«أدب الاعتراف»... في الثقافة العربية

«أدب الاعتراف»... في الثقافة العربية

الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬ثقافة‭ ‬مُحافظة،‭ ‬تعيش‭ ‬وَفْقَ‭ ‬قيودٍ‭ ‬وأعرافٍ‭ ‬وتقاليدَ‭ ‬توارثتها‭ ‬من‭ ‬قديم،‭ ‬شاعت‭ ‬فيها‭ ‬مصطلحات‭ ‬كثيرة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬المسكوت‭ ‬عنه‮»‬‭ ‬و«ما‭ ‬يُستقبح‭ ‬ذكره‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬مفاهيم‭ ‬تَغُلّ‭ ‬القلم‭ ‬وتَعْقِدُ‭ ‬اللسان،‭ ‬وتمنعهما‭ ‬من‭ ‬البوح‭ ‬والاعتراف،‭ ‬حتى‭ ‬إننا‭ ‬نجد‭ ‬رجلًا‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬رجالات‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬هو‭ ‬الأستاذ‭ ‬العقاد‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬يروي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬شَرَعَ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬يومياته‭ ‬ومذكّراته‭ ‬عن‭ ‬حوادث‭ ‬الحياة‭ ‬وعوارضها،‭ ‬وأمضى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر،‭ ‬ثم‭ ‬مَزَّق‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬وأحرقه،‭ ‬ولم‭ ‬يعُد‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭! ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬لإدانته‭ ‬أدب‭ ‬السّيرة‭ ‬أو‭ ‬رفضه‭ ‬له،‭ ‬فهو‭ ‬شديد‭ ‬الإعجاب‭ ‬به،‭ ‬ولكن‭ ‬الذّي‭ ‬باعد‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬كتابة‭ ‬يومياته‭ - ‬فيما‭ ‬يذكر‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ - ‬أمران‭: ‬أوّلهما‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬مطبوع‭ ‬على‭ ‬التوجّه‭ ‬إلى‭ ‬محراب‭ ‬الاعتراف؛‭ ‬لأنه‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الاستغفار‭ ‬لا‭ ‬يستريح‭ ‬إليه،‭ ‬والآخر‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يكتبه‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الحقبة‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬وعن‭ ‬رجالها،‭ ‬وكانت‭ ‬حقبة‭ ‬مستعرة‭ ‬شائكة،‭ ‬قد‭ ‬يستغلّه‭ ‬هواة‭ ‬الإيذاء‭ ‬من‭ ‬ملفّقي‭ ‬التهم‭ ‬ومدبّري‭ ‬المكايد‭ ‬في‭ ‬طبخ‭ ‬القضايا‭ ‬وإحراج‭ ‬الأبرياء،‭ ‬ولذلك‭ ‬أحرق‭ ‬العقاد‭ ‬هذه‭ ‬اليوميات‭!‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬العقاد‭ ‬قد‭ ‬أحرق‭ ‬يومياته‭ ‬خشية‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬تجرّه‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أخطار،‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬كتبها‭ ‬ونشرها‭ ‬قُبيل‭ ‬رحيله،‭ ‬متمثلًا‭ ‬فيها‭ ‬الحد‭ ‬الأقصى‭ ‬من‭ ‬الصدق،‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬االعيش‭ ‬على‭ ‬الحافةب،‭ ‬لكنّه‭ ‬حين‭ ‬نشرها‭ ‬كان‭ ‬شبح‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المُحافظة‭ ‬ماثلًا‭ ‬بقوة،‭ ‬فعمد‭ ‬أبناؤه‭ ‬إلى‭ ‬سحب‭ ‬نسخ‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬السوق،‭ ‬بحجّة‭ ‬أن‭ ‬اعترافات‭ ‬والدهم‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يسيء‭ ‬إليهم،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العربي‭ - ‬على‭ ‬تأثّره‭ ‬بالثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬وانفتاحه‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السّرد‭ ‬بخاصّة‭ - ‬لم‭ ‬يوفّر‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬المناخ‭ ‬المناسب‭ ‬الذي‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الأدب‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬تُبَجّل‭ ‬الستر‭ ‬وتحتفي‭ ‬بطَيّ‭ ‬الصفحات‭ ‬السوداء،‭ ‬وهذه‭ ‬الصورة‭ ‬الذهنية‭ ‬السائدة‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬المحافظة‭ ‬ورفض‭ ‬الاعتراف،‭ ‬خرج‭ ‬علينا‭ ‬أستاذ‭ ‬الأدب‭ ‬والنقد‭ ‬بالجامعة‭ ‬العربية‭ ‬المفتوحة‭ ‬بالكويت،‭ ‬د‭.‬إيهاب‭ ‬النجدي،‭ ‬بكتاب‭ ‬يعالج‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬عنوانه‭ ‬اأدب‭ ‬الاعتراف‭... ‬مقاربات‭ ‬تحليلية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬سرديب‭.‬ت

