أعياد الكويت في جوار عاصف

أعياد الكويت في جوار عاصف

في شهر فبراير من كل عام، تتجمّل الكويت احتفالًا بأعياد الاستقلال وذكرى التحرير، وقد جاءت المناسبتان، الأولى عيد الاستقلال في يوم 25 فبراير بانتهاء الحماية البريطانية التي بدأت عام 1899، والثانية يوم التحرير 26 فبراير، حين تلاشى ما تبقّى من جيش صدام حسين الذي جاء محتلًا عابثًا وناهبًا ومسيئًا، بعد هزيمته من جيش التحالف الدولي الذي حشده مجلس الأمن لتحرير الكويت بعد عملية غدر من رئيس جمهورية العراق، الذي لقي عقابه في عام 2006 بعد تحرير العراق من مجموعة التحكّم التي أسسها صدام. 

بنى شعب الكويت دولة متحضّرة على أرض طاردة ينقصها الماء والغذاء، جوّها صعب في حرارته، جافّ في مشاعره، ليس فيها ما يُغري بالبقاء، سوى الميناء الطبيعي الذي استنفر كل طاقات سكان الكويت آنذاك ليستخرجوا فنون البقاء من أعماق البحر.
صاغ سكان الكويت رواية عجيبة في تفاصيلها، مثيرة في مغامراتها، خطيرة في معايشتها، وبخيلة في حصادها، كانت رواية شعب شيّد أسطولًا بحريًّا يهزم به صعوبة البحر، ليصل إلى سواحل إيران وشواطئ الهند، ويعبر إلى شرق إفريقيا، متحديًا محيط الهند، ومدركًا لاحتمالات الضياع والغرق في مياه المحيط.
بدأ فصل الرواية في آخر القرن الثامن عشر، بعد أن تسيّد الكويتيون صناعة السفن وأتقنوا قواعدها وروّضوا تعقيداتها وسخّروا كل ما فيها للإبحار من أجل العيش والبقاء.
جاءت نهاية حياة الاعتماد على البحر عام 1950 تقريبًا، مع اكتشاف كميات من النفط للتصدير، فهجر أهل الكويت البحر نحو اليابسة منخرطين في سجّلات شركة نفط الكويت كقوة عاملة مع توسّع الشركة في احتياجاتها لقوى عاملة.
وصار البحّار الكويتي يحصد في شهر واحد ما كان يحصّل في اثني عشر شهرًا، متحاشيًا مخاطر البحر، وآمنًا في حياته الجديدة، معتمدًا على دخل ثابت وبحياة مطمئنة.
لم يأت في بال الكويتيين الذين تعايشوا مع عواصف البحر وتقلّباته، أن تتعرّض حياتهم للمضايقات والتدخلات من حكومة العراق التي أخذها الإعجاب بما أنجزه الكويتيون، فبدأت في مضايقتهم بادعاءاتها أحيانًا بجزء من أراضيهم، وأحيانًا بكل أراضيهم.
كانت البداية لا تخلو من التهذيب واللطافة الأخوية، مع الاستعانة بوَهم التاريخ، كانت فترة العقلاء في حكم العراق، وانتهى فصل الملاطفة مع الانقلاب العسكري المدمر عام 1958، الذي شوّه تاريخ العراق بالمذبحة التي كانت من نصيب الهاشميين، ثم اتّسعت لتكون من نصيب كل أطياف الشعب العراقي في عهد صدام.

ردّ قاطع
مع استقلال الكويت عام 1961، فجّرت الأطماع العراقية ادّعاءات عبدالكريم قاسم متصورًا الكويت محافظة عراقية وشعبها امتدادًا لسكان البصرة.
جاء الرد من شعب الكويت سريعًا رافضًا وقاطعًا بالتصميم على حماية الهوية الكويتية التي نبتت من كفاح البحر وصبر الصحراء، وضيق الجزر ومتاعب العطش، ومن اعتزاز ببناء وطن من لا شيء، وتشييد دولة اتّسع وجودها في عواصم العالم، ودوّنت سجلًا إنسانيًا في العطاء واستنارة العقل، وفي التفاعل مع كل الناس ومن كلّ الملل وفي جميع القارات عبر مؤسسات دبلوماسية ومالية وحوارات صداقة ومواقع ثقة من دول العالم ومؤسساته. 
لم تفهم أجهزة الحكم في العراق عمق الجذور الوطنية التي يختزنها المواطن عشقًا لأرضه وتفانيًا لتربته ووفاء لإنجاز نادر حققه المؤسسون. 
لم تأت الكويت كوطن من أرض سكنتها أمم سابقة أو من حضارات متنوعة أو من تراث استثمره السابقون، فالكويت صناعة الكويتيين، الأوّلون وضعوا أساسها وأبناؤهم عمروها، وأحفادهم أخذوها إلى حيث يلتقي العالم، فتفاهموا مع مختلف الشعوب وتبنّوا أدبيات العالم في الحوارات وفي الدبلوماسية، واقتبسوا من قواميس الأمم الكثير من منابع المعرفة في التعامل الأخلاقي في فنون إدارة الدولة، وانسجموا مع التجمعات السنوية لقيادات العالم في محيط الأمم المتحدة، وتناقشوا في المنتديات المالية حول وسائل مساعدة الفقراء في الدول النامية، وعرفوا ما يضايق البشرية وما يهدّدها وما تريده من أمن وسلام، وما يجب أن يقدموه لهذه البشرية من مساهمات ومن سخاء تأكد حجمه مع ارتفاع سعر النفط العالمي. 

