الرمزية الصوفية للقصيدة

الرمزية الصوفية للقصيدة

الرمز والرموز من الأدوات البلاغية عالية القدر التي تحتفي بها البلاغة العربية، خصوصًا في صلتها بِلُغة التصوف والمتصوفة. وإذا كانت التجربة الصوفية تنتهي إلى نوعٍ من الكشف أو التجلّي، فإن ما يتم الكشف عنه في لحظات التجلي لا يمكن تجسيده أو تصويره أو ترميزه بلُغة البشر العادية التي نستخدمها في حياتنا اليومية أو العادية. فما يهدف إليه الصوفي في نهاية الأمر - من خلال تجاربه الروحية - هو الوصول إلى نوعٍ من الكشف الخاص من الحقائق المتسامية. هذه الحقائق لا يمكن صياغتها بلُغة البشر العاديين. ولذلك قال ابن عربي عبارته الدالة والمفتاحية في الوقت نفسه: «ولم أزل فيما نظمتُهُ... على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزّلات الروحية، والمناسبات العلوية، جريًا على طريقتنا المثلى». 

هذا هو الذي قاله ابن عربي، وهو في الوقت نفسه مفتاح الشعر الصوفي إذا أردنا أن نقرأ هذا الشعر وأن نستمتع به، أو أن نستمتع بتجلياته التي تظهر في شعر الشعراء الذين جعلوا من «الحداثة» مدخلًا من مداخل الشعر، ودربًا من دروبه، أو وسيلة من وسائل بنائه، خصوصًا في حالاتهم التي أرادوا أن يعبّروا فيها عن حقائق تضيق بها العبارة اللغوية، وذلك على نحو لا يجد معه الشاعر من سبيل إلى التعبير إلا باللغة التي لا بدّ من تحويلها إلى لغة مجازية على نحو ترتفع به هذه اللغة إلى مستوى آخر من مستويات التواصل، فتتسع معه العبارة لما تضيق عنه عادة في لغة البشر العاديين. وعندئذ يمكن للشاعر الصوفي «الحداثي» أن يتحدث عمّا لا يستطيع غيره التحدث فيه أو على نحو لا يمكن صياغته إلا بتقريبه من عقل المتلقي أو القارئ بنوعٍ من المجاز الذي يتسع بعلاقاته، فيؤثِر الإشارة الكلية أو المعنى الكلي الذي تضيق عنه الكلمات. فإذا كان النفري (الصوفي المشهور) قد قال: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». فإن هذا القول يمكن أن نعده نوعًا من الشرح للرمزية الصوفية من ناحية، لكن في جانبها الحداثي من ناحية ثانية.
وأظن أن هذا المدخل مهم للاقتراب من قصيدة صلاح عبدالصبور: «البحث عن وردة الصقيع» ومحاولة فهمها فهمًا أدبيًّا يعتمد على التأويل. والقصيدة في تقديري من روائع الشعر الصوفي لعبدالصبور، أو الشعر الذي يستخدم الصوفية ليفتح بابًا مُغلقًا من أبواب الحداثة الشعرية. ولكي نفهم هذه القصيدة ينبغي تأويلها، وذلك بما تتسع به العبارة فلا تضيق، بل تتنزل منزلة أقرب إلى منزلة اللغة العادية المفهومة للقارئ الذي يبحث عن المتعة الشعرية في شعر شعرائه العظام الذين أثروا العصر بأنواع الشعر المختلفة، ومنها الشعر الذي يجمع ما بين الحداثة والتصوف في آن. ولذلك ينبغي أن نقرأ هذه القصيدة فقرةً فقرة، ونبحث بين جوانبها عن المعنى الذي يقرّب البعيد، ويستنزل ما يحلّق في سماوات الرموز إلى الأرض التي يقف عليها القارئ العادي وينظر بعينيه. وسوف نؤجل معنى العنوان: «وردة الصقيع» إلى النهاية؛ لأنه عندما نصل إلى نهاية القصيدة سيكون المعنى الكلي قد اتضح بعض الشيء، واتسعت العبارة لِما كانت تضيق عنه من قبل. هكذا نمضي مع القصيدة مقطعًا مقطعًا، ونبدأ بالمقطع الأول:
أبحثُ عنك في مُلاءة المساء
أراك كالنجوم عارية
 نائمة مبعثرة
مشوقة للوصل والمسامرة
ولاقتداح الخمر والغناء
وحينما تهتزُ أجفاني
وتفلتين من شباك رؤيتي المنحسرة
تذوين بين الأرض والسماء
ويسقط الإعياء 
منهمرًا كالمطرة
على هشيم نفسي الذابلة المنكسرة
كأنه الإغماء
دعوات إلى «الوصل»
عندما نعاود قراءة هذا المقطع، ونحاول أن نفهمه في علاقته ببقية مقاطع القصيدة، سنجد وردة الصقيع، نادرة الوجود التي تنبت وسط الجليد دون أن يصل إليها أحد؛ لأنه لا يستطيع كل الناس الوصول إليها، فمن ذا الذي يصبر على الصقيع أو الجليد ليفتش في ظلامه الذي لا تنيره سوى النجوم، عن هذه الوردة التي تلتف في مُلاءة السماء كأنها الغواية الحسية التي تجذب إليها بسحرها العابرين للاقتراب من سر نورها في وسط لا نور فيه؟ باستثناء النجوم العالية التي تبدو مبعثرة في السماء كأنها دعوات إلى «الوصل» بالمعنى الصوفي، وإلى احتساء الخمر التي ليست هي الخمر التي يعتادها البشر، وإنما الخمر التي يتحدث عنها المتصوفة من أمثال ذلك الشاعر عمر بن الفارض الذي قال:
شَـرِبْنَا عـلى ذكْـرِ الحبيبِ مُدامَةً
سـكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ

والحوار في هذا المقطع الاستهلالي حوار من جانب الحبيب الذي يحدّثنا عن سعيه وراء هذه الوردة التي يرى فيها خلاصًا من كل ما يحيط به من مشاكل أو عثرات في الدنيا. 
لكنه لا يستطيع الوصول إلى وردة الصقيع؛ إذ سرعان ما تتباعد عنه تلك الوردة في اللحظة التي كان يظن أنه قد اقترب منها، فيسقط من الإعياء، وينهمر إعياؤه كأنه مطر يغرق حطام نفسه الذابلة المنكسرة. فتبدو هذه الذات كما لو كانت قد فقدت الوعي وأصبحت في حالة إغماء. وبهذا المعنى تكتمل دلالة المرحلة الأولى من البحث. وتبدأ المرحلة الثانية في مكان آخر، هو مكان أقرب إلى حياة البشر في عالمهم المديني وليس العالم الذي بدأت به القصيدة. هكذا نقرأ:
أبحثُ عنكِ في مقاهي آخر المساء والمطاعم
أراك تجلسين جلسة النداء الباسم
ضاحكة مستبشرة
وعندما تهتز أجفاني
وتفلتين من خيوط الوهم والدعاء
تذوين بين النور والزجاج
ويقفز المقعد والمائدة الهباء
ويصبح المكان خاويًا ومعتمًا
كأنه صحراء

المرحلة الثالثة
في هذا المقطع نقترب من عالم المدينة، ونجد أنفسنا أمام مقهى أو مطعم وتتجسد هذه الوردة في امرأة جميلة ضاحكة مستبشرة، كأنها تدعو بابتسامتها الباحث عنها إلى الإسراع للوصول إليها. ولكن ما إن يستجيب الباحث إلى الدعوة، تختفي هذه الوردة، وتتقلص بين النور والزجاج، بل تقفز فوق المقعد والمائدة التي تختفي، مقدمة لاختفاء المكان الذي تختفي منه كل آثار العالم المديني، فيصبح خاويًا وخاليًا كأنه صحراء. وتبدأ المرحلة الثالثة من مراحل البحث عندما نقرأ:
أبحثُ عنكِ في العطور القلقة
كأنها تطل من نوافذ الثياب
أبحثُ عنكِ في الخطى المفارقة
يقودها إلى لا شيء، لا مكان
وَهْم الانتظار والحضور والغياب
أبحثُ عنكِ في معاطف الشتاء إذ تلف
وتصبح الأجسام في الظلام
تورية ملفوفة، أو
 نصبًا من الرصاص والرخام
وفي الذراعين اللتين تكشفان عن منابت الزغب
حين يـهل الصيف
ترتجلان الحركات المُلغزة
وتعبثان في همود الموت والسموم والرخام
حتى يدور العام

