ساحة 11 سبتمبر انعكاس الغَيْبة في «الأرض صِفْر»

ساحة 11 سبتمبر  انعكاس الغَيْبة في «الأرض صِفْر»

 في المنطقة المالية من مدينة نيويورك، المعروفة بمانهاتن الصغرى، وقفت مستغرقًا النظر إلى حوض مائي مربّع كبير محاط بالزوار من كل جانب، تتدفق من جميع جوانبه الحائطية مياه تصب على شكل انسيابي متناغم، تطلق صوت شلاَّل متدفق هادر يسبغ نوعًا من السكينة والوقار وسط هذا المكان المزدحم الصاخب من مانهاتن، وتتابع هذه المياه المتدفقة المتناغمة في مجراها الصناعي المرسوم، حتى تصل إلى مركز القاع لتصبّ في حوض مربّع صغير، لتغادر إلى مسار مجهول، وكأنها تذهب لتغذي نهرًا جارفًا يصب في الأعماق الدفينة لهذا الحوض، لتصل إلى أناسٍ غادروا دنيانا دون أن تكون لهم أدنى فرصة لمعرفة سبب مغادرتها. 

توجد على سطح الجوانب المحيطة بذلك الحوض، التي ترتفع مسافة تقارب المتر عن المكان الذي أقف عليه، ألواح من معدن البرونز منقوش عليها أسماء هؤلاء الأشخاص، والناس المحيطون بهذا الحوض ينظرون إلى الماء المتدفق في سكون وتأمّل ووقار.
 هذا الحوض هو جزء من النصب التذكاري الذي سُمِّي بانعكاس الغَيْبة، الذي نصب على المكان الذين كانت تقف عليه ناطحة السحاب المعروفة بالبرج الشمالي، والذي صار يُعرف بـ «بصمة البرج الشمالي»، الذي كان يشكّل مع البرج الجنوبي (الذي نُصب على بصمته حوض مماثل) ما كان يُعرف بمركز التجارة العالمي، حيث اصطدمت بهما طائرتان مدنيتان مختطفتان تحملان ركابًا، الأولى كانت من طراز بوينغ 767 تابعة لخطوط طيران الأمريكان، واصطدمت بالبرج الشمالي عند الساعة الثامنة و46 دقيقة صباحًا، والثانية من طراز بوينج 767 تابعة لخطوط طيران اليونايتد، واصطدمت بالبرج الجنوبي عند الساعة التاسعة ودقيقتين من صباح يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، الذي أصبح أشهر أيام القرن الجديد.
وقد أدى ذلك إلى انهيار البرج الجنوبي عند الساعة 9:59 صباحًا، وبعد ذلك بقليل، أي عند الساعة 10:28 انهار البرج الشمالي. 
كان المنظر كئيبًا، والناس تنظر إلى هذه المقبرة الجماعية التي لم يستدلّ فيها على آثار بقايا 1113 ضحية قضوا في كلا البرجين، ودُفنوا في سابر أعماقه التي ظلت متوقدة بعد الحادث مدة 5 أشهر.
قُتل في مركز التجارة العالمي في ذلك اليوم العصيب 2753 شخصًا، بسبب القلق، من ضمنهم 372 ينتمون إلى جنسيات أكثر من 90 دولة ممن كانوا يعملون في الشركات والمنظمات التي اتّخذت من مركز التجارة العالمي مقرًا لها.
وقد كان المجموع الكامل لضحايا ذلك اليوم 2977 ضحية في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا، حيث اصطدمت طائرة مختطفة أخرى تابعة لخطوط طيران الأمريكان بالجانب الغربي لمبنى البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) بمحاذاة العاصمة واشنطن عند الساعة 9:37 صباحًا، إضافة إلى ضحايا طائرة مختطفة أخرى تابعة لخطوط اليونايتد (رحلة رقم 193)، والتي سقطت في منطقة شانكفيل النائية بولاية بنسلفانيا عند الساعة 10:02 صباحًا، قبل أن تصل إلى المكان المستهدف في واشنطن العاصمة، بعد محاولة بعض ركابها استعادة السيطرة على مقصورة القيادة بالقوة من الخاطفين الذين تعمّدوا إسقاطها. 