رواية فريدة
رواية الكويت فريدة في منابعها ومشوقة في تطورها ومؤلمة في متاعبها وقاسية في نتائجها، لاسيّما خلال تجربة الكويتيين مع الغزو الذي جاء إلى الكويت سهلًا، ليس تقصيرًا، وإنّما لأنهم لم يتعاملوا مطلقًا بالكذب مع أحد، ولم يتصوّروا أن ينزل خصمهم إلى القاع في الغدر واللؤم.
يسجل الفريق رعد الحمداني، الذي أشرف على احتلال الكويت العاصمة، في حواراته مع د. حميد عبدالله في سجلات التاريخ التي يجريها مع كبار المسؤولين السابقين في جهاز صدام، أن الكويتيين فوجئوا بوصول الجيش العراقي إلى العاصمة، وأنهم ظنوا أن العملية مناورة مشتركة وباتفاق مع حكومة الكويت، سجلّ واقعي، لكن الصحيح الآخر أنهم رفضوا كل الادّعاءات وقاوموا كل الإغراءات، واعترضوا على كل الخطوات، وأكدوا ولاءهم للنظام السياسي الذي يقول الفريق الحمداني إن الغزو جاء ليقضي عليه، ولم يخرج واحد منهم للمهادنة أو السكوت عن الاحتلال. 
والسرّ في ذلك أن الكويت بناها الكويتيون ونجحوا في دفع العالم ليهبّ لتحريرها، ويخلّصها من الحكم الجاهلي الدموي الذي تمكّن من العراق بالذبح وبالإعدامات، فلا يوجد شريك آخر سجله التاريخ له دور في بناء الكويت، لم يكن هناك شعب سكن الأرض قبلهم، لم يعِش فيها سكان لأنها لا تعطي، وجوّها لا يرحم، ليست مثل العراق أرض السواد، كما يسميها العرب السابقون، وليست مثل الشام بما فيها من إغراءات، هي بحر صامت، جاء من تناغم مع هذا الصمت ويحوّله إلى منتدى بسكان ونظام حكم ودستور وشعب يقول بأعلى صوته ما يريده، ويقاضي حكومته، وجمعيات أهلية ونظام اجتماعي سخيّ يوفر للمستحق حياة كريمة. 

خيوط عامة
من شريط الغزو بكل خيوطه المجهول منها والمعلوم، ومن الدروس المستوحاة من عذاب الاحتلال، وضع الكويتيون خيوطًا عامة للدبلوماسية التي تدير شؤونهم مع العالم، وجوهرها الحوار والتواصل والتفاهم في الاحتياجات المتبادلة، والمشاركة في استحقاقات السلام، وفي مقتضيات توفير الحياة الكريمة للشعوب النامية، ويتم ذلك كله وفق نظام دستوري يستوعب العولمة وقواعدها في وحدة الأمن وضرورات السلام.
وتتشكّل تلك الخيوط وفق ما يلي:
أولًا: دعم مجلس التعاون الخليجي وتعزيز مسيرته وتقوية مؤسساته وتفعيلها، واعتبارها من أبرز أعمدة الأمن والاستقرار، وإحاطته برعاية اعتمادًا على أن دبلوماسية دول الخليج وجغرافيّتها هي العامل التي تستند إليه الكويت في تحقيق العمق الجغرافي. 
ثانيًا: الوجود الفعّال المؤثر في الشأن العربي، بالمشاركة في صياغة القرارات العربية، بكل خطوطها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والوفاء لهذه القرارات بالتنفيذ والمتابعة والحرص على امتثال الجميع لها. 
ثالثًا: الابتعاد عن محاور الخلافات العربية، والنأي عن التكتلات، ومراعاة الحياد الفعال للتوسط وبذل الجهد لتخفيف التوترات والتواصل مع أطراف النزاعات من أجل تطويقها والإسهام في حلولها بما يمكن توفيره من لوجستيكيات واستضافات ومساعدات. 
رابعًا: التحرك نحو مواقع الخلافات عبر الدبلوماسية الاستباقية، وما تعنيه من انطلاق الجهود لاحتواء الخلافات وتطويقها قبل استفحالها، استكمالًا لما كانت تقوم به الكويت قبل الغزو في الدعوة إلى تحقيق دبلوماسية الوفاق والتوافق.