وهذا المقطع هو مقطعان في الحقيقة، قِسْمه الأول يتحدث عن العطر الذي يبدو كأنه علامة من علامات حضور الحبيبة أو المرأة التي يتحول إليها الرمز أو تتحول إليها الوردة، فتبدو كائنًا رافلًا في ثياب العز المغوية، متنقلًا من مكان إلى مكان، لكنه يغوي من يقع في قلبه السحر باتباعه وبالسير وراءه كأنه العلامة التي سوف تقود إلى ما يمكن أن يحل كل الألغاز.
 لكن بلا جدوى، فالألغاز لا تُحل، والتجسد يتحول إلى لا تجسد، والمكان يتحول إلى لا مكان، ويختلط الحضور بالغياب في وَهْم الانتظار، لكن الحضور يختفي فلا يبقى سوى الغياب. هكذا تأتي الحركة اللاحقة التي تبحث في معاطف الشتاء حين تلتف على الوهم الذي يتجسد امرأة كأنها تورية ملفوفة أو تمثالًا منتصبًا فيما يبدو، لكنه تمثال ينبض بالحياة. فهاهما الذراعان تكشفان عن منابت الزغب حين يهل الصيف، فترتجلان حركات ملغزة وتعبثان بين أنواع من الحضور المستحيل. الحضور الذي يشبه الغياب كأنه الحياة التي تمتزج بالموت في نوعٍ من التدوير الذي يبدو وجهًا آخر لدورة الأيام والأشهر إلى أن ينتهي العام.
وهكذا ننتقل إلى المرحلة الرابعة من مراحل البحث، فيقول الشاعر:
أبحثُ عنكِ في مفارق الطرق
واقفة، ذاهلة، في لحظة التجلي
منصوبةً كخيمة من الحرير
يهزها نسيم صيفٍ دافئ،
أو ريح صبح غائم مبللٍ مطير
فترتخي حبالها، حتى تميل في انكشافها
على سواد ظلي الأسير
ويبتدي لينتهي حوارنا القصير

دلالات فرعية
هكذا تتجلى الحقيقة المبحوث عنها كأنها المرأة الجميلة التي تقف منصوبة كخيمة من حرير يهزها نسيم الصيف الدافئ، أو ريح الصبح الغائم المبلل بالمطر، فترتخي الحبال التي تصل بين أطراف ثيابها، فتميل هذه الحبيبة المجهولة على الشاعر الباحث عنها، فيبدأ حواره معها، ولكن ما إن يبدأ الحوار حتى ينتهي كأنما قد بدأ لينتهي، أو كأنما قد انتهى ليُغري الباحث عن المرأة إلى أن يبدأ مرة أخرى، فيعاود البحث الذي يشمل كل شيء، فنقرأ:
أبحثُ عنكِ في مرايا علب المساء والمصاعد
أبحثُ عنكِ في زحام الهمهمات
أبحثُ عنكِ في المتاجر
أبحثُ عنكِ في محطات القطار والمعابر
في الكتب الصفراء والبيضاء والمحابر
وفي حدائق الأطفال والمقابر

وكل ما في هذا المقطع تفريعات على الدلالات الفرعية لمعنى البحث، مفروشة على الأماكن التي تشمل المساجد والمتاجر ومحطات القطار ومعابر الطُّرق، بل الكتب الصفراء والبيضاء، ناهيك بحدائق الأطفال والمقابر. ويمتد البحث فنقرأ:
أنظر في عيون الناس جامدَ الأحداق
كأنني أسأل كل عابر
آوى إلى بيتي في الليل الأخير
أنتظر انبثاقك - البغتة - كالحقيقة
(أيتها السفينة الوهمية المسار
يا وردة الصقيع
أيتها العاصفة المُحكمة الإسار
خلف فصول الزمن الدوار
حتى إذا طال انتظاري المرير
شربتُ كأس الخمر والدوار)