الزيارة الأولى
تذكرت وأنا أتأمل داخل الحوض، زيارتي الخاطفة الأولى إلى هذا المكان قبل 30 عامًا، حيث سكنت بالقرب من مركز التجارة العالمي، وكنت توّاقًا لمشاهدة معالم مدينة نيويورك، أكبر مدينة أمريكية من حيث عدد السكان، فهي المدينة التي لا تنام، والمعروفة بمناطق الجذب المشهورة، فقد كنت مشغوفًا بزيارة «وول ستريت»، الذي يقع على بُعد ميل واحد فقط من مركز التجارة العالمي، ويحوي بورصة نيويورك، أشهر بورصات العالم، وأتذكّر أنني قرأت في فترة ثمانينيات القرن الماضي استطلاعًا مصورًا في مجلة العربي بعنوان «نيويورك... تفاحة عسيرة الهضم»، نسبة إلى لقب التفاحة الكبيرة الذي يطلق على مدينة نيويورك. 
وأتذكر تمامًا أن المُستطلِع تساءل وهو يسير في شارع وول ستريت أمام بورصة نيويورك عن وضع ذلك الشارع يوم 29 أكتوبر 1929، الذي شهد الانهيار التاريخي لبورصة نيويورك، والذي حدثت على أثره فترة الكساد الكبير الذي شلّ اقتصاد أمريكا حتى خرجت منه بعد الحرب العالمية الثانية.
يوجد في «وول ستريت» كذلك القاعة الفدرالية التي شهدت أداء الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن اليمين الدستورية يوم 30 أبريل 1789. وأتذكّر أنني توجهت بعد ذلك إلى المعالم المختلفة بمدينة نيويورك؛ الحيّ الصيني والقرية الإيطالية وناطحة السحاب إمباير استيت، التي ظلت أطول ناطحة سحاب في العالم منذ عام 1931 وحتى عام 1972، حيث تم الانتهاء من بناء مركز التجارة العالمي. 
ودلفت خلال تلك الزيارة إلى الأماكن المشهورة الأخرى في مدينة نيويورك، مثل تمثال الحرية ومبنى الأمم المتحدة، وحيّ هارلم الشهير والجادة الخامسة، الذي يعتبر أغنى شارع في العالم، لارتفاع قيمة العقارات فيه، ويظهر في تلك الجادة برج ترامب المملوك للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو يطل مباشرة على حديقة سنترال بارك، التي ظهرت مناظرها في كثير من أفلام «هوليوود»، وهي محاطة بكثير من المتاحف، وهذه الحديقة لا تبعد سوى كيلومترات معدودة عن الـ «تايم سكوير»، مكان المسارح والأسواق والحفلات بوسط مدينة نيويورك.
انتهت رحلتي ولم أجد الوقت الكافي لأدخل مركز التجارة العالمي، الذي كنت أمرّ بجانبه في حلّي وترحالي من الفندق الذين أقمت فيه خلال تلك الزيارة القصيرة.

مليارا مشاهد
في يوم 11 سبتمبر 2001، كنت بمدينة الكويت، وتابعت عبر القنوات الإخبارية ذلك الحدث المرعب، الذي قُدّر عدد متابعيه بنحو ملياري مشاهد حول العالم. وأتذكّر أنني لم أستطع يومها استيعاب خبر انهيار البرجين الشمالي والجنوبي مع خمسة مبانٍ مجاورة صغيرة، تشكّل في مجموعها ما كان يُعرف بمركز التجارة العالمي.
صمّم مركز التجارة العالمي المهندس مينورا يامازاكي عام 1964، وبنته هيئة موانئ نيويورك ونيوجيرسي، بدعم من حاكم نيويورك آنذاك نيلسون روكفلر.
شغل المركز 16 فدانًا في منطقة منهاتن، كل من البرج الشمالي الذي كان يعلوه الهوائي والبرج الجنوبي يرتفع مسافة 541 مترًا بعدد 110 أدوار لكلّ منهما، وقد شكَّلا أطول ناطحة سحاب في العالم لأكثر من عقدين من الزمان، ويبلغ مجموع النوافذ في كلا البرجين نحو 43600 بعرض 22 بوصة لكل نافذة، وقد أعطت بعدًا معماريًا خلّاقًا للبرجين المتوائمين.
 معظم أدوار البرجين كانت مكاتب لشركات ومنظمات حكومية عمل بها ما يقرب من 50 ألف موظف، وكان الطابقان 106 و107 من البرج الشمالي مكانًا لمطعم مشهور يسمّى نافذة العالم، حيث كان يستضيف مؤتمرات وحفلات زواج، في حين كان الدور 107 من البرج الجنوبي مرصدًا سياحيًا لما يقرب من مليوني زائر سنويًا، يشاهدون من خلاله المعالم الرئيسة لمدينة نيويورك. وضع المصمم في حساباته الهندسية الاحتمالية بقدرة كل برج من البرجين على الصمود إذا اصطدمت به طائرة مدنية من طراز بوينج 707، التي كانت أكبر طائرة مدنية من حيث الحجم عند منتصف ستينيات القرن الماضي. 

