حينما اكتسح الشعر عملاً روائيًا مذهلاً

حينما اكتسح الشعر عملاً روائيًا مذهلاً

رواية‭ ‬‮«‬ساعي‭ ‬بريد‭ ‬نيرودا‭... ‬صبر‭ ‬متأجج‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬أنطونيو‭ ‬سكارميتا*،‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬تخاطفها‭ ‬ملايين‭ ‬القراء‭ ‬في‭ ‬ترجمات‭ ‬عدة،‭ ‬واقتبست‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬حظي‭ ‬بحفاوة‭ ‬استثنائية‭. ‬هي‭ ‬عمل‭ ‬يحكي‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬قصة‭ ‬صحفي‮ ‬وروائي‭ ‬متعب‭ ‬ومحبط‭ ‬كلفه‭ ‬مدير‭ ‬الجريدة‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬بها‭ ‬بأن‭ ‬يقوم‭ ‬بتحقيق‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭ ‬بجزيرة‭ (‬إيسلانيكرا‭ ‬Isla Negra‭) ‬بقصد‭ ‬‮«‬الحصول،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقابلات‭ ‬مع‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا،‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬قبيل،‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬المدير،‭ ‬الجغرافية‭ ‬الغرامية‭ ‬للشاعر‮»‬‭ (‬ص10‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬هو‭ ‬التلصص‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الحميمية‭ ‬للشاعر‭ ‬التشيلي‭ ‬الكبير‭. ‬

لم‭ ‬ينجز‭ ‬الصحفي‭ ‬التحقيق‭ ‬المطلوب،‭ ‬لأن‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا‭ ‬رفض‭ ‬رفضًا‭ ‬قاطعًا‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬الغريبة،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬جعلته‭ ‬الصدف‭ ‬يتعرف‭ ‬على‭ ‬بياثريث‭ ‬زوجة‭ ‬ساعي‭ ‬البريد‭ ‬ماريو،‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬والتقى‭ ‬بها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬وهي‭ ‬تتسقط‭ ‬أخبار‭ ‬زوجها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬محاكمة‭ ‬ومحاكمة‭. ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬اللقاءات‭: ‬ابياثريث‭ ‬غونثالث‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬الغداء‭ ‬معها‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬زياراتها‭ ‬إلى‭ ‬المحاكم،‭ ‬رغبت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أروي‭ ‬قصة‭ ‬ماريو،‭ ‬وقالت‭ ‬لي‭: ‬الا‭ ‬يهم‭ ‬كم‭ ‬ستتأخر‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬ولا‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬ستختلقهاب‭. ‬وبحصولي‭ ‬على‭ ‬مغفرتها‭ ‬المسبقة،‭ ‬فقد‭ ‬تعمدت‭ ‬ارتكاب‭ ‬النقيصتين‭ ‬كلتيهماب‭ (‬ص‭ ‬12‭). ‬إن‭ ‬الرواية‭ ‬ههنا‭ ‬تبرم‭ ‬تعاقدًا‭ ‬مع‭ ‬القراء‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬استعادة‭ ‬flashback مطولة‭ ‬تفسر‭ ‬لماذا‭ ‬أصبح‭ ‬ماريو‭ ‬ضيفًا‭ ‬على‭ ‬مخافر‭ ‬ومحاكم‭ ‬بلده،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرف‭ ‬عنه‭ ‬ولعه‭ ‬بـابتكار‭ ‬استعارات‭ ‬خاصة‭ ‬به‭. ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬سوف‭ ‬يجعلنا‭ ‬بالتأكيد‭ ‬نتساءل‭: ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬وقعت‭ ‬بالفعل‭ ‬أم‭ ‬تم‭ ‬اختلاقها‭ ‬وتخيلها؟‭ ‬وهل‭ ‬وجد‭ ‬ماريو‭ ‬بالفعل؟‭ ‬وهل‭ ‬تعرف‭ ‬على‭ ‬نيرودا‭ ‬حقيقة‭ ‬بــ‭ ‬اإيسلانيكراب؟‭ ‬وهل‭ ‬أقام‭ ‬نيرودا‭ ‬لمدة‭ ‬بتلك‭ ‬الجزيرة‭ ‬الساحرة‭ ‬وتوفي‭ ‬بها‭ ‬وبقلبه‭ ‬غصة؟‭ ‬هي‭ ‬تساؤلات‭ ‬متناسلة‭ ‬لسنا‭ ‬مضطرين‭ ‬للإجابة‭ ‬القطعية‭ ‬عنها‭ ‬حتى‭ ‬نضمن‭ ‬لأنفسنا‭ ‬تلقيًا‭ ‬يسعى‭ ‬لإيجاد‭ ‬أنجع‭ ‬السبل‭ ‬لتدبير‭ ‬حالة‭ ‬الالتباس‭ ‬اللذيذة‭ ‬المقترحة‭ ‬علينا‭.‬

