تريد ديوان شعر ولا تُسمّي صاحبه؟

تريد ديوان شعر ولا تُسمّي صاحبه؟

سخر‭ ‬الشاعر‭ ‬نقولا‭ ‬فياض‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬دخل‭ ‬يومًا‭ ‬إحدى‭ ‬مكتبات‭ ‬بيروت‭ ‬في‭ ‬الأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬صاحبها‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭. ‬فقال‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭: ‬تريد‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭ ‬ولا‭ ‬تسمي‭ ‬صاحبه؟‭ ‬قال‭ ‬الرجل‭: ‬تختاره‭ ‬أنت‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬ذوقك‭.‬

روى‭ ‬نقولا‭ ‬فياض‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬أمامه‭ ‬لزميله‭ ‬الشاعر‭ ‬أمين‭ ‬نخلة،‭ ‬قائلًا‭ ‬له‭ ‬وهو‭ ‬يتميز‭ ‬من‭ ‬الغيظ‭: ‬أفهمت؟‭ ‬يريد‭ ‬صاحبنا‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬ذوق‭ ‬بائع‭ ‬الكتب‭. ‬فيجيب‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬كما‭ ‬روى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬افي‭ ‬الهواء‭ ‬الطلقب‭: ‬نعم‭ ‬فهمت،‭ ‬فمالك‭ ‬تصبّ‭ ‬غضبك‭ ‬عليّ‭ ‬أنا؟

الحكاية‭ ‬ذات‭ ‬مغزى،‭ ‬وكان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يواجهها‭ ‬الشاعران‭ ‬بغير‭ ‬ما‭ ‬واجهاها‭ ‬به‭. ‬نظر‭ ‬فياض‭ ‬إلى‭ ‬الرجل‭ ‬نظرة‭ ‬استعلائية‭ ‬وسخر‭ ‬من‭ ‬جهله،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يبادر‭ ‬إلى‭ ‬مساعدة‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬اختيار‭ ‬ديوان،‭ ‬وأن‭ ‬يدفع‭ ‬من‭ ‬جيبه‭ ‬ثمنه‭ ‬تحية‭ ‬للرجل،‭ ‬وينتهي‭ ‬الأمر‭ ‬عندها‭. ‬ولكنه‭ ‬حمل‭ ‬الخبر‭ ‬إلى‭ ‬زميل‭ ‬له‭ ‬كما‭ ‬حمل‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬وصاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬الجاهلين‭ ‬بنظره‭. ‬أما‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬فآثر‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬الحكاية‭ ‬على‭ ‬التعليق‭ ‬عليها،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬جديرًا‭ ‬بالانحياز‭ ‬إلى‭ ‬القروي‭ ‬صراحةً‭ ‬والدفاع‭ ‬عنه‭. ‬وسكوته‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬المشين‭ ‬لفياض‭ ‬يدينه‭ ‬ويلحقه‭ ‬به‭.‬

قروي‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬الريف،‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬ذو‭ ‬حظ‭ ‬ضئيل‭ ‬من‭ ‬التعليم،‭ ‬وقرأ‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬وما‭ ‬يسمعه‭ ‬في‭ ‬مجالسه‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬جوهرة‭ ‬الثقافة‭ ‬وأن‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬ما‭ ‬أمكنه‭ ‬منه،‭ ‬فرغب‭ ‬باقتناء‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭. ‬وعندما‭ ‬زار‭ ‬المدينة‭ ‬عرّج‭ ‬على‭ ‬مكتبة‭ ‬وأوكل‭ ‬أمر‭ ‬اختيار‭ ‬الديوان‭ ‬إلى‭ ‬صاحبها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬خبرته‭ ‬بالكتب‭. ‬فهل‭ ‬يستحق‭ ‬السخرية‭ ‬أم‭ ‬التنويه‭ ‬كظاهرة‭ ‬من‭ ‬ظواهر‭ ‬تفتح‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬كانت‭ ‬يومها‭ ‬ناهضة‭ ‬ومتطلعة‭ ‬إلى‭ ‬غد‭ ‬أفضل؟

مع‭ ‬الأسف‭ ‬انقرض‭ ‬هذا‭ ‬القروي‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬اليوم‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يشيع،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬المكتبات‭ ‬تستقبل‭ ‬مثله‭. ‬لكن‭ ‬المؤسف‭ ‬أكثر‭ ‬أن‭ ‬المكتبات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تستقبل،‭ ‬إلا‭ ‬نادرًا،‭ ‬آخرين‭ ‬يفترض‭ ‬أنها‭ ‬فتحت‭ ‬أبوابها‭ ‬لاستقبالهم،‭ ‬أي‭ ‬المثقفين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الفئات‭. ‬وبسبب‭ ‬ضآلة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرماد،‭ ‬أغلق‭ ‬قسم‭ ‬كبير‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬أيضًا،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬تطبع‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬3000‭ ‬نسخة،‭ ‬فباتت‭ ‬تطبع‭ ‬اليوم‭ ‬500‭. ‬وحتى‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬الضئيل‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬تصريفه‭ ‬بسهولة‭.‬

أخطأ‭ ‬نقولا‭ ‬فياض‭ ‬في‭ ‬موقفه‭ ‬الاستعلائي‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬راغب‭ ‬باقتناء‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭ ‬يختاره‭ ‬له‭ ‬صاحب‭ ‬مكتبة،‭ ‬وأخطأ‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬عندما‭ ‬لم‭ ‬يزجر‭ ‬فياضاً‭ ‬على‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬محب‭ ‬للشعر‭ ‬لو‭ ‬عرفت‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬لوهبته‭ ‬كل‭ ‬دواوين‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬مكتبتي‭. ‬ولكنه‭ ‬زال‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬كما‭ ‬أرجّح،‭ ‬وزالت‭ ‬معه‭ ‬ظواهر‭ ‬ثقافية‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬مدننا‭ ‬وأريافنا‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬قيم‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تتحكم‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬زمن‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬ونقولا‭ ‬فياض،‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬للنخبة‭ ‬لا‭ ‬للعامة،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬القيم‭ ‬الجديرة،‭ ‬ومنها‭ ‬الحق‭ ‬بالثقافة‭ ‬والترحيب‭ ‬بمن‭ ‬يسعى‭ ‬لامتلاكها،‭ ‬قد‭ ‬سادت‭ ‬بعد،‭ ‬كما‭ ‬يفترض‭ ‬أنها‭ ‬تسود‭ ‬اليوم‭ ‬