أستاذتي سَهير القلماوي

أستاذتي سَهير القلماوي

في‭ ‬الواقع‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أعدُّ‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬أستاذة‭ ‬لي‭ ‬فحَسب،‭ ‬تعلمتُ‭ ‬منها‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬جوانبه‭ ‬التطبيقية،‭ ‬كما‭ ‬تعلمتُ‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬بلغات‭ ‬أجنبية،‭ ‬لكنّها‭ - ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ - ‬كانت‭ ‬أُمًّا‭ ‬حانية‭ ‬إذا‭ ‬لزم‭ ‬الحنوّ،‭ ‬قاسية‭ ‬مُتشددة‭ ‬إذا‭ ‬استدعى‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬بيننا‭ ‬الشدة‭ ‬أو‭ ‬القسوة‭.‬

عرفتُها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬رئيسة‭ ‬القسم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬والطريف‭ ‬أنّني‭ ‬عرفتُ‭ ‬هذه‭ ‬الصفة‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬واحدٍ‭ ‬من‭ ‬كارهيها،‭ ‬والذين‭ ‬عُرفوا‭ ‬بالحقد‭ ‬عليها‭ ‬والغيرة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬

كان‭ ‬الرجل‭ ‬هو‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬كامل‭ ‬جمعة،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُدرّس‭ ‬لنا‭ ‬مادة‭ ‬العَروض‭ ‬والأوزان‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬الجامعية،‭ ‬وكان‭ ‬معروفًا‭ ‬بميله‭ ‬إلى‭ ‬الفكاهة‭ ‬والسُّخرية‭. ‬وكان‭ ‬يقوم‭ ‬بتدريس‭ ‬الأوزان‭ ‬الشعرية‭ ‬وهو‭ ‬يؤدي‭ ‬حركات‭ ‬جسدية‭ ‬مصحوبة‭ ‬بإيقاعات‭ ‬صوتية‭ ‬لهذه‭ ‬الأبحر‭ ‬أو‭ ‬الأوزان،‭ ‬وكان‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يُقطّع‭ ‬البيت‭ ‬الشعرى‭:‬

كُرَةٌ‭/ ‬ضُربَت‭/ ‬بصَوالجَةٍ‭/ ‬فتَلَقَّفَها‭/ ‬رَجُلٌ‭/ ‬رَجُلُ

وهو‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬المُتدارَك‭. ‬وكان‭ ‬ينشدُ‭ ‬لنا‭ ‬تفاعيل‭ ‬الأبحر‭ ‬في‭ ‬إيقاعات‭ ‬حركية؛‭ ‬لكي‭ ‬يُدخل‭ ‬إلى‭ ‬أذهاننا‭ ‬الإيقاعات‭ ‬الصوتية‭ ‬للأبحر‭ ‬العروضية‭. ‬وكنا‭ ‬نراه‭ ‬خفيفَ‭ ‬الظلّ‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حدٍّ،‭ ‬وكان‭ ‬مشهورًا‭ ‬بيننا‭ ‬بكلمته‭ ‬التي‭ ‬يردّدها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الهزل،‭ ‬وهي‭ ‬أنه‭ ‬سيدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬التفوّق،‭ ‬كي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نحيل‭ ‬كلمات‭ ‬الجرائد‭ ‬إلى‭ ‬أوزان‭ ‬منضبطة‭ ‬الإيقاع‭. ‬وكنّا‭ ‬نصدقه،‭ ‬فرحين‭ ‬بهزله‭. ‬ولكنّي‭ ‬أذكر‭ ‬أنه‭ ‬وصف‭ ‬قسمنا‭ (‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭) ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬بأنه‭ ‬اقسم‭ ‬السيّدةب،‭ ‬وطبعًا‭ ‬ضحكنا‭ ‬من‭ ‬التسمية‭ ‬مُقلّدين‭ ‬الذين‭ ‬ضحكوا‭ ‬قبلنا‭ ‬من‭ ‬العارفين‭ ‬بعدائه‭ ‬لسهير‭ ‬القلماوي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستخفّ‭ ‬به،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تعدّه‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬القامات‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬كشوقي‭ ‬ضيف‭ ‬مثلًا،‭ ‬أو‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭. ‬وعندما‭ ‬أدركتُ‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬حقًّا‭ ‬بجملة‭ ‬اقسم‭ ‬السيدةب‭ ‬انتابني‭ ‬الغضب‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬منذ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬وتباعدت‭ ‬علاقتي‭ ‬به‭ ‬بسبب‭ ‬حقده‭ ‬على‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرُفها‭ ‬شخصيًّا،‭ ‬ولكنني‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬قرأتُ‭ ‬لها‭ ‬كتابًا‭ ‬عن‭ ‬المحاكاة،‭ ‬وأدهشني‭ ‬الكتاب؛‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬معارف‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬علوم‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق،‭ ‬وبهرني‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬يُسرُ‭ ‬الحركة‭ ‬بين‭ ‬مذاهب‭ ‬النقد‭ ‬المختلفة،‭ ‬والتنقل‭ ‬الرشيق‭ ‬بين‭ ‬علوم‭ ‬العرب‭ ‬وعلوم‭ ‬الغرب‭. ‬وكنتُ‭ ‬قد‭ ‬بدأتُ‭ ‬أعرف‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ ‬من‭ ‬مقالاتها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنشرها‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬المجلات‭ ‬المعنيّة‭ ‬بالثقافة‭ ‬والأدب،‭ ‬وقرَّبتها‭ ‬إلى‭ ‬قلبي،‭ ‬لُغتها‭ ‬السهلة،‭ ‬وقدرتها‭ ‬التشويقية‭ ‬على‭ ‬الحكي‭ ‬والسرد‭. ‬

 