الأرض صفر 
كانت ساحة 11 سبتمبر تسمّى بـ «الأرض صفر» بعد 11 سبتمبر 2001، وهذا مصطلح متعارَف عليه يُطلق على مكان بؤرة الكارثة. وقد عملت نيويورك بجدّ وعزيمة لكي تتخلص من ركام وأضرار ذلك الحادث الأليم، واستمر العمل في نقل حطام البرجين الذي قُدّر حجمه بنحو 1.8 مليون طن إلى جزيرة ستاتن جنوب مدينة نيويورك مدة 9 أشهر.
تم بعد ذلك الإعلان عن مسابقة لعمل تصميم خطة إنشائية أوّلية لعمل بناء في ساحة 11 سبتمبر يُخلِّد ذلك الحدث، وفي الوقت نفسه يستخدم لأعمال التجارة والاستثمار، كما كان يستخدم مركز التجارة العالمي.
تم تصفية 9 تصاميم من بين 406 تصاميم تقدّم بها مصممون من مختلف أنحاء العالم. وقد اطَّلع نحو 8 ملايين شخص على التصاميم المنتخبة من خلال شبكة الإنترنت، وأبدى بعضهم ملاحظات عليها، وتم اختيار التصميم الخاص بالمصمم دانييل ليسكند، الذي شمل بناء برج التجارة العالمي 1، أو برج الحريّة بجانب ناطحات سحاب مجاورة ونصب تذكاري ومتحف يخلّد آثار دمار مركز التجارة العالمي.
وقد أظهر التصميم برج الحرية وكأنه يرسل تحيّة إلى النصب التذكاري المُقام على بصمَتَي برجي مركز التجارة العالمي.

نصب تذكاري
تم الإعلان عن مسابقة عالمية أخرى لتصميم نصب تذكاري يُبنى على الأرض التي كان مشيدًا عليها برجا مركز التجارة العالمي.
في الخامس من يناير 2004 تم اختيار تصميم المهندس الشاب مايكل آراد من سكان مدينة نيويورك، والمسمى بانعكاس الغَيْبة، من بين 5201 تصميم تقدّم بها مصممون من 49 ولاية أمريكية و63 دولة، وتم تمويل بناء النصب التذكاري الذي قدّرت تكلفته بـ 350 مليون دولار من قبل بعض الشركات الكبيرة، وكذلك من مئات الآلاف من الأفراد المتبرعين في الـ 50 ولاية أمريكية، وكذلك من متبرعين آخرين ينتمون إلى 38 دولة. 
وقد روعي عند ترتيب كتابة أسماء ضحايا حادث 11 سبتمبر على الألواح البرونزية على سطح الجوانب المحيطة بالنصب التذكاري (الحوضين الخاصين ببصمة برجي مركز التجارة العالمي)، أن تكون مرتّبة حسب العلاقة التي كانت تربط بعض الضحايا، مثل علاقة قرابة أو علاقة عمل، فقد ذهب ضحية هذه الحادثة أُسر في كلتا الطائرتين، وموظفون من الشركة نفسها، فمثلًا شركة كانتور فتزجرالد للسمسرة فقدت 658 من موظفيها الـ 1000، كانت مكاتب الشركة تقع بين الطابقين 101 و105 من البرج الشمالي، وقد اصطدمت الطائرة المختطفة بالدور 93 من ذلك البرج. وكذلك تم وضع أسماء طاقم الطائرتين ورجال الإطفاء والشرطة الذين قضوا في تلك الحادثة بجانب بعضهم البعض. وقد أصبح من المعتاد مشاهدة أحد أقرباء أو أصدقاء الضحايا يضع وردة على مكان اسم الضحية في اللوح البرونزي عندما يزور النصب التذكاري.

