«أخلاقيات التأويل» من أنطولوجيا النص إلى أنطولوجيا الفهم

«أخلاقيات التأويل» من أنطولوجيا النص إلى أنطولوجيا الفهم

لم يعد التأويل في عصرنا الحاضر مجرد حاجة تفرضها بعض الأقاويل المخصوصة، أو بعض السياقات المعزولة، بل أصبح ضرورة يرجع بعضها إلى الطبيعة الرمزية للّغة الإنسانية القائمة على التوسط بين عالم الأعيان وعالم الأذهان، وخصائصها التداولية التي تجعل الكثير من الملفوظات تابعة لسياقاتها المقالية والمقامية، كما يرجع إلى طبيعتها الملتبسة الناتجة عن أسباب معجمية؛ كالتعدد الدلالي والاشتراك اللفظي، وأسباب تركيبية ناتجة عن التباين أحيانًا بين بنياتها السطحية وبنياتها المعيقة، وأسباب دلالية وتداولية كضروب التضمين الدلالي والتداولي، وأسباب بلاغية؛ كالانزياحات الأسلوبية والمجازية.

‭ ‬ترجع‭ ‬هذه‭ ‬الحاجة‭ ‬الملحّة‭ ‬إلى‭ ‬التأويل‭ ‬لطبيعة‭ ‬اللغة‭ ‬الإيحائية‭ ‬وقدراتها‭ ‬الإشارية‭ ‬والرمزية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يرجع‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬إلى‭ ‬تنوّع‭ ‬الخطابات،‭ ‬واتجاهها‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬إلى‭ ‬التلميح‭ ‬والإشارة‭ ‬والومضة‭ ‬والإيحاء‭ ‬والغموض،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬جلّ‭ ‬الخطابات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬أدبية‭ ‬أو‭ ‬فنية‭ ‬أو‭ ‬إشهارية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬خصوصية‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬فيها‭ ‬أكاديمية‭ ‬العلوم‭ ‬على‭ ‬نصّ‭ ‬مؤسس‭ ‬هو‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬التأويل‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭. ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الفكرية‭ ‬والمذاهب‭ ‬السياسية‭ ‬والتيارات‭ ‬الثقافية‭ ‬والأدبية‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬قديمًا‭ ‬وحديثًا،‭ ‬انبثقت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬وظلت‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلكه،‭ ‬إما‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬المركز‭ ‬والاتحاد‭ ‬معه،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬كل‭ ‬القراءات‭ ‬التراثية،‭ ‬وإمّا‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬قراءته،‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬مسافة‭ ‬معيّنة‭ ‬معه‭ ‬والانفصال‭ ‬عنه،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬مجمل‭ ‬القراءات‭ ‬الحداثية‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬سيعود‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬التأويل‭ ‬ليلفت‭ ‬النظر،‭ ‬ويضع‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مختبرات‭ ‬بحثية،‭ ‬وإصدارات‭ ‬علمية‭ ‬تعيد‭ ‬طرح‭ ‬سؤال‭ ‬التأويل‭ ‬بكل‭ ‬حمولته‭ ‬الأنطولوجية،‭ ‬واستشكالاته‭ ‬المعرفية‭ ‬والفلسفية‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬الإصدارات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬كتاب‭ ‬اأخلاقيات‭ ‬التأويل‭... ‬من‭ ‬أنطولوجيا‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬أنطولوجيا‭ ‬الفهمب‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الفاصلة‭ ‬للنشر‭ ‬بالمغرب،‭ ‬لأستاذ‭ ‬اللسانيات‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬بتطوان‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬الحيرش،‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬ضمن‭ ‬نسق‭ ‬الأبحاث‭ ‬التي‭ ‬باشرها‭ ‬الكاتب‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬التأويل،‭ ‬والتي‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬كتابه‭ ‬االنص‭ ‬وآليات‭ ‬الفهم‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬القرآنب‭ ‬الصادر‭ ‬سنة‭ ‬2013،‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الكتاب‭ ‬الجديد‭ ‬المتحدة‭.‬

تقوم‭ ‬بنية‭ ‬كتاب‭ ‬اأخلاقيات‭ ‬التأويلب‭ ‬على‭ ‬مقدمة‭ ‬وقسمين‭ ‬وأربعة‭ ‬فصول،‭ ‬موزعة‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬التالي‭:‬

مقدمة‭: ‬في‭ ‬الإبدال‭ ‬التأويلي

القسم‭ ‬الأول‭: ‬أنطولوجيا‭ ‬اللغة‭ ‬وتأويلية‭ ‬الحوار

الفصل‭ ‬الأول‭: ‬تأويلية‭ ‬الحوار‭ ‬وأخلاقياته

الفصل‭ ‬الثاني‭: ‬تحولات‭ ‬اللغة‭ ‬وتحولات‭ ‬التأويل‭... ‬نحو‭ ‬تأويلية‭ ‬فيلولوجية

القسم‭ ‬الثاني‭: ‬أخلاقيات‭ ‬التأويل‭... ‬الاختلاف‭ ‬والإنصاف‭ ‬والتسامح

الفصل‭ ‬الثالث‭: ‬نقد‭ ‬التأسيس‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬منصفة‭ ‬للتراث

الفصل‭ ‬الرابع‭: ‬النص‭ ‬والفهم‭ ‬والتسامح‭... ‬ملامح‭ ‬من‭ ‬أخلاقيات‭ ‬التأويل‭ ‬عند‭ ‬القدماء‭.‬

 

أهمية‭ ‬التأويل

يشير‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التأويل‭ ‬أصبح‭ ‬يحظى‭ ‬بأهمية‭ ‬بالغة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمجمل‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬بسبب‭ ‬تهاوي‭ ‬المقاييس‭ ‬النظرية‭ ‬وتراجُع‭ ‬السلطة‭ ‬المعرفية‭ ‬واندراس‭ ‬الحدود‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬ازدياد‭ ‬اليقين‭ ‬بنسبية‭ ‬الحقيقة‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬نظرة‭ ‬سلبية،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الوضعية‭ ‬المنطقية،‭ ‬ووصولًا‭ ‬إلى‭ ‬البنيوية‭ ‬الصورية‭ ‬التي‭ ‬أقصت‭ ‬كل‭ ‬العوامل‭ ‬الخارجية‭ ‬واهتمت‭ ‬أساسًا‭ ‬ببنية‭ ‬النص‭ ‬وتشكّلاته‭ ‬الهندسية،‭ ‬بينما‭ ‬ظل‭ ‬التأويل‭ ‬يرتع‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬اللبَّس‭ ‬والاحتمال‭ ‬والتعدد،‭ ‬مفضلًا‭ ‬وسيط‭ ‬اللغة،‭ ‬خاصة‭ ‬جانبها‭ ‬الدلالي‭ ‬لأنها‭ ‬موطن‭ ‬الخفاء‭ ‬واللبس،‭ ‬محاولًا‭ ‬وضع‭ ‬آليات‭ ‬للقراءة‭ ‬والفهم‭ ‬تقوم‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬نسبية‭ ‬الحقيقة‭ ‬وانفتاحها‭.‬

وقد‭ ‬لاحظ‭ ‬الباحث‭ ‬أن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬الأولى‭ ‬االظاهرب‭ ‬واللغة‭ ‬الثانية‭ ‬االباطنب‭ ‬ظل‭ ‬متسمًا‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬بالتوتر‭ ‬والصراع،‭ ‬إذ‭ ‬أدّت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬التاريخية‭ ‬إلى‭ ‬تحوّل‭ ‬التأويل‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬مذهبي‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬الأولى‭. ‬لهذا‭ ‬حاول‭ ‬الكاتب‭ ‬تفكيك‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬استتر‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬بؤر‭ ‬مغذّية‭ ‬للعنف،‭ ‬والتقاط‭ ‬ما‭ ‬يحيل‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬الاعتدال‭ ‬والإنصاف‭ ‬والتسامح‭.‬

لهذا‭ ‬ميّز‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬أخلاقيات‭ ‬التأويل‭ ‬بين‭ ‬أخلاقياته‭ ‬المحايثة،‭ ‬باعتباره‭ ‬فعلًا‭ ‬معرفيًا‭ ‬خالصًا،‭ ‬وأخلاقياته‭ ‬المحيطة‭ ‬التي‭ ‬تندرج‭ ‬فيها‭ ‬مجموع‭ ‬الأحكام‭ ‬والتقويمات‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬تصدرها‭ ‬الذوات‭ ‬المؤولة‭ ‬بعضها‭ ‬عن‭ ‬بعض‭. ‬

يشير‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدراسات‭ ‬النصية‭ ‬كانت‭ ‬تنتظم‭ ‬في‭ ‬إبدال‭ ‬البنية‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬الستينيات‭ (‬السرديات‭ ‬والشعريات‭ ‬والسيمائيات‭ ‬ولسانيات‭ ‬النص‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬علمنة‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬وفق‭ ‬مبدأ‭ ‬المحايثة،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬سيتعرّض‭ ‬لجملة‭ ‬من‭ ‬الانتقادات،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬الشروط‭ ‬الخارجية‭ ‬وتوسّع‭ ‬بنيتها‭ ‬المجالية‭ (‬الوظيفية‭ - ‬لسانيات‭ ‬التلفظ‭ - ‬لسانيات‭ ‬الخطاب‭).‬

 

تجربة‭ ‬مفتوحة

يرى‭ ‬الحيرش‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتحدث‭ ‬لولا‭ ‬تنامي‭ ‬الوعي‭ ‬التأويلي‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬أغنى‭ ‬وأوسع‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تختزل‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬مشيّئة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬تجسيداتها‭ ‬النصية‭ ‬تجربة‭ ‬إنسانية‭ ‬وحياتية‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬ومنتمية‭ ‬إليه‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬تمثّل‭ ‬أساسًا‭ ‬في‭ ‬التأويليات‭ ‬الفلسفية‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الفهم‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬علاقة‭ ‬حوارية‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬المؤولة‭ ‬وغيرية‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬أمامها،‭ ‬وبين‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬والمفاهيم‭ ‬السابقة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الأفق‭ ‬الزمني‭ ‬للنص‭ ‬والمتلقي‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

ويعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانتقال‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬انتقال‭ ‬علومي،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬انتقالًا‭ ‬أخلاقيًا‭ ‬يتم‭ ‬بالمرونة‭ ‬وروح‭ ‬الاعتدال‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬القسوة‭ ‬والتحنيط‭. ‬إنه‭ ‬انتقال‭ ‬يمنح‭ ‬النص‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الانفتاح‭ ‬عل‭ ‬مفاهيم‭ ‬جديدة،‭ ‬والتفاعل‭ ‬مع‭ ‬نصوص‭ ‬أخرى‭.‬

 

الوعي‭ ‬التأويلي‭ ‬المعاصر

في‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬يركز‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬التأويلي‭ ‬المعاصر،‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬مع‭ ‬نيتشه‭ ‬وعمّقه‭ ‬هايدغر‭ ‬وغادامر‭ ‬وآخرون،‭ ‬باعتباره‭ ‬خاصية‭ ‬جوهرية‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬اللغات‭ ‬والنصوص،‭ ‬وبه‭ ‬يتحدد‭ ‬وعي‭ ‬الذات‭ ‬بنفسها‭ ‬وبالآخرين،‭ ‬ووعيها‭ ‬بالأشياء‭ ‬والموضوعات‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬أمامها‭. ‬

وقد‭ ‬انتقد‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬هذا‭ ‬القسم‭ ‬تلك‭ ‬الدعوات‭ ‬إلى‭ ‬الحوار،‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬وبداية‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة،‭ ‬والتي‭ ‬تحوّل‭ ‬معها‭ ‬الحوار‭ ‬إلى‭ ‬دعوة‭ ‬مؤطرة‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬القواعد‭ ‬والمعايير‭ ‬الملزمة،‭ ‬والتي‭ ‬تفترض‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الالتزام‭ ‬سيفضي‭ ‬بها‭ ‬حتمًا‭ ‬إلى‭ ‬الحل‭ ‬والتوافق،‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬فتئ‭ ‬يكذب‭ ‬هذه‭ ‬اليوتوبيا‭. ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬المعياري‭ ‬ينأى‭ ‬بالحوار‭ ‬عن‭ ‬طبيعته‭ ‬المراسية‭: ‬اذلك‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬حين‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬تواصلية‭ ‬ما،‭ ‬فهو‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يفرض‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يرتدّ‭ ‬إلى‭ ‬منطق‭ ‬مسبق‭ ‬من‭ ‬المعايير‭ ‬والحقائق‭ ‬المتحيزة‭ ‬خارج‭ ‬مجال‭ ‬تحققه‭ ‬وجريانه،‭ ‬إنه‭ ‬فعالية‭ ‬تابعة‭ ‬لسيرورة‭ ‬تحققها‭ ‬في‭ ‬واقعة‭ ‬تواصلية‭ ‬تنعقد‭ ‬فيها‭ ‬الذوات‭ ‬المتحاورة‭ ‬علاقات‭ ‬حيوية‭ ‬ومتشابكة‭ ‬من‭ ‬التفاعل‭ ‬والتذاوتب‭. ‬

لهذا‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬حوار‭ ‬إذا‭ ‬ظلّت‭ ‬كل‭ ‬ذات‭ ‬متحاورة‭ ‬مشدودة‭ ‬إلى‭ ‬تطابقها،‭ ‬ومتحورة‭ ‬حول‭ ‬هويتها‭ ‬ونظرتها‭ ‬إلى‭ ‬نفسها‭. ‬لأن‭ ‬وجودنا‭ ‬الحواري‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬هو‭ ‬أساسًا‭ ‬وجود‭ ‬ينتفي‭ ‬فيه‭ ‬تكرارنا‭ ‬لذواتنا‭. ‬إذ‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬لما‭ ‬احتجنا‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التواصل‭ ‬والتحادث‭.‬

حوار‭ ‬حقيقي

يؤكد‭ ‬الكاتب،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحقائق،‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬تتلازم‭ ‬به‭ ‬خاصيتان‭ ‬مزدوجتان،‭ ‬أولاهما‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬المساواة،‭ ‬والثانية‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬الاختلاف،‭ ‬وبهما‭ ‬يتحقق‭ ‬الحوار‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬فيه‭ ‬لهيمنة‭ ‬طرف‭ ‬على‭ ‬آخر،‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬لاحتوائه‭ ‬وغصب‭ ‬آرائه،‭ ‬لأنّ‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يفرز‭ ‬إلا‭ ‬ضروبًا‭ ‬من‭ ‬التبادلات‭ ‬المونولوجية‭ ‬المغلقة،‭ ‬ويتحول‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬موضوع‭ ‬خارجي‭ ‬خاضع‭ ‬لتمثّلات‭ ‬الذات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬انتفاء‭ ‬الحوار‭ ‬الحقيقي‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬اعتقاد‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬كمال‭ ‬وعيها‭ ‬يكرّس‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭. ‬وقد‭ ‬اعتمد‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬على‭ ‬نتائج‭ ‬اللسانيات‭ ‬وفلسفة‭ ‬التأويل،‭ ‬خاصة‭ ‬أعمال‭ ‬ميخائيل‭ ‬باخثين‭ ‬وأوزوالد‭ ‬ديكرو،‭ ‬التي‭ ‬أكدت‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬الذات‭ ‬لا‭ ‬يتكشّف‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬اللغة،‭ ‬وداخل‭ ‬ممكناتها‭ ‬الحوارية‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬تمتد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وتنتسب‭ ‬إليه‭.‬

ويشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تأملنا‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬حيّز‭ ‬الممارسة‭ ‬لا‭ ‬نلقى‭ ‬فيها‭ ‬إلّا‭ ‬ذواتا‭ ‬تتكلم،‭ ‬ويظهر‭ ‬ذلك‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬ضمائر‭ ‬الشخص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬محدد،‭ ‬بل‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬اللحظة‭ ‬الزمنية‭ ‬الفعلية‭ ‬لتحقق‭ ‬اللغة‭ ‬وجريانها‭ ‬في‭ ‬التواصل‭. ‬كما‭ ‬تظهر‭ ‬هذه‭ ‬الحوارية‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬التأويليات‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الذات‭ ‬فعالية‭ ‬تتحقق‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬لغوية‭ ‬حية،‭ ‬ويجرى‭ ‬في‭ ‬سيرورة‭ ‬زمنية‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬ويمتزج‭ ‬فيها‭ ‬العقل‭ ‬بالحياة،‭ ‬بعدما‭ ‬أصبحت،‭ ‬بمنطق‭ ‬الحداثة،‭ ‬كل‭ ‬تجربة‭ ‬إنسانية‭ ‬قابلة‭ ‬للعدّ‭ ‬والتكميم‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التأويليات‭ ‬أعادت‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬لا‭ ‬بمنطق‭ ‬القطيعة،‭ ‬بل‭ ‬بمنطق‭ ‬الاستمرارية‭: ‬افالتراث‭ ‬هو‭ ‬تلك‭ ‬الأرضية‭ ‬القبلية‭ ‬للفكر‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬العود‭ ‬والتخلق‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬أحشاء‭ ‬الآفاق‭ ‬التاريخية‭ ‬المتلاحقة‭. ‬وهو‭ ‬خبرة‭ ‬إنسانية‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬فهمها‭ ‬إلا‭ ‬بوصلها‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬بالأفق‭ ‬الزمني‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬تحققت‭ ‬فيه،‭ ‬وبالآفاق‭ ‬اللاحقة‭ ‬التي‭ ‬تفاعلت‭ ‬معها‭ ‬وأضمرتها‭ ‬في‭ ‬دواخلها‭ ‬بنحو‭ ‬من‭ ‬الأنحاء‭. ‬

 

علاقة‭ ‬حوارية

‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬انعكاسات‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬على‭ ‬الدراسات‭ ‬النصية،‭ ‬هو‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬القارئ‭ ‬والنص‭ ‬لا‭ ‬باعتبارها‭ ‬علاقة‭ ‬تراتبية،‭ ‬بل‭ ‬باعتبارها‭ ‬علاقة‭ ‬تذاوتية،‭ ‬تتفاعل‭ ‬فيها‭ ‬الذات‭ ‬المؤولة‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬النصية،‭ ‬وتتشابكان‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬حوارية‭. ‬لهذا‭ ‬تأبى‭ ‬النصوص‭ ‬كل‭ ‬محاولة‭ ‬للتنميط‭ ‬والاستفراد،‭ ‬وتنفتح‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يصغي‭ ‬إليها‭ ‬بتواضع‭ ‬وأريحية‭ ‬ومحبة،‭ ‬لذلكم‭ ‬كلما‭ ‬استشعرت‭ ‬النصوص‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يقصدها‭ ‬يظل‭ ‬مطمئنًا‭ ‬غاية‭ ‬الاطمئنان‭ ‬إلى‭ ‬يقينياته،‭ ‬وحريصًا‭ ‬أشد‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬عناده،‭ ‬انصرفت‭ ‬عنه‭ ‬ومالت‭ ‬إلى‭ ‬التخفي‭ ‬والاحتجاب،‭ ‬تاركة‭ ‬ذلك‭ ‬المطمئن‭ ‬الواثق‭ ‬بنفسه‭ ‬متقوقعًا‭ ‬في‭ ‬تطابقه‭ ‬ومتماديًا‭ ‬في‭ ‬كبره‭ ‬وغلوائهب‭.‬

في‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬يشير‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التأويل‭ ‬قد‭ ‬ارتبط‭ ‬أساسًا‭ ‬بالحضارات‭ ‬التي‭ ‬استندت‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬هويتها‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬مرجعية‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬دنيوية‭. ‬واقترن‭ ‬بدءًا‭ ‬باللغة،‭ ‬لأنّ‭ ‬اللغة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تقطيعًا‭ ‬للعالم،‭ ‬فإن‭ ‬التأويل‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬تقطيعًا‭ ‬ثانيًا‭ ‬واستجلاء‭ ‬لما‭ ‬يكتنه‭ ‬من‭ ‬غموض‭ ‬أو‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬الإفادة‭ ‬أو‭ ‬خصاص‭ ‬بالمعنى،‭ ‬الأن‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الأولى‭ ‬يأتي‭ ‬حمالًّا‭ ‬لوجوه‭ ‬متباينة‭ ‬ومتفاوتةب‭. ‬فليست‭ ‬اللغة‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬العوالم‭ ‬الدلالية‭ ‬الشفافة،‭ ‬وليست‭ ‬شيئًا‭ ‬ساكنًا‭ ‬ومغلقًا،‭ ‬وليست‭ ‬مرآة‭ ‬عاكسة‭ ‬لوجودنا،‭ ‬بل‭ ‬صيرورة‭ ‬لا‭ ‬تعرب‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬وهويتها،‭ ‬ولا‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬حقائقها‭ ‬إلا‭ ‬بوصفها‭ ‬ممارسة‭ ‬خطابية‭ ‬جارية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬ومتجذرة‭ ‬في‭ ‬صيرورته‭. ‬ولهذا‭ ‬ظلّ‭ ‬التأويل‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬وعلومها،‭ ‬حيث‭ ‬يضمر‭ ‬كل‭ ‬تأويل‭ ‬موقفًا‭ ‬خاصًا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭.‬

لهذا‭ ‬ارتبط‭ ‬التأويل‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬بالفيلولوجيا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬علماء‭ ‬الإسكندرية‭ ‬يسعون‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬النصوص‭ ‬الإغريقية‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحقيق‭ ‬النصوص‭ ‬وتفسيرها‭ ‬والتعليق‭ ‬عليها‭ ‬وفهم‭ ‬دلالاتها‭ ‬ومعجمها‭ ‬وتراكيبها،‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬هويتها‭ ‬الأصلية،‭ ‬وقد‭ ‬انتقل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬التأويلية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬التأويل‭ ‬باعتباره‭ ‬استكشافًا‭ ‬للمعنى‭ ‬إلى‭ ‬اعتباره‭ ‬إبداعًا‭ ‬متجددًا‭ ‬لإمكانات‭ ‬إفصاح‭ ‬المعنى‭ ‬عن‭ ‬وجوهه‭ ‬وتجلياته،‭ ‬والمفاضلة‭ ‬بينها‭ ‬ضمن‭ ‬سيل‭ ‬متدفق‭ ‬من‭ ‬الاحتمالات‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬ذلك‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬القبضة‭ ‬المتشددة‭ ‬في‭ ‬إعمال‭ ‬السلطة‭ ‬التقنية‭ ‬والمنهجية‭ ‬للإمساك‭ ‬بالمعنى،‭ ‬والانتقال‭ ‬إلى‭ ‬منهجية‭ ‬تحفز‭ ‬المعنى‭ ‬على‭ ‬التجلي‭ ‬والإعراب‭ ‬عن‭ ‬ممكناته‭. ‬ولهذا‭ ‬استعاد‭ ‬التأويل‭ ‬حيويته‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ووسّع‭ ‬تخومه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬ليشمل‭ ‬خبرات‭ ‬علمية‭ ‬وجمالية‭ ‬ودينية‭ ‬وتراثية،‭ ‬كما‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تهذيب‭ ‬مسالكه‭ ‬بما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬الإنصاف‭ ‬والاعتدال‭ ‬والاختلاف‭.‬

 

قراءة‭ ‬منصفة‭ ‬للتراث

في‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬يتنقل‭ ‬الباحث‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬منصفة‭ ‬للتراث،‭ ‬حيث‭ ‬سينطلق‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬مؤسس‭ ‬لفكر‭ ‬النهضة،‭ ‬وهو‭ ‬كيفية‭ ‬استعادة‭ ‬التراث‭ ‬ليكون‭ ‬وسيلة‭ ‬لتحقيق‭ ‬النهضة،‭ ‬وتغيير‭ ‬واقع‭ ‬الانحطاط‭. ‬ويرى‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬مساوئ‭ ‬هذا‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬التراث،‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬وفهمه‭ ‬فهمًا‭ ‬صراعيًّا‭ ‬أيديولوجيًا،‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬سياقه‭ ‬الزمني‭ ‬الخاص،‭ ‬أي‭ ‬باعتباره‭ ‬تجربة‭ ‬تاريخية‭ ‬وحضارية‭ ‬لها‭ ‬اقتضاءاتها‭ ‬واستلزاماتها‭ ‬وأسئلتها،‭ ‬بل‭ ‬باعتبارها‭ ‬خزانًا‭ ‬لا‭ ‬ينضب‭ ‬من‭ ‬الإجابات‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬الحاضر‭ ‬ومستجداته‭ ‬ومشكلاته،‭ ‬أو‭ ‬باعتباره‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬العدم‭ ‬الذي‭ ‬انقضى‭ ‬أجله،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬له‭ ‬أيّ‭ ‬قيمة‭ ‬تذكر‭.‬

وقد‭ ‬تناول‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬احتدم‭ ‬بين‭ ‬التقليديين‭ ‬والحداثيين‭ ‬حول‭ ‬مضامين‭ ‬هذا‭ ‬التراث،‭ ‬بين‭ ‬مقايسة‭ ‬فيلولوجية‭ ‬تقضي‭ ‬بردّ‭ ‬الحاضر‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬ومقايسة‭ ‬نظرية‭ ‬تطبّق‭ ‬المعار‭ ‬والأنظار‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭.‬

وقد‭ ‬استند‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬التصورات‭ ‬التي‭ ‬ارتبط‭ ‬فيها‭ ‬الوعي‭ ‬التأويلي‭ ‬المعاصر،‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أعادت‭ ‬الاعتبار‭ ‬للتراث،‭ ‬كما‭ ‬أعادت‭ ‬النظر‭ ‬للعقل،‭ ‬باعتباره‭ ‬مفهومًا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬يتجذّر‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬ولا‭ ‬ينفصل‭ ‬عنه‭. ‬

وعليه،‭ ‬فقد‭ ‬استعاد‭ ‬التراث‭ ‬حيويته‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬التأويلي‭ ‬المعاصر،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬أي‭ ‬تأويل‭ ‬لنص‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬الأفق‭ ‬التراثي‭ ‬بمفهوماته‭ ‬المتعددة‭. ‬كما‭ ‬أصبح‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬لا‭ ‬باعتباره‭ ‬نصوصًا‭ ‬جامدة،‭ ‬بل‭ ‬باعتباره‭ ‬نصوصًا‭ ‬حيوية‭ ‬تمد‭ ‬بها‭ ‬أواصر‭ ‬الحوار‭ ‬والتداخل‭. ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬فهمها‭ ‬يقتضي‭ ‬وصلها‭ ‬بسياقها‭ ‬الزمني‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬انبثقت‭ ‬منه‭. ‬كما‭ ‬أصبح‭ ‬التراث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوعي،‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬فعلية،‭ ‬لفهم‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬آل‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬الفكر،‭ ‬والكيفيات‭ ‬التي‭ ‬تحقق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭.‬

 

تجربة‭ ‬فكرية‭ ‬وتاريخية

يرجع‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬الدوافع‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬العلاقة‭ ‬بالتراث‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬النهضة‭ ‬مسكونًا‭ ‬بالعنف‭ ‬والصراع،‭ ‬ويبحث‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬الكفيلة‭ ‬بالإعلاء‭ ‬من‭ ‬أخلاقيات‭ ‬الاعتدال‭ ‬والتسامح،‭ ‬فيصنف‭ ‬القراءات‭ ‬النهضوية‭ ‬إلى‭ ‬نوعين‭:‬

‭- ‬اتجاه‭ ‬تقليدي‭ ‬يتصور‭ ‬التراث‭ ‬منظومة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬اكتمل‭ ‬نسجها‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬ثابتة؛‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬كان‭ ‬تصوره‭ ‬للتراث‭ ‬تصورًا‭ ‬إحيائيًا‭ ‬يسترد‭ ‬تلك‭ ‬الأصول‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬التطابق‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭.‬

‭- ‬اتجاه‭ ‬حداثي‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬التراث،‭ ‬باعتباره‭ ‬نتاجًا‭ ‬قديمًا‭ ‬ومنقطعًا‭ ‬عن‭ ‬الحاضر؛‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فلا‭ ‬فضل‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬القطيعة‭ ‬معه،‭ ‬والانقطاع‭ ‬عنه‭.‬

وقد‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التعارض‭ ‬صراعات‭ ‬مطبوعة‭ ‬العنف‭ ‬والخصام‭. ‬لهذا‭ ‬يرى‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬التراث‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬حشرته‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬النهضوية‭ ‬المتعارضة‭. ‬افالتراث‭ ‬ظل‭ ‬وسيظل‭ ‬تجربة‭ ‬فكرية‭ ‬وتاريخية‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬ماضينا‭ ‬من‭ ‬حقائق‭ ‬ومعانٍ‭ ‬وقيم،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬مدار‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬من‭ ‬هويّتنا‭ ‬ووجودنا،‭ ‬ومدار‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬انفك‭ ‬يعود‭ ‬منها‭ ‬ويتواترب‭. ‬

فالتراث‭ ‬هو‭ ‬تجلٍ‭ ‬زمني‭ ‬من‭ ‬تجليات‭ ‬وجودنا‭ ‬الدنيوي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬ولذلك‭ ‬فما‭ ‬يأتينا‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬هو‭ ‬بُعد‭ ‬حيوي‭ ‬من‭ ‬أبعاد‭ ‬كينونتنا،‭ ‬وإمكان‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬فهم‭ ‬حدود‭ ‬واقعنا‭ ‬الراهن،‭ ‬وحافز‭ ‬من‭ ‬الحوافز‭ ‬الملازمة‭ ‬لاستمرارنا‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهو‭ ‬يبقى‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬البواعث‭ ‬والموجهات‭ ‬الممكنة‭ ‬التي‭ ‬نسترد‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬انتظاراتنا‭ ‬واختياراتنا‭.‬

 