 

القصائد‭ ‬أبلغ‭ ‬أثرًا

إن‭ ‬رواية‭ ‬اساعي‭ ‬بريد‭ ‬نيروداب‭ ‬تجعلنا‭ ‬نتساءل‭ ‬كذلك‭: ‬كيف‭ ‬يصبح‭ ‬شاعر‭ ‬ما‭ ‬شخصية‭ ‬عمومية؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬يمكن‭ ‬للشعر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عنصرًا‭ ‬حاسمًا‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬حياة‭ ‬إنسان‭ ‬ما‭ ‬تعرف‭ ‬انعطافات‭ ‬غير‭ ‬متوقعة؟‭ ‬فماريو‭ ‬الإنسان‭ ‬الخجول‭ ‬والمتواضع‭ ‬سيعيش‭ ‬تجارب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتخطر‭ ‬بباله،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬استثنائية‭ ‬هي‭ ‬إيصال‭ ‬الطرود‭ ‬والرسائل‭ ‬إلى‭ ‬زبون‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬الاستثنائي‭ ‬والمتفرد‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا،‭ ‬الذي‭ ‬قرر‭ ‬الإقامة‭ ‬هو‭ ‬وزجته‭ ‬بــإحدى‭ ‬جزر‭ ‬بلده‭ ‬تشيلي‭. ‬وعبر‭ ‬المعاينة،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬التعامل‭ ‬المباشر،‭ ‬تبين‭ ‬لماريو‭ ‬أن‭ ‬القصائد‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬أبلغ‭ ‬أثرًا‭ ‬من‭ ‬الوسامة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬المنصب‭ ‬الإداري‭ ‬الرفيع،‭ ‬وأن‭ ‬الاستعارات،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬غامضة،‭ ‬أو‭ ‬حينما‭ ‬تكون‭ ‬غامضة،‭ ‬بإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬المرء‭ ‬يرتقي‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬بجزيرة‭ ‬نائية،‭ ‬جميع‭ ‬سكانها‭ ‬من‭ ‬الصيادين‭ ‬الأميين،‭ ‬وبإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تجعله‭ ‬يرتبط‭ ‬بامرأة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليحلم‭ ‬يومًا‭ ‬بأن‭ ‬تعيره‭ ‬أي‭ ‬اهتمام،‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬معشوقته‭ ‬بياثريث،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تصدق‭ ‬بأنه‭ ‬تغزل‭ ‬بها‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬الراقية‭: ‬اقال‭ ‬لي‭... ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬ابتسامتي‭ ‬تمتد‭ ‬مثل‭ ‬فراشة‭ ‬على‭ ‬وجهيب‭ (‬ص54‭). ‬وبغنج،‭ ‬أخبرت‭ ‬أمها‭ ‬بما‭ ‬يلي‭: ‬اقال‭ ‬إن‭ ‬ضحكتي‭ ‬وردة،‭ ‬حربة‭ ‬تتشظى،‭ ‬ماء‭ ‬يتفجر‭. ‬قال‭ ‬إن‭ ‬ضحكتي‭ ‬موجة‭ ‬فضة‭ ‬مباغتةب‭ (‬ص55‭). ‬لكن‭ ‬استعمال‭ ‬واستثمار‭ ‬هذه‭ ‬الاستعارات‭ ‬والمجازات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليروق‭ ‬الجميع،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬مصدر‭ ‬إزعاج‭ ‬لأم‭ ‬بياثريث‭ ‬التي‭ ‬اشتكت‭ ‬ساعي‭ ‬البريد‭ ‬الحالم‭ ‬لبابلو‭ ‬نيرودا،‭ ‬ونبهت‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬رصيده‭ ‬الشعري‭ ‬يتعرض‭ ‬لاستعمال‭ ‬غير‭ ‬مسؤول‭: ‬اوالأخطر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يا‭ ‬دون‭ ‬بابلو‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المجازات‭ ‬التي‭ ‬يغوي‭ ‬بها‭ ‬ابنتي‭ ‬ينقلها‭ ‬بكل‭ ‬وقاحة‭ ‬من‭ ‬كتبكب‭ (‬ص73‭). ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬ماريو‭ ‬كان‭ ‬يدرج‭ ‬اسطوهب‭ ‬ذاك‭ ‬على‭ ‬استعارات‭ ‬نيرودا‭ ‬ضمن‭ ‬خانة‭ ‬االسرقة‭ ‬الحلالب‭.‬

