البناء السردي وتطوُره لدى عبدالسلام العجيلي

البناء السردي وتطوُره لدى عبدالسلام العجيلي

موضوع هذه الدراسة هو «البناء السردي وتطوّره لدى عبدالسلام العجيلي»، (1918 – 2006)، وسوف يقتصر البحث على البناء السردي الروائي لديه. أصدر العجيلي ثماني روايات هي: «باسمة بين الدُموع» (1959)، «قلوب على الأسلاك» (1974)، «ألوان الحب الثلاثة» (بالاشتراك مع أنور  قصباتي) (1975)، «أزاهير تشرين المدماة» (1977)، «عيادة في الريف» (1978)، «المغمورون» (1979)، «أرض السياد» (1998)، «أجملهن» (2001). وإذ لم يكن ممكنًا دراسة ثماني روايات، في دراسة محدودة عدد الصفحات، اتخذنا الرواية الثانية: «قلوب على الأسلاك» والرواية الأخيرة: «أجملهن» أنموذجًا، ذلك أن تقديم معرفة مقارنة بالبناء السردي لهاتين الروايتين، اللتين تمثّل كلٌ منهما مرحلة من مراحل تطوُر السرد لدى العجيلي، تتيح معرفة خصائص هذا البناء وتطوُره في الوقت نفسه.

نحاول، بدايةً، التعرُف إلى تجربة العجيلي الحياتية الروائية التي أملت البناء السردي الروائي لديه.
يقول العجيلي في هذا الشأن: الحياة التي أعيشها هي مصدر المادة القصصية لقصصي، «فأنا أغرف من منابع كثيرة في الحياة»، و«أحاسيسي هي التي تسيطر عليّ، أرفدها بالتجربة وظروف العمل».
وإن كان العجيلي قد شبع من الحياة بكل ما فيها، كما يقول، فإن تجربته الحياتية غنيّة جدًا، على المستويين الشخصي والاجتماعي الوطني، فـ «القضايا العامة، من محليّة وقومية وإنسانية، تنفذ إليه مع خبزه اليومي»، فقد كان، كما هو معروف، طبيبًا، وطبيبًا شعبيًا، يرى أن عيادته هي المكان الأثير لديه.
قال: «إن لي سفارة تنتظرني في الرقّة، إنها عيادتي»، وسياسيًا: نائبًا ووزيرًا ومتطوعًا في حرب فلسطين، وعينا من أعيان مدينته وملاكيها، وشاعرًا وقاصًّا وروائيًا ومحاضرًا وكاتب مقالات ورحالة يكتب أدب رحلات.
وتجربته، في كتابة القص، طويلة، بدأت منذ عام 1936، حين نشر قصة قصيرة عنوانها «نومان»، في مجلة الرسالة المصرية واستمرت منذ هذا العام حتى قبيل وفاته. وقد بدأ ينشر القصص مع فؤاد الشايب وشكيب الجابري وعلي خلقي ومحمد النجار وليان ديراني، روّاد القص الأوائل في سورية، وإن كان هؤلاء قد توقّفوا عن الكتابة، فإنّه أكمل الكتابة، كما قلنا حتى قبيل وفاته. وقد وصفه نزار قباني بقوله: «أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته البادية».

منظوران أساسيان
تمثُل هذه التجربة نصوصًا قصصية من منظورين أساسيين، هما:
ــ من منظور النقد الأدبي: في تمثُل هذه التجربة نصوصًا قصصية، يقول وليد إخلاصي: «لقد خرج العجيلي من عمق الصحراء السُورية نقيًا كذرّات الرمال فيها، وما لبثت روحه أن تفتقت عن حكواتي يشهد على عصره». ويضيف إخلاصي: إنه حكواتي عصري، وواحد من أهم البنّائين لصرح الأدب الحكائي في الثقافة العربية.
ويرى محمد أبو معتوق أن العجيلي استطاع «أن يؤسس ملامح السّرد التقليدي ودعائمه في سورية، من قصة ورواية...». يتفق جان غولميه مع أبي معتوق، فيقول: «غوته وستاندال وفلوبير أسماء أعلام في الأدب مشهورة، وعبدالسلام العجيلي يستحق أن يشبه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكية هؤلاء».
العجيلي، إذًا، من منظور النقد الأدبي، في رأي أول، حكواتي معاصر يشهد على عصره وأحد أهم البنائين لصرح الأدب الحكائي في الثقافة العربية، وفي رأيٍ ثانٍ كاتب رواية تقليدية مؤسس لهذا النوع من الرواية، في سورية، ويشبه أعلام كتّاب الرواية التقليدية الأوربيين.
المشترك بين هذين الرأيين، هو أن العجيلي كاتب قصة يشهد على عصره ومؤسس لنوع من القص، فما هو نوع هذا القص؟ هل هو حكاية أو رواية تقليدية؟ في الإجابة عن هذين السؤالين، نقول: هنا يتمثّل الاختلاف، فالرواية التقليدية ليست حكاية، وكلٌ منهما نوع قصصي مختلف عن الآخر، وهذا أمر معروف لا داعي للتفصيل في شأنه. والسُؤال الذي يُطرح هنا هو: هل البناء السردي الروائي لروايات العجيلي بناء حكائي أو بناء رواية تقليدية، أو بناء سردي روائي مختلف؟

هواية ومتعة
من منظور العجيلي، في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، نحاول أن نتبيّن إجابته نفسه عنه، من نحوٍ أول، وإجابة نصّه الروائي من نحوٍ ثانٍ.
يقول العجيلي: إن الأدب عنده هواية ومتعة، وليس احترافًا، ومع هذا، فهو يملك الصفة الأساس في الأديب الحقيقي الكبير، وهي عيش تجربة الكتابة الانفعالية التلقائية التي لا تتيح له أن يرتاح إلا بعد أن ينطق بها أو يكتبها. 
ويقول في هذا الشأن: «كان همّي الأول، منذ بداياتي الأدبية، هو أن أنفث ما في صدري من إحساس، وما أفكّر به، فأكتبه وأستريح كل الراحة حينما أضع ما أفكر فيه، وما أحسُ به على الورق ويُنشر».
ويبدو واضحًا لقارئ رواياته أن كتابته تتّخذ شكل الحديث، وهو يعي ذلك، فيقول: كتابتي نوع من الحديث، وأنا متحدث من الدرجة الأولى.
وإن كانت التجربة لا تدعه يرتاح إلّا بعد أن يكتب قصصًا يتخذ شكل الحديث الممتع، فإن صاحب هذه التجربة المتحدث، كما يقول، لم يتخذ مذهبًا معينًا في كتابة القصة، وإنّما ترك للقصص التي يكتبها أن تحدد مذهبه، ولهذا يكون مذهبه أصيلًا لم يأت لا من تقليد ولا من اتباع، ويأبى على نفسه أن يقلد نفسه، وأن يقلد أحدًا من الكتاب الكبار.
فالقاصُ، كما يقول، هو من يخلق «الموضة» ولا يقلّدها، لأنه يكتب متخيله هو الذي لا يكون مصدر تعب وجهد، وإنّما مصدر متعة، وهذا يعني أن العجيلي خالق «موضة» قصصية، لا متبع «موضة».

صاحب طريقة خاصة
 يفيد ما سبق أن تجربة العيش؛ بمختلف مكوناتها، هي التي تُملي النص القصصي لدى العجيلي، وهو نصٌ متخيل أصيل