حينما اكتسح الشعر عملاً روائيًا مذهلاً
رواية «ساعي بريد نيرودا... صبر متأجج» للروائي أنطونيو سكارميتا*، هي رواية تخاطفها ملايين القراء في ترجمات عدة، واقتبست إلى السينما في فيلم حظي بحفاوة استثنائية. هي عمل يحكي في البداية قصة صحفي وروائي متعب ومحبط كلفه مدير الجريدة التي يعمل بها بأن يقوم بتحقيق من نوع خاص بجزيرة (إيسلانيكرا Isla Negra) بقصد «الحصول، من خلال مقابلات مع بابلو نيرودا، على شيء من قبيل، حسب تعبير المدير، الجغرافية الغرامية للشاعر» (ص10)، أي أن ما طلب منه هو التلصص على الحياة الحميمية للشاعر التشيلي الكبير.
لم ينجز الصحفي التحقيق المطلوب، لأن بابلو نيرودا رفض رفضًا قاطعًا تلك الفكرة الغريبة، وبالمقابل جعلته الصدف يتعرف على بياثريث زوجة ساعي البريد ماريو، الشخصية الرئيسية في هذه الرواية، والتقى بها أكثر من مرة وهي تتسقط أخبار زوجها ما بين محاكمة ومحاكمة. وهو يقول عن تلك اللقاءات: ابياثريث غونثالث التي تناولت الغداء معها عدة مرات في أثناء زياراتها إلى المحاكم، رغبت في أن أروي قصة ماريو، وقالت لي: الا يهم كم ستتأخر في ذلك، ولا كم من الأشياء ستختلقهاب. وبحصولي على مغفرتها المسبقة، فقد تعمدت ارتكاب النقيصتين كلتيهماب (ص 12). إن الرواية ههنا تبرم تعاقدًا مع القراء جعل منها استعادة flashback مطولة تفسر لماذا أصبح ماريو ضيفًا على مخافر ومحاكم بلده، بعد أن عرف عنه ولعه بـابتكار استعارات خاصة به. وذلك ما سوف يجعلنا بالتأكيد نتساءل: هل هذه الحكاية وقعت بالفعل أم تم اختلاقها وتخيلها؟ وهل وجد ماريو بالفعل؟ وهل تعرف على نيرودا حقيقة بــ اإيسلانيكراب؟ وهل أقام نيرودا لمدة بتلك الجزيرة الساحرة وتوفي بها وبقلبه غصة؟ هي تساؤلات متناسلة لسنا مضطرين للإجابة القطعية عنها حتى نضمن لأنفسنا تلقيًا يسعى لإيجاد أنجع السبل لتدبير حالة الالتباس اللذيذة المقترحة علينا.
القصائد أبلغ أثرًا
إن رواية اساعي بريد نيروداب تجعلنا نتساءل كذلك: كيف يصبح شاعر ما شخصية عمومية؟ وإلى أي حد يمكن للشعر أن يكون عنصرًا حاسمًا في جعل حياة إنسان ما تعرف انعطافات غير متوقعة؟ فماريو الإنسان الخجول والمتواضع سيعيش تجارب لم تكن لتخطر بباله، بعد أن حصل على وظيفة استثنائية هي إيصال الطرود والرسائل إلى زبون واحد هو الشاعر الاستثنائي والمتفرد بابلو نيرودا، الذي قرر الإقامة هو وزجته بــإحدى جزر بلده تشيلي. وعبر المعاينة، ومن خلال التعامل المباشر، تبين لماريو أن القصائد قد تكون في بعض الأحيان أبلغ أثرًا من الوسامة، أو من المنصب الإداري الرفيع، وأن الاستعارات، وإن كانت غامضة، أو حينما تكون غامضة، بإمكانها أن تجعل المرء يرتقي اجتماعيًا حتى ولو كان يعيش في قرية صغيرة بجزيرة نائية، جميع سكانها من الصيادين الأميين، وبإمكانها أن تجعله يرتبط بامرأة ما كان ليحلم يومًا بأن تعيره أي اهتمام، مثلما كان الأمر مع معشوقته بياثريث، التي لم تصدق بأنه تغزل بها بهذه الطريقة الراقية: اقال لي... قال لي إن ابتسامتي تمتد مثل فراشة على وجهيب (ص54). وبغنج، أخبرت أمها بما يلي: اقال إن ضحكتي وردة، حربة تتشظى، ماء يتفجر. قال إن ضحكتي موجة فضة مباغتةب (ص55). لكن استعمال واستثمار هذه الاستعارات والمجازات لم يكن ليروق الجميع، وكان على سبيل المثال مصدر إزعاج لأم بياثريث التي اشتكت ساعي البريد الحالم لبابلو نيرودا، ونبهت هذا الأخير إلى أن رصيده الشعري يتعرض لاستعمال غير مسؤول: اوالأخطر من كل ذلك يا دون بابلو هو أن المجازات التي يغوي بها ابنتي ينقلها بكل وقاحة من كتبكب (ص73). لكن يبدو أن ماريو كان يدرج اسطوهب ذاك على استعارات نيرودا ضمن خانة االسرقة الحلالب.
