انضمام العرب لمشروع «الحزام والطريق» ضرورة لا ترف

انضمام العرب لمشروع  «الحزام والطريق» ضرورة لا ترف

يعد طريق الحرير الجديد، أو ما يسمى بـ “الحزام والطريق”، هو أعظم مشاريع الصين الحديثة، وأكثر المشاريع تأثيرًا من الناحية الاقتصادية والجيوسياسية على مستوى الكوكب، إذ يمتد تأثيره على طول أكثر من 12 ألف كيلومتر، نافذًا عبر القارات الثلاث آسيا، وإفريقيا، وأوربا، ومارًّا بأكثر من 65 دولة يقطنها ما يقارب 61 في المئة من سكان العالم، فالمبادرة التي بدأت في عام 2014م كمشروع اقتصادي يوفّر للصين منافذ جديدة وسهلة لتصدير فائض إنتاجها الصناعي توسعت أكثر لتخدم أكثر من هدف من الأهداف الاستراتيجية لبكين، التي رأت أن المشروع يمكن أن يستوعب استثمارات مالية وغير مالية.

على مدى سعي الصين لتطوير مخططها هذا، فإنها تدرك أهمية الجغرافيا العربية، باعتبارها أحد أهم مصادر الطاقة، وأحد أكبر الأسواق الاستهلاكية للبضائع الصينية، ومن هذه الرؤية فإن المنطقة العربية موجودة ضمن أجندة المشروع ومخططاته منذ لحظته الأولى، فالمشروع الذي حمل جزءٌ منه اسم الطريق ــ في إشارة إلى طريق الحرير القديم المرتبط  تاريخيًا بالعرب، والذي بهتت معالمه بعد معركة نهر طلاس في عام 751م - تقدمه الصين الحديثة باعتباره مشروعًا قائمًا على مبدأ المصلحة المشتركة، إذ تستدعي الصين عناصر (التاريخ ــ الجغرافيا ــ المستقبل) في كل مناسبة تتحدث فيها مع العرب في قضية الطريق الجديد، فهي تستدعي تاريخها الذي يكاد يخلو تمامًا من أي مواجهة عسكرية (عربية ــ صينية)، والخالي أيضًا من أي طفرة استعمارية صينية للمنطقة، إضافة إلى التذكير بالمبدأ الكونفوشيوسي (النيّة الحسَنة)، ولا يخلو أي خطاب تقريبًا من الإشارة إلى أن الحزام والطريق ليسا سوى مواصلة رحلة الأدميرال الصيني الشهير تشنغ هو، مستكشف الطريق القديم، الذي أصرّ على ضرورة المسار السلمي والحرص على تشارُك المنفعة، كما تستدعي الجغرافيا باعتبارنا جميعًا شرقيين، وأن التقارب الثقافي والتاريخي يجعل من التعاون العربي ــ الصيني أمرًا أكثر سلاسة ومنفعة، وتستدعي المستقبل بتأكيداتها أنها تطمح لجعل النظام الدولي أكثر عدالة وتمثيلاً للمصالح المشتركة.

الخبرة الصينية
بالوقوف قليلًا أمام  المدى الزمني للسنوات الست المنقضية من مسيرة طريق الحرير، ندرك أن لدى الصين ما تقدمه لمنطقتنا العربية، فالخبرة الصينية الهائلة في مجال تشييد البنى التحتية، إضافة إلى الفائض المالي الناشئ عن ترجيح كفّتها بشكل كبير في الميزان التجاري، يمنحانها امتيازات تجعلنا أكثر رغبة في الاقتراب أكثر، خاصة بعد أن ترجمت هذه الميزات إلى مشاريع عملاقة نبتت على أكثر من رقعة جغرافية على طول مسار (الحزام والطريق)، بما جعل من الواجب على صنّاع القرار العربي التعامل الجاد مع هكذا مبادرة، فالتمدد الجيوبولتيكي لطريق الحرير الجديد بقدر ما يحمل فرصًا حقيقية ومتاحة لتحقيق مكاسب مستقبلية سياسيًا واقتصاديًا، إذا تم استثماره كما يجب، فإنه يحمل العكس إذا تم إهماله أو التعامل معه بآليات غير مدروسة وغير محسوبة آنيًا واستراتيجيًا.
فالحزام والطريق الذي تراه الصين مسارًا إجباريًا في إطار سعيها إلى ابتكار مسارات بحريّة وبرية لمنتجاتها بعيدًا عن العين الأمريكية التي ترصد حاليًا أكثر من 70 في المئة من الصادرات الصينية، لأن أغلبها يمرّ عبر المحيط الهادي الذي تتسيّده الولايات المتحدة؛ استفز الإدارة الأمريكية ودفعها باتجاه التواصل أكثر مع الدول المستهدفة، وهذا الأمر يجعل من دول منطقتنا العربية أكثر أهمية في نظر الطرفين، بما يمنح حكومات المنطقة نقاط قوة أكثر عند إدارة أيّ مفاوضات أو عقد اتفاقات.