وصورة‭ ‬الشاعر،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬أشعاره‭ ‬عابرة‭ ‬للسياقات‭ ‬التاريخية‭ ‬وللبلدان،‭ ‬تقرن‭ ‬دومًا‭ ‬بالغموض،‭ ‬وبقدرة‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ ‬على‭ ‬الخلق،‭ ‬لذا‭ ‬انبهر‭ ‬ماريو‭ ‬بشخصية‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يطوف‭ ‬حول‭ ‬بيت‭ ‬الشاعر‭ ‬وكأن‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬كعبة‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬سحر‭ ‬وقدسية‭. ‬وهذا‭ ‬الانجذاب‭ ‬نحو‭ ‬شخصية‭ ‬نيرودا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مقتصرًا‭ ‬على‭ ‬ماريو‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬مس‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الجزيرة‭. ‬وبدا‭ ‬ذلك‭ ‬واضحًا‭ ‬على‭ ‬محياهم‭ ‬خلال‭ ‬متابعتهم،‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬التلفزة،‭ ‬للحفل‭ ‬الذي‭ ‬تسلم‭ ‬فيه‭ ‬نيرودا‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب،‭ ‬وألقى‭ ‬خطابًا‭ ‬مرهفًا‭ ‬يصل‭ ‬بيسر‭ ‬إلى‭ ‬القلوب‭. ‬ويصف‭ ‬السارد‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬بهذه‭ ‬الكلمات‭: ‬الو‭ ‬أن‭ ‬نيرودا‭ ‬رأى‭ ‬جيرانه‭ ‬في‭ (‬إيسلانيكرا‭) ‬مثلما‭ ‬كانوا‭ ‬يرونه،‭ ‬لكان‭ ‬انتبه‭ ‬إلى‭ ‬تحجر‭ ‬رموشهم،‭ ‬وكأنه‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬حركة‭ ‬من‭ ‬وجوههم‭ ‬أن‭ ‬تسبب‭ ‬ضياع‭ ‬كلماتهب‭ (‬ص117‭). ‬وقد‭ ‬تضمن‭ ‬الخطاب‭ ‬المذكور‭ ‬تصور‭ ‬الشاعر‭ ‬لوظائف‭ ‬الشعر‭ ‬ونتفًا‭ ‬من‭ ‬أحلامه‭. ‬