دور‭ ‬‮«‬الأداة‮»‬‭ ‬في‭ ‬الفنون

وإن‭ ‬أنسى‭ ‬فلن‭ ‬أنسى‭ ‬المقالة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬قرأتُها‭ ‬لها،‭ ‬وكانت‭ ‬بعنوان‭: ‬الاوكونب‭ ‬التي‭ ‬قرأتُها‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أعداد‭ ‬مجلات‭ ‬الرسالة‭ ‬أو‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الدوريات‭ ‬بدار‭ ‬الكتب‭ ‬القديمة‭. ‬وكان‭ ‬المقال‭ ‬مكتوبًا‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬حكائي،‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬راهبٍ‭ ‬يوناني‭ ‬اسمه‭ ‬لاوكون‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الراهب‭ ‬قد‭ ‬نطق‭ ‬في‭ ‬حقّ‭ ‬الآلهة‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬له‭ ‬النطق‭ ‬به،‭ ‬فعاقبته‭ ‬الآلهة،‭ ‬وأرسلت‭ ‬له‭ ‬أفاعي‭ ‬ضخمة‭ ‬ظلّت‭ ‬تنهش‭ ‬في‭ ‬جسده،‭ ‬معتصرةً‭ ‬أولاده‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬عقابًا‭ ‬على‭ ‬تجديفه‭ ‬في‭ ‬حقّ‭ ‬الآلهة‭. ‬وحكت‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬المقال‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬أسطورة‭ ‬الاوكونب‭ ‬قد‭ ‬خلّدها‭ ‬الفن‭ ‬الإغريقي‭ ‬في‭ ‬تماثيل‭ ‬عديدة‭ ‬وفي‭ ‬رسوم‭ ‬شهيرة،‭ ‬مركزها‭ ‬الراهب‭ ‬المسكين‭ ‬الذي‭ ‬يصرخُ‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬وحوله‭ ‬أطفاله‭ ‬الصغار‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬الألم‭ ‬والعذاب‭ ‬بدورهم،‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬ذنب‭ ‬لهم‭ ‬فيه‭. ‬ومضت‭ ‬القلماوي‭ ‬تحكي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المقال‭ ‬الجميل‭ ‬عن‭ ‬فيلسوفٍ‭ ‬ألماني‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬أخذ‭ ‬أسطورة‭ ‬الاوكونب‭ ‬هذه‭ ‬وبنى‭ ‬من‭ ‬فهمه‭ ‬لها‭ ‬ودراسته‭ ‬لدلالاتها‭ ‬نظريةً‭ ‬مهمةً‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬االأداةب‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬واختلافها‭ ‬باختلاف‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬وخصائصها‭ ‬النوعية‭. ‬وهكذا‭ ‬اكتشف‭ ‬هذا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬ما‭ ‬أسمته‭ ‬د‭. ‬القلماوي،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬أحد‭ ‬الشارحين‭ ‬اللاحقين‭ ‬بـ‭ ‬امكانية‭ ‬الرسم‭ ‬والنحتب؛‭ ‬وازمكانية‭ ‬الشّعرب،‭ ‬فالرسم‭ ‬أو‭ ‬النحت‭ ‬هما‭ ‬تصوير‭ ‬آنيٌّ‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬برهةٍ‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬الآني،‭ ‬وإذا‭ ‬أراد‭ ‬النحّات‭ ‬أو‭ ‬الرسام‭ ‬أن‭ ‬يُحييَ‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬البرهة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بعدها،‭ ‬فإنه‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬فينا‭ ‬الخيال‭ ‬الذي‭ ‬يدفعنا‭ ‬إليه‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الإيحاءات‭ ‬المكانية‭ ‬التي‭ ‬تفترش‭ ‬اللوحة،‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬على‭ ‬فراغها‭ ‬اللوحة‭.‬

أما‭ ‬الشّعر‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬فنًّا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬المكانية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنّما‭ ‬هو‭ ‬فن‭ ‬زماني‭ ‬ومكاني‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬فهو‭ ‬قادرٌ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سرده‭ ‬النَّظمي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يحكي‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وما‭ ‬يظلّ‭ ‬حادثًا‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬وما‭ ‬سوف‭ ‬يمتدُ‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬

 

الشعر‭ ‬فنٌّ‭ ‬زماني‭ ‬مكاني

هكذا‭ ‬اختلفت‭ ‬أنواع‭ ‬الفنّ‭ ‬باختلاف‭ ‬قدرة‭ ‬أدواته‭ ‬على‭ ‬تجسيد‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬فأصبحت‭ ‬هناك‭ ‬أنواع‭ ‬مكانية‭ ‬حيّزها‭ ‬المكان‭ ‬كالرسم‭ ‬أو‭ ‬النّحت‭ ‬أو‭ ‬العمارة‭. ‬وفي‭ ‬مقابلها‭ ‬أنواع‭ ‬حيّزها‭ ‬الزمان‭ ‬كالموسيقى‭ ‬مثلًا‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يشبهها‭ ‬في‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬حركية‭ ‬الإيقاع‭ ‬وامتداه‭ ‬المُتغيّر‭ ‬عبر‭ ‬لحظات‭ ‬الزمن‭. ‬أما‭ ‬اللغة‭ ‬فظلّت‭ ‬تتميز‭ ‬عن‭ ‬فنون‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬بأنّها‭ ‬تجمع‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬وظيفتها؛‭ ‬ففنون‭ ‬اللغة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬الأدب،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الشّعر‭ ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬بالقص‭ ‬نقرأها‭ ‬بأعيننا‭ ‬أو‭ ‬نسمع‭ ‬حكاياتها‭ ‬بآذاننا‭ ‬مُنطلقين‭ ‬معها‭ ‬عبر‭ ‬الزمان،‭ ‬ومتنقلين‭ ‬بها‭ ‬عبر‭ ‬المكان‭. ‬وهكذا‭ ‬فهمتُ‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬فنٌّ‭ ‬زماني‭ ‬مكاني‭ ‬يتميّز‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الفن‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يتجسّد‭ ‬زمنيًّا‭ ‬ومكانيًّا‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الزمان‭ ‬وحده‭ ‬أو‭ ‬المكان‭ ‬وحده‭. ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬ميزته‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬يمتاز‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الفن‭ ‬بأداته‭ ‬المتميزة،‭ ‬وهي‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬في‭ ‬دلالاتها‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬تعاقب‭ ‬أصواتها‭. ‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬فتنتي‭ ‬بذلك‭ ‬المقال‭ ‬وإعجابي‭ ‬به،‭ ‬فقد‭ ‬أدخلني‭ ‬بلغةٍ‭ ‬قصصيةٍ‭ ‬سهلةٍ‭ ‬إلى‭ ‬واحدةٍ‭ ‬من‭ ‬أعقد‭ ‬نظريات‭ ‬الفن،‭ ‬وهي‭ ‬نظرية‭: ‬االأداةب‭. ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬أحببتُ‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬لسهير‭ ‬القلماوي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أعرفها،‭ ‬وصرت‭ ‬أُتابع‭ ‬مقالاتها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنشرها‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬المجلة‭ ‬أو‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬الهلال‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬مجلات‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬البعيد‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والستينيات،‭ ‬ولذلك‭ ‬استأتُ‭ ‬من‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬كامل‭ ‬جمعة‭ ‬عندما‭ ‬وصف‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بأنه‭ ‬اقسم‭ ‬السيدةب،‭ ‬ورغم‭ ‬ضحكي‭ ‬على‭ ‬التكنية‭ ‬المرحة،‭ ‬لكنني‭ ‬رفضتُ‭ ‬عقلًا‭ ‬أن‭ ‬تمسّ‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬الفاضلة‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أراها‭ ‬تدخل‭ ‬إلى‭ ‬القسم‭ ‬محاطة‭ ‬بالمهابة‭ ‬والإجلال‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬دفعني‭ ‬إلى‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬التعرف‭ ‬عليها‭.‬

 

