لوي ماسينيون في الشام الكتابات السياسية

لوي ماسينيون في الشام  الكتابات السياسية

 لا يزال المستشرق الفرنسي الكبير لوي ماسينيون (1883 - 1962) يشغل الأوساط العلمية والأكاديمية بما يُكْتَشف عنه من آثار لم تُنشر، وما تكتشفه الأجيال الجديدة من آرائه وأفكاره ومواقفه وجوانب لم تكن معروفة عنه حتى الآن.
فقد كان ماسينيون محيطًا بلا ضفاف، يتدفق معرفةً وتُعْقد حوله الملتقيات وتُنجز عنه الأبحاث العلمية بكل لغات العالم. 
مؤلّف هذا الكتاب هو المؤرخ الفرنسي من أصل لبناني، جيرارد خوري، المعروف بدراساته حول لبنان وبلاد الشام والعرب بصورة عامة، وواحد من المختصين بعالم الاستشراق، يكتب عن المستشرقين من واقع الزمالة وعن كثب منهم ومن اهتماماتهم. فقد سبق له أن أنجز رسالة جامعية حول الأعمال غير المنشورة لماسينيون، تحت إشراف آخر المستشرقين الأحياء هنري لورانس.

 

يُقْرَن‭ ‬ماسينيون‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬بالمتصوف‭ ‬المسلم‭ ‬الكبير‭ ‬منصور‭ ‬الحلاج‭ ‬الذي‭ ‬أنجز‭ ‬حوله‭ ‬أعظم‭ ‬رسالة‭ ‬علمية‭ ‬وأضخمها،‭ ‬4‭ ‬أجزاء،‭ (‬نحو‭ ‬1500‭ ‬صفحة‭) ‬عام‭ ‬1922،‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬العلمي‭ ‬بمنزلة‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬لتراث‭ ‬الحلاج‭ ‬وحياته،‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للإسلام‭ ‬واللغة‭ ‬العربية،‭ ‬اللذين‭ ‬اعتمدهما‭ ‬ماسينيون‭ ‬موضوعي‭ ‬صراعه‭ ‬وكفاحه‭ ‬لتحرير‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬والمسلمة‭ ‬من‭ ‬ربقة‭ ‬الاستعمار‭ ‬والتّخلف‭ ‬الحضاري‭ ‬المرَوَّع‭ ‬الذي‭ ‬رسفت‭ ‬فيه‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬ردحًا‭ ‬طويلًا‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

لكن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬موضوع‭ ‬المراجعة‭ ‬يُوقفنا‭ ‬المؤلف‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬لماسينيون،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬حتى‭ ‬خمسينياته‭ ‬مع‭ ‬سياق‭ ‬حرب‭ ‬الجزائر‭.‬

اهتم‭ ‬ماسينيون‭ ‬منذ‭ ‬شبابه‭ ‬بقضايا‭ ‬العلم،‭ ‬وانساق‭ ‬وراء‭ ‬شغفه‭ ‬بالمعرفة،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬انخراطه‭ ‬في‭ ‬النشاط‭ ‬المدني‭ ‬والعسكري‭ ‬والأمني،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬وتنقّل‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬إطلاقًا‭ ‬طوال‭ ‬حياته،‭ ‬فقد‭ ‬جمع‭ ‬الفكر‭ ‬والعمل‭ ‬في‭ ‬بوتقة‭ ‬شخصيته‭ ‬التي‭ ‬تطورت‭ ‬وتبلورت‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬الداخلي،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬تواصله‭ ‬وكفاحه‭ ‬مع‭ ‬الخارج‭ (‬الاستعمار‭ ‬والإمبريالية‭ ‬والهيمنة‭ ‬الحداثية‭).‬

 

