرفت بالأمر، وساءها الظلم الذي وقع عليّ، فقررت أن تتدخّل، لكنّ الأمر لم يكن على هذا النحو، فقد تبيّن لي أن الشكوى التي أرسلتُهــا إلى عبدالناصر - كما حكيتُ عن ذلك من قبل - قد وصلت إليه، وقلبت الجامعة رأسًا على عقب، وبعدها أصبحتُ معيدًا في الجامعة بقسم اللغة العربية الذي كانت د. القلماوي لا تزال رئيسة له، وعندما ذهبتُ لكي أقابلها ورأت وجهي تذكّرت أنني الشاب الذي كانت تبحث عنه، والذي لم تستطع أن تعثرَ عليه وتتعرف إليه، كي تدافع عن تعيينه في الجامعة.
آخر العنقود
كانت أولى كلماتها لي: اسامحكَ الله، لقد جعلتني أشعر بالندم والحزن لأول مرةٍ منذ أن بدأتُ التدريس، فأنا متعوّدة أن أتذكر كلّ طلابي النابهين والمتفوقين، وأنت كنتَ حريصًا كل الحرص على ألّا أعرفكَ وعلى ألا تعرفني ولا تقترب منّيب. ولن أنسى حفاوتها الشديدة بي في تلك الدقائق التي شعرت فيها بفرحة عودتي إلى القسم وتعييني مُعيدًا فيه بفضل عبدالناصر، لا بفضلها هي.
ومرّت الأيام وازدَدتُ معرفةً بها، وازدادت هي قُربًا مني. وأصبحت تعاملني على أنني اآخر العنقودب، فقد كنتُ بالفعل آخر أبنائها الذين عملوا مُعيدين في القسم، وذلك في السلسلة التي سبقني فيها عبدالمنعم تليمة، وعبدالمحسن طه بدر، ونبيلة إبراهيم، رحمة الله عليهم جميعًا. وبدأتُ أختار موضوعًا لنيل درجة الماجستير مع د. القلماوي. وكنتُ ميّالًا ومشدودًا بقوةٍ إلى دراسة الجوانب الجمالية أو الخصائص النوعية لكلّ فن من فنون الأدب. وكنتُ قد نشرتُ قبل ذلك بأشهرٍ مقالًا شهيرًا عن تحوّلات الوزن والإيقاع في شعر صلاح عبدالصبور. وأحدث هذا المقال تأثيرًا طيبًا في الحياة الثقافية وقتها، وكان له صدى إيجابي عندها. ولا أزال أذكر أنها انفردت بي بعد نشر ذلك المقال، وسألتني: اهل تريد جعل المقال موضوعًا للماجستير؟ب، فقلتُ لها: اإنني أريد أن أدرس موسيقى الشعر الحديثة بوجهٍ عام، مثل الإيقاع والصورة الفنيّةب، فقالت لي: اأمّا الإيقاع فلا أنصحك به؛ لأنّ دراسته ستتطلب سنين في الموسيقى على مستوى التخصص، كما تتطلّب سنة أو سنتين في الأصوات بعلوم اللغة، والإفادة من التجارب الصوتية في معامل الأصوات، وهذا كلّه يحتاج إلى سنوات وسنوات. ولا أظنّ أن هذه السنوات تلزم لمجرد دراسة في الماجستيرب. قلتُ لها: اما العمل إذن؟ب. فقالت لي: ااترك موسيقى الشعر مؤقتًا، واذهب إلى الصورة الفنية، فدراستها لا تتطلب كل هذه التخصصات التي ذكرتُها لك. وهي الموازي الذي يؤكّد الخاصية النوعية للشعر إلى جانب الوزن والإيقاعب. فاقتنعتُ، وقالت لي: اإن شابًا من زملائك قد كتب تحت إشرافي رسالة دكتوراة عن تطوّر الصورة الفنية في الشعر الحديث ابتداء من البارودي وانتهاء بأدونيس، ولا بأس لو درستَ أنت المرحلة الأولى من مراحل تطوّر الصورة الشعرية على نحوٍ مختلف ومدقّق بالطريقة التي أتصوّرك سوف تقوم بهاب.