مذكرات‭ ‬طالب‭ ‬بعثة

ظلّت‭ ‬علاقتي‭ ‬بالدكتورة‭ ‬القلماوي‭ ‬علاقة‭ ‬الطالب‭ ‬القارئ‭ ‬برئيسة‭ ‬القسم‭ ‬التي‭ ‬يتابع‭ ‬كتاباتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭.‬

وقد‭ ‬أسعدني‭ ‬الزمن‭ ‬حقًّا‭ ‬بأن‭ ‬أخبرني‭ ‬بعض‭ ‬الزملاء‭ ‬أنها‭ ‬سوف‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬نادي‭ ‬القصة؛‭ ‬لكي‭ ‬تناقش‭ ‬كتاب‭ ‬د‭. ‬لويس‭ ‬عوض‭: ‬امذكرات‭ ‬طالب‭ ‬بعثةب‭. ‬وقد‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الندوة‭ ‬في‭ ‬النادي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬القصر‭ ‬العيني‭ (‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬موجودًا‭ ‬أم‭ ‬ذهب‭ ‬به‭ ‬الزمن‭ ‬كما‭ ‬ذهب‭ ‬بكثيرٍ‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الجميلة‭). ‬وما‭ ‬بهرني‭ ‬في‭ ‬مناقشتها‭ ‬كتاب‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬أنّها‭ ‬كانت‭ ‬تناقشه‭ ‬بثقةٍ‭ ‬وحسمٍ‭ ‬وفي‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬التعنيف‭ ‬والزَّجر‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬وكان‭ ‬عوض‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬عَلمًا‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬ونجمًا‭ ‬ساطعًا‭ ‬من‭ ‬نجومها‭. ‬وما‭ ‬كنتُ‭ ‬أظنّ‭ ‬أن‭ ‬أحدًا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يخاطبه‭ ‬بنوع‭ ‬ذلك‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تخاطبه‭ ‬به‭ ‬أستاذتي‭ ‬التي‭ ‬بدأتُ‭ ‬أفخر‭ ‬بأنها‭ ‬رئيسة‭ ‬قسمي‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬

ومرّت‭ ‬الأيام‭ ‬وعرفنا‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬شكري‭ ‬عيّاد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يُدرّس‭ ‬لنا‭ ‬مادة‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬قد‭ ‬ذهب‭ ‬ليعمل‭ ‬مستشارًا‭ ‬ثقافيًّا‭ ‬لمصر‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬بلدان‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬اقتضى‭ ‬أن‭ ‬تحلّ‭ ‬محلّه‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬مادته،‭ ‬د‭. ‬القلماوي،‭ ‬التي‭ ‬كنّا‭ ‬نعرف‭ ‬أنها‭ ‬مختصة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭. ‬وفرحتُ‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬بأنها‭ ‬جاءت‭ ‬للتدريس‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الفرقة‭ ‬الثالثة‭ - ‬أعني‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1963‭ - ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تُخنّي‭ ‬الذاكرة‭. ‬وبدأت‭ ‬
د‭. ‬القلماوي‭ ‬تقرأ‭ ‬معنا‭ ‬كتاب‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬مندور،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬حيًّا‭ ‬يملأ‭ ‬الدنيا‭ ‬حيوية‭ ‬ونشاطًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرحل‭ ‬عن‭ ‬دنيانا‭ ‬عام‭ ‬1965‭. ‬

 

القلماوي‭ ‬ومندور

لم‭ ‬تكن‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬مندور‭ ‬بوصفه‭ ‬كتابًا‭ ‬مُقرَّرًا‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬كتابًا‭ ‬مُعتمدًا،‭ ‬وإنما‭ ‬بوصفه‭ ‬مرجعًا‭ ‬من‭ ‬المراجع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحبّ‭ ‬أن‭ ‬نقرأها،‭ ‬وأن‭ ‬نتابع‭ ‬فيها‭ ‬استكمال‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تقوله‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬المحاضرات،‭ ‬لكنّي‭ ‬كنتُ‭ ‬أُلاحظ‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬القرب‭ ‬بين‭ ‬أفكارها‭ ‬وأفكار‭ ‬مندور‭. ‬وكنتُ‭ ‬أردُّ‭ ‬ذلك‭ ‬التقارب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كليهما‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬ونهل‭ ‬من‭ ‬المنابع‭ ‬الثقافية‭ ‬نفسها‭. ‬

ومرّ‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬يُسرٍ‭ ‬وسلاسةٍ‭ ‬وسهولةٍ‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬السنة‭ ‬الرابعة،‭ ‬وأخذت‭ ‬تدرّس‭ ‬لنا‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭. ‬وهنا‭ ‬فتحت‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬آذاننا‭ ‬وعقولنا‭ ‬على‭ ‬نظريات‭ ‬واتجاهات‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نسمع‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وبفضلها‭ ‬عرفنا‭ ‬للمرّة‭ ‬الأولى‭ ‬أسماء‭ ‬نقادٍ‭ ‬كبار‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نسمع‭ ‬عنهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬هكذا‭ ‬عرفنا‭: ‬ت‭. ‬إس‭. ‬إليوت،‭ ‬وآي‭. ‬إيه‭. ‬ريتشاردز،‭ ‬ومدرسة‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أوربا‭ ‬وأمريكا،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المذاهب‭ ‬النقدية‭.‬

وكنتُ‭ ‬أشعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محاضرات‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الحديث‭ ‬أنها‭ ‬مُنحازة‭ - ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬دراستها‭ - ‬إلى‭ ‬النظريات‭ ‬الغربية‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬متقبّلة‭ ‬للواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬التي‭ ‬كنّا‭ ‬قد‭ ‬بدأنا‭ ‬نسمع‭ ‬عنها‭ ‬ونقرأ‭ ‬لأعلامها،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬مكسيم‭ ‬جوركي‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬الرائعة‭ ‬االأمب‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬كنتُ‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أناقشها‭ ‬في‭ ‬قيمة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬ولكنّي‭ ‬خفتُ‭ ‬وشعرتُ‭ ‬بالخجل،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬طبعي‭ ‬أن‭ ‬أسكت‭ ‬في‭ ‬محاضرات‭ ‬الأساتذة،‭ ‬وأن‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يقولون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أنضج‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لأن‭ ‬أصل‭ ‬إلى‭ ‬المرتبة‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تضعني‭ ‬في‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬لي‭ ‬بمناقشتهم‭. ‬ولهذا‭ ‬مرّ‭ ‬العام‭ ‬الرابع‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعرفني‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تسمع‭ ‬عنّي،‭ ‬مع‭ ‬أني‭ ‬كنتُ‭ ‬الأوّل‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬فَصلي‭ ‬أو‭ ‬دُفعتي،‭ ‬كما‭ ‬كُنا‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬البعيدة‭.‬

 