أحداث‭ ‬سياسية

‭ ‬يعدّ‭ ‬الكتاب‭ ‬عصارة‭ ‬وحصيلة‭ ‬لجهد‭ ‬مضن‭ ‬في‭ ‬مظانّ‭ ‬ودهاليز‭ ‬أرشيف‭ ‬مقر‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬الفرنسية‭ (‬كي‭ ‬دورسي‭) ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬ويحتوي‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التقرير‭ ‬التي‭ ‬أعَدَّها‭ ‬ماسينيون‭ ‬عن‭ ‬مهامه‭ ‬السياسية‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬ومهامه‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬خلفيات‭ ‬وتداعيات‭ ‬سياسية،‭ ‬والتي‭ ‬امتدت‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1907‭ ‬إلى‭ ‬1955‭. ‬وأول‭ ‬ما‭ ‬تُظهره‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬أن‭ ‬صاحبها‭ ‬كان‭ ‬فرنسيًّا،‭ ‬فضلًا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أيضًا‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬ومن‭ ‬المسلمين،‭ ‬أو‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مثلهم،‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬له‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الغربي‭ ‬والمسلم‭ ‬معًا،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬بلوره‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬االبديليةب،‭ ‬الذي‭ ‬بموجبه‭ ‬يمكن‭ ‬للغرب‭ ‬االمستعمِرب‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬الآخر‭ ‬االعربيب‭ ‬واالمسلمب،‭ ‬لأنّ‭ ‬الوضع‭ ‬الاستعماري‭ ‬كان‭ ‬يحول‭ ‬دائمًا‭ ‬دون‭ ‬تقارب‭ ‬بين‭ ‬المستعمَر‭ ‬والمستعمِر،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬الإشكالية‭ ‬التي‭ ‬تطلّع‭ ‬ماسينيون‭ ‬أن‭ ‬يفككها‭ ‬ويعيد‭ ‬تركيبها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬حقائق‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬بالمقاربة‭ ‬الثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬أيضًا‭.‬

تُظْهِر‭ ‬كتابات‭ ‬ماسينيون‭ ‬السياسية‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬معاصرًا‭ ‬لأهم‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬شكَّلت‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬فهو‭ ‬شاهد‭ ‬عيان،‭ ‬تفاعل‭ ‬وتواصل‭ ‬مع‭ ‬الوقائع‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬لمرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬من‭ ‬أخطر‭ ‬وأفدح‭ ‬مسارات‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬علاقاتهم‭ ‬مع‭ ‬الغرب‭ ‬وبقية‭ ‬العالم‭.‬

 

وعود‭ ‬وحقائق‭ ‬

اتسمت‭ ‬المرحلة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬بالوعود‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬اتسمت‭ ‬بحقائق‭ ‬الواقع،‭ ‬منها‭ ‬وعد‭ ‬سايكس‭/ ‬بيكو‭ ‬عام‭ ‬1915،‭ ‬الذي‭ ‬تضمّن‭ ‬إمكان‭ ‬منح‭ ‬الاستقلال‭ ‬للعرب‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انتصار‭ ‬الحلفاء‭ ‬على‭ ‬ألمانيا‭ ‬والدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الكبرى‭ (‬1914‭ - ‬1918‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬أعلن‭ ‬بداية‭ ‬انسلاخ‭ ‬العرب‭ ‬عن‭ ‬الخلافة‭ ‬العثمانية‭ ‬وبداية‭ ‬أفول‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة،‭ ‬كما‭ ‬خَبَر‭ ‬ماسينيون‭ ‬وَعْد‭ ‬بلفور‭ (‬نوفمبر‭ ‬1917‭) ‬عن‭ ‬كثب،‭ ‬وله‭ ‬مراسلات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬بموجبها‭ ‬منح‭ ‬اليهود‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬عام‭ ‬1948‭.‬

فالحرب‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬التحق‭ ‬بها‭ ‬ماسينيون‭ ‬وقُلِّد‭ ‬فيها‭ ‬مرتبة‭ ‬ضابط‭ ‬حربي،‭ ‬حَبَلَت‭ ‬بأحداث‭ ‬ووقائع‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الآيل‭ ‬إلى‭ ‬التَّشَكل‭ ‬إلى‭ ‬أقطار‭ ‬منفصلة‭ ‬بعضها‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬وإمارات‭ ‬لأفراد‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة،‭ ‬وكانت‭ ‬البداية‭ ‬مع‭ ‬إمارة‭ ‬الأمير‭ ‬فيصل‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬وإمارة‭ ‬أخيه‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬التي‭ ‬ستعرف‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬بالمملكة‭ ‬الهاشمية‭ ‬في‭ ‬الأردن‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ماسينيون‭ ‬أحد‭ ‬المنظّرين‭ ‬لمشروع‭ ‬اتفاقية‭ ‬اوُئد‭ ‬في‭ ‬المهدب‭ ‬بين‭ ‬الأمير‭ ‬فيصل‭ ‬وكليمنصو‭ ‬عام‭ ‬1919،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مؤتمر‭ ‬السلام‭ ‬بقصر‭ ‬فرساي‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬عضوًا‭ ‬نشطًا‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الوزاري‭ ‬للشؤون‭ ‬الإسلامية‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1927،‭ ‬حيث‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬الاطلاع‭ ‬الواسع‭ ‬على‭ ‬سياسة‭ ‬فرنسا‭ ‬حيال‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين،‭ ‬والتي‭ ‬اختصرها‭ ‬ماسينيون‭ ‬بأنها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬مسيحي‭ ‬للإسلام،‭ ‬وهذا‭ ‬خطأ‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرى‭ ‬ماسينيون،‭ ‬الذي‭ ‬سعى‭ ‬وسعه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إحلال‭ ‬الإسلام‭ ‬المكانة‭ ‬اللائقة‭ ‬به‭ ‬كرسالة‭ ‬توحيدية،‭ ‬والعودة‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المفهوم‭ ‬الإبراهيمي‭ ‬الحنفي‭ ‬للدين‭.‬