الصورة الفنيّة
على هذا الأساس بدأتُ أقْبَلُ موضوع الصورة الفنيّة. ولم يكن هناك في العالم العربي كلّه كتاب واحد مكتوب في هذا الموضوع إلّا كتاب المرحوم مصطفى ناصف عن الصورة الأدبية؛ ولذلك وجدتُ نفسي مُضطرًا إلى أن أزيد من إتقاني للغة الإنجليزية، وأن أقرأ عن الصورة الشعرية في الكتب الإنجليزية المُخصصة لها. ولا أزال أذكر أن الكتاب الأول كان بعنوان االصورة الشعريةب للناقد الإنجليزي سيسل داي لويس، وقرأتُ هذا الكتاب واستوعبته استيعابًا كاملًا، ونشرت مقالًا تفصيليًّا عنه بمجلة المجلة في ذلك الوقت خلال مارس 1968. وعندما بدأتُ في دراسة المادة العربية اقتصرت على شعراء الإحياء في مصر والعالم العربي، وذلك في ضوء الخصائص الفنية للصورة الفنية كما عرفتها من النقد الأدبي. لكنّي لم أجد هذه الخصائص في المادة الخاصة بشعر الإحياء، فكان لا بدّ من تغيير المنهج، وتشكيل منهج يتناسب وطبيعة الصورة الإحيائية التقليدية في أغلب أحوالها. وقلتُ لنفسي بعد أن قرأتُ كتاب مصطفى ناصف - وقبل أن أقرأ كتاب سيسل داي لويس كاملًا -: اإنني لا بدّ أن أكتب مقدّمة؛ لأوضح فيها مفهوم الصورة الشعرية في النقد العربى القديم، وفي النقد العربى الحديث، وفي النقد الأوربي على السواءب.
وبالفعل انتهيت من ذلك الفصل التمهيدي في أقلّ من شهر، وذهبتُ به إلى أستاذتي، وكانت قد تركت رئاسة القسم، وتوّلت رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، فقابلتني في مكتبها بالهيئة وأخذت منّي الفصل وقالت لي: امُر علىَّ بعد أسبوع بعد أن أقرأه؛ لأقول لك رأييب. وتركتُ لها الفصل وخرجت من عندها مليئًا بالتخيُّلات المفرحة ظنًّا منّي أن كل فصلٍ من فصول الرسالة سيأخذ منّي شهرًا، وبذلك سأنتهي من الرسالة كلّها في أقلّ من عام. ولكن كانت النتيجة على النقيض من ذلك تمامًا. وقد سبق لي أن حكيتُ تلك القصة في مقالٍ سابق.
درسٌ لا يُنسى
المُهم أنني عدتُ إليها بعد أسبوع، فوجدتها جهمة الوَجه، غاضبة على ما لا أدري، وأخرجت من مكتبها ورقتين بحجم االفلوسكابب مليئتين بكتابة باللغة الإنجليزية. وقالت لي: اهذه مراجع في موضوع الصورة الشعرية، أرجو أن تقرأها جميعًا وألّا تعود إليَّ إلّا بعد أن تكون قد قرأتها واستوعبتها تمامًاب. وقالت لي ذلك بلهجةٍ لا تتحمّل المُراجعة أو حتى السؤال. وقالت لي في نهاية المقابلة: ااذهب إلى الأستاذة (سين) في مكتبة الجامعة الأمريكية، وأخبرها أنّك تلميذ لي، وأنّني أُريدك أن تستعين بها للاطلاع على هذه المصادر والمراجعب.
وبالفعل ذهبتُ إلى الجامعة الأمريكية، وتعرفتُ إلى السيدة التي طلبت منّي التعرف إليها وقضيتُ سنة كاملة، بل ربّما أكثر، لا أفعل شيئًا إلّا قراءة تلك الكتب، وتحسين إنجليزيتي؛ كي ترقَي لمستوى تلك الكتب حتى أفهمها. ولحُسن الحظ كان الكتاب الأول هو كتاب سيسل داي لويس الذي كنتُ قد قرأتُه بالفعل، فانطلقت منه إلى غيره. ومن المصادفات السعيدة أنّها كتبت لي عن عنوان بحث في مجلة علم الجمال والنقد الأدبي. وكان ذلك البحث بعنوان: االصورة الفنيّة من الإحساس إلى الرمزب. ولحُسن الحظ أيضًا كان هذا البحث هو بمنزلة خريطة لكلّ مجالات الصورة الفنية؛ سواء في الدراسات النفسية أو اللغوية أو الأنثروبولوجية. وفرحت جدًّا بهذا البحث إلى درجة أنّني ترجمتُه كاملًا (وأذكر أنّني نشرتُ تلك الترجمة في مجلة اتحاد الكُتّاب العراقية في أوائل السبعينيات).