ممتاز‭ ‬مع‭ ‬مرتبة‭ ‬الشرف

‭ ‬مرّت‭ ‬الأيام‭ ‬وتخرّجنا‭ ‬بالكلية،‭ ‬ولاحظت‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ - ‬فيما‭ ‬حَكت‭ ‬لي‭ - ‬أنها‭ ‬أعطت‭ ‬الدرجة‭ ‬النهائية‭ ‬لطالبٍ‭ ‬من‭ ‬طلابها‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث،‭ ‬وأنّها‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تتذكر‭ ‬وجه‭ ‬ذلك‭ ‬الطالب‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬حواراته‭ ‬معها‭ ‬فلم‭ ‬تخرج‭ ‬بطائل؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأنّ‭ ‬الطالب‭ ‬الذي‭ ‬كنتُهُ‭ ‬كان‭ ‬صموتًا‭ ‬لا‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬النقاش‭ ‬أو‭ ‬الجدال،‭ ‬وإنّما‭ ‬إلى‭ ‬الإنصات‭ ‬والتزود‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬فحسب‭. ‬ولم‭ ‬تعرف‭ ‬القلماوي‭ ‬ذلك‭ ‬الطالب‭ ‬الذي‭ ‬بهرها‭ - ‬فيما‭ ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليها‭ - ‬كي‭ ‬تتحمّس‭ ‬له‭ ‬وقت‭ ‬التعيين‭ ‬مُعيدًا‭. ‬ولسوء‭ ‬الحظ‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬رئيسة‭ ‬للقسم،‭ ‬وكان‭ ‬رئيس‭ ‬القسم‭ ‬زميلها‭ ‬أو‭ ‬نقيضها‭ ‬الفكري،‭ ‬د‭. ‬شوقي‭ ‬ضيف‭. ‬وكان‭ ‬كلاهما‭ ‬على‭ ‬خلافٍ‭ ‬حول‭ ‬تعيين‭ ‬مُعيدين‭ ‬قُدامى،‭ ‬سبق‭ ‬لهم‭ ‬التخرُّج‭ ‬قبلي‭ ‬بسنوات‭ ‬معدودة،‭ ‬ولهذا‭ ‬انشغل‭ ‬القسم‭ ‬بموضوع‭ ‬العراك،‭ ‬ونسي‭ ‬طالبًا‭ ‬من‭ ‬طلابه‭ ‬تخرّج‭ ‬بدرجة‭ ‬ممتاز‭ ‬مع‭ ‬مرتبة‭ ‬الشرف‭ - ‬وهو‭ ‬أمرٌ‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬منذ‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬على‭  ‬الأقل‭ - ‬ونسي‭ ‬القسم‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬تكليف‭ ‬هذا‭ ‬الطالب‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬معيدًا‭ ‬فيه،‭ ‬وتركه‭ ‬ليواجه‭ ‬بعد‭ ‬التخرّج‭ ‬مشكلات‭ ‬العمل‭ ‬والوظيفة،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الرعاية‭ ‬أو‭ ‬عون‭ ‬الأساتذة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬مساعداتهم،‭ ‬ولذلك‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬مُتخرجًا‭ ‬من‭ ‬القسم،‭ ‬لكن‭ ‬وجدتني‭ ‬مَحرومًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬اعيد‭ ‬العلمب،‭ ‬وأتولَّى‭ ‬تحية‭ ‬الرئيس‭ ‬عبدالناصر‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬أحبّه‭ ‬كل‭ ‬الحب،‭ ‬وأشعر‭ ‬أنه‭ ‬لولاه‭ ‬ما‭ ‬دخلتُ‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬وما‭ ‬أصبح‭ ‬التعليم‭ ‬مجانيًّا،‭ ‬يتيح‭ ‬لأمثالي‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الفقراء‭ ‬أن‭ ‬يتعلموا‭ ‬وأن‭ ‬يتفوّقوا،‭ ‬وأن‭ ‬يكونوا‭ ‬الأوائل‭ ‬على‭ ‬أقسامهم،‭ ‬وكان‭ ‬الإحباط‭ ‬قرين‭ ‬الفرحة‭ ‬بالتخرج‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭.‬

 

شكوايَ‭ ‬إلى‭ ‬عبدالناصر

الغريب‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬مقابلة‭ ‬د‭. ‬القلماوي،‭ ‬وأستعين‭ ‬بنفوذها،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أطلب‭ ‬منها‭ ‬العون‭ ‬كي‭ ‬أكونَ‭ ‬مُعيدًا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وأكد‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬أنّها‭ ‬لم‭ ‬تسأل‭ ‬عني‭ ‬ولم‭ ‬تَسْعَ‭ ‬إلى‭ ‬التعرّف‭ ‬إليَّ،‭ ‬رغم‭ ‬إعجابها‭ ‬الشديد‭ ‬بأوراقي‭ ‬ودرجاتي‭ ‬في‭ ‬الامتحانات‭ ‬النهائية‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬خجلي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬هو‭ ‬المسؤول،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬مشاغلها‭ ‬أنستها‭ ‬أن‭ ‬تمضي‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عنّي‭ ‬كي‭ ‬تجدني‭. ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أنّني‭ ‬أصبحت‭ ‬مُعلمًا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المدارس‭ ‬الإعدادية‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬بمحافظة‭ ‬الفيوم‭ ‬هي‭ ‬قرية‭ ‬طُبْهار،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أذكرها‭ ‬بنوعٍ‭ ‬من‭ ‬الحنوّ‭ ‬والأسى‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬وبالطبع‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بُدّ‭ ‬أن‭ ‬أحضر‭ ‬محاضرات‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬حتى‭ ‬أتابع‭ ‬دراستي‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراة‭. ‬وحاولتُ‭ ‬أن‭ ‬أُقابل‭ ‬رئيس‭ ‬الجامعة‭ ‬ولكنّي‭ ‬فشلتُ‭. ‬ومرت‭ ‬الأيام‭.‬

وعندما‭ ‬عُدتُ‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬طُبْهار‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الإجازات،‭ ‬عرفتُ‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬الجامعة‭ - ‬آنذاك‭ - ‬طلب‭ ‬رؤيتي‭ ‬بإلحاح،‭ ‬فذهبتُ‭ ‬للقائه‭ ‬مُتصورًا‭ ‬أن‭ ‬
د‭. ‬سهير‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬بالأمر،‭ ‬وساءها‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬عليّ،‭ ‬فقررت‭ ‬أن‭ ‬تتدخّل،‭ ‬لكنّ‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬فقد‭ ‬تبيّن‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬الشكوى‭ ‬التي‭ ‬أرسلتُهــا‭ ‬إلى‭ ‬عبدالناصر‭ - ‬كما‭ ‬حكيتُ‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬قبل‭ - ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إليه،‭ ‬وقلبت‭ ‬الجامعة‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب،‭ ‬وبعدها‭ ‬أصبحتُ‭ ‬معيدًا‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬رئيسة‭ ‬له،‭ ‬وعندما‭ ‬ذهبتُ‭ ‬لكي‭ ‬أقابلها‭ ‬ورأت‭ ‬وجهي‭ ‬تذكّرت‭ ‬أنني‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تبحث‭ ‬عنه،‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تعثرَ‭ ‬عليه‭ ‬وتتعرف‭ ‬إليه،‭ ‬كي‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬تعيينه‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭.‬