 

الإسلام‭ ‬وفرنسا

  ‬إن‭ ‬القراءة‭ ‬الفاحصة‭ ‬لآثار‭ ‬ماسينيون‭ ‬وأعماله،‭ ‬خاصة‭ ‬منها‭ ‬التقارير‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬تفصح‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬ما‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬حقيقية‭ ‬تاريخية‭ ‬كبرى‭ ‬ضيّعتها‭ ‬فرنسا‭ ‬والغرب‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭ ‬حيال‭ ‬العرب‭ ‬والإسلام‭.‬

فقد‭ ‬كان‭ ‬بالإمكان‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬فرنسا‭ ‬إمبراطورية‭ ‬إسلامية،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬الإسلام‭ ‬دينًا‭ ‬توحيدياً‭ ‬يحلّ‭ ‬أعظم‭ ‬مشكلة‭ ‬دينية‭ ‬واجهت‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬الاستعماري‭ ‬والإمبريالي،‭ ‬ويكَمِّل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينقص‭ ‬الغرب‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬فالكتابات‭ ‬السياسية‭ ‬لماسينيون‭ ‬تؤكد‭ ‬ضرورة‭ ‬ربط‭ ‬الصِّلة‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬والغرب‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التعامل‭ ‬الحضاري‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬التاريخ‭ ‬بوتيرتين‭ ‬مختلفتين‭ ‬ومتفاوتتين،‭ ‬واحدة‭ ‬متقدمة‭ ‬وأخرى‭ ‬متأخرة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تشكّل‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬كمؤسسات‭ ‬حكومية‭ ‬ومدنية‭.‬

‭ ‬واجه‭ ‬ماسينيون‭ ‬ركامًا‭ ‬هائلًا‭ ‬من‭ ‬التصورات‭ ‬الفاسدة‭ ‬والمفاهيم‭ ‬الخاطئة‭ ‬صاغها‭ ‬الغرب‭ ‬حيال‭ ‬العرب،‭ ‬منها‭ ‬مقولة‭ ‬االاستبداد‭ ‬الشرقيب،‭ ‬واتركيا‭ ‬الرجل‭ ‬المريضب،‭ ‬واالسكان‭ ‬الأهاليب،‭ ‬االإسلام‭ ‬الطرقيب،‭ ‬وامجتمعات‭ ‬عربية‭ ‬تأبى‭ ‬التقدم‭ ‬التقني‭ ‬والعلميب،‭ ‬واسلطة‭ ‬الدين‭ ‬ونزعته‭ ‬الشموليةب‭.‬

ولدحض‭ ‬وتجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الاستعماري،‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬ماسينيون‭ ‬بقلمه،‭ ‬بل‭ ‬جايل‭ ‬معه‭ ‬نشاطًا‭ ‬دؤوبًا‭ ‬قلّ‭ ‬نظيره‭ ‬لدى‭ ‬المستشرقين،‭ ‬ساهم،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬المؤلف،‭ ‬في‭ ‬تذليل‭ ‬التفاهم‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والغرب‭ ‬وتفكيك‭ ‬العقدة‭ ‬الشائكة‭ ‬التي‭ ‬نسجها‭ ‬الاستعمار‭ ‬بين‭ ‬العالمين‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬والغربي‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬تُظهر‭ ‬نصوص‭ ‬ماسينيون‭ ‬السياسية‭ ‬تصورًا‭ ‬آخر‭ ‬لتاريخ‭ ‬العرب‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تاريخًا‭ ‬آخر‭ ‬لكل‭ ‬العالم‭.‬

اعتمد‭ ‬ماسينيون‭ ‬في‭ ‬نشاطه‭ ‬العلمي‭ ‬والسياسي‭ ‬المقاربة‭ ‬التي‭ ‬تستبطن‭ ‬العرفاني‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬السياسي‭ ‬والقيمة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬في‭ ‬المسعى‭ ‬المدني‭ ‬وإدغام‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬الإنسان‭ ‬مهما‭ ‬كان،‭ ‬لأنه‭ ‬مؤهل‭ ‬دائمًا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إنسانًا‭ ‬أفضل،‭ ‬والأفضلية‭ ‬فضيلة‭ ‬ليست‭ ‬قاصرة‭ ‬على‭ ‬الغرب،‭ ‬بل‭ ‬للعرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬أيضًا‭ ‬بمساعدة‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬المتقدمة‭. ‬وبتعبير‭ ‬آخر‭ ‬يفيد‭ ‬المعنى‭ ‬ذاته،‭ ‬أن‭ ‬أساس‭ ‬المقاربة‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬ماسينيون‭ ‬لحلّ‭ ‬إشكالية‭ ‬الاستعمار‭ ‬ووضعيته‭ ‬على‭ ‬فرنسا‭ ‬والعرب‭ ‬كليهما‭ ‬هو‭ ‬صيغة‭ ‬االعلم‭ ‬والإيمانب‭.‬