 

مشروع‭ ‬شاعر

نحن‭ ‬إذن‭ ‬إزاء‭ ‬شاعرين،‭ ‬شاعر‭ ‬عملاق‭ ‬وشاعر‭ ‬مبتدئ،‭ ‬ربطت‭ ‬بينهما‭ ‬علاقة‭ ‬تشبه‭ ‬علاقة‭ ‬مريد‭ ‬بشيخه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬نيرودا‭ ‬سخيًا‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬ساعي‭ ‬البريد،‭ ‬متفهمًا‭ ‬لبساطته‭ ‬وعمقه،‭ ‬وحريصًا‭ ‬على‭ ‬إشباع‭ ‬فضوله‭ ‬غير‭ ‬المحدود‭. ‬وكان‭ ‬ماريو،‭ ‬من‭ ‬جهته،‭ ‬يشعر‭ ‬باحترام‭ ‬عميق‭ ‬تجاه‭ ‬معلمه‭ ‬ويحس‭ ‬بأن‭ ‬رؤيته‭ ‬للوجود‭ ‬تتغير‭ ‬وتصبح‭ ‬أكثر‭ ‬ثراء،‭ ‬وكان‭ ‬يشعر‭ ‬بأن‭ ‬التصاقه‭ ‬بنيرودا‭ ‬يتخذ‭ ‬أحيانًا‭ ‬طابع‭ ‬الإزعاج،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنه‭ ‬اخلال‭ ‬شهرين‭ ‬لم‭ ‬يستطع،‭ ‬بحساباته‭ ‬الطيبة،‭ ‬أن‭ ‬يتجنب‭ ‬الإحساس‭ ‬بأنه‭ ‬كلما‭ ‬قرع‭ ‬الجرس‭ ‬يغتال‭ ‬وحي‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬متأهبًا‭ ‬لاقتراف‭ ‬أشعار‭ ‬عبقريةب‭ (‬ص19‭). ‬وبدا‭ ‬له‭ ‬بوضوح‭ ‬أن‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬محيطه‭ ‬لم‭ ‬تعد،‭ ‬البتة،‭ ‬كما‭ ‬كانت،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬يستشعر‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تأويل‭ ‬الاستعارات‭ ‬وإضاءة‭ ‬مختلف‭ ‬إيحاءاتها‭ ‬بتلقائية‭ ‬محببة‭ ‬جعلته‭ ‬يطرح،‭ ‬ذات‭ ‬حوار،‭ ‬سؤالًا‭ ‬استوقف‭ ‬نيرودا‭ ‬بقوة‭: ‬اهل‭ ‬تعتقد‭ ‬حضرتك‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬هو‭ ‬استعارة‭ ‬لشيء‭ ‬آخر؟ب‭ (‬ص27‭). ‬وانتقل‭ ‬ماريو،‭ ‬ودهشته‭ ‬لا‭ ‬تفارقه،‭ ‬إلى‭ ‬طور‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬طور‭ ‬محاولة‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬وإنتاج‭ ‬استعارات‭ ‬ومجازات‭. ‬وبعد‭ ‬لقاءات‭ ‬وحوارات‭ ‬مع‭ ‬صاحب‭ ‬االنشيد‭ ‬العامب،‭ ‬أصبح‭ ‬الأمر‭ ‬واضحًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭: ‬اأحب‭ ‬أن‭ ‬أصير‭ ‬شاعرًاب‭ (‬ص24‭). ‬كما‭ ‬أن‭ ‬وضعه‭ ‬الاعتباري‭ ‬الجديد،‭ ‬بصفته‭ ‬مشروع‭ ‬شاعر‭ ‬وصديق‭ ‬شاعر‭ ‬مرموق،‭ ‬بدأ‭ ‬يسمح‭ ‬له،‭ ‬بل‭ ‬ويفرض‭ ‬عليه،‭ ‬أن‭ ‬يتدخل‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭ ‬ويدلي‭ ‬بوجهة‭ ‬نظره‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬تهم‭ ‬قريته‭ ‬وأوضاعها‭.‬