منهج جديد
بدأت الأمور تتفتح تدريجيًّا أمامي، وكنتُ أعرف أنّني اخترتُ موضوعًا متشعّب الاتجاهات، تناوشه وتتعاوره مناهج عديدة ومدارس متنوعة، وله تاريخ هائل من البحث في الآداب الأوربية. وكل هذا وضعني أمام السؤال: اما قيمة المُقدمة البائسة التي كتبتُها وعرضتُها على د. القلماوي؟ب وكان أكثر من عام قد مضى، وكلما قابلتُها في القسم عندما تأتي لإلقاء محاضرتها، وكانت تراني كان وجهها يتجهّم بجدية شديدة، وتسألني: اماذا فعلتَ في الكتب التي أعطيتُها لك؟ب فأجيبها: اإننّي أقرأ فيها ولا أفعل شيئًا سوى ذلكب، فتهزُّ رأسها جادة جدًّا وتقول لي: ااستمر إلى أن تنتهيب.
وهكذا مضى العام وأكثر وأنا ماضٍ في قراءة تلك الكتب. ولحُسن الحظ كان الكثير منها مقالات، ولذلك انتهى العام ومعه أشهر عدة وقد انتهيت من المهمّة التي كلّفتني بها. وبدأتُ أسأل نفسي: اهل أكتب مقدمة أُحاكي فيها ما كتبه نورمان فريدمان صاحب بحث: االصورة الفنية من الإحساس إلى الرمزب، أم أستغني عن المقدمة تمامًا أو المدخل، وأتناول الموضوع مباشرة، مُستنبطًا في ذهني منهجًا يتناسب مع طبيعة الموضوع الذي أدرسه، وهو الصورة في شعر الإحياء الذي هو في حقيقته إعادة بعث للشعر العربي القديم؟ب وهكذا انتهيتُ إلى ترك المقدمة والتَّخلي عنها، واستنبطتُ منهجًا جديدًا ينطلق من طبيعة المادة نفسها. وهي مفاهيم الصورة في التراث العربي، امتدادًا إلى عصر الإحياء نظريًّا وتطبيقيًّا، وقبل أن أكتب أيّة كلمة طلبتُ مقابلتها، فأذنت لي، وعندما جلستُ أمامها وجدتُ وجهها قد صار أقربَ إلى الابتسام، واسترجع ملامح حنوّ الأستاذة الأُم على التلميذ الابن، وفتحت الدرج الذي كان فيه الفصل الذي كتبتُهُ وقدَّمته لي قائلة: ابعد أن قرأتَ ما طلبتُهُ منكَ، قُلْ لي رأيك في هذا الذي كتبتَهُ؟!ب. فقلت لها: اكلام فارغ يستحق التمزيقب. فردَّت عليَّ فورًا: اإذن مزّقه أماميب. وقد فعلتُ ذلك غير نادمٍ، بل فرحٌ كما لو كنتُ قد تخلّصتُ من إثم جريمةٍ ارتكبتُها في حالة غياب وعي، ونظرتُ إليها فإذا بها تبتسمُ ابتسامتها التي عهدتها فيها، وقالت لي: ابعد هذا الدرس، اذهب إلى المنزل، وابدأ العمل في كتابة الرسالة بعد أن تعلّمت ما لم أعُد أخشى عليك من الوقوع فيهب.
هجوم ودفاع
بالفعل ذهبتُ إلى المنزل بعد أن تعلّمتُ أقسى درسٍ منهجي في حياتي، وانتهيت من أطروحة الماجستير التي سرعان ما ناقشتُها، والتي تولَّت الدفاع عنّي فيها أستاذتي القلماوي ضد هجوم أُستاذي شكري عيّاد الذي اتهمني بالتعصُّب والدخول بأحكام مُسبقة على شعراء الإحياء.