‭ ‬

آخر‭ ‬العنقود

كانت‭ ‬أولى‭ ‬كلماتها‭ ‬لي‭: ‬اسامحكَ‭ ‬الله،‭ ‬لقد‭ ‬جعلتني‭ ‬أشعر‭ ‬بالندم‭ ‬والحزن‭ ‬لأول‭ ‬مرةٍ‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بدأتُ‭ ‬التدريس،‭ ‬فأنا‭ ‬متعوّدة‭ ‬أن‭ ‬أتذكر‭ ‬كلّ‭ ‬طلابي‭ ‬النابهين‭ ‬والمتفوقين،‭ ‬وأنت‭ ‬كنتَ‭ ‬حريصًا‭ ‬كل‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬ألّا‭ ‬أعرفكَ‭ ‬وعلى‭ ‬ألا‭ ‬تعرفني‭ ‬ولا‭ ‬تقترب‭ ‬منّيب‭. ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬حفاوتها‭ ‬الشديدة‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدقائق‭ ‬التي‭ ‬شعرت‭ ‬فيها‭ ‬بفرحة‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬القسم‭ ‬وتعييني‭ ‬مُعيدًا‭ ‬فيه‭ ‬بفضل‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬لا‭ ‬بفضلها‭ ‬هي‭.‬

ومرّت‭ ‬الأيام‭ ‬وازدَدتُ‭ ‬معرفةً‭ ‬بها،‭ ‬وازدادت‭ ‬هي‭ ‬قُربًا‭ ‬مني‭. ‬وأصبحت‭ ‬تعاملني‭ ‬على‭ ‬أنني‭ ‬اآخر‭ ‬العنقودب،‭ ‬فقد‭ ‬كنتُ‭ ‬بالفعل‭ ‬آخر‭ ‬أبنائها‭ ‬الذين‭ ‬عملوا‭ ‬مُعيدين‭ ‬في‭ ‬القسم،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬السلسلة‭ ‬التي‭ ‬سبقني‭ ‬فيها‭ ‬عبدالمنعم‭ ‬تليمة،‭ ‬وعبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬بدر،‭ ‬ونبيلة‭ ‬إبراهيم،‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليهم‭ ‬جميعًا‭. ‬وبدأتُ‭ ‬أختار‭ ‬موضوعًا‭ ‬لنيل‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ ‬مع‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭. ‬وكنتُ‭ ‬ميّالًا‭ ‬ومشدودًا‭ ‬بقوةٍ‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬الجوانب‭ ‬الجمالية‭ ‬أو‭ ‬الخصائص‭ ‬النوعية‭ ‬لكلّ‭ ‬فن‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭. ‬وكنتُ‭ ‬قد‭ ‬نشرتُ‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بأشهرٍ‭ ‬مقالًا‭ ‬شهيرًا‭ ‬عن‭ ‬تحوّلات‭ ‬الوزن‭ ‬والإيقاع‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭. ‬وأحدث‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬تأثيرًا‭ ‬طيبًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬وقتها،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬صدى‭ ‬إيجابي‭ ‬عندها‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬أنها‭ ‬انفردت‭ ‬بي‭ ‬بعد‭ ‬نشر‭ ‬ذلك‭ ‬المقال،‭ ‬وسألتني‭: ‬اهل‭ ‬تريد‭ ‬جعل‭ ‬المقال‭ ‬موضوعًا‭ ‬للماجستير؟ب،‭ ‬فقلتُ‭ ‬لها‭: ‬اإنني‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أدرس‭ ‬موسيقى‭ ‬الشعر‭ ‬الحديثة‭ ‬بوجهٍ‭ ‬عام،‭ ‬مثل‭ ‬الإيقاع‭ ‬والصورة‭ ‬الفنيّةب،‭ ‬فقالت‭ ‬لي‭: ‬اأمّا‭ ‬الإيقاع‭ ‬فلا‭ ‬أنصحك‭ ‬به؛‭ ‬لأنّ‭ ‬دراسته‭ ‬ستتطلب‭ ‬سنين‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التخصص،‭ ‬كما‭ ‬تتطلّب‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬سنتين‭ ‬في‭ ‬الأصوات‭ ‬بعلوم‭ ‬اللغة،‭ ‬والإفادة‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الصوتية‭ ‬في‭ ‬معامل‭ ‬الأصوات،‭ ‬وهذا‭ ‬كلّه‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬وسنوات‭. ‬ولا‭ ‬أظنّ‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬تلزم‭ ‬لمجرد‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬الماجستيرب‭. ‬قلتُ‭ ‬لها‭: ‬اما‭ ‬العمل‭ ‬إذن؟ب‭. ‬فقالت‭ ‬لي‭: ‬ااترك‭ ‬موسيقى‭ ‬الشعر‭ ‬مؤقتًا،‭ ‬واذهب‭ ‬إلى‭ ‬الصورة‭ ‬الفنية،‭ ‬فدراستها‭ ‬لا‭ ‬تتطلب‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التخصصات‭ ‬التي‭ ‬ذكرتُها‭ ‬لك‭. ‬وهي‭ ‬الموازي‭ ‬الذي‭ ‬يؤكّد‭ ‬الخاصية‭ ‬النوعية‭ ‬للشعر‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الوزن‭ ‬والإيقاعب‭. ‬فاقتنعتُ،‭ ‬وقالت‭ ‬لي‭: ‬اإن‭ ‬شابًا‭ ‬من‭ ‬زملائك‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬تحت‭ ‬إشرافي‭ ‬رسالة‭ ‬دكتوراة‭ ‬عن‭ ‬تطوّر‭ ‬الصورة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬البارودي‭ ‬وانتهاء‭ ‬بأدونيس،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬لو‭ ‬درستَ‭ ‬أنت‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تطوّر‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬مختلف‭ ‬ومدقّق‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬أتصوّرك‭ ‬سوف‭ ‬تقوم‭ ‬بهاب‭.‬

 