صدر‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬المعارف‭ ‬بالقاهرة‭ ‬عام‭ ‬2017،‭ ‬وعالج‭ ‬فيه‭ ‬النجدي‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬الطريف‭/ ‬الشائق‭/ ‬الشائك،‭ ‬الذي‭ ‬قَلَّ‭ ‬طارقوه‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬ولم‭ ‬يحظَ‭ ‬فيه‭ ‬بعناية‭ ‬كبيرة،‭ ‬ولذا‭ ‬كان‭ ‬صدور‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬لافتًا‭ ‬وجديرًا‭ ‬بالحفاية؛‭ ‬لطرافة‭ ‬موضوعه‭ ‬ولما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تتبُّع‭ ‬لتاريخ‭ ‬هذا‭ ‬الفن،‭ ‬أو‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬بعامة‭.‬

 

مفهوم‭ ‬الاعتراف

عرض‭ ‬د‭. ‬النجدي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬لمفهوم‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف،‭ ‬فعَرَّفه‭ ‬بأنه‭ ‬شكل‭ ‬سردي‭ ‬يتركز‭ ‬اهتمام‭ ‬الكاتب‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬إظهار‭ ‬الجوانب‭ ‬الخفية‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وكشْفِ‭ ‬المستور‭ ‬من‭ ‬صفاته‭ ‬الشخصية،‭ ‬وتجلية‭ ‬الغامض‭ ‬من‭ ‬علاقته‭ ‬بالآخرين،‭ ‬مستندًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭ ‬وحدها،‭ ‬وساعيًا‭ ‬إلى‭ ‬التحليل‭ ‬والتنبيه‭ ‬إلى‭ ‬مواطن‭ ‬الخلل‭ ‬في‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭. ‬وبيَّن‭ ‬كذلك‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭ ‬والسّيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬تحمل‭ ‬ظلال‭ ‬الإشادة‭ ‬والمديح،‭ ‬وسرد‭ ‬الإنجاز‭ ‬والنجاح،‭ ‬ويُقبل‭ ‬عليها‭ ‬القارئ‭ ‬بهدف‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مُتعة‭ ‬المعرفة،‭ ‬والتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬السيرة‭ ‬ومراحل‭ ‬تَفَوُّقِها،‭ ‬محافظًا‭ ‬على‭ ‬اعتقاده‭ ‬الراسخ‭ ‬في‭ ‬براءة‭ ‬بطله‭ ‬وقدوته،‭ ‬فإنّ‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭ ‬مَقْرون‭ ‬بالذنب‭ ‬والسقوط‭ ‬وسرد‭ ‬الخبايا‭ ‬والأسرار،‭ ‬وهو‭ ‬يمثّل‭ ‬الراحة‭ ‬الكبرى‭ ‬لصاحبه،‭ ‬لكنّه‭ ‬قد‭ ‬يمثّل‭ ‬صدمة‭ ‬للقارئ‭ ‬تُبَدِّل‭ ‬الصورة‭ ‬الذهنية‭ ‬المستقرة‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يمثّل‭ ‬مُخاطَرة‭ ‬وجُرأة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأعراف‭ ‬والتقاليد‭.‬

وفي‭ ‬إطار‭ ‬هذه‭ ‬المداخل‭ ‬النظرية‭ ‬للكتاب،‭ ‬أوضح‭ ‬النجدي‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬مدى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬صدق‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬عند‭ ‬الاعتراف،‭ ‬وكشف‭ ‬عمّا‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭ ‬من‭ ‬وظائف،‭ ‬وما‭ ‬يؤديه‭ ‬من‭ ‬مهام‭. ‬وثمّة‭ ‬حديث‭ ‬مفصّل‭ ‬عن‭ ‬نشأة‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬تطوّر‭ ‬فنّ‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬الثقافتين‭ ‬الغربية‭ ‬والعربية،‭ ‬وتلمُّس‭ ‬للأسباب‭ ‬والدوافع‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬يعترف‭ ‬الكاتب‭ ‬لقرّائه‭ ‬بأسرار‭ ‬نفسه‭.‬