عروض مغرية
 للحزام والطريق ميزة تجعل إمكانية الاستفادة منه متاحة لكل المنطقة العربية، فلدينا دول تفتقر جدًا لبنى تحتية حديثة وعاجلة، وبآلية مناسبة يمكنها تحقيق ذلك دون الوقوع في مصيدة الديون التي تتحول بعد ذلك إلى شكل من أشكال فقدان السيادة، وهذا ما تحاول مبادرة «الحزام والطريق» تسويقه عبر ذراعها المالية (البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية)، وهو المؤسسة الصينية التي افتتحت في أكتوبر 2019م برأسمال يتجاوز 700 مليار يوان، ويقدّم عروضًا مغرية جدًا ضمن مشروع الصين الكبير، خاصة إذا تمت مقارنة عروضه مع عروض عملاقي الإقراض الدوليين؛ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولدينا أيضًا دول ذات فائض مالي جيد، وهو ما يغري الصين أيضًا، باعتبارها تبحث عن تدعيم وجودها في السوق العربية، خاصة بعد اندلاع الحرب التجارية (الأمريكية – الصينية) مع تولّي الإدارة الأمريكية الحالية في البيت الأبيض مقاليد الأمور. 
هذه المعطيات وغيرها تجعل من ضرورة التعامل العربي مع المشروع الصيني حتمية، وباحترافية تجمع بين تجاوز “فوبيا الصين” التي تحرص الولايات المتحدة على نفخ روحها بين فترة وأخرى، وبين الحسابات الدقيقة لكل الإغراءات والعروض التي تقدّمها الصين.
وبدراسة مشروع الحزام والطريق في مرحلته الأولى 2014 ــ 2019م نجد أنه يحمل الكثير من الحوافز التي تجعلنا أكثر حماسًا للاقتراب أكثر، فالرقمنة والاقتصادات التشاركية التي يتبناها المشروع تكشفان عن مسارات غير تقليدية لاقتصادات المستقبل القريب والقريب جدًا ربما، وبيانات نمو التجارة الرقمية ضمن دول الحزام خلال السنوات الأربع الأخيرة حققت نسب نمو مذهلة، وعند مقارنة هذه النسب بنظيراتها لدى منطقتنا العربية نكتشف أننا ما زلنا بعيدين عن اقتصاد المستقبل الذي بدأ الآخرون في المضيّ فيه، وباستثناء تذاكر السفر والحجز الفندقي لم تسجّل البيانات العربية رقمًا يُذكر في التبادل التجاري الإلكتروني.

ثورة إنتاجية
بمقارنة طاجيكستان كأعلى دول الحزام استفادة من التجارة الإلكترونية مع عُمان، أعلى دولة عربية استفادة من التجارة الإلكترونية، نجد فارقًا تصل نسبته إلى 950: 100، وهذه النسبة وحدها كفيلة بأن نقف أمامها أكثر إذا ما عرفنا أن الصين (أكبر مصدّر إلى منطقتنا) تمنح تخفيضًا يصل إلى 30 في المئة من قيمة جمارك البضائع المشتراة إلكترونيًا، كما أنّها رفعت كثيرًا من القيود عن التجار الصينيين لإرسال بضائعهم ذات العقود التجارية الإلكترونية، مع توفير أكبر منصات التجارة الإلكترونية التي توفّر مبدأ الضمان الجمعي للبائع والمشتري؛ حيث تعمل هذه المنصة كوسيط وضامن لكلٍّ من البائع والمشتري. 
كما أن ربط المصالح ببعضها البعض يجعل الأمن القومي للدول المرتبطة أمرًا مشتركًا أيضًا، وربط الأمن القومي العربي، ولو جزئيًا، بأمن الصين القومي ليس أمرًا سيئًا.
ومهما كانت الحسابات والمصالح متقاطعة، فإن كون الاقتصاد الصيني تمكّن من خلق ثورة إنتاجية، وأسهم بشكل هائل في تضخيم التبادلات التجارية، وكذلك الاقتراب الصيني من المنطقة، فالإطلالة الصينية على بحرنا العربي من ميناء غوادر الباكستاني الاستراتيجي لن تكون الأخيرة، وكل هذه المستجدات تجعلنا أمام مرحلة يجب فيها إعادة طباعة الكثير من الملفات السياسية والتحالفات إذا ما أردنا العيش في إطار العهد القادم، الذي تكاد ملامحه تتضح، ودخول الكوكب في حقبته تتسارع بمعدل أكبر بكثير من استعداداتنا للتعامل مع هذا الدخول■

المنطقة العربية أحد أكبر الأسواق الاستهلاكية للبضائع الصينية