الكويت بلاد تطلب المعالي

الكويت بلاد تطلب المعالي

في فبراير تفرح الكويت بأعيادها ويفرح معها كل من يحبها، في فبراير تزهو الكويت بأجمل الثياب ابتهاجًا بمناسبتين غاليتين، الاستقلال والتحرير، وأخيرًا في فبراير تجدد الكويت عهود المحبة والصداقة والانفتاح على جيرانها ومحيطها العربي والإسلامي والأصدقاء في جميع أرجاء العالم، مؤكدة على هويتها العربية والإسلامية، متطلعة لحياة مليئة بالتفاعل مع المجتمع الدولي كحمامة سلام وفاعل خير لا يطلب في عالم السياسة المتقلب أي مقابل.
لقد قدمت الكويت للعالم الحديث مثالًا لحقيقة أن المساحة، أي مساحة الدول، ليست شرطًا أساسيًا في عملية التأثير، وأن المال وحده لا يصنع الإبداع، لكنه يساهم في نشره وإبرازه.

لقد أدركت الكويت باكرًا مفهوم القوة الناعمة، الذي تبلور بشكل واضح قبل ثلاثة عقود على يد أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد, جوزيف ناي، الذي أصدر كتابين حول هذا الموضوع، وكان الكتاب الثاني الذي خرج إلى النور في العام 2004م بعنوان «القوة الناعمة... وسائل النجاح في السياسة الدولية» هو الأكثر وضوحًا وتطورًا في شرح القدرة على الجذب والتأثير دون الحاجة لاستخدام القوة. 
وقد تم تفعيل هذا المفهوم في مجالات عدة، كان أولها الثقافة والعمل الإنساني الخيري ولعب دور الوسيط، وقد تنامى العمل في تلك المجالات بشكل مدروس واتسع ليشمل مجالات أخرى، مثل الفن والرياضة، اللذين أوصلا اسم الكويت لأماكن بعيدة لم يكن بالإمكان الوصول إليها دون وجود تربة صالحة وبيئة عمل صحية تقوم على الجهود المخلصة والعقول النيرة.

الثقافة... البوابة الأولى للعمل 
لقد كانت الثقافة مدخل الكويت الرئيس إلى ساحة العمل العربي، ولعل استضافتها للمؤتمر الرابع لاتحاد الأدباء والكتاب العرب في ديسمبر من العام 1958م خير مثال على ما ذهبنا إليه، فهي، أي الكويت، لم تنل حينذاك استقلالها الذي تم في العام 1961م، لكنها عملت جاهدة ومنذ وقت طويل على تأسيس البنى الجادة لمؤسسات الدولة، مثل جهاز البلدية الذي أُسس في العام 1930م، وقد حرصنا على ذكر البلدية لأنها تعكس بشكل كبير مقدار الجدية في التنظيم والاستفادة من تجارب الدول الأخرى، التي اطلعت عليها بفضل نشاطها التجاري البحري.
وأعقب إنشاء جهاز البلدية بست سنوات، تأسيس مجلس المعارف للإشراف على العملية التعليمية من كل جوانبها، ليكون ذلك المجلس بمنزلة النقلة النوعية من مرحلة «الكتاتيب» إلى مرحلة التعليم النظامي الممنهج، تلك النهضة التعليمية زاد زخمها مع تحسن مداخيل الكويت من بيع النفط في الخمسينيات من القرن الماضي، مما ساهم في بناء المزيد من المدارس وجلب أفضل المعلمين من البلدان العربية، وهو ما ضاعف من شريحة المتعلمين التي لم تكن مقصورة على الذكور فقط، بل شملت الإناث معهم جنبًا إلى جنب. 
لقد تحولت تلك الدوائر الحكومية إلى وزارات فور إعلان استقلال دولة الكويت،  ومن بينها دائرة المطبوعات والنشر التـــــي تحولـــــت إلى وزارة الإرشاد والأنباء، كما تم انتخاب المجلس التأسيسي تمهيدًا لوضع دستور الكويت الذي تم إنجازه في 11 نوفمبر من العام 1962م.
وعند الحديث عن التطور في الكويت لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه موقعها في تشكيل وعيها بما يدور حولها في العالم، وساهم نشاطها التجاري البحري في تطور الثقافة فيها من خلال الاحتكاك مع الثقافات الأخرى، ومن أهمها الهند التي كانت تقبع تحت الاحتلال الإنجليزي آنذاك، ذلك الموقع المميز جعل الكويت محطة بارزة في طريق التجارة البرية بين منطقة الخليج وبلاد الشام. 
 
إعلان وجود 
وفي نفس السياق المتعلق بانعقاد المؤتمر الرابع لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، تزامنت تلك المناسبة مع صدور العدد الأول من مجلة العربي، كمؤشر مهم على  تطلعات الكويت نحو الوجود على الساحة الثقافية العربية كعضو لا يطلب شرف المشاركة فقط، لكنه يريد تحقيق إضافة نوعية لما هو موجود، والمنافسة على مهمة تشكيل الوعي العربي الذي خرج للتو من مرحلة الاستعمار وبدأ في رحلة مع أشكال متنوعة من الأفكار والتطلعات والتجارب الحديثة في كل شيء تقريبًا، بالإضافة إلى الأدب والاقتصاد والوحدة والعلم والعمل والدولة والمواطنة والمرأة والهوية، وسلسلة لا تنتهي من العناوين التي كانت الوحدة العربية في مقدمتها.
لقد كان العام 1958م عامًا مهمًا في إعلان وجود الكويت على الساحة الثقافية العربية، ولعل مجرد اتفاق الوفود العربية على التوجه لبلد يعتبر خارج نطاق ما يعرف بالمراكز الثقافية شهادة من الأدباء العرب على مكانة الأدباء الكويتيين، ودلالة على اتساع أفق أدباء ذلك العصر، الذين نظروا إلى أقطار الوطن العربي ككتلة واحدة.