دور إيجابي
خامسًا: الإصرار على الالتزام العربي بمحتوى القرارات التي تتخذها القمم العربية بتأكيد سلامة كل دولة عربية واحترام حدودها وهويّتها وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية وحلّ الخلافات بالحوار والتفاهم، ورفض التلويح بالقوة أو اللجوء إليها، مع إجراءات جماعية تتخذ بالدولة التي تتحدى هذه المبادئ. 
سادسًا: تؤكد الكويت أهمية البعد الإسلامي متمثلًا في منظمة المؤتمر الإسلامي، مستذكرةً الدور الإيجابي لهذه المجموعة الإسلامية في دعم الكويت والدفاع عنها خلال الغزو وبعده، والاستفادة من اتساع الذراع الإسلامية، سواء في الكويت أو في مجلس التعاون وخارجه، مع حيوية الدبلوماسية الكويتية في الإسهام بنزع فتيل الخلافات، وتأكيد الدعم الاقتصادي ثنائيًا وعبر المؤسسات المتخصصة.
سابعًا: الاتساع في دبلوماسية التنمية بمزيد من الوجود عبر صندوق التنمية، وتوفير الإسهامات للدول الإسلامية المحتاجة في البنية التحتية والمشاريع الصحية والمعيشية ومجالات التعليم، مع تقدير للتفهّم والتعاطف الذي أظهرته هذه الدول الفقيرة خلال فترة الغزو وبعده. 
ثامنًا: الاهتمام بقضايا الإقليم، والإسهام في معالجة المشاكل الإقليمية قبل انفجارها، مع تأكيد تواصل الحوار والاتصال مع إيران بما يدفعها نحو تفهُّم الوضع الإقليمي، واحترام نظام الحدود المتوارث، والبُعد عن الطموحات الأيديولوجية التي أوجدتها في لبنان وسورية واليمن وتأثيراتها في الإضرار بالأمن الإقليمي.

دبلوماسية ناعمة
تاسعًا: تدعيم العلاقات مع التجمعات الإقليمية المنتشرة، لاسيما الاتحاد الأوربي الذي يضم دولًا مؤثرة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وتعميق الترابط دبلوماسيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وتشجيع جميع الأطراف للتوصل إلى اتفاق تجاري بين مجلس التعاون والاتحاد الأوربي، والحفاظ على حرارة العلاقات مع مختلف الأعضاء داخل المنظومة الأوربية، ومع مجموعة آسيان ومنظمة الوحدة الإفريقية. 
عاشرًا: التوسع في ساحة الدبلوماسية الناعمة بدعم توجهات مجلس الأمة في تنمية الدبلوماسية البرلمانية مع مختلف الدول، وتأكيد أهمية تبادل الزيارات البرلمانية، مع إبراز الموقع المميز للكويت في مسار التنمية والإسهامات الإنسانية.
أحد عشر: تأكيد الترابط الاستراتيجي مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة، انطلاقًا من واقع الكويت الأمني في حاجتها إلى مناصرة أمنية عسكرية تعزّز قدرتها للدفاع عن أراضيها والحفاظ على سلامتها واستقرارها وسيادتها، مستذكرة الخصوصية التاريخية التي تربطها مع بريطانيا، ومستفيدة من التوافق العام، لاسيما في المجال الاقتصادي مع الولايات المتحدة، وترسيخ القناعة بهذا الواقع. 
اثنا عشر: التوسع في أذرع الدبلوماسية الناعمة بالحضور المتواصل داخل المنظمات العالمية والمؤسسات المالية والتجمعات ذات الاختصاصات، مثل الرياضة وشؤون الثقافة والإعلام، مع الحرص على متابعة التجمعات الأهلية والمنتديات الاقتصادية والحوارات ذات التميّز في مختلف العواصم.
وأختم هذا المقال بالتذكير بحقيقة لا يمكن استذكار دروس الغزو دون إبراز واقعها، وهي ما ذكره الفريق الركن رعد الحمداني في مقابلته الثالثة مع د. حميد عبدالله في برنامج تسجيل لتاريخ العراق الحديث، والحمداني هو الذي احتل مدينة الكويت يوم الثاني من أغسطس 1990، يذكر هذه الشهادة للتاريخ أن صدام استدعى في شهر سبتمبر 1994 قيادات الفرق المختلفة من الحرس الجمهوري، وطلب منهم غزو الكويت ثانية.
ويضيف الحمداني أن مجموعة الضباط أكدت له عدم قدرة الجيش العراقي على ذلك، بعد أن تعرّض للضرب المتواصل من قوات التحالف، إضافة إلى الحصار، وأن صدام طلبه شخصيًا بعد 3 أيام، واجتمع به طالبًا منه تقديم المسبّبات لعدم قدرة الحرس الجمهوري على ذلك، فشرح له كل التفاصيل■

عروض الألعاب النارية في شهر فبراير من كل عام احتفالاً بالأعياد الوطنية الكويتية