هكذا يواصل العاشق الباحث عن هذه الوردة في اللحظات المتدرجة أو المتناثرة التي تقوده إلى لحظة التجلي، حيث يرى ما ينبغي له أن يراه أو ما يريد رؤيته، لكنه سرعان ما يكتشف أن هذه الوردة ليست سوى سفينة وهمية المسار، أو عاصفة مُحكمة، ولكنها لا توجد قَطّ. فينتهي العاشق إلى الحل الأخير الذي يلجأ إليه كل أقرانه من المتصوفة، فيشرب كأس الخمر والدّوار، شأن غيره من المتصوفة الذين جعلوا من الخمر رمزًا للطريق الذي قد يوصل إلى الحقيقة أو ينقلهم إلى لحظات التجلي. لكن العاشق لا يكتفي بذلك، بل يسرف في شربه، فيقول:
كأنني أقبِّل الدموع في خدود الكأس
قطرةً، فقطرةً
كأنني ألتذُّ باليأس والانكسار
وأورق اليقينُ،
أن مستحيلًا قاطعًا كالسيف
لقاؤُنا،
إلا للمحةٍ من طرف

ولكن هذا الإسراف لا ينتهي به إلى ما يريد، فيمضي في المزيد من الشُّرب؛ كي يفارق الوعي وينتقل إلى اللاوعي. وبالفعل ترفعه نشوة الخمر من الواقع إلى اللاواقع، وتنقله من المكان إلى اللامكان. 

لحظة مستحيلة
    في لحظة من لحظات هذا السُّكر الذي يمتزج فيه اليأس بالانكسار يورق اليقين كالبرق الذي يلمع ثم يختفي فيما يشبه الثانية أو اللمحة. ويحدث التجلي، فتتكشف وردة الجليد، تمامًا كما يتكشف اليقين، أو تتجلى الحقيقة التي يضني الصوفي نفسه في البحث عنها إلى أن يصل بالفعل، ولا يكف عن البحث إلى أن يورق اليقين فجأة في لحظة مستحيلة قاطعة كالسيف، فاللقاء مع وردة الجليد لا يمكن إلا أن يكون للمحة من طرف. 
هكذا تنتهي القصيدة، ونكتشف أن موضوعها المُختبئ وراء الاستعارات والمجازات والرموز ليس سوى طريق البحث الصوفي عن الحقيقة، وأن كل تجليات الرحلة التي خضناها مع الشاعر لا توصل إلا إلى نهاية واحدة، هي أن هذه الحقيقة صعبة المنال على طالبيها، وأن البحث عنها كالطريق إليها صعب ويحتاج إلى وعي خاص. ومراحل طريق البحث عن هذه الوردة أشبه بمراحل الطريق المضني الذي يقود إلى الحقيقة الكلية، ولكن هذه الحقيقة الكلية لا تظهر في حال من الثبات وإنّما في حال من اللمح، كأنها البرق الذي ما إن يُضيء حتى ينطفئ وما بين إضاءته وانطفائه ما يقل عن برهة من الوقت. هذه البرهة هي لحظة الكشف التي تتجلى فيها الحقيقة الكلية أمام الصوفي العاشق لها، والساعي وراءها في كل درب، والباحث عنها في كل طريقٍ ممكن يؤدي إليها.
ولحسن الحظ فإن الرحلة لا بدّ أن يُكافأ من يمضي فيها إلى النهاية. والمكافأة هي الومض الذي يتكشف فيه كل شيء، ويأخذ كل شيء معناه الذي يكشف عن علّته وغايته. ولكن هذه اللحظة القصيرة في عُمر الزمن هي اللحظة التي ينطوي عليها الهدف من رحلة البحث وأحيانًا تتبادل مواضع «البحث» و«الرحلة» و«الطريق» المكانة والدلالة في دنيا الرموز الصوفية، حيث الخمر التي ليست الخمر، والنشوة التي لا يعرفها البشر، والكشف الذي ليس كأي كشف؛ لأنه ضوء ساطع يسطع في عقل الباحث وحوله وفى حواسه، فيتخذ كل شيء معناه الذي خُلق له وغايته التي أُعد لها. وعندئذ يظهر العالم والكون في أبهى صورهما، خصوصًا بعد أن يتجلى الجوهر الصافي للحقيقة صعبة المنال، كتلك الحقيقة التي يحيلها عبدالصبور إلى مجازٍ رمزي في هذه القصيدة. هذا المجاز هو «وردة الصقيع».