الصورة‭ ‬الفنيّة

على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬بدأتُ‭ ‬أقْبَلُ‭ ‬موضوع‭ ‬الصورة‭ ‬الفنيّة‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كلّه‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬مكتوب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬إلّا‭ ‬كتاب‭ ‬المرحوم‭ ‬مصطفى‭ ‬ناصف‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭ ‬الأدبية؛‭ ‬ولذلك‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬مُضطرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أزيد‭ ‬من‭ ‬إتقاني‭ ‬للغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وأن‭ ‬أقرأ‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬الإنجليزية‭ ‬المُخصصة‭ ‬لها‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬كان‭ ‬بعنوان‭ ‬االصورة‭ ‬الشعريةب‭ ‬للناقد‭ ‬الإنجليزي‭ ‬سيسل‭ ‬داي‭ ‬لويس،‭ ‬وقرأتُ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬واستوعبته‭ ‬استيعابًا‭ ‬كاملًا،‭ ‬ونشرت‭ ‬مقالًا‭ ‬تفصيليًّا‭ ‬عنه‭ ‬بمجلة‭ ‬المجلة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬خلال‭ ‬مارس‭ ‬1968‭. ‬وعندما‭ ‬بدأتُ‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬المادة‭ ‬العربية‭ ‬اقتصرت‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬الإحياء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والعالم‭ ‬العربي،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الخصائص‭ ‬الفنية‭ ‬للصورة‭ ‬الفنية‭ ‬كما‭ ‬عرفتها‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭. ‬لكنّي‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭ ‬في‭ ‬المادة‭ ‬الخاصة‭ ‬بشعر‭ ‬الإحياء،‭ ‬فكان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬المنهج،‭ ‬وتشكيل‭ ‬منهج‭ ‬يتناسب‭ ‬وطبيعة‭ ‬الصورة‭ ‬الإحيائية‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬أحوالها‭. ‬وقلتُ‭ ‬لنفسي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأتُ‭ ‬كتاب‭ ‬مصطفى‭ ‬ناصف‭ - ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬كتاب‭ ‬سيسل‭ ‬داي‭ ‬لويس‭ ‬كاملًا‭ -: ‬اإنني‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬مقدّمة؛‭ ‬لأوضح‭ ‬فيها‭ ‬مفهوم‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬العربى‭ ‬القديم،‭ ‬وفي‭ ‬النقد‭ ‬العربى‭ ‬الحديث،‭ ‬وفي‭ ‬النقد‭ ‬الأوربي‭ ‬على‭ ‬السواءب‭. ‬

وبالفعل‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الفصل‭ ‬التمهيدي‭ ‬في‭ ‬أقلّ‭ ‬من‭ ‬شهر،‭ ‬وذهبتُ‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬أستاذتي،‭ ‬وكانت‭ ‬قد‭ ‬تركت‭ ‬رئاسة‭ ‬القسم،‭ ‬وتوّلت‭ ‬رئاسة‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب،‭ ‬فقابلتني‭ ‬في‭ ‬مكتبها‭ ‬بالهيئة‭ ‬وأخذت‭ ‬منّي‭ ‬الفصل‭ ‬وقالت‭ ‬لي‭: ‬امُر‭ ‬علىَّ‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أقرأه؛‭ ‬لأقول‭ ‬لك‭ ‬رأييب‭. ‬وتركتُ‭ ‬لها‭ ‬الفصل‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬عندها‭ ‬مليئًا‭ ‬بالتخيُّلات‭ ‬المفرحة‭ ‬ظنًّا‭ ‬منّي‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬فصلٍ‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الرسالة‭ ‬سيأخذ‭ ‬منّي‭ ‬شهرًا،‭ ‬وبذلك‭ ‬سأنتهي‭ ‬من‭ ‬الرسالة‭ ‬كلّها‭ ‬في‭ ‬أقلّ‭ ‬من‭ ‬عام‭. ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬النتيجة‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تمامًا‭. ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬حكيتُ‭ ‬تلك‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬مقالٍ‭ ‬سابق‭.‬

 

درسٌ‭ ‬لا‭ ‬يُنسى

المُهم‭ ‬أنني‭ ‬عدتُ‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع،‭ ‬فوجدتها‭ ‬جهمة‭ ‬الوَجه،‭ ‬غاضبة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أدري،‭ ‬وأخرجت‭ ‬من‭ ‬مكتبها‭ ‬ورقتين‭ ‬بحجم‭ ‬االفلوسكابب‭ ‬مليئتين‭ ‬بكتابة‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬وقالت‭ ‬لي‭: ‬اهذه‭ ‬مراجع‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية،‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬تقرأها‭ ‬جميعًا‭ ‬وألّا‭ ‬تعود‭ ‬إليَّ‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬قرأتها‭ ‬واستوعبتها‭ ‬تمامًاب‭. ‬وقالت‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭ ‬بلهجةٍ‭ ‬لا‭ ‬تتحمّل‭ ‬المُراجعة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬السؤال‭. ‬وقالت‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المقابلة‭: ‬ااذهب‭ ‬إلى‭ ‬الأستاذة‭ (‬سين‭) ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وأخبرها‭ ‬أنّك‭ ‬تلميذ‭ ‬لي،‭ ‬وأنّني‭ ‬أُريدك‭ ‬أن‭ ‬تستعين‭ ‬بها‭ ‬للاطلاع‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المصادر‭ ‬والمراجعب‭.‬

‭ ‬وبالفعل‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وتعرفتُ‭ ‬إلى‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬طلبت‭ ‬منّي‭ ‬التعرف‭ ‬إليها‭ ‬وقضيتُ‭ ‬سنة‭ ‬كاملة،‭ ‬بل‭ ‬ربّما‭ ‬أكثر،‭ ‬لا‭ ‬أفعل‭ ‬شيئًا‭ ‬إلّا‭ ‬قراءة‭ ‬تلك‭ ‬الكتب،‭ ‬وتحسين‭ ‬إنجليزيتي؛‭ ‬كي‭ ‬ترقَي‭ ‬لمستوى‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬حتى‭ ‬أفهمها‭. ‬ولحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬سيسل‭ ‬داي‭ ‬لويس‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬قرأتُه‭ ‬بالفعل،‭ ‬فانطلقت‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬غيره‭. ‬ومن‭ ‬المصادفات‭ ‬السعيدة‭ ‬أنّها‭ ‬كتبت‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬عنوان‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬علم‭ ‬الجمال‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬البحث‭ ‬بعنوان‭: ‬االصورة‭ ‬الفنيّة‭ ‬من‭ ‬الإحساس‭ ‬إلى‭ ‬الرمزب‭. ‬ولحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬أيضًا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬هو‭ ‬بمنزلة‭ ‬خريطة‭ ‬لكلّ‭ ‬مجالات‭ ‬الصورة‭ ‬الفنية؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬النفسية‭ ‬أو‭ ‬اللغوية‭ ‬أو‭ ‬الأنثروبولوجية‭. ‬وفرحت‭ ‬جدًّا‭ ‬بهذا‭ ‬البحث‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنّني‭ ‬ترجمتُه‭ ‬كاملًا‭ (‬وأذكر‭ ‬أنّني‭ ‬نشرتُ‭ ‬تلك‭ ‬الترجمة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬اتحاد‭ ‬الكُتّاب‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬السبعينيات‭).‬

 