وصورة الشاعر، خاصة إذا كانت أشعاره عابرة للسياقات التاريخية وللبلدان، تقرن دومًا بالغموض، وبقدرة غير مفهومة على الخلق، لذا انبهر ماريو بشخصية بابلو نيرودا، بل إنه كان يطوف حول بيت الشاعر وكأن هذا البيت تحول إلى كعبة لها ما لها من سحر وقدسية. وهذا الانجذاب نحو شخصية نيرودا لم يكن مقتصرًا على ماريو فحسب، بل مس جزءًا كبيرًا من أهل الجزيرة. وبدا ذلك واضحًا على محياهم خلال متابعتهم، على شاشة التلفزة، للحفل الذي تسلم فيه نيرودا جائزة نوبل للآداب، وألقى خطابًا مرهفًا يصل بيسر إلى القلوب. ويصف السارد تلك اللحظة بهذه الكلمات: الو أن نيرودا رأى جيرانه في (إيسلانيكرا) مثلما كانوا يرونه، لكان انتبه إلى تحجر رموشهم، وكأنه يمكن لأي حركة من وجوههم أن تسبب ضياع كلماتهب (ص117). وقد تضمن الخطاب المذكور تصور الشاعر لوظائف الشعر ونتفًا من أحلامه.
مشروع شاعر
نحن إذن إزاء شاعرين، شاعر عملاق وشاعر مبتدئ، ربطت بينهما علاقة تشبه علاقة مريد بشيخه، فقد كان نيرودا سخيًا مع صديقه ساعي البريد، متفهمًا لبساطته وعمقه، وحريصًا على إشباع فضوله غير المحدود. وكان ماريو، من جهته، يشعر باحترام عميق تجاه معلمه ويحس بأن رؤيته للوجود تتغير وتصبح أكثر ثراء، وكان يشعر بأن التصاقه بنيرودا يتخذ أحيانًا طابع الإزعاج، إلى درجة أنه اخلال شهرين لم يستطع، بحساباته الطيبة، أن يتجنب الإحساس بأنه كلما قرع الجرس يغتال وحي الشاعر الذي يكون متأهبًا لاقتراف أشعار عبقريةب (ص19). وبدا له بوضوح أن علاقته مع محيطه لم تعد، البتة، كما كانت، خاصة بعد أن بدأ يستشعر في نفسه القدرة على تأويل الاستعارات وإضاءة مختلف إيحاءاتها بتلقائية محببة جعلته يطرح، ذات حوار، سؤالًا استوقف نيرودا بقوة: اهل تعتقد حضرتك أن العالم كله هو استعارة لشيء آخر؟ب (ص27). وانتقل ماريو، ودهشته لا تفارقه، إلى طور جديد هو طور محاولة كتابة الشعر وإنتاج استعارات ومجازات. وبعد لقاءات وحوارات مع صاحب االنشيد العامب، أصبح الأمر واضحًا بالنسبة إليه: اأحب أن أصير شاعرًاب (ص24). كما أن وضعه الاعتباري الجديد، بصفته مشروع شاعر وصديق شاعر مرموق، بدأ يسمح له، بل ويفرض عليه، أن يتدخل في قضايا الشأن العام ويدلي بوجهة نظره في أمور تهم قريته وأوضاعها.
ثم إن ماريو، رغم هشاشته الظاهرية، كان متعلقًا بالحياة، مما جعله يهيم هيامًا لا حد له بمعشوقته بياثريث. وهذا العشق كان هو ذريعته للاقتران بنيرودا وتوطيد علاقته به بسرعة فائقة، إذ كان يطلب منه باستمرار المعونة والمشورة لكي يفوز بقلب تلك النادلة الشابة والفاتنة، ولم يتردد في أن يقترح عليه أن يقايض خدماته له ببضع قصائد كان في أمس الحاجة إليها: اإذا لم يكن هنالك إزعاج كبير، فإني أفضل أن تكتب لي قصيدة عن بياثريث بدل أن تعطيني نقودًاب (ص38). وهكذا أصبح نيرودا مساعدًا له، بالمعنى الغريماسي، ومستشاره إذ هو الذي تكلف بالتفاوض مع الحماة المندفعة التي كانت مقتنعة بخطورة حقيقة تعتبرها كونية: اليس هناك مخدر أسوأ من الكلام. إنه يجعل نادلة حانة ريفية تشعر كأنها أميرة فينيسيةب (ص56). وتلك الاستعارات التي كان ماريو يواجه بها جمال معشوقته الكاسح غالبًا ما تمت استعارتها من قصائد لنيرودا، الذي عاتبه مرة على أنه استعمل قصيدة هي في الأصل مهداة لزوجته ماتيلدي، فما كان من ماريو إلا أن أجابه بكل ثقة، قائلًا: االشعر ليس ملك من يكتبه، وإنما ملك من يستخدمهب (ص78). ورغم تأففه أحيانًا، إلا أن نيرودا منح لموضوع غراميات ماريو أهمية بالغة، إلى درجة أنه صنفها مرة، بمرح، ضمن قضايا الدولة المستعجلة.