ما وردة الصقيع؟!
بالطبع، لن يستطيع القارئ العادي الذي لا يعرف شعر الصوفية أن يفهم ما المقصود، فيظل بعد أن تنتهي القصيدة يسأل نفسه: «وما وردة الصقيع؟!»، وهو سؤال يمكن لنا أن نكرّره مع القارئ، ونقول إن كل الإشارات والمفردات تنقل لنا أحوال المتصوفة مستخدمة رموزهم ومفردات لغتهم، وتنتهي بالإشارة الواضحة إلى أن لحظة التجلي لحظة ليست دائمة، فهي لحظة تأتي بعد عذاب طويل، وبعد أن يتخلص الصوفي من كل ما يربطه بالحواس المادية للبشر الطامعين أو الغارقين في عوالم الحس والإثم والأخطاء المتبادلة. 
ولا حل أمامهم - إذا أرادوا - أن يترفّعوا عن هذا العالم الحسّي البغيض سوى أن يرتقوا بمشاعرهم، ويبحثوا عن وردة الصقيع، ممارسين التجربة نفسها التي تبدأ بالتخلص شيئًا فشيئًا من كل ما يربط الإنسان بعوالم الحس والغواية إلى أن يرتقي بالمجاهدة، وتلوح له بعض أنوار وردة الصقيع التي لا يمكن أن يصل إليها إلا بعد أن يصفو تمامًا من كل ما يربطه بعالَم البشر، لكنه لا يمكن أن ينفصل عن عالم البشر وهو يستخدم لغتهم. فيدنو من وردة الصقيع، ويبدو كما لو كان يمسكها، ولكن هذا الإمساك لحظي تمامًا، فعذاب الرحلة نفسه ومحطاتها المتعاقبة التي ترتفع بالحواس شيئًا فشيئًا، وتُصفّيها من أدرانها حتى تصبح كالنسيم الصافي هي المكافأة، ولذلك تؤكد القصيدة معنى «البحث» ودرجاته ومستوياته، متنقلة بين العوالم المادية والروحية إلى أن تنال ما تصبو إليه من توسيع العبارة الضيقة كي تستوعب المعنى الذي لا نهاية له لرمزية «وردة الصقيع».

الوعي الصافي
وإذًا فليس هناك من حل أمام هذا الشاعر الصوفي إلا أن يكون من البشر وليس منهم، ومن ثم يتخذ من بعض المعروف في عالمهم دوالّ على مدلولات تفارق مدلولات الواقع، حيث تتحول الحبيبة إلى نوعٍ من الحقيقة المُطلقة، وتتحول الخمر إلى نوعٍ من السعي المضني الذي ينتهي بغياب الوعي النفعي لكي يحل محله الوعي الصافي، بعد أن يتخلص من كل أدران الجسد، وعندئذ فقط تبدو وردة الصقيع، مشرقةً كأنها اليقين، لكن هذا اليقين - وهو الحال الصوفي - كلحظة التجلي لا يورق إلا للمحة قاطعة كالسيف. وهكذا لا يكون اللقاء بوردة الصقيع إلا للمحة من طرف. 
لكن ما وردة الصقيع؟ إن معاني الرمز متعددة، وهذا هو الفارق بين الرمز والأمثولة في الاستخدام البلاغي؛ فالرمز متعدد الدلالات لا نهاية لتأويل معانيه، والأمثولة هي ضرب مَثلٍ لا يجاوز معنى واحدًا قصد إليه ضارب المَثَل أو صاحب الأمثولة. وهذا هو الفارق الأساسي بين الرمز والأمثولة. ولذلك فمن حق القارئ أن يقدم دلالات عدة لوردة الصقيع، ابتداء من: برد اليقين الذي يصيب النفس المرضيّ عنها بعد رحلة عذاب طويل ومعاناة لا تنتهي للتخلص من كل آثام الجسد، ويمكن أن تكون هي الحقيقة المطلقة التي يريد الصوفي أن يصل إليها، وعندما يصل ويتصل يتحول عن وضعه العادي الملوث بآثام البشر إلى وضع مضاد صاف ناصع كأنه الجليد أو الصقيع، لكن هذا الوضع هو الحال التي لا توجد إلا لكي تذهب كأنها الحقائق التي تشبه البرق الذي ما إن يظهر حتى يختفي. فلحظة اليقين سريعة، عابرة، مراوغة، تدور بين الأرض والسماء، لكنها 
تفلت - عادة - من رؤية البشر الضيقة الذين يستغرقهم عالم النفع والتجارة، فلا يجاوزونه إلى عالم الروح والبحث الصوفي عن الحقائق الكلية الكبرى في لحظات التجلي أو الكشف التي ينعم بها الصوفي وحده دون البشر الفانين الغارقين في مغريات الحس أو المتاجرة ■