«أدب الاعتراف»... في الثقافة العربية
الثقافة العربية ثقافة مُحافظة، تعيش وَفْقَ قيودٍ وأعرافٍ وتقاليدَ توارثتها من قديم، شاعت فيها مصطلحات كثيرة مثل «المسكوت عنه» و«ما يُستقبح ذكره»، وهي مفاهيم تَغُلّ القلم وتَعْقِدُ اللسان، وتمنعهما من البوح والاعتراف، حتى إننا نجد رجلًا من أعظم رجالات الثقافة العربية المعاصرة هو الأستاذ العقاد - يرحمه الله - يروي أنه كان قد شَرَعَ في كتابة يومياته ومذكّراته عن حوادث الحياة وعوارضها، وأمضى في ذلك بضعة أشهر، ثم مَزَّق ما كتب وأحرقه، ولم يعُد إلى هذا النوع من الكتابة مرة أخرى! وهو لم يفعل ذلك لإدانته أدب السّيرة أو رفضه له، فهو شديد الإعجاب به، ولكن الذّي باعد بينه وبين كتابة يومياته - فيما يذكر هو نفسه - أمران: أوّلهما أنه غير مطبوع على التوجّه إلى محراب الاعتراف؛ لأنه ضرب من الاستغفار لا يستريح إليه، والآخر أن ما قد يكتبه عن تاريخ الحقبة التي عاش فيها وعن رجالها، وكانت حقبة مستعرة شائكة، قد يستغلّه هواة الإيذاء من ملفّقي التهم ومدبّري المكايد في طبخ القضايا وإحراج الأبرياء، ولذلك أحرق العقاد هذه اليوميات!
إذا كان العقاد قد أحرق يومياته خشية ما قد تجرّه عليه من أخطار، فإن هناك من كتبها ونشرها قُبيل رحيله، متمثلًا فيها الحد الأقصى من الصدق، مثلما فعل شكري عياد في سيرته االعيش على الحافةب، لكنّه حين نشرها كان شبح الثقافة العربية المُحافظة ماثلًا بقوة، فعمد أبناؤه إلى سحب نسخ الكتاب من السوق، بحجّة أن اعترافات والدهم فيها ما يسيء إليهم، وهذا يعني أن الوعي الاجتماعي العربي - على تأثّره بالثقافة الغربية وانفتاحه عليها في مجال السّرد بخاصّة - لم يوفّر حتى الآن المناخ المناسب الذي يساعد على إنتاج هذا النوع من الأدب.
في ظل هذه الثقافة التي تُبَجّل الستر وتحتفي بطَيّ الصفحات السوداء، وهذه الصورة الذهنية السائدة عن ضرورة المحافظة ورفض الاعتراف، خرج علينا أستاذ الأدب والنقد بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت، د.إيهاب النجدي، بكتاب يعالج أدب الاعتراف في الثقافة العربية، عنوانه اأدب الاعتراف... مقاربات تحليلية من منظور سرديب.ت
صدر هذا الكتاب عن دار المعارف بالقاهرة عام 2017، وعالج فيه النجدي هذا الموضوع الطريف/ الشائق/ الشائك، الذي قَلَّ طارقوه في الأدب العربي، ولم يحظَ فيه بعناية كبيرة، ولذا كان صدور هذا الكتاب لافتًا وجديرًا بالحفاية؛ لطرافة موضوعه ولما فيه من تتبُّع لتاريخ هذا الفن، أو هذه الظاهرة في الثقافة العربية بعامة.
مفهوم الاعتراف
عرض د. النجدي في كتابه لمفهوم أدب الاعتراف، فعَرَّفه بأنه شكل سردي يتركز اهتمام الكاتب فيه على إظهار الجوانب الخفية من حياته، وكشْفِ المستور من صفاته الشخصية، وتجلية الغامض من علاقته بالآخرين، مستندًا في ذلك على الحقيقة وحدها، وساعيًا إلى التحليل والتنبيه إلى مواطن الخلل في الفرد والمجتمع. وبيَّن كذلك العلاقة بين أدب الاعتراف والسّيرة الذاتية، فإذا كانت السيرة الذاتية تحمل ظلال الإشادة والمديح، وسرد الإنجاز والنجاح، ويُقبل عليها القارئ بهدف البحث عن مُتعة المعرفة، والتعرّف إلى شخصية السيرة ومراحل تَفَوُّقِها، محافظًا على اعتقاده الراسخ في براءة بطله وقدوته، فإنّ أدب الاعتراف مَقْرون بالذنب والسقوط وسرد الخبايا والأسرار، وهو يمثّل الراحة الكبرى لصاحبه، لكنّه قد يمثّل صدمة للقارئ تُبَدِّل الصورة الذهنية المستقرة في نفسه، كما أنه يمثّل مُخاطَرة وجُرأة في مواجهة الأعراف والتقاليد.
وفي إطار هذه المداخل النظرية للكتاب، أوضح النجدي إلى أيّ مدى يمكن أن يتحقق صدق الكُتَّاب عند الاعتراف، وكشف عمّا ينطوي عليه أدب الاعتراف من وظائف، وما يؤديه من مهام. وثمّة حديث مفصّل عن نشأة أدب الاعتراف وأثره في تطوّر فنّ السيرة الذاتية في الثقافتين الغربية والعربية، وتلمُّس للأسباب والدوافع التي من أجلها يعترف الكاتب لقرّائه بأسرار نفسه.
الاعتراف في الأدب القديم
وإذا كان الكِتَاب قد عالج نشأةَ أدبِ الاعتراف وازدهارَه في الثقافة الغربية، فتوقّف عند اعترافات جان جاك روسو بوصفها نقطة الانطلاق القوية لهذا الفن، وذكر من ساروا على دربه من الأدباء الغربيين، مثل شاتوبريان وألفريد دي موسيه وأوسكار وايلد وأندريه جيد، وغيرهم من الكتّاب الذين يحتّل المفهوم الكنسي للاعتراف مكانًا بارزًا في ثقافتهم بصفته طقسًا دينيًا، فإنّ الجدير بالملاحظة أن المؤلف قد رجع في الزمن إلى الأدب العربي القديم يبحث فيه عن بذور لهذا الفن، متسائلًا: هل كان االوقارب وتلك االسريّة الاجتماعيةب حائلين دون الاعتراف في الأدب العربي؟ ثم يجيب عن ذلك بأنه ليس من العسير على الدارس الأدبي أن يظفر ببعض الصور الاعترافية في أدبنا القديم، وهي صور تكشف مدى ما بلغته قِيَمُ الصراحة والمكاشفة ومواجهة الأخطاء والصدق مع الذات في ذلك الزمن البعيد، وتؤكد كذلك أن أدب الاعتراف ليس فنًّا مستحدثًا، وإنّما له جذور بعيدة تسري في عروق الكتابة الذاتية العربية.
وقد توقّف النجدي في هذا السيـاق عند بعض الصور الاعترافيــة المُؤْلمة لأبي حَيَّان التوحيدي، كان طَرَحها في ارسالة الصداقة والصديقب، وعَبَّر فيها عمّا عاناه من قسوة الحال وشَظَفِ العيش إذ كان مقصيًّا عن السلطة والسلطان، مطرودًا من قصور الحكّام ونعيمها، مما دفعه إلى حرق كتبه في أواخر حياته، ضنًّا بها على الناس.
وكذلك اعتراف الشيخ الرئيس ابن سينا، أكبر فلاسفة الإسلام، بأنه كان يتخّذ الخمر وسيلة تعينه على تحصيل العلم، وهو اعتراف صادم يتناقض مع حرصه على أداء الصلاة في المسجد! وتوقّف كذلك عند اعترافات أبي حامد الغزالي في االمنقذ من الضلالب التي يعرض فيها لرحلته مع الفلسفات والعقائد والمِلل والنِّحل، ثم يبين اهتداءه إلى شاطئ التصوف بعد شيء من القلق والحيرة والشكّ والاضطراب والصراع الفكري.
وتوقّف كذلك عند بعض اعترافات أسامة بن منقذ في كتابه االاعتبارب. وأطال الوقوف عند كتاب ابن حزم اطوق الحمامة في الألفة والألّافب لما يقدّمه من صور اعترافية متفرّدة جَسورة تخطّت حواجز الصمت والكتمان التي تلتف حول حياة العلماء والفقهاء في كل عصر، فأدخلت هذا الكتاب العربي التراثي في نطاق أدب الاعتراف، بل جعلته رائدًا في بابه، لأنّه سابق لاعترافات جان جاك روسو بأكثر من سبعة قرون.