حضور في الوفاق وغياب في الخلاف
لقد تملكت الكويت قبل الاستقلال وبعده رغبة كبيرة في تحقيق المكانة العالية داخليًا وخارجيًا، وسعت إلى العمل المكثف داخل محيطها العربي والاندماج مع القضايا المصيرية السائدة آنذاك، خاصة أن بعض الدول، مثل الجزائر، كانت لا تزال تحت الاحتلال الفرنسي، وتأثرت الكويت كثيرًا بالقومية العربية وآمنت بها، وظلت وفية للفكرة وكرستها في المادة الأولى من دستور 1962م، التي تنص «الكويت دولة عربية مستقلة ذات سيادة تامة، ولا يجوز النزول عن سيادتها أو التخلي عن أي جزء من أراضيها. وشعب الكويت جزء من الأمة العربية»، وذلك حتى يتوارثها الأبناء جيلًا بعد جيل. 
كان أفضل ما قامت به الكويت في هذا المجال هو تقديم المساعدات المتنوعة للدول العربية، التي كانت بحاجة ماسة إلى الدعم، ولعب دور الوسيط حين تعصف الخلافات بين العرب، سواء بين الدول أو داخل أبناء الوطن الواحد، وفي هذين المجالين تحديدًا لم تتوقف الكويت عن لعب هذا الدور وحتى كتابة هذه الأسطر.
ويمكننا أن نلخص تلك السياسة بالقول إن الكويت برعت في أن تكون طرفًا بأي عملية وفاق واتفاق، وبعيدة كل البعد عن الدخول كطرف في أي خلاف، وخصوصًا بين أشقائها العرب.
 
قفزات تتجاوز الحدود المعتادة 
الحديث عن القوة الناعمة لم ينتهِ بعد، وهنا تجدر الإشارة قليلًا إلى أن الأدوار التي تلعبها الكويت ليست في مجملها رسمية، ذلك لأن طبيعة النظام السياسي فيها تتمتع بهامش كبير لحركة مؤسسات المجتمع المدني والجهود الفردية في شتى المجالات، لذلك نجد أن لدينا ثلاثة أنماط من العمل الذي يعزز القوة الناعمة القادمة من الكويت، رسمي وأهلي وشراكة بين هذين القطاعين، وخير مثال على ذلك جمعية الهلال الأحمر الكويتي التي أُسست في العام 1966م كجمعية نفع غير حكومية، يقوم عملها الإنساني على التنسيق مع الحكومة الكويتية في كثير من الأنشطة كإغاثة المنكوبين وتقديم المساعدات الطبية وغيرها في جميع أرجاء العالم. 
الكويت التي لا تعدو أن تكون حيًا صغيرًا في الصين، تنافس منتخبها لكرة القدم، وتفوز عليه مرات عدة، وفي العصر الذهبي للكرة الكويتية نجحت كأول منتخب عربي في قارة آسيا يفوز بكأس آسيا العام 1980م، وهذا السبق تكرر في التأهل لأولمبياد موسكو 1980م، والتأهل إلى كأس العام في إسبانيا 1982م، والسجل الرياضي للكويت لا يتوقف عند كرة القدم فقط، ففي كرة اليد أيضًا تسيدت الكويت قارة آسيا مرات عدة، لكن كرة القدم دومًا شعبيتها هي الأكثر. 
أما من خلال بوابة الفن، فلم يغادر الإبداع الكويتي منصات التأثير خليجيًا وعربيًا في المسرح والتلفزيون والإذاعة، وخليجيا يأتي المسرح والأعمال التلفزيونية الكويتية في المقدمة، وبرغم كل التقلبات والمصاعب تبرز طاقات إبداعية فردية وجماعية تتطلع إلى تحقيق قفزات فنية تتجاوز الحدود الجغرافية المعتادة، لتحفر اسم الكويت في أبعاد جديدة. 

مناخات النقاش والنقد 
هذا الكم من المتغيرات التي تجتاح العالم، في تدفق المعلومات والأفكار الجديدة أو القديمة (المخيفة)، التي عادت لتسود العالم بخطاب تفكيكي يحرص على نبذ الآخر، لا بد أنه فرض الكثير من التحديات على الدول التي تتطلع إلى العالم برغبة صادقة لأن يكون مكانًا أفضل للعيش. 
ويظل المشروع الكويتي للنهضة بمنزلة عملية مستمرة لا يمكن لها أن تتوقف، والعودة للحديث عن منجزات الماضي مفيدة بحدود الرغبة في التقييم والمراجعة، أما الاسترجاع بهدف الاكتفاء فلن يؤدي سوى إلى تنامي الشعور بالاكتفاء والتجمد.
لقد أسست الكويت لنفسها كل أسباب التقدم نحو الأمام، وجهود المراجعة والتقييم بقيت متواصلة على الأصعدة كافة، ومناخات النقاش والنقد لم تزل موجودة بحثًا عن الأفضل. وعلى الصعيد الثقافي فقط أكتفي بذكر الندوة الرئيسية التي أقيمت قبل سنتين في مهرجان القرين الثقافي الـ 24 بعنوان «اقتصاديات الثقافة العربية... دور الكويت الثقافي في تنمية المعرفة»، وتضمنت الكثير من الرؤى والتجارب ومشاريع العمل التي تحتاج إلى تفعيل. 
إن الثقافة ركن أساسي في بناء الكويت، ومن الضروري أن تبقى كذلك، لأن الثقافة تجمع ولا تفرق، ولأنها منحت الكويت حضورًا على الساحتين العربية والدولية يفوق مساحتها الجغرافية مرات عدة.