‭ ‬منهج‭ ‬جديد

بدأت‭ ‬الأمور‭ ‬تتفتح‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬أمامي،‭ ‬وكنتُ‭ ‬أعرف‭ ‬أنّني‭ ‬اخترتُ‭ ‬موضوعًا‭ ‬متشعّب‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬تناوشه‭ ‬وتتعاوره‭ ‬مناهج‭ ‬عديدة‭ ‬ومدارس‭ ‬متنوعة،‭ ‬وله‭ ‬تاريخ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬الأوربية‭. ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬وضعني‭ ‬أمام‭ ‬السؤال‭: ‬اما‭ ‬قيمة‭ ‬المُقدمة‭ ‬البائسة‭ ‬التي‭ ‬كتبتُها‭ ‬وعرضتُها‭ ‬على‭ ‬د‭. ‬القلماوي؟ب‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬قد‭ ‬مضى،‭ ‬وكلما‭ ‬قابلتُها‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬عندما‭ ‬تأتي‭ ‬لإلقاء‭ ‬محاضرتها،‭ ‬وكانت‭ ‬تراني‭ ‬كان‭ ‬وجهها‭ ‬يتجهّم‭ ‬بجدية‭ ‬شديدة،‭ ‬وتسألني‭: ‬اماذا‭ ‬فعلتَ‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬أعطيتُها‭ ‬لك؟ب‭ ‬فأجيبها‭: ‬اإننّي‭ ‬أقرأ‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬أفعل‭ ‬شيئًا‭ ‬سوى‭ ‬ذلكب،‭ ‬فتهزُّ‭ ‬رأسها‭ ‬جادة‭ ‬جدًّا‭ ‬وتقول‭ ‬لي‭: ‬ااستمر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنتهيب‭.‬

وهكذا‭ ‬مضى‭ ‬العام‭ ‬وأكثر‭ ‬وأنا‭ ‬ماضٍ‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭. ‬ولحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬كان‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬مقالات،‭ ‬ولذلك‭ ‬انتهى‭ ‬العام‭ ‬ومعه‭ ‬أشهر‭ ‬عدة‭ ‬وقد‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬المهمّة‭ ‬التي‭ ‬كلّفتني‭ ‬بها‭. ‬وبدأتُ‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭: ‬اهل‭ ‬أكتب‭ ‬مقدمة‭ ‬أُحاكي‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬نورمان‭ ‬فريدمان‭ ‬صاحب‭ ‬بحث‭: ‬االصورة‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬الإحساس‭ ‬إلى‭ ‬الرمزب،‭ ‬أم‭ ‬أستغني‭ ‬عن‭ ‬المقدمة‭ ‬تمامًا‭ ‬أو‭ ‬المدخل،‭ ‬وأتناول‭ ‬الموضوع‭ ‬مباشرة،‭ ‬مُستنبطًا‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬منهجًا‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الموضوع‭ ‬الذي‭ ‬أدرسه،‭ ‬وهو‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الإحياء‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬إعادة‭ ‬بعث‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم؟ب‭ ‬وهكذا‭ ‬انتهيتُ‭ ‬إلى‭ ‬ترك‭ ‬المقدمة‭ ‬والتَّخلي‭ ‬عنها،‭ ‬واستنبطتُ‭ ‬منهجًا‭ ‬جديدًا‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬المادة‭ ‬نفسها‭. ‬وهي‭ ‬مفاهيم‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬امتدادًا‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الإحياء‭ ‬نظريًّا‭ ‬وتطبيقيًّا،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬أيّة‭ ‬كلمة‭ ‬طلبتُ‭ ‬مقابلتها،‭ ‬فأذنت‭ ‬لي،‭ ‬وعندما‭ ‬جلستُ‭ ‬أمامها‭ ‬وجدتُ‭ ‬وجهها‭ ‬قد‭ ‬صار‭ ‬أقربَ‭ ‬إلى‭ ‬الابتسام،‭ ‬واسترجع‭ ‬ملامح‭ ‬حنوّ‭ ‬الأستاذة‭ ‬الأُم‭ ‬على‭ ‬التلميذ‭ ‬الابن،‭ ‬وفتحت‭ ‬الدرج‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬الفصل‭ ‬الذي‭ ‬كتبتُهُ‭ ‬وقدَّمته‭ ‬لي‭ ‬قائلة‭: ‬ابعد‭ ‬أن‭ ‬قرأتَ‭ ‬ما‭ ‬طلبتُهُ‭ ‬منكَ،‭ ‬قُلْ‭ ‬لي‭ ‬رأيك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬كتبتَهُ؟‭!‬ب‭. ‬فقلت‭ ‬لها‭: ‬اكلام‭ ‬فارغ‭ ‬يستحق‭ ‬التمزيقب‭. ‬فردَّت‭ ‬عليَّ‭ ‬فورًا‭: ‬اإذن‭ ‬مزّقه‭ ‬أماميب‭. ‬وقد‭ ‬فعلتُ‭ ‬ذلك‭ ‬غير‭ ‬نادمٍ،‭ ‬بل‭ ‬فرحٌ‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬تخلّصتُ‭ ‬من‭ ‬إثم‭ ‬جريمةٍ‭ ‬ارتكبتُها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬غياب‭ ‬وعي،‭ ‬ونظرتُ‭ ‬إليها‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬تبتسمُ‭ ‬ابتسامتها‭ ‬التي‭ ‬عهدتها‭ ‬فيها،‭ ‬وقالت‭ ‬لي‭: ‬ابعد‭ ‬هذا‭ ‬الدرس،‭ ‬اذهب‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬وابدأ‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الرسالة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعلّمت‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أعُد‭ ‬أخشى‭ ‬عليك‭ ‬من‭ ‬الوقوع‭ ‬فيهب‭. ‬

 

هجوم‭ ‬ودفاع

بالفعل‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعلّمتُ‭ ‬أقسى‭ ‬درسٍ‭ ‬منهجي‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وانتهيت‭ ‬من‭ ‬أطروحة‭ ‬الماجستير‭ ‬التي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ناقشتُها،‭ ‬والتي‭ ‬تولَّت‭ ‬الدفاع‭ ‬عنّي‭ ‬فيها‭ ‬أستاذتي‭ ‬القلماوي‭ ‬ضد‭ ‬هجوم‭ ‬أُستاذي‭ ‬شكري‭ ‬عيّاد‭ ‬الذي‭ ‬اتهمني‭ ‬بالتعصُّب‭ ‬والدخول‭ ‬بأحكام‭ ‬مُسبقة‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬الإحياء‭.‬

وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بدأت‭ ‬مرحلة‭ ‬الدكتوراة،‭ ‬فاخترتُ‭ ‬ما‭ ‬اكتشفتُه‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬عندنا‭ ‬دراسة‭ ‬منهجية‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الصورة‭ ‬الفنيّة‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬النقدي‭ ‬والبلاغي‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬قدمتُ‭ ‬إليها‭ ‬مشروع‭ ‬الدكتوراة‭ ‬وقرأته‭ ‬حتى‭ ‬وافقت‭ ‬فورًا،‭ ‬مؤكّدة‭ ‬أهميّة‭ ‬الموضوع‭. ‬ولم‭ ‬أطلب‭ ‬منها‭ ‬شيئًا‭ ‬سوى‭ ‬ألّا‭ ‬تتعجلني،‭ ‬وغرقتُ‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬والمراجع‭ ‬والمصادر‭ ‬العربية‭ ‬والأجنبية،‭ ‬وقضيتُ‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬تقريبًا‭ ‬لا‭ ‬هَمّ‭ ‬لي‭ ‬إلّا‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الموضوع،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتهيتُ‭ ‬من‭ ‬الدكتوراة‭ ‬التي‭ ‬اشترك‭ ‬في‭ ‬مناقشتي‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬أستاذتي‭ ‬القلماوي‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬
د‭. ‬عبدالقادر‭ ‬القط‭ ‬ود‭. ‬حسين‭ ‬نصار،‭ ‬يرحمهما‭ ‬الله‭. ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تناقشني‭ ‬د‭. ‬القلماوي‭ ‬بعد‭ ‬مناقشة‭ ‬العضوين،‭ ‬انطلقت‭ ‬في‭ ‬الثناء‭ ‬على‭ ‬جدّيتي‭ ‬في‭ ‬البحث،‭ ‬وانتهت‭ ‬المناقشة‭ ‬بحصولي‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬بأعلى‭ ‬الدرجات‭ ‬العلمية‭. ‬وكانت‭ ‬المناقشة‭ ‬في‭ ‬ذاتها‭ ‬حدثًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬والأدبية‭.‬

والمؤكد‭ ‬أنّ‭ ‬عملي‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬قد‭ ‬قارب‭ ‬ما‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬أُستاذتي‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حدٍّ‭. ‬وشيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬أصبحتُ‭ ‬ابنًا‭ ‬لها‭ ‬لا‭ ‬تلميذًا‭ ‬فحسب‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي،‭ ‬والأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إليها‭ ‬كي‭ ‬أستأذن‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬زوجتي،‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليها؛‭ ‬لأنّها‭ ‬كانت‭ ‬تلميذة‭ ‬لها‭ ‬مثلي‭. ‬

 

الحفيدة‭ ‬سهير‭ ‬عصفور

وعندما‭ ‬أنجبنا‭ ‬طفلتنا‭ ‬الأولى‭ ‬أطلقنا‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬سهير،‭ ‬تَيمُّنًا‭ ‬بالمرأة‭ ‬التي‭ ‬تنزل‭ ‬منزلة‭ ‬الجدّة‭ ‬للمولدة،‭ ‬والأمّ‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأبوين‭. ‬وأذكر‭ ‬فرحتها‭ ‬وهي‭ ‬تتلقّى‭ ‬ابنتي‭ ‬سهير‭ ‬بين‭ ‬ذراعيها‭ ‬وتُقبّلها‭ ‬وتمنحها‭ ‬كأسًا‭ ‬مُزخرفًا‭ ‬من‭ ‬الفضة؛‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬تميمة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬حياتها‭. ‬وواصلت‭ ‬الحفيدة‭ ‬الدراسة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإسباني،‭ ‬وأصبحت‭ ‬أستاذة‭ ‬جامعية‭ ‬مثل‭ ‬جدّتها،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬لحقت‭ ‬الحفيدة‭ ‬بها،‭ ‬عندما‭ ‬توفّاها‭ ‬الله‭ ‬تاركةً‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬حُزنًا‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬له‭ ‬بقاياه‭. ‬أما‭ ‬أُستاذتي‭ ‬سهير‭ ‬فقد‭ ‬ظلّت‭ ‬علاقتي‭ ‬بها‭ ‬وثيقة‭ ‬أرعاها‭ ‬وأُقدّم‭ ‬لها‭ ‬فروض‭ ‬المحبة‭ ‬والوفاء‭ ‬والتكريم،‭ ‬فقد‭ ‬شاءت‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬أتولّى‭ ‬مناصب‭ ‬رفيعة‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬ثروت‭ ‬عكاشة‭ ‬سنة‭ ‬1958،‭ ‬وعملت‭ ‬هي‭ ‬معه‭ ‬مؤسّسة‭ ‬معرض‭ ‬القاهرة‭ ‬الدولي‭ ‬للكتاب‭ ‬سنة‭ ‬1969‭. ‬وعندما‭ ‬توفيت،‭ ‬يرحمها‭ ‬الله،‭ ‬سنة‭ ‬1997،‭ ‬لم‭ ‬أنسَ‭ ‬فضلَها‭ ‬عليّ،‭ ‬وأقمنا‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬يُكرّمها‭ ‬ويؤكد‭ ‬مكانتها‭ ‬التي‭ ‬ظلّت‭ ‬بعد‭ ‬موتها‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

الطريف‭ ‬أنّني‭ ‬عندما‭ ‬كنتُ‭ ‬أكتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬كانت‭ ‬تردُ‭ ‬على‭ ‬ذهني‭ ‬مجموعة‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭ ‬من‭ ‬ذكرياتي‭ ‬معها،‭ ‬أذكرُ‭ ‬منها‭ ‬أنها‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ ‬سنة‭ ‬1937،‭ ‬وأن‭ ‬إدارة‭ ‬الجامعة‭ ‬اضطرت‭ ‬إلى‭ ‬مناقشتها‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المدرجات‭ ‬البعيدة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تحدُث‭ ‬تظاهرات‭ ‬من‭ ‬الطلبة‭ ‬المعارضين‭ ‬لتعليم‭ ‬المرأة‭. ‬أما‭ ‬الدكتوراة‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تكتب‭ ‬أغلبها‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬حيث‭ ‬أرسلها‭ ‬أستاذها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬لكي‭ ‬تستفيد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬العالمية‭ ‬عن‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭. ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجمعني‭ ‬بها،‭ ‬فكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تقصّ‭ ‬علي‭ ‬تفاصيل‭ ‬عدة‭ ‬عن‭ ‬حياتها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تخرَّجت‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬سنة‭ ‬1933‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬القسم‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬أستاذها‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬رغم‭ ‬إلحاحها‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬كي‭ ‬تعمل‭ ‬مساعدة‭ ‬لأبيها‭ ‬الطبيب‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬طبيبة‭ ‬مثله،‭ ‬لكنّ‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬صديق‭ ‬أبيها،‭ ‬أصرّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬كما‭ ‬أصرّ‭ ‬أن‭ ‬يُدخلها‭ ‬القسم‭ ‬الذي‭ ‬يترأسه،‭ ‬وتبنّاها‭ ‬لتصبح‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أنجب‭ ‬تلاميذه،‭ ‬يرحمها‭ ‬الله،‭ ‬فما‭ ‬زالت‭ ‬عطاياها‭ ‬العلمية‭ ‬وأفعالها‭ ‬الإنسانية‭ ‬تغمرني‭ ‬بالودّ‭ ‬والمحبة‭ ‬والعرفان،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬توفيت‭ ‬منذ‭ ‬حوالي‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ■