هل صالَحت جائحة كورونا بين الكاتب العربي والعالَم الرقمي؟
«يمكن للخيال اللامحدود أن يصنع أعظم الكتاب والمبدعين»، لأنّ قوة الكاتب وأصالته كانتا تقاسان دومًا بإبداعاته، ومواقفه، وإنتاجاته وإسهامه في التراكم المعرفي المحلي والدولي. كل ذلك في إطار نقد ودعم وتوجيه الجماعات العلمية، والزملاء والمجلات الثقافية والعلمية.
تبدو هذه المعادلة مرتبطة أساسًا بـ «عصر النشر الورقي»، حيث قوة الحرف وجرأة القلم والالتزام الاجتماعي هي التي تحدد سيرورة استحقاق الكاتب والمفكر لوسم «المثقف»، لاسيما أن تحولات العصر الرقمي خلال العقدين الماضيين والارتهان المتزايد بعالم الأنفوسفير في ظل جائحة «كورونا»، قد أظهرا بدايات تخلّص العديد من الكتّاب من «الوصاية» و«الشرعية» العلمية للنقاد والجماعات العلمية، والبحث عن شرعية اجتماعية أشبه بالبحث عن «الكلاوت» والنجومية الرقمية منها إلى الإبداع الكلاسيكي وشرط الخيال اللامحدود الملازم لتفاعل الكتّاب والمبدعين مع تحولات العالمين الاجتماعي والثقافي.
بقدر ما صالَح العصر الرقمي بين الكتاب والقراء، بقدر ما فتح الباب أم ارتباط غير طبيعي بين الكتاب والعموم بشكل يتجاوز تقريب الإبداع الأدبي والمعارف العلمية من العموم نحو بناء شرعية إبداعية ونجومية رقمية (وبالتالي نجاح إبداعي) انطلاقًا من حجم التعليقات والإعجابات والمشاهدات، أو بلغة أخرى، البحث عن «مساعدة الخوارزميات الذكية في جذب انتباه الجمهور وتوجيه اختياراته».
في الواقع، يمكن أن نعزو ارتهان الكتّاب العرب بالعالم الرقمي إلى سببين اثنين: أولًا، الصمت أو الانسحاب الثقافي الملازم لتوالي انكسارات المشروع النهضوي العربي وحلم تنمية وعي الوحدة العربية ووحدة الوعي العربي من جهة، وضغط القوى الاقتصادية والسياسية من جهة أخرى.
انسحب العديد من الكتّاب والمثقفين من ساحة النقاش العمومي نحو العالم الضيق للإبداع الفردي أو المسارات المهنية المحدودة، وسواء تعلّق الأمر بفقدان الأمل في إمكانية تغيير العالم الاجتماعي أو الاستبعاد من المشاركة في بناء المشاريع المجتمعية وتحولات العصر النيولبرالي، فقد وجد الكتاب في ثورة الأنفوسفير والعصر الرقمي فرصة سانحة للانخراط في النقاش العمومي من الأسفل (محاولة مواكبة النقاشات العمومية بالفضاءات الرقمية وتكسير المسافة الكلاسيكية بين المثقف والعموم)، وليس من الفوق (النقاشات العلمية والفكرية بالمجالات واللقاءات الفكرية).
حياد اجتماعي
لقد نتج عن فترة الصمت والحياد الاجتماعي استعداد فردي عميق لاستحضار أمجاد الماضي، حيث المبدع، الكاتب والمثقف قادة المشاريع الحضارية والفكرية وأصوات المستقبل، واسترجاع المكانة المركزية المعهودة للمعرفة في ظل تطور موجات الشعبوية وانبثاق المنصات الرقمية وتزايد الإقبال على المحتوى الترفيهي نقيضًا للإبداع الخالص والمعرفة الحقيقية.
لذلك، راهن الكتّاب على المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي للنزول من البرج العالي والمساهمة في قيادة التغيير من أسفل.
ثانيًا، ضعف ثقافة القراءة وتراجع المكانة الرمزية للكتاب، في خضم هيمنة المحتوى الترفيهي، وثقافة البوز (Buzz) والكلاوت (Klout)، والنجومية الرقمية وتحكّم الخوارزميات الرقمية في اللاشعور الجمعي واختيارات الأفراد اليومية، تراجع الإقبال على عالم الثقافة في شكلها الكلاسيكي (الورقي أساسًا).
تبعًا لذلك، سيحاول الكاتب نفسه البحث عن موضع قدم ضمن نسق هذا التحول. لم يعد الكاتب يهتم بنشر أعماله وإبداعاته ورقيًا (أو حتى النشر العلمي والمحكم) لتجد صدى من عدمه بين عشرات القراء من خارج الجماعة العلمية، الزملاء أو بقية المبدعين، وأصبح يفضّل نشرها رقميًا أمام جمهور متنوع ومختلف لحصد مئات أو آلاف المشاهدات، والإعجابات، والمشاركات، والتعليقات، التي تغنيه عن اعتراف الزملاء أو النقاد، وتكسبه شرعية مباشرة من القراء.
إضافة إلى ذلك، يسمح هذا الاحتكاك المباشر مع القراء بالعالم الرقمي بمعرفة التوجهات العامة للمجال التداولي الافتراضي والشروط الموضوعية لكسب الاعتراف الجماهيري (تعويض المقالات المحكمة بمقالات الرأي، والرهان على الموسوعية والتحليلات السريعة، وتضبيط اللغة الإبداعية مع الاستعدادات الثقافية والاجتماعية للعموم).
صدمة أخيرة
نتيجة لكل ذلك، نجد أن سيرورة تفاعل الكتّاب مع عالم الأنفوسفير ليست وليدة اليوم، وإنما تعود إلى بدايات تشكّل العالم الرقمي قبل عقدين من الزمن. لهذا، تفجرت شروط عملها في ظل الجائحة التي عملت كصدمة أخيرة لرقمنة حِرف الإبداع والكتابة وربطهما بتحولات السوق الاقتصادي.
إن «تفجّر» المقالات الرقمية، والتعليقات، والخواطر والاستشرافات المستقبلية، والتكوينات، والندوات الرقمية والـ «لايف ستريمنج» ما هو إلا دليل قوي على خضوع الكتّاب والمثقفين - خط الدفاع النقدي الأخير أمام مختلف موجات الرأسمالية - لقوانين السوق الاقتصادي والرقمي بالشكل الذي يعمم ويُشعبن المعرفة والإبداع أكثر مما يربطه بعالم العموم.
إنه لمن الجيد أن يعيد الكتّاب رسم شروط إنتاج التراندين الرقمي بالشكل الذي يتنافس معه الإبداع الأدبي والمعرفة العلمية والمحتويات الرقمية أو حتى يعوضها في منحى يحيي مركزية المعرفة والخيال في بناء الإنسان.
لكن، يحدث أحيانًا أن يتحول البحث عن التراندين الاجتماعي بالعالم الرقمي إلى صراع اقتصادي في ثوب إبداعي. وتُظهر الصفحات، القنوات الرقمية والإعلانات أن الأمر يتعلق بمحاولات جديدة لـ «مَهننة» حرف الكتابة والإبداع تماشيًا مع قوانين السوق الرقمي، إلا أنها تدل كذلك على الارتهان بقوانين العرض والطلب الجماهيري، علمًا بأن فعالية التغيير والإسهام في «ثورة العقليات» ونشر التنوير من قبل الكتاب والمبدعين تستلزم التمسك بالثقافة العالمة كموجّه للثقافة الشعبية. وعليه، نسقط في تضخم الإنتاجات، والتفاعلات والقرب الاجتماعي من القارئ مع غياب للأثر والفعالية الاجتماعية.
إبداع حقيقي
واضح أن الوقت الذي نقضيه أمام الشاشات الرقمية في تزايد مستمر على حساب زمن القراءة والكتابة. فكلما زاد وقت الاتصال بالعوالم الرقمية، انعكس ذلك على حجم البحوث العلمية وجودتها، أو حتى إنهاء أو تعويض المسارات الأكاديمية بالنجومية الرقمية. لذلك، يتم الانتقال من منطق النشر العلمي المحكم والإبداع الأدبي والفكري الرصين والعالي الملازم للنشر الورقي نحو منطق الـ «لايف ستريمنج»، والمقالات، والتدوينات والتعليقات السريعة، المعزز لثقافة
الـ «ستريمنج» الإبداعي، حيث تقاس جودة العمل وأصالة الباحث بانتشار وتبادل هذه المنتوجات السريعة ضمن العالم الرقمي، تماشيًا مع قوانين الخوارزميات الرقمية المحددة لنجاح المحتوى الرقمي. في الواقع، وعلى خلاف عالم الموسيقى، لا يعني انتشار المقال أو التدوينة أنها علمية أو رصينة وتقدّم تحليلًا أو إبداعًا حقيقيًا، بقدر ما يدل ذلك على تماشيها مع الشرط الموضوعي والذهني لتشكيل الثقافة الشعبية. وعلى العكس من ذلك، دومًا ما كان التركيز على إصدار الأعمال والكتب ذات النجاح الفوري التي تحظى باعتراف النقاد والزملاء، بدرجة رئيسة، أساس رسم المسار الإبداعي والأكاديمي الحقيقي للكاتب.
إن شعوبية الصورة الرمزية للكاتب بين العموم لا تسهم سوى في إزالة الطابع العالم عن شخصه وتفرده بالإبداع والمعرفة الذي يتم الرهان عليه للمساهمة في التأثير الاجتماعي. فحينما يخضع الإبداع الأدبي والفكري لطلب السوق الرقمي يفقد تأثيره المباشر على البنيات الذهنية والموضوعية الجمعية، لأن ثقافة الـ «ستريمنج» تربط الإبداع بسياقات خاصة وتحدد مدة حياته وفقًا للظرفية المنتج في سياقها. لهذا، يفقد الكاتب سلطته بين الحشود بمجرد التنازل عن مركزيته في سيرورة الإبداع الخالص والتنصل من مركزية النقد، ودور الزملاء والجماعات العلمية في خط مسار الإنتاج المعرفي والإبداعي. إضافة إلى كل ذلك، من شأن تضخم الخطابات المنتجة وتكسر المسافة بين الثقافة العليا والثقافة الشعبية أن ينتج عنه نوع من «التبخيس» و«الضجر» إزاء قيمة الإبداع نفسه بين مختلف الفاعلين، نظرًا لأن شروط النجومية الرقمية تفرض التجديد في القضايا، والأسماء وأصناف الإبداع المُشرعن رقميًا.
التزام فكري
بقدر ما فتحت الجائحة الباب أمام الكاتب للتعريف بإبداعاته وأعماله والبحث عن الشرعية الاجتماعية، فإنها أفرزت تعلقًا كبيرًا بشروط إنتاج العالم الرقمي، حيث تمارس إغراءات النجومية والنجاح الرقمي والاعتراف الافتراضي سلطتها على قلم الكاتب قبل شخصه.
فحينما يقاس النجاح بأرقام الخوارزميات الرقمية، تتحول الفضاءات الرقمية إلى مجالات للصراع بين الزملاء والبحث عن الاعتراف الجمعي، تطغى الخطابة على النقد والالتزام الفكري، ويتحول البحث عن «إثارة الجدل» بالعالم الرقمي إلى استراتيجيات جديدة للتأثير وكسب الشرعية الفكرية خارج الدوائر الرسمية، حينئذ نكون أمام «تهجير» لثقافة «الكلاوت» من عالم الموسيقى نحو عالم الأدب والثقافة، ويصبح النجاح والتأثير الرقمي أهم من الإبداع نفسه. والغريب في الأمر أنه كان من مهام المثقف مواجهة هذه الأشكال الجديدة من صناعة النجومية المراهقة ومحاربتها، لا تقليدها أو الاحتذاء بها.
قصارى القول، تدفعنا الجائحة إلى إعادة التفكير في العديد من المسلّمات الكلاسيكية في عالم الثقافة والإبداع خلال العصر الرقمي واستشراف سيناريوهات ممكنة لوضع ومهن الكتابة خلال السنوات المقبلة.
لقد نجحت رأسمالية المراقبة في استقطاب جزء كبير من خط الدفاع الأخير في وجه سيرورة أو موجة رسملة الفعاليات الإنسانية (الكتّاب والنقاد) وكيّفته مع شروط إنتاج السوق المفتوح، حيث أضحت الكتابة والنجاح والإبداع سلعة تقاس بالأرقام والخوارزميات الذكية، والتحقت بـ «ثقافة الترفيه»، وتحوّل الكاتب إلى نجم «مُشَعبن» وباحث عن «الكلاوت» أكثر من بحثه عن التنوير.
وإذا كان الأمر قد بدأ بـ «الانفجار» في سياق مجالنا التداولي العربي، فإنه يظل ظاهرة كونية، اليوم، تبيّن القدرة العجيبة (الدائمة) للمنظومة الرأسمالية على التجدد والتكيف مع تحولات العصر الرقمي، عبر استثمارها سنوات في تجميع وتحليل البيانات الضخمة للتحكم في السلوك البشري ورسم معالم عالم مستقبلي يتحكم بموجبه العموم والترفيه في شروط إنتاج العالم الاجتماعي ■