وبعد ذلك بدأت مرحلة الدكتوراة، فاخترتُ ما اكتشفتُه من قبل، وهو أنه ليس عندنا دراسة منهجية عن مفهوم الصورة الفنيّة في التراث النقدي والبلاغي. وما إن قدمتُ إليها مشروع الدكتوراة وقرأته حتى وافقت فورًا، مؤكّدة أهميّة الموضوع. ولم أطلب منها شيئًا سوى ألّا تتعجلني، وغرقتُ في الكتب والمراجع والمصادر العربية والأجنبية، وقضيتُ خمس سنوات تقريبًا لا هَمّ لي إلّا العمل في ذلك الموضوع، إلى أن انتهيتُ من الدكتوراة التي اشترك في مناقشتي فيها مع أستاذتي القلماوي كلّ من
د. عبدالقادر القط ود. حسين نصار، يرحمهما الله. وبدلًا من أن تناقشني د. القلماوي بعد مناقشة العضوين، انطلقت في الثناء على جدّيتي في البحث، وانتهت المناقشة بحصولي على الدرجة بأعلى الدرجات العلمية. وكانت المناقشة في ذاتها حدثًا في الحياة الثقافية والأدبية.
والمؤكد أنّ عملي طوال تلك السنوات قد قارب ما بيني وبين أُستاذتي إلى أبعد حدٍّ. وشيئًا فشيئًا أصبحتُ ابنًا لها لا تلميذًا فحسب. وكان من الطبيعي، والأمر كذلك، أن أذهب إليها كي أستأذن في اختيار زوجتي، رحمة الله عليها؛ لأنّها كانت تلميذة لها مثلي.
الحفيدة سهير عصفور
وعندما أنجبنا طفلتنا الأولى أطلقنا عليها اسم سهير، تَيمُّنًا بالمرأة التي تنزل منزلة الجدّة للمولدة، والأمّ بالنسبة للأبوين. وأذكر فرحتها وهي تتلقّى ابنتي سهير بين ذراعيها وتُقبّلها وتمنحها كأسًا مُزخرفًا من الفضة؛ كي يكون تميمة لها في حياتها. وواصلت الحفيدة الدراسة إلى أن حصلت على درجة الدكتوراة في الأدب الإسباني، وأصبحت أستاذة جامعية مثل جدّتها، وسرعان ما لحقت الحفيدة بها، عندما توفّاها الله تاركةً في قلبي حُزنًا لا تزال له بقاياه. أما أُستاذتي سهير فقد ظلّت علاقتي بها وثيقة أرعاها وأُقدّم لها فروض المحبة والوفاء والتكريم، فقد شاءت الأقدار أن أتولّى مناصب رفيعة في وزارة الثقافة التي أنشأها ثروت عكاشة سنة 1958، وعملت هي معه مؤسّسة معرض القاهرة الدولي للكتاب سنة 1969. وعندما توفيت، يرحمها الله، سنة 1997، لم أنسَ فضلَها عليّ، وأقمنا لها ما يُكرّمها ويؤكد مكانتها التي ظلّت بعد موتها إلى اليوم.
الطريف أنّني عندما كنتُ أكتب هذا المقال كانت تردُ على ذهني مجموعة لا تُنسى من ذكرياتي معها، أذكرُ منها أنها حصلت على درجة الماجستير سنة 1937، وأن إدارة الجامعة اضطرت إلى مناقشتها في أحد المدرجات البعيدة حتى لا تحدُث تظاهرات من الطلبة المعارضين لتعليم المرأة. أما الدكتوراة فقد كانت تكتب أغلبها في فرنسا، حيث أرسلها أستاذها طه حسين لكي تستفيد من الدراسات العالمية عن األف ليلة وليلةب. وما أكثر الذكريات التي كانت تجمعني بها، فكثيرًا ما كانت تقصّ علي تفاصيل عدة عن حياتها منذ أن تخرَّجت الأولى على قسم اللغة العربية سنة 1933 إلى أن دخلت القسم بناء على طلب أستاذها طه حسين، رغم إلحاحها في أن تدخل كلية الطب كي تعمل مساعدة لأبيها الطبيب لكي تكون طبيبة مثله، لكنّ طه حسين، صديق أبيها، أصرّ على أن تدخل كلية الآداب، كما أصرّ أن يُدخلها القسم الذي يترأسه، وتبنّاها لتصبح واحدة من أنجب تلاميذه، يرحمها الله، فما زالت عطاياها العلمية وأفعالها الإنسانية تغمرني بالودّ والمحبة والعرفان، رغم أنها توفيت منذ حوالي ربع قرن ■