لن ننسى أبدًا
تركت النصب التذكاري، ومشيت في جولة قصيرة بساحة 11 سبتمبر، مستنشقًا الهواء المنعش في ذلك الصباح المشمس بين أشجار البلوط التي كانت جزءًا من مشروع الساحة، حيث تم استزراع 416 شجرة متماثلة في أنحاء مختلفة منها. 
  شاهدت خلال المسير جدارية جميلة تعبّر عن جهود الإنقاذ التي قام بها رجال إطفاء مدينة نيويورك، الذين قضى منهم 343 يوم الحادث، وقد نُقِش عليها عبارة «ربما لن ننسى أبدًا». وشاهدت كذلك بروازًا يحمل صورًا صغيرة لـ 23 من رجال شرطة نيويورك، قتلوا يوم الحادث عندما كانوا يقومون بجهود الإنقاذ، وكذلك صور 241 آخرين ماتوا بسبب الأمراض التي أصيبوا بها نتيجة استنشاقهم غبار حطام البرجين. 
 استوقفتني بعد ذلك كنيسة سانت بول التي بُنيت قبل ما نحو 250 عامًا، والتي صلّى فيها الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن، وتقع على بُعد خطوات قليلة من مركز التجارة العالمي، حيث نجا المبنى ونوافذه بأعجوبة من أيّ أضرار في يوم الحادث بسبب الأشجار الكثيفة المحيطة به، والتي حمته من الركام الإسمنتي الكثيف المتساقط من البرجين. 
  وقد أصبحت هذه الكنيسة مكانًا لاستراحة العاملين خلال جهود الإنقاذ ونقل الحطام وإعادة البناء، حيث كان العاملون يتناولون فيها الطعام، ويجرون فيها الاجتماعات والمشاورات، ويتلقى بعضهم فيها العلاج من الجروح التي تعرّضوا لها. ذهبت بعد ذلك للتجول في أكبر مجمع تجاري بمدينة نيويورك، وستفيلد مركز التجارة العالمي، الذي شُيِّد بمحاذاة ساحة 11 سبتمبر، وافتتح عام 2016، فقد أضافت الساحة جذبًا سياحيًا مكثفًا إلى المنطقة المالية لمانهاتن.
قبل الشروع في الذهاب إلى برج الحرية أخذت فترة من الراحة، واشتريت شطيرة من الفلافل من إحدى عربات بيع الوجبات الغذائية الخفيفة المنتشرة في بعض أماكن الجذب، والتي تشتهر بها مدينة نيويورك.