مقومات‭ ‬معرفية‭ ‬وأخلاقية

في‭ ‬الفصل‭ ‬الرابع‭ ‬و‭ ‬الأخير‭ ‬يقارب‭ ‬الكاتب،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬هيرمينوطيقية،‭ ‬مجالات‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬كعلم‭ ‬التفسير‭ ‬وعلوم‭ ‬القرآن‭ ‬وأصول‭ ‬التفسير،‭ ‬محاولًا‭ ‬رصد‭ ‬البرنامج‭ ‬البحثي‭ ‬الذي‭ ‬اعتمدته‭ ‬هذه‭ ‬العلوم،‭ ‬والتي‭ ‬امتزجت‭ ‬فيها‭ ‬حسب‭ ‬الكاتب‭ ‬المقومات‭ ‬المعرفية‭ ‬بالمقومات‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬كما‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬مسلّمات‭ ‬هي‭ ‬المسلمة‭ ‬الأنطولوجية،‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الإقرار‭ ‬بالتعدد‭ ‬الدلالي‭ ‬للنص‭ ‬القرآني،‭ ‬ومسلّمة‭ ‬أبستيمولوجية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الإحاطة‭ ‬بعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف،‭ ‬ومسلّمة‭ ‬أخلاقية‭ ‬يزدوج‭ ‬فيها‭ ‬الإقرار‭ ‬بنسبية‭ ‬الفهم‭ ‬ومحدودية‭ ‬السلطة‭ ‬العلمية،‭ ‬والإعلاء‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والتسامح‭ ‬في‭ ‬تفاعل‭ ‬المفاهيم،‭ ‬وحوار‭ ‬بعضها‭ ‬مع‭ ‬بعض‭. ‬وقد‭ ‬حدد‭ ‬الكاتب‭ ‬ملامح‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬في‭ ‬محتواه،‭ ‬إذ‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬شكل‭ ‬البرنامج‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬التفسير‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬فارغة‭ ‬تستمد‭ ‬مقوماتها‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬المجاورة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬بنية‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف‭.‬

ويعرج‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬ختام‭ ‬كتابه‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬التأويلية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬ظل‭ ‬مشدودًا‭ ‬إلى‭ ‬اللفظ‭ ‬وسياقاته‭ ‬التداولية،‭ ‬ومنها‭ ‬من‭ ‬خرق‭ ‬هذا‭ ‬المعيار،‭ ‬وانخرط‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬تأويلي‭ ‬خاص،‭ ‬تنتفي‭ ‬فيه‭ ‬الحواجز‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬والذات‭ ‬المؤولة،‭ ‬خاصة‭ ‬عند‭ ‬الشيعة‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬التي‭ ‬ألغت‭ ‬كل‭ ‬مسافة‭ ‬معرفية‭ ‬أو‭ ‬أنطولوجية‭ ‬بين‭ ‬الهوية‭ ‬الإلهية‭ ‬المفارقة‭ ‬للنص،‭ ‬وبين‭ ‬الهوية‭ ‬البشرية‭ ‬للتأويل‭. ‬إذ‭ ‬أسقطت‭ ‬على‭ ‬تأويلها‭ ‬صفة‭ ‬الإعجاز‭ ‬والقداسة‭ ‬الموازيين‭ ‬في‭ ‬نظرها‭ ‬لإعجاز‭ ‬النص‭ ‬وقداسته‭.‬

لقد‭ ‬حاول‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الجاد‭ ‬إثارة‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬خصوصية‭ ‬التأويل‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬وراهنيّته،‭ ‬هذه‭ ‬الخصوصية‭ ‬التي‭ ‬تتزامن‭ ‬فيه‭ ‬لحظتان‭ ‬قلّما‭ ‬تجتمع‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬هما‭ ‬اللحظة‭ ‬المعرفية‭ ‬بكل‭ ‬إمكاناتها‭ ‬التي‭ ‬تقيم‭ ‬شباكًا‭ ‬لاصطياد‭ ‬المعاني،‭ ‬واللحظة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الإقرار‭ ‬بالتعدد‭ ‬والتوازن‭ ‬والتسامح‭ ‬المفضي‭ ‬إلى‭ ‬قبول‭ ‬الآخر‭ ‬ونبذ‭ ‬العنف‭ ‬ 

د‭. ‬محمد‭ ‬الحيرش‭ ‬يوقع‭ ‬أحد‭ ‬كتبه