ويمكن تسجيل أن الرواية مقتصدة في وصفها وحواراتها وكأن الأمر يتعلق بقصيدة لا يحق لنا أن نحذف منها أي كلمة، فالبناء هو بناء متراص بشكل متقن ويعتمد وضوحًا مربكًا، ونستشعر في ثناياه نفسًا رومانسيًا جليًا، حيث يتم الاحتفاء بعواطف الشخصيات وأحلامهم واستيهاماتهم، ويتم استثمار البحر بإيحاءاته الغنية وبنمط العيش الذي يفرضه، فأصبح بذلك فاعلًا محوريًا في الرواية ومحاورًا (بفتح الواو) أساسيًا، حتى أن نيرودا نفسه، ذات غياب، طلب من ماريو أن ينقل إليه أجواء الجزيرة وتفردها: اأريدك أن تتمشى بآلة التسجيل هاته في (إيسلانيكرا) وتسجل لي كل الأصوات التي تجدها (...) إنني أفتقد البحر. أفتقد العصافير. ابعث لي بأصوات بيتي. ادخل إلى الحديقة واقرع الأجراسب (ص100). ومما يقوي الملمح الرومانسي في هذا العمل الموضوعات الرئيسة التي اختار إضاءتها، مثل العشق والحزن والحنين والصداقة والمرض والموت والإحساس بالعجز، وثنائية الخير والشر الأبدية، والاحتفاء بالشعر باعتباره حرية ودفاعًا عن الحرية وكأن الأصل في الإنسان أن يكون شاعرًا.
معطيات ووقائع
وبهذه الرواية العديد من المعطيات والوقائع التي يسهل التحقق من وجودها ومن وقوعها، مثل فوز سلفادور أييندي في انتخابات رئاسية: افي ليلة الرابع من أيلول تناقل العالم بأسره خبرًا مدوخًا: لقد كسب سلفادور أييندي الانتخابات في التشيلي. إنه أول رئيس ماركسي ينتخب بالتصويت الديمقراطيب (ص80)، أو فوز بابلو نيرودا بجائزة نوبل أو تقلده منصب سفارة بلده بباريس. ويبدو أن التاريخ يكون أحيانًا جاحدًا ويسقط من تدويناته، في لامبالاة جارحة، أشياء كانت تبدو هي مركز العالم. هكذا لم يتذكر أحد إن كانت قصيدة ماريو قد نشرت أو أعدت للنشر بإحدى المجلات التي كانت تصدر بالشيلي، ولم تشفع له غرابة عنوان قصيدته في أن يتم تذكر اسمه على الأقل كأحد المتنافسين على نيل إحدى الجوائز. والأدهى من ذلك أنه تم اختطافه مباشرة بعد موت نيرودا والانقلاب ضد أييندي، وتم إيداعه أحد السجون السرية، وظلت بياثريث، زوجته وأم ابنه الوحيد، تبحث عنه وتتسقط أخباره كما أخبرنا الصحفي المحبط في مستهل الرواية.
وبما أن الشعر يتضمن في جوهره فكرة الاقتسام، وكما اقتسم نيرودا مع تلميذه مهارات وخبرة نفيسة، فإن ماريو قد غامر بنفسه وجازف بحريته وحياته، وحفظ عن ظهر قلب برقيات أرسلت لنيرودا ليقرأها عليه بعد أن استطاع أن يتخطى حصار العسكر ويزوره بمنزله. وكان نيرودا يشعر بالحسرة وهو يحتضر بعد أن عاد من باريس مريضًا ومنهكًا. وفي لحظة إنسانية بالغة السخاء والنبل، واعترافًا منه بالعمق الإنساني والشاعري لساعي البريد ناداه نيرودا وكأنه يقوم بتعميده: اأعطني استعارة كي أموت مطمئنًا يا فتىب (ص138). غير أن ماريو لم تتح له فرصة الاستمتاع بهذا الاعتراف الباذخ، فقد جاء العسكر واقتادوه لسجن سري تنفيذًا لـاإجراء روتينيب (ص144)، وكأن هذا الرهان، رهان ماريو لسبر جوهر الوجود، ممتطيًا صهوة الشعر للانخراط بمسؤولية في رهانات اليوم المتشابكة، هو عملية محفوفة بمخاطر رهيبة، وإن كانت تجعلنا نكتشف أن للخسارات أيضا مجدها وألقها■
بابلو نيرودا
أنطونيو سكارميتا