 

الاعتراف‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬القديم

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الكِتَاب‭ ‬قد‭ ‬عالج‭ ‬نشأةَ‭ ‬أدبِ‭ ‬الاعتراف‭ ‬وازدهارَه‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬فتوقّف‭ ‬عند‭ ‬اعترافات‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬بوصفها‭ ‬نقطة‭ ‬الانطلاق‭ ‬القوية‭ ‬لهذا‭ ‬الفن،‭ ‬وذكر‭ ‬من‭ ‬ساروا‭ ‬على‭ ‬دربه‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬الغربيين،‭ ‬مثل‭ ‬شاتوبريان‭ ‬وألفريد‭ ‬دي‭ ‬موسيه‭ ‬وأوسكار‭ ‬وايلد‭ ‬وأندريه‭ ‬جيد،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬الذين‭ ‬يحتّل‭ ‬المفهوم‭ ‬الكنسي‭ ‬للاعتراف‭ ‬مكانًا‭ ‬بارزًا‭ ‬في‭ ‬ثقافتهم‭ ‬بصفته‭ ‬طقسًا‭ ‬دينيًا،‭ ‬فإنّ‭ ‬الجدير‭ ‬بالملاحظة‭ ‬أن‭ ‬المؤلف‭ ‬قد‭ ‬رجع‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬يبحث‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬بذور‭ ‬لهذا‭ ‬الفن،‭ ‬متسائلًا‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬االوقارب‭ ‬وتلك‭ ‬االسريّة‭ ‬الاجتماعيةب‭ ‬حائلين‭ ‬دون‭ ‬الاعتراف‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي؟‭ ‬ثم‭ ‬يجيب‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بأنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬العسير‭ ‬على‭ ‬الدارس‭ ‬الأدبي‭ ‬أن‭ ‬يظفر‭ ‬ببعض‭ ‬الصور‭ ‬الاعترافية‭ ‬في‭ ‬أدبنا‭ ‬القديم،‭ ‬وهي‭ ‬صور‭ ‬تكشف‭ ‬مدى‭ ‬ما‭ ‬بلغته‭ ‬قِيَمُ‭ ‬الصراحة‭ ‬والمكاشفة‭ ‬ومواجهة‭ ‬الأخطاء‭ ‬والصدق‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬البعيد،‭ ‬وتؤكد‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭ ‬ليس‭ ‬فنًّا‭ ‬مستحدثًا،‭ ‬وإنّما‭ ‬له‭ ‬جذور‭ ‬بعيدة‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬عروق‭ ‬الكتابة‭ ‬الذاتية‭ ‬العربية‭.‬

وقد‭ ‬توقّف‭ ‬النجدي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السيـاق‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الصور‭ ‬الاعترافيــة‭ ‬المُؤْلمة‭ ‬لأبي‭ ‬حَيَّان‭ ‬التوحيدي،‭ ‬كان‭ ‬طَرَحها‭ ‬في‭ ‬ارسالة‭ ‬الصداقة‭ ‬والصديقب،‭ ‬وعَبَّر‭ ‬فيها‭ ‬عمّا‭ ‬عاناه‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬الحال‭ ‬وشَظَفِ‭ ‬العيش‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬مقصيًّا‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬والسلطان،‭ ‬مطرودًا‭ ‬من‭ ‬قصور‭ ‬الحكّام‭ ‬ونعيمها،‭ ‬مما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬حرق‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬حياته،‭ ‬ضنًّا‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬الناس‭.‬

وكذلك‭ ‬اعتراف‭ ‬الشيخ‭ ‬الرئيس‭ ‬ابن‭ ‬سينا،‭ ‬أكبر‭ ‬فلاسفة‭ ‬الإسلام،‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬يتخّذ‭ ‬الخمر‭ ‬وسيلة‭ ‬تعينه‭ ‬على‭ ‬تحصيل‭ ‬العلم،‭ ‬وهو‭ ‬اعتراف‭ ‬صادم‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬حرصه‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬المسجد‭! ‬وتوقّف‭ ‬كذلك‭ ‬عند‭ ‬اعترافات‭ ‬أبي‭ ‬حامد‭ ‬الغزالي‭ ‬في‭ ‬االمنقذ‭ ‬من‭ ‬الضلالب‭ ‬التي‭ ‬يعرض‭ ‬فيها‭ ‬لرحلته‭ ‬مع‭ ‬الفلسفات‭ ‬والعقائد‭ ‬والمِلل‭ ‬والنِّحل،‭ ‬ثم‭ ‬يبين‭ ‬اهتداءه‭ ‬إلى‭ ‬شاطئ‭ ‬التصوف‭ ‬بعد‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬والحيرة‭ ‬والشكّ‭ ‬والاضطراب‭ ‬والصراع‭ ‬الفكري‭. ‬