ثم‭ ‬إن‭ ‬ماريو،‭ ‬رغم‭ ‬هشاشته‭ ‬الظاهرية،‭ ‬كان‭ ‬متعلقًا‭ ‬بالحياة،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يهيم‭ ‬هيامًا‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬له‭ ‬بمعشوقته‭ ‬بياثريث‭. ‬وهذا‭ ‬العشق‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬ذريعته‭ ‬للاقتران‭ ‬بنيرودا‭ ‬وتوطيد‭ ‬علاقته‭ ‬به‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬باستمرار‭ ‬المعونة‭ ‬والمشورة‭ ‬لكي‭ ‬يفوز‭ ‬بقلب‭ ‬تلك‭ ‬النادلة‭ ‬الشابة‭ ‬والفاتنة،‭ ‬ولم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يقترح‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يقايض‭ ‬خدماته‭ ‬له‭ ‬ببضع‭ ‬قصائد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭: ‬اإذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هنالك‭ ‬إزعاج‭ ‬كبير،‭ ‬فإني‭ ‬أفضل‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬لي‭ ‬قصيدة‭ ‬عن‭ ‬بياثريث‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تعطيني‭ ‬نقودًاب‭ (‬ص38‭). ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬نيرودا‭ ‬مساعدًا‭ ‬له،‭ ‬بالمعنى‭ ‬الغريماسي،‭ ‬ومستشاره‭ ‬إذ‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬تكلف‭ ‬بالتفاوض‭ ‬مع‭ ‬الحماة‭ ‬المندفعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مقتنعة‭ ‬بخطورة‭ ‬حقيقة‭ ‬تعتبرها‭ ‬كونية‭: ‬اليس‭ ‬هناك‭ ‬مخدر‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬الكلام‭. ‬إنه‭ ‬يجعل‭ ‬نادلة‭ ‬حانة‭ ‬ريفية‭ ‬تشعر‭ ‬كأنها‭ ‬أميرة‭ ‬فينيسيةب‭ (‬ص56‭). ‬وتلك‭ ‬الاستعارات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ماريو‭ ‬يواجه‭ ‬بها‭ ‬جمال‭ ‬معشوقته‭ ‬الكاسح‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تمت‭ ‬استعارتها‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬لنيرودا،‭ ‬الذي‭ ‬عاتبه‭ ‬مرة‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬استعمل‭ ‬قصيدة‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬مهداة‭ ‬لزوجته‭ ‬ماتيلدي،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ماريو‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أجابه‭ ‬بكل‭ ‬ثقة،‭ ‬قائلًا‭: ‬االشعر‭ ‬ليس‭ ‬ملك‭ ‬من‭ ‬يكتبه،‭ ‬وإنما‭ ‬ملك‭ ‬من‭ ‬يستخدمهب‭ (‬ص78‭). ‬ورغم‭ ‬تأففه‭ ‬أحيانًا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نيرودا‭ ‬منح‭ ‬لموضوع‭ ‬غراميات‭ ‬ماريو‭ ‬أهمية‭ ‬بالغة،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنه‭ ‬صنفها‭ ‬مرة،‭ ‬بمرح،‭ ‬ضمن‭ ‬قضايا‭ ‬الدولة‭ ‬المستعجلة‭.‬