الاعتراف في الأدب الحديث
وانتقل النجدي من معالجة تلك الصور الاعترافية في الأدب العربي القديم إلى الأدب العربي الحديث؛ فعالج كتاب االاعترافب لعبدالرحمن شكري، الذي صدر عام 1916، بوصفه من بواكير أدب الاعتراف في الثقافة العربية المعاصرة، كما أنه يحمل عنوانًا قاطع الدلالة على جنسه الأدبي، وقد عالجه النجدي معالجة نقدية كشفت عمّا طرحه مؤلفه فيه من موضوعات وما اتّسم به السرد من سمات وما استُعْمِل فيه من تقنيات.
وقد عالج الكِتابُ كذلك قضية الهوية الفردية للإنسان وعلاقتها بالهوية الجمعية للوطن أو الأمة وتجليّات تلك الهوية في اعترافات الروّاد التي ظهرت بمجلة الهلال في بداية خمسينيات القرن الماضي تحت عنوان لافت هو ااعترافاتيب، وكانت مجلة الهلال قد استكتبت سبعة من رواد النهضة العربية الحديثة، هم فكري أباظة وأحمد أمين وعباس العقاد وأمينة السعيد وعبدالرحمن الرافعي ومحمود تيمور وأحمد زكي.
وعالج الكتاب كذلك نماذج من السيرة الذاتية النسائية، فعالج اعلى الجسر بين الحياة والموتب لعائشة عبدالرحمن، وارحلة جبلية... رحلة صعبةب لفدوى طوقان، واأثقل من رضوىب لرضوى عاشور، وابلا قيود... دعوني أتكلمب لليلى العثمان. وبحثَ كذلك علاقة الشعر بالسّرد الاعترافي، من خلال قراءة في ااعترافات شاعرب لعبدالرحمن صدقي، وبَحَثَ مدى إمكانية قراءة سيرة الشاعر من خلال شعره، إلى غير ذلك من القضايا التي عالجها د. النجدي بحسّ نقدي أصيل، وقلم حاذق، وجهد ينبئ عن محاولة دائبة للاستقصاء في كل موطن من المواطن، ويشهد بذلك حشد هائل من المصادر والمراجع.
لقد قرأت الكتاب بشغف، وفي حرص شديد لا يعرف الملل ولا الفتور، مدفوعًا بحماسة تُذْكيها طرافة الموضوع وإحكام المنهج وجمال العرض وتفرّد المعالجة، ووقفت فيه على فوائد كثيرة عن تاريخ هذا الجنس الأدبي في الغرب والشرق.
وقد استطاع المؤلف أن يختار بذكاء فقراتٍ ونصوصًا من أدب الاعتراف، ومن كلام الدارسين عنه، بثّ بعضها في متن الكتاب للاستشهاد، واختص بعضها بملحق في آخره، وهي جميعًا تغري القارئ بهذا الجنس الأدبي إغراء، وتُذكي بطرافتها ما قد يكون لدى بعض الكُتَّاب والقراء من ميل فطري إلى الاعتراف والبوح والمكاشفة. حتى لقد أسمعُ القارئَ العربيَّ الشرقيَّ المُحافِظ بعد مطالعة هذا الكتاب ينشد عن قناعة قول الشاعر:
ولا أكْتُمُ الأسْرارَ لَكِنْ أُذيعُها
ولا أَدَعُ الأسْرارَ تَغْلي على قَلْبي
وإنَّ قليلَ العقلِ من باتَ لَيْلَه
تُقَلِّبُهُ الأسْرارُ جَنْبًا إلى جَنْبِ
إن اأدب الاعترافب للدكتور إيهاب النجدي كتاب جديد، لكنّ جِدَّتَه لا تكمن في حداثة صدوره فحسب، وإنّما تتجلّى في طرافة موضوعه؛ لأنه جاء في بيئة تكاد تكون خِلْوًا من دراسة نقدية واحدة مستوعبة لهذا الفن الأدبي الذي تتوجس منه البيئة العربية، ويَرْقُبُه المثقف العربي بعين الحَذَرِ والرِّيبَة، ولذا فهو كتاب جدير بالقراءة والمطالعة، وهو لبنة صالحة لأن تكون أساسًا مُغريًا ببناء صرح شامخ من الدراسات في هذا الميدان ■