وتوقّف‭ ‬كذلك‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬اعترافات‭ ‬أسامة‭ ‬بن‭ ‬منقذ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االاعتبارب‭. ‬وأطال‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬كتاب‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬اطوق‭ ‬الحمامة‭ ‬في‭ ‬الألفة‭ ‬والألّافب‭ ‬لما‭ ‬يقدّمه‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬اعترافية‭ ‬متفرّدة‭ ‬جَسورة‭ ‬تخطّت‭ ‬حواجز‭ ‬الصمت‭ ‬والكتمان‭ ‬التي‭ ‬تلتف‭ ‬حول‭ ‬حياة‭ ‬العلماء‭ ‬والفقهاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر،‭ ‬فأدخلت‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬العربي‭ ‬التراثي‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف،‭ ‬بل‭ ‬جعلته‭ ‬رائدًا‭ ‬في‭ ‬بابه،‭ ‬لأنّه‭ ‬سابق‭ ‬لاعترافات‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬قرون‭.‬

 

الاعتراف‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث

وانتقل‭ ‬النجدي‭ ‬من‭ ‬معالجة‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬الاعترافية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث؛‭ ‬فعالج‭ ‬كتاب‭ ‬االاعترافب‭ ‬لعبدالرحمن‭ ‬شكري،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬1916،‭ ‬بوصفه‭ ‬من‭ ‬بواكير‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يحمل‭ ‬عنوانًا‭ ‬قاطع‭ ‬الدلالة‭ ‬على‭ ‬جنسه‭ ‬الأدبي،‭ ‬وقد‭ ‬عالجه‭ ‬النجدي‭ ‬معالجة‭ ‬نقدية‭ ‬كشفت‭ ‬عمّا‭ ‬طرحه‭ ‬مؤلفه‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬وما‭ ‬اتّسم‭ ‬به‭ ‬السرد‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬وما‭ ‬استُعْمِل‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تقنيات‭. ‬

وقد‭ ‬عالج‭ ‬الكِتابُ‭ ‬كذلك‭ ‬قضية‭ ‬الهوية‭ ‬الفردية‭ ‬للإنسان‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بالهوية‭ ‬الجمعية‭ ‬للوطن‭ ‬أو‭ ‬الأمة‭ ‬وتجليّات‭ ‬تلك‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬اعترافات‭ ‬الروّاد‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬بمجلة‭ ‬الهلال‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬لافت‭ ‬هو‭ ‬ااعترافاتيب،‭ ‬وكانت‭ ‬مجلة‭ ‬الهلال‭ ‬قد‭ ‬استكتبت‭ ‬سبعة‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬هم‭ ‬فكري‭ ‬أباظة‭ ‬وأحمد‭ ‬أمين‭ ‬وعباس‭ ‬العقاد‭ ‬وأمينة‭ ‬السعيد‭ ‬وعبدالرحمن‭ ‬الرافعي‭ ‬ومحمود‭ ‬تيمور‭ ‬وأحمد‭ ‬زكي‭. ‬

وعالج‭ ‬الكتاب‭ ‬كذلك‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية،‭ ‬فعالج‭ ‬اعلى‭ ‬الجسر‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموتب‭ ‬لعائشة‭ ‬عبدالرحمن،‭ ‬وارحلة‭ ‬جبلية‭... ‬رحلة‭ ‬صعبةب‭ ‬لفدوى‭ ‬طوقان،‭ ‬واأثقل‭ ‬من‭ ‬رضوىب‭ ‬لرضوى‭ ‬عاشور،‭ ‬وابلا‭ ‬قيود‭... ‬دعوني‭ ‬أتكلمب‭ ‬لليلى‭ ‬العثمان‭. ‬وبحثَ‭ ‬كذلك‭ ‬علاقة‭ ‬الشعر‭ ‬بالسّرد‭ ‬الاعترافي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬ااعترافات‭ ‬شاعرب‭ ‬لعبدالرحمن‭ ‬صدقي،‭ ‬وبَحَثَ‭ ‬مدى‭ ‬إمكانية‭ ‬قراءة‭ ‬سيرة‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شعره،‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬عالجها‭ ‬د‭. ‬النجدي‭ ‬بحسّ‭ ‬نقدي‭ ‬أصيل،‭ ‬وقلم‭ ‬حاذق،‭ ‬وجهد‭ ‬ينبئ‭ ‬عن‭ ‬محاولة‭ ‬دائبة‭ ‬للاستقصاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موطن‭ ‬من‭ ‬المواطن،‭ ‬ويشهد‭ ‬بذلك‭ ‬حشد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬والمراجع‭.‬

لقد‭ ‬قرأت‭ ‬الكتاب‭ ‬بشغف،‭ ‬وفي‭ ‬حرص‭ ‬شديد‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الملل‭ ‬ولا‭ ‬الفتور،‭ ‬مدفوعًا‭ ‬بحماسة‭ ‬تُذْكيها‭ ‬طرافة‭ ‬الموضوع‭ ‬وإحكام‭ ‬المنهج‭ ‬وجمال‭ ‬العرض‭ ‬وتفرّد‭ ‬المعالجة،‭ ‬ووقفت‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬فوائد‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق‭. ‬

وقد‭ ‬استطاع‭ ‬المؤلف‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬بذكاء‭ ‬فقراتٍ‭ ‬ونصوصًا‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف،‭ ‬ومن‭ ‬كلام‭ ‬الدارسين‭ ‬عنه،‭ ‬بثّ‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬الكتاب‭ ‬للاستشهاد،‭ ‬واختص‭ ‬بعضها‭ ‬بملحق‭ ‬في‭ ‬آخره،‭ ‬وهي‭ ‬جميعًا‭ ‬تغري‭ ‬القارئ‭ ‬بهذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬إغراء،‭ ‬وتُذكي‭ ‬بطرافتها‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬والقراء‭ ‬من‭ ‬ميل‭ ‬فطري‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف‭ ‬والبوح‭ ‬والمكاشفة‭. ‬حتى‭ ‬لقد‭ ‬أسمعُ‭ ‬القارئَ‭ ‬العربيَّ‭ ‬الشرقيَّ‭ ‬المُحافِظ‭ ‬بعد‭ ‬مطالعة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ينشد‭ ‬عن‭ ‬قناعة‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭:‬

 

ولا‭ ‬أكْتُمُ‭ ‬الأسْرارَ‭ ‬لَكِنْ‭ ‬أُذيعُها

ولا‭ ‬أَدَعُ‭ ‬الأسْرارَ‭ ‬تَغْلي‭ ‬على‭ ‬قَلْبي‭ ‬

وإنَّ‭ ‬قليلَ‭ ‬العقلِ‭ ‬من‭ ‬باتَ‭ ‬لَيْلَه

تُقَلِّبُهُ‭ ‬الأسْرارُ‭ ‬جَنْبًا‭ ‬إلى‭ ‬جَنْبِ

 

إن‭ ‬اأدب‭ ‬الاعترافب‭ ‬للدكتور‭ ‬إيهاب‭ ‬النجدي‭ ‬كتاب‭ ‬جديد،‭ ‬لكنّ‭ ‬جِدَّتَه‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬حداثة‭ ‬صدوره‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنّما‭ ‬تتجلّى‭ ‬في‭ ‬طرافة‭ ‬موضوعه؛‭ ‬لأنه‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬خِلْوًا‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬نقدية‭ ‬واحدة‭ ‬مستوعبة‭ ‬لهذا‭ ‬الفن‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬تتوجس‭ ‬منه‭ ‬البيئة‭ ‬العربية،‭ ‬ويَرْقُبُه‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬بعين‭ ‬الحَذَرِ‭ ‬والرِّيبَة،‭ ‬ولذا‭ ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬جدير‭ ‬بالقراءة‭ ‬والمطالعة،‭ ‬وهو‭ ‬لبنة‭ ‬صالحة‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬أساسًا‭ ‬مُغريًا‭ ‬ببناء‭ ‬صرح‭ ‬شامخ‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميدان‭ ‬