«أميرة المجلات الثقافية» والقضية الفلسطينية  

«أميرة المجلات الثقافية» والقضية الفلسطينية  

تعود بدايات علاقتي وعشقي لأميرة المجلات العربية الثقافية (العربي)، التي تحتفل هذا العام بالذكرى الحادية والستين لميلادها الزاهر العطر، إلى سنّ مبكرة، حيث لم أكن قد أكملت بعد الثالثة عشرة من عمري، وكنتُ في السنة الأولى من المرحلة الإعدادية بالعام الدراسي 1966/1967. 


وباعتباري - إن صح القول - من الجيل المخضرم لفترة المدّ القومي، حيث تفتحت مداركي السياسية على الهزيع الأخير لأفوله بعد هزيمة 1967، وعلاوة أيضًا على استعانة مدرسي اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ بمجلة العربي في تبسيط وشرح دروس هذه المواد وتشويق الطلبة إليها، فإنّه شدّني بوجه خاص في هذه الفترة، بعد انتهاء العام الدراسي، غلاف العدد الصادر في أول يوليو 1967، أي بعد 3 أسابيع تقريبًا من انتهاء حرب الأيام الستة في 9 يونيو 1967.
 كانت صورة غلاف عدد يوليو 1967، على غير العادة، بالأبيض والأسود، لمجموعة طالبات في أعمار الزهور، حاملات رشاشات وهنّ ينزلن من أحد سلالم مدرستهن، وتحت هذه الصورة  كُتب: «عبأت سورية كلّ قواها وعبأت النساء، وهذا مثَل من طالبات مدرسة ثانوية تدرّبن على السلاح».
وهكذا كانت «العربي» متوافقة في وقت قياسي مع الحدث الجلل الطارئ الذي هزّ العرب من الخليج إلى المحيط. ومن هذا العدد أخذت علاقتي الغرامية مع «العربي» تشتد حتى هذا اليوم، وأنا أخطو نحو منتصف ستينيات عمري. 

مكانة خاصة
الغريب وأنا أتأمل اليوم تلك الفترة، فإنني أتعجب كيف أنه رغم ثراء مواد مجلة العربي الصغير المخصصة للأطفال، فإنها لم تكن تشدّني بقدر ما كانت تشدّني مواد المجلة الأخرى الثقافية المتنوعة، وخصوصًا استطلاعاتها للأقطار العربية، وملاحق هداياها مع إطلالة كل عام جديد. 
باتت المجلة تحتل في نفوسنا، نحن البحرينيين، مكانةً خاصة، ليس لما يجمع بين الشعبين الكويتي والبحريني من وشائج قوية متميزة فقط، بل ولأن استطلاع العدد الأول الذي دشّنت به ميلادها خصصته عن البحرين، علاوةً على أعداد كثيرة لاحقة. أما العدد الآخر المشابه لعدد يوليو 1967، والذي هو أيضًا من الأعداد العزيزة على قلبي، فقد صدر ونحن نترقّب بلهفة وشوق حرب التحرير لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي، ألا وهو العدد الصادر في مارس 1973، حيث اندلعت في خريف العام نفسه حرب أكتوبر 1973 بملحمة عبور الجيش المصري قناة السويس، وتحطيمه أسطورة خط بارليف للعدو الإسرائيلي، وكان غلاف العدد الملوّن لجنديين كويتيين مرابضين على أحد الخطوط الأمامية لقناة السويس، وتحت الصورة  كُتب هذا التعليق: «جنود الكويت عند خطّ النار على قناة السويس»، حيث خصص العدد استطلاعًا ميدانيًا لهذا الموضوع. 

ثوابت مبدئية
بطبيعة الحال، فإن مصدر اعتزازي بالعدد ليس لما تعبّر عنه صورة الغلاف والاستطلاع عن واحدة من صور التضامن العربي المشرقة في ذلك الزمان الجميل بالتضحية للقضية القومية المشتركة بالرجال الجنود لواحد من الجيوش العربية فحسب، بل ولأن هؤلاء الجنود البواسل خليجيون، وبالتحديد من دولة الكويت العربية العزيزة على قلوبنا نحن البحرينيين. 
والحال، وبرغم الجرح الكبير الغادر الذي أصابها في مطلع أغسطس عام 1990 من نظام دولة عربية جارة، هي العراق، والموقف الذي لا يقلّ غدرًا بوقوف بعض القيادات العربية معه، ومنها القيادة الفلسطينية آنذاك، التي قدّمت لها الكويت كل أشكال الدعم المالي، واحتضنت على أرضها بواكير تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، كما فتحت مدارسها وجامعتها ومستشفياتها مجانًا للإخوة الفلسطينيين، فإن هذا الجرح الغائر لم تتركه بعد تحريرها يؤثر البتة على ثوابتها المبدئية العروبية والإسلامية في نصرة القضية الفلسطينية وسائر القضايا القومية الأخرى، فقد استمرّت على امتداد ما يقرب من 3 عقود منذ تحريرها من الاحتلال الغاشم حتى يومنا هذا في دعم هذه القضية بكل أشكال الدعم  الممكنة، بما في ذلك مقاومة التطبيع شعبيًا ورسميًا.
 وبعد معاودة المجلة للصدور، نشرت استطلاعات عدّة عن فلسطين ومدنها والقضية الفلسطينية، ملتزمة بالنهج ذاته الذي سارت عليه في إصداراتها خلال فترة ما قبل الغزو منذ صدورها أواخر الخمسينيات، بنشر مقالات واستطلاعات متعددة عن فلسطين العربية وقضيتها العادلة. 

التزام صادق
والحق فإنه بفضل سياستها المبدئية التي التزمت بها التزامًا صادقًا لا تحيد عنه، منذ صدورها قبل أكثر من 60 عامًا، نحو القضية الفلسطينية وسائر قضايا العرب المصيرية، فضلًا عمّا تتميز به موادها من تنوّع في مختلف حقول العلم والثقافة والمعرفة، فضلًا عن أنها تستكتب في صفحاتها أقلامًا لكبار المفكرين والكتّاب والمثقفين والأدباء والفنانين العرب من الأقطار العربية كافةً، فنالت «العربي» ثقة قرائها العرب على اختلاف مستوياتهم الثقافية وانتماءاتهم الفكرية والدينية، وتبوأت هذه المكانة المتميزة الرفيعة بين كل المجلات الثقافية العربية.
وإذ أحسبُ نفسي محظوظًا بحصولي على المجلد الأنيق الفاخر الذي أصدرته مكتبة الإسكندرية في عام 2008 بمناسبة مرور نصف قرن على صدورها، وكان ذلك بُعيد هذا الصدور أثناء حضوري أحد المؤتمرات التي عُقدت في هذه المكتبة العريقة، وإذ لاحظت أيضًا أن هذا الإصدار المتميز، إن لم يخطئ هاجسي، لم يوزّع على نطاق واسع في البلدان العربية، فإنّ الآمال تحدونا بقوة في أن تبادر كلتا الجهتين، مكتبة الإسكندرية وإدارة مجلة العربي، في أقرب مناسبة تريانها مواتية لتطوير هذا المجلد الثمين المميز بالتوسع فيه، ومن ثم إصداره كطبعة ثانية في حلّة قشيبة تكون تحت متناول كل قرائها وعشاقها من المحيط إلى الخليج.
والعُقبى لـ «العربي» لتطفئ ويطفئ أولادنا وأحفادنا شمعتها المئة■