ويمكن‭ ‬تسجيل‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬مقتصدة‭ ‬في‭ ‬وصفها‭ ‬وحواراتها‭ ‬وكأن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بقصيدة‭ ‬لا‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نحذف‭ ‬منها‭ ‬أي‭ ‬كلمة،‭ ‬فالبناء‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬متراص‭ ‬بشكل‭ ‬متقن‭ ‬ويعتمد‭ ‬وضوحًا‭ ‬مربكًا،‭ ‬ونستشعر‭ ‬في‭ ‬ثناياه‭ ‬نفسًا‭ ‬رومانسيًا‭ ‬جليًا،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بعواطف‭ ‬الشخصيات‭ ‬وأحلامهم‭ ‬واستيهاماتهم،‭ ‬ويتم‭ ‬استثمار‭ ‬البحر‭ ‬بإيحاءاته‭ ‬الغنية‭ ‬وبنمط‭ ‬العيش‭ ‬الذي‭ ‬يفرضه،‭ ‬فأصبح‭ ‬بذلك‭ ‬فاعلًا‭ ‬محوريًا‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬ومحاورًا‭ (‬بفتح‭ ‬الواو‭) ‬أساسيًا،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬نيرودا‭ ‬نفسه،‭ ‬ذات‭ ‬غياب،‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬ماريو‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬إليه‭ ‬أجواء‭ ‬الجزيرة‭ ‬وتفردها‭: ‬اأريدك‭ ‬أن‭ ‬تتمشى‭ ‬بآلة‭ ‬التسجيل‭ ‬هاته‭ ‬في‭ (‬إيسلانيكرا‭) ‬وتسجل‭ ‬لي‭ ‬كل‭ ‬الأصوات‭ ‬التي‭ ‬تجدها‭ (...) ‬إنني‭ ‬أفتقد‭ ‬البحر‭. ‬أفتقد‭ ‬العصافير‭. ‬ابعث‭ ‬لي‭ ‬بأصوات‭ ‬بيتي‭. ‬ادخل‭ ‬إلى‭ ‬الحديقة‭ ‬واقرع‭ ‬الأجراسب‭ (‬ص100‭). ‬ومما‭ ‬يقوي‭ ‬الملمح‭ ‬الرومانسي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الموضوعات‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬اختار‭ ‬إضاءتها،‭ ‬مثل‭ ‬العشق‭ ‬والحزن‭ ‬والحنين‭ ‬والصداقة‭ ‬والمرض‭ ‬والموت‭ ‬والإحساس‭ ‬بالعجز،‭ ‬وثنائية‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬الأبدية،‭ ‬والاحتفاء‭ ‬بالشعر‭ ‬باعتباره‭ ‬حرية‭ ‬ودفاعًا‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬وكأن‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شاعرًا‭. ‬

 

معطيات‭ ‬ووقائع

وبهذه‭ ‬الرواية‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المعطيات‭ ‬والوقائع‭ ‬التي‭ ‬يسهل‭ ‬التحقق‭ ‬من‭ ‬وجودها‭ ‬ومن‭ ‬وقوعها،‭ ‬مثل‭ ‬فوز‭ ‬سلفادور‭ ‬أييندي‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬رئاسية‭: ‬افي‭ ‬ليلة‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬أيلول‭ ‬تناقل‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭ ‬خبرًا‭ ‬مدوخًا‭: ‬لقد‭ ‬كسب‭ ‬سلفادور‭ ‬أييندي‭ ‬الانتخابات‭ ‬في‭ ‬التشيلي‭. ‬إنه‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬ماركسي‭ ‬ينتخب‭ ‬بالتصويت‭ ‬الديمقراطيب‭ (‬ص80‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬فوز‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬أو‭ ‬تقلده‭ ‬منصب‭ ‬سفارة‭ ‬بلده‭ ‬بباريس‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬يكون‭ ‬أحيانًا‭ ‬جاحدًا‭ ‬ويسقط‭ ‬من‭ ‬تدويناته،‭ ‬في‭ ‬لامبالاة‭ ‬جارحة،‭ ‬أشياء‭ ‬كانت‭ ‬تبدو‭ ‬هي‭ ‬مركز‭ ‬العالم‭. ‬هكذا‭ ‬لم‭ ‬يتذكر‭ ‬أحد‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬قصيدة‭ ‬ماريو‭ ‬قد‭ ‬نشرت‭ ‬أو‭ ‬أعدت‭ ‬للنشر‭ ‬بإحدى‭ ‬المجلات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬بالشيلي،‭ ‬ولم‭ ‬تشفع‭ ‬له‭ ‬غرابة‭ ‬عنوان‭ ‬قصيدته‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تذكر‭ ‬اسمه‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬كأحد‭ ‬المتنافسين‭ ‬على‭ ‬نيل‭ ‬إحدى‭ ‬الجوائز‭. ‬والأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬اختطافه‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬نيرودا‭ ‬والانقلاب‭ ‬ضد‭ ‬أييندي،‭ ‬وتم‭ ‬إيداعه‭ ‬أحد‭ ‬السجون‭ ‬السرية،‭ ‬وظلت‭ ‬بياثريث،‭ ‬زوجته‭ ‬وأم‭ ‬ابنه‭ ‬الوحيد،‭ ‬تبحث‭ ‬عنه‭ ‬وتتسقط‭ ‬أخباره‭ ‬كما‭ ‬أخبرنا‭ ‬الصحفي‭ ‬المحبط‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬الرواية‭.‬

‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬يتضمن‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬فكرة‭ ‬الاقتسام،‭ ‬وكما‭ ‬اقتسم‭ ‬نيرودا‭ ‬مع‭ ‬تلميذه‭ ‬مهارات‭ ‬وخبرة‭ ‬نفيسة،‭ ‬فإن‭ ‬ماريو‭ ‬قد‭ ‬غامر‭ ‬بنفسه‭ ‬وجازف‭ ‬بحريته‭ ‬وحياته،‭ ‬وحفظ‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬برقيات‭ ‬أرسلت‭ ‬لنيرودا‭ ‬ليقرأها‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يتخطى‭ ‬حصار‭ ‬العسكر‭ ‬ويزوره‭ ‬بمنزله‭. ‬وكان‭ ‬نيرودا‭ ‬يشعر‭ ‬بالحسرة‭ ‬وهو‭ ‬يحتضر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬مريضًا‭ ‬ومنهكًا‭. ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬إنسانية‭ ‬بالغة‭ ‬السخاء‭ ‬والنبل،‭ ‬واعترافًا‭ ‬منه‭ ‬بالعمق‭ ‬الإنساني‭ ‬والشاعري‭ ‬لساعي‭ ‬البريد‭ ‬ناداه‭ ‬نيرودا‭ ‬وكأنه‭ ‬يقوم‭ ‬بتعميده‭: ‬اأعطني‭ ‬استعارة‭ ‬كي‭ ‬أموت‭ ‬مطمئنًا‭ ‬يا‭ ‬فتىب‭ (‬ص138‭). ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ماريو‭ ‬لم‭ ‬تتح‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بهذا‭ ‬الاعتراف‭ ‬الباذخ،‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬العسكر‭ ‬واقتادوه‭ ‬لسجن‭ ‬سري‭ ‬تنفيذًا‭ ‬لـاإجراء‭ ‬روتينيب‭ (‬ص144‭)‬،‭ ‬وكأن‭ ‬هذا‭ ‬الرهان،‭ ‬رهان‭ ‬ماريو‭ ‬لسبر‭ ‬جوهر‭ ‬الوجود،‭ ‬ممتطيًا‭ ‬صهوة‭ ‬الشعر‭ ‬للانخراط‭ ‬بمسؤولية‭ ‬في‭ ‬رهانات‭ ‬اليوم‭ ‬المتشابكة،‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬محفوفة‭ ‬بمخاطر‭ ‬رهيبة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تجعلنا‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬للخسارات‭ ‬أيضا‭ ‬مجدها‭ ‬وألقها■‬

بابلو‭ ‬نيرودا

أنطونيو‭ ‬سكارميتا