 

الاستعمار‭ ‬والاستشراق‭ ‬

  ‬القراءة‭ ‬المتأنية‭ ‬لتقارير‭ ‬ماسينيون‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية،‭ ‬تساعد‭ ‬كثرًا‭ ‬على‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬صلته‭ ‬بالاستعمار‭ ‬والاستشراق،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬شبهة‭ ‬دوره‭ ‬المخابراتي‭ ‬وتواطئه‭ ‬مع‭ ‬المصالح‭ ‬الأمنية‭ ‬ضد‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭. ‬فالوقوف‭ ‬على‭ ‬تراث‭ ‬ماسينيون‭ ‬يحفّز‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬الاستشراق‭ ‬كلحظة‭ ‬ثقافية‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬العرب‭ ‬والغرب‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬خاصة‭ ‬اللقاءات‭ ‬الهائلة‭ ‬والمتعددة‭ ‬التي‭ ‬تواصل‭ ‬فيها‭ ‬ماسينيون‭ ‬مع‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬ومع‭ ‬تراثهم‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفه‭ ‬بشكل‭ ‬حيّ‭ ‬في‭ ‬مهماته‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬أوكلت‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الوزارات‭ ‬الحكومية‭ ‬ومن‭ ‬طرف‭ ‬المعاهد‭ ‬العلمية‭ ‬والأكاديمية‭.‬

ففي‭ ‬موضوع‭ ‬الاستشراق،‭ ‬يختلف‭ ‬ماسينيون‭ ‬كثيرًا‭ ‬عمّا‭ ‬روّج‭ ‬عن‭ ‬المستشرقين‭ ‬في‭ ‬تواطئهم‭ ‬الحتمي‭ ‬مع‭ ‬الاستعمار‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬البغيض،‭ ‬فقد‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الروحية‭ ‬والعلمية‭ ‬وعانق‭ ‬معاني‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اعتناقه‭ ‬المذهب‭ ‬التوحيدي،‭ ‬وزاده‭ ‬الإسلام‭ ‬واللغة‭ ‬العربية‭ ‬اقترابًا‭ ‬من‭ ‬الديانة‭ ‬المسيحية،‭ ‬حيث‭ ‬صارت‭ ‬عنه‭ ‬أكثر‭ ‬معقولية‭ ‬وبشرية‭ ‬ودنيوية‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬المتعلق‭ ‬بالاستعمار،‭ ‬فإن‭ ‬زيارات‭ ‬ماسينيون‭ ‬التنقيبية‭ ‬والحفريات‭ ‬والحج‭ ‬إلى‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدسة‭ ‬والوقوف‭ ‬على‭ ‬إحصاء‭ ‬الأوقاف‭ ‬والمعالم‭ ‬الإسلامية‭ ‬والدينية‭ ‬والمكتبات‭ ‬والخزانات‭ ‬والزوايا‭ ‬والطرق‭ ‬الصوفية‭ ‬والمخطوطات‭ ‬في‭ ‬مظانّها‭ ‬ودواوينها‭ ‬القديمة،‭ ‬وما‭ ‬انطوت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬الفقه‭ ‬والكلام‭ ‬والتفسير‭ ‬والحديث،‭ ‬كلها‭ ‬ينمّ‭ ‬عن‭ ‬سعي‭ ‬لاهث‭ ‬ورغبة‭ ‬جامحة‭ ‬لاكتشاف‭ ‬ما‭ ‬يساعد‭ ‬فرنسا‭ ‬على‭ ‬تخطّي‭ ‬وضعيتها‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬أي‭ ‬إشكالية‭ ‬الاحتلال‭ ‬واختلال‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬لأن‭ ‬المهمة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬اضطلع‭ ‬بها‭ ‬ماسينيون،‭ ‬تختزل‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬السياسة‭ ‬الإسلامية‭ ‬والعربية‭ ‬لفرنسا،‭ ‬ومحاولة‭ ‬ترقية‭ ‬الأهالي‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬المواطنين‭ ‬الجدد‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