مرصد العالم الواحد
صعدتُ بعد فترة انتظار قصيرة بالمصعد الهيدروليكي السريع إلى الدور المئة من برج الحريّة لرؤية المناظر الفريدة لمدينة نيويورك، والتي يمكن أن تصل مساحة الإبصار فيها إلى ما يزيد على 40 ميلًا إذا كانت الأجواء صافية.
هذا المكان من برج الحرية الذي يزوره مليونا زائر تقريبًا في العام يُعرف بمرصد العالم الواحد، حيث يمكن مشاهدة مناظر جميلة لمدينة نيويورك، ففي جهة الشمال تظهر المباني الطويلة لولاية نيوجرسي الصغيرة المجاورة لمدينة نيويورك، اللتين يفصل بينهما نهر هيدسون الذي يصبّ في خليج نيويورك، والذي ينفتح بدوره على المحيط الأطلسي غربًا، ويمكن الاستدلال على حدود المحيط الأطلسي من الجسر المشيَّد على نقطة تلاقي خليج نيويورك مع المحيط.
 ويمكن رؤية تمثال الحرية بوضوح، وهو يقع على جزيرة مرجانية صغيرة في خليج نيويورك، وكذلك جزيرة إيليس التي كانت بوابة الهجرة إلى العالم الجديد للمهاجرين عبر المحيط الأطلسي منذ عام 1882 وحتى عام 1954. 
  ومن جهة الشرق لمرصد العالم الواحد، يمكن رؤية الإمباير استيت مع ناطحات سحاب كثيرة وسط مانهاتن، وهي تشكّل أكبر كتلة إسمنتية في العالم ترمز إلى أكبر مركز مالي، الذي هو جزء من دولة يشكّل اقتصادها ثلث اقتصاد العالم، وهو ما دفع كثيرًا من الاقتصاديين إلى القول: «إذا عطست أمريكا أصيب بقية العالم بالزكام».
 في الجهة الجنوبية يظهر جسر بروكلين الشهير الذي يربط مانهاتن مع أكبر ضواحي مدينة نيويورك، بروكلين، التي يضاهي عددُ سكانها، الذي يبلغ مليونين وستمئة ألف، سكانَ مدينة شيكاغو ثالث مدن أمريكا من حيث عدد السكان. ومن الجهة نفسها يمكن مشاهدة بعض المباني البعيدة لضاحية كوينز التي يقع فيها مطار جون كنيدي الدولي.
بعد ذلك ذهبت إلى تجمُّع في الوسط لعدد من الزوار حول مرشد سياحي يقف أمام حلقة دائرية من الشاشات تسمّى الأزيز، تظهر فيها معالم مدينة نيويورك وفعالياتها. أفاد المرشد، خلال حديثه، بأن ارتفاع برج الحرية الذي كلّف بناؤه 4 مليارات دولار، والذي افتتح عام 2014 هو الارتفاع نفسه الذي كان عليه برجا مركز التجارة العالمي، الذي يعادل 1368 قدمًا. وإذا أضيف ارتفاع الهوائي على سطح البرج، فسيكون مجموع ارتفاعه 1776 قدمًا، إشارة إلى سنة استقلال الولايات المتحدة الأمريكية. 
وأضاف المرشد أن برج الحرية هو أطول برج بأمريكا في الوقت الحاضر، وسابع أعلى برج في العالم.

رواق المتحف
توجهت إلى المتحف الخاص بساحة 11 سبتمبر، الذي افتتح في 15 مايو 2014، ويقع بين بصمتي مركز التجارة العالمي، ويحتوي على مقتنيات خاصة بحطام البرجين. كان مدخل المتحف على شكل رواق زجاجي عاكس، ومكسُوًا بمعادن تم انتشالها من بقايا حطام البرج الشمالي، صمّمت هذا الرواق شركة نرويجية تسمى سنوهيتا.
 عند مدخل المتحف انضممت إلى مجموعة من الزوار تجمّعت حول مرشدة سياحية وزّعت سماعات عالية التقنية حتى نصطحبها في جولة إرشادية داخل المتحف. 
 في بداية الجولة دخلنا في ممر خافت الإضاءة تظهر فيه خريطة تبيّن أحداث يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بالمكان والساعة، وفي الوقت نفسه تُسمَع تسجيلات لأصوات نداءات واستغاثات من داخل البرجين في ذلك اليوم، ويشاهد على جانبي الممر شاشات تعرض صورًا تبيّن تعابير الرعب والذهول للمارة في الشوارع القريبة من البرجين. خُيِّل إليّ أن الإضاءة الخافتة والتسجيلات الصوتية تُشعِر الزوار بجوّ برجي التجارة العالمي بعد اصطدام الطائرتين، وأثناء فترة الإخلاء قبيل انهيارهما.
بعد ذلك توقّفنا عند أحد جانبي الممر، وألقت المرشدة كلمة جاء من ضمنها أن حدث الحادي عشر من سبتمبر، الذي استمر نحو 102 دقيقة منذ لحظة اصطدام الطائرة الأولى بالبرج الشمالي عند الساعة 8:46 صباحًا وحتى انهياره عند الساعة 10:28 نقطة تحوّل تاريخية. وأن مَن خَطط ونفّذ ذلك الحادث تنظيم القاعدة، وهذا الهجوم الإرهابي موجّه ضد العالم بكل مكوناته الإثنية والدينية، وقتل في هذا الحادث نحو ثلاثة آلاف في نيويورك و«البنتاجون» وشانكفيل، وبنسلفانيا. 

أول ضحية 
وتوفّي بعد ذلك كثيرون من سكان مدينة نيويورك ومن المنقذين الأوائل، والمقصود هنا رجال الإطفاء وشرطة مدينة نيويورك وشرطة الموانئ وغيرهم من المتطوعين الذين شاركوا في أعمال الإنقاذ، بسبب الإصابة بأمراض السرطان والقلب وضيق التنفس نتيجة استنشاق غبار ركام الحادث، حيث كانت مادة الإسبستوس من المواد المستخدمة في بناء مركز التجارة العالمي، والتي حُظرت عالميًا بعد ذلك لتأثيرها الصحي الضار على عمال البناء، فالغبار الناتج من انهيار البرجين انتقل في الأفق مسافة 165 ميلًا، وشوهد في 5 ولايات أمريكية. 
  ولفتت المرشدة إلى أن الأقدار لعبت دورًا كبيرًا في النجاة والممات للموجودين داخل البرجين وحولهما يوم الحادث، فأول ضحية من رجال الإطفاء وقعت نتيجة سقوط جثة عليه بالقرب من أحد البرجين، نتيجة إلقاء أحد الموجودين داخل البرج بنفسه من نافذة أحد الأدوار العلوية، هربًا من النيران والاختناق، وقُدّرت أعداد من لقوا حتفهم نتيجة القفز من الأدوار العليا في البرجين في ذلك اليوم الحزين بما يزيد على 200 شخص. وضربت مثلًا آخر برجل إطفاء يُدعى بريان كلارك، الذي كان في الدور الـ 84 وقت اصطدام الطائرة بالبرج الجنوبي، فقد تأهّب ليستخدم السلّم للخروج من المبنى، حدس غريب ألهمه للذهاب إلى الجهة المقابلة، لينزل من السلّم «أ»، وعَلِم بعد نجاته أنه لم ينجُ أحد استخدم سلّمًا غير السلّم «أ».
عند نهاية الممر وصلنا إلى شرفة كبيرة تطل على قاعة الأساس، والتي تقع في القبو الأسفل من مكان وقوفنا.

قاعة الأساس
نزلنا إلى قاعة الأساس، أي المكان الذي كان مشيدًا عليه جزء من أساسات بناء مركز التجارة العالمي. يوجد كثير من آثار برجي مركز التجارة العالمي في قاعة الأساس، أهمها الجدار الطيني والعمود الأخير وسلّم النجاة. الجدار الطيني، هو جدار ضمن أسس بناء المركز، والذي كان يعمل سدًّا منيعاً لمياه نهر هيدسون التي تجاور أساسات البناء، وقد كان القلق كبيرًا من أن ينهار هذا السدّ يوم الحادث وتغمر المياه منطقة مانهاتن الدنيا، إلّا أنه صمد. 
العمود الأخير هو أحد أعمدة أساسات البرج الجنوبي الذي عُثر عليه بين الركام محاطًا ببقايا بعض الجثث، وقد تم نقله إلى المتحف في احتفال مهيب، بطوله البالغ 36 قدمًا، والذي كان ملجأً عاطفيًا لبعض زوار أرض الصفر، ليتذكروا أحباءهم الذين قضوا يوم الحادث. وقد تلوّن العمود الأخير ببعض العبارات والمشاعر المكتوبة، وإن كان الرقم 343 ظاهرًا عليه بشكل واضح، نسبة إلى أعداد رجال إطفاء نيويورك الذين قضوا يوم الحادث، وكذلك الرقم 23، نسبةً إلى ضحايا رجال شرطة مدينة نيويورك، والرقم 37 إشارة إلى ضحايا رجال شرطة الموانئ. 
وعلى مسافة من العمود شاهدنا معدنًا نحاسيًّا مكعبًا يظهر عليه قليل من الانبعاجات، منصوبًا على قاعدة خشبية، وكان يمثّل أيقونة حفل الافتتاح الرسمي لمركز التجارة العالمي من قبل هيئة موانئ نيويورك ونيوجرسي؛ الجهة المالكة للمشروع في الرابع من أبريل عام 1973.

آخر صورة
ورافقنا المرشدة بعد ذلك إلى حائط عليه أوراق كثيرة ملصوقة، تظهر عليها معلومات وصور لأفراد مفقودين كانوا موجودين داخل البرجين يوم الحادث، ويُطلب ممن يعرف أيّ معلومات عنهم الاتصال بأرقام التليفونات الموضوعة. هذه الأوراق انتشرت بعد الحادث في مدينة نيويورك، خاصة بالمناطق المتاخمة لمنطقة مانهاتن الدنيا، وذكرت المرشدة أن عدد الذين تم إنقاذهم من بين حطام البرجين 18 مفقودًا فقط، آخرهم تم انتشاله عند منتصف اليوم التالي للحادث. 
تابعنا المرشدة حتى نزلنا إلى قبو آخر من خلال سُلّم متحرك نصب على جانبه ما تبقّى من سلّم النجاة، والذي كان أحد سلالم البرج الشمالي الذي صمد حتى انهيار البرج، ونجا من خلاله كثيرون.
وظهر على طول الحائط القريب من السلّم عبارة من الشعر الروماني كبيرة الحجم «لن يأتي يوم تُمحى ذكراك من الزمن»، وقد أحيطت تلك العبارة بسيراميك من اللون الأزرق بتناسق وبدرجات متفاوتة، وإن كان الساطع منها هو الغالب. 
ولفتت المرشدة إلى أن ذلك يرمز إلى صفاء السماء ونقاء الأجواء صباح يوم الحادث. انتقلنا من بعد ذلك إلى صورة معلّقة لمركز التجارة العالمي على أحد جدران القاعة ويظهر فيها جسر بروكلين، ومطبوعًا بجانبها الساعة 8:30 صباحًا، وأفادت المرشدة بأن هذه آخر صور التقطت للمركز من منطقة بروكلين قبل اصطدام الطائرة المختطفة الأولى بالبرج الشمالي بـ 16 دقيقة. 
ثم اتجهنا إلى أحد الأركان المثَّبت عليه قطاع حديدي كبير فيه انبعاجات كثيرة، وأشارت إلى أن هذا القطاع جزء من العمود الذي اصطدمت به الطائرة المختطفة بين الطابقين 93 و99 في البرج الشمالي.

ذكرى ستبقى فينا
يوجد في متحف 11/ 9 كثير من المقتنيات الأخرى، التي تصل إلى 2000، معظمها من ركام حطام البرجين، فقد شاهدنا محرّكًا لمصعد من مصاعد البرجين، وكان عددها في كل برج 99 مصعدًا، وشاهدنا كذلك جزءًا من الهوائي الذي كان يعلو البرج الشمالي، ولم يتبق سوى 5 في المئة من هيكله. 
ومن ثَمّ توجهنا إلى مشاهدة بعض الفنون التشكيلية التي عبّر فيها بعض الفنانين الأمريكيين عن الحدث بأشكال سريالية، وشاهدنا كذلك رسومًا تعبيرية لتلاميذ بعض المدارس الابتدائية، وإحداها كانت عبارة عن لوحة مستطيلة مزركشة برسوم متنوعة، يظهر عليها رسم برجي مركز التجارة العالمي ومبنى «البنتاجون» وتمثال الحرية ورجال الإطفاء والنّسر الأمريكي، وعبارات مرصوصة بين هذه الرسومات مثل: «لنبقى أقوياء» و«ليبارك الله أمريكا». 
يحتوي المتحف كذلك على مقتنيات خاصة لبعض من كانوا في دائرة الحدث، مثل ساعة يد لأحد ركاب طائرة اليونايتد رحلة 193، التي سقطت بمنطقة شانكفيل في بنسلفانيا، وكذلك ربطة رأس لمتطوع يُدعى ويلس كراوثر، وقد لقي حتفه يوم الحادث في البرج الجنوبي، بعد أن تطوّع بجهود الإنقاذ، وأيضًا حذاء نسائي ذي كعب طويل لموظفة تدعى فلورانس جونز كانت موجودة مباشرة في طابق أسفل الطابق الذي اصطدمت به الطائرة المختطفة بالبرج الجنوبي، واتجهت من هول الصدمة إلى أقرب سلّم طوارئ، وأثناء النزول وجدت أن الحذاء يعيق حركتها فتخلّصت منه، ومن ثم قام مديرها الذي كان ينزل خلفها من السلّم نفسه بالتقاط حذائها حتى نجاتهما إلى خارج البرج قُبيْل انهياره. 
بعد ذلك ودّعتنا المرشدة بكلمة مختصرة عبّرت خلالها عن امتنانها لزيارتنا متحف 11 سبتمبر، الذي هو جهد مشترك لأهل مدينة نيويورك والشعب الأمريكي بمساعدة بقية دول العالم، لتخليد ذكرى ذلك اليوم الأليم.
 وأشارت إلى قول مدير شركة كانتور فتزجرالد: هوارد لوتنك، التي قتل معظم موظفيها يوم الحادث: «11 سبتمبر أصبح جزءًا منّي، وجزءًا من الشعب الأمريكي، هل سنتجاوزه؟، الجواب نعم... لكنها ذكرى ستبقى فينا».

دَع النّهر يجري
اتجهت بعد ذلك إلى قاعة جانبية، فوجدت جدرانها مغطاة بصور ضحايا الحادث، بمن فيهم ضحايا تحطّم الجانب الغربي من «البنتاجون» وضحايا طائرة اليونايتد التي سقطت في منطقة شانكفيل، وقد كانت إضاءة القاعة خافتة، وتظهر فيها شاشة كبيرة يُستعرض فيها فيديوهات لسِيَر ذاتية مختصرة للأشخاص الذين قضوا في تلك الحادثة، يظهر الفيديو تاريخ الميلاد للضحية والمدرسة التي تخرّج فيها، والشركة التي كان يعمل فيها ولقطات خاصة مع أسرته أو مع زملائه في العمل.
تنتشر في وسط القاعة شاشات تفاعلية صغيرة على محيط طاولات مستطيلة تظهر عليها صور الضحايا وأسماؤهم، وفور الضغط على الزرّ الخاص بصورة الضحية يظهر الفيديو الخاص بسيرته الذاتية المختصرة، وقد لاحظت أن تواريخ الميلاد لمعظم الضحايا الذين اطّلعت على سيرهم الذاتية كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. الجو العام للقاعة جو عزاء، وكان الصمت والسكون يخيمان عليها، والتصوير ممنوع فيها.
قبل خروجي من المتحف وجدت طابورًا من الزوار ينتظرون دورهم خارج قاعة سينمائية صغيرة يُعرض فيها فيلم وثائقي عن مراحل بناء ساحة 11 سبتمبر، وأثناء فترة الانتظار، لاحظت وجود شاشة معلّقة تستعرض لقطات سريعة لبعض أفلام هوليوود التي ظهر فيها مركز التجارة العالمي، وأحد هذه الأفلام كان فيلم «الفتاة العاملة»، وهو بطولة هاريسون فورد وميلاني غريفيث، وإخراج مايك نيكولاس، وإنتاج عام 1988، ظهرت لقطة مقدّمة الفيلم التي يظهر فيها مركب نهري ينقل السياح بين تمثال الحرية في خليج نيويورك ومنطقة مانهاتن الدنيا بإطلالة واضحة لبرجي مركز التجارة العالمي، بمصاحبة أغنية «دع النهر يجري»، كتبت كلمات تلك الأغنية وغنّتها المطربة كارلي سايمون، وجاء فيها:
دع النهر يجري
دع أحلام الحالمين توقظ الأمة
تعالي يا قدسنا الجديدة
المدن الفضية ترقى وترتفع
وأنوار الصباح على شوارعها ستسطع
وستشدو صافراتها بالأغاني الجميلة ■

الأزيز وبجانبه المرشد السياحي وسط مرصد العالم الواحد

مبنى برج الحرية

العمود الاخير والجدار الطيني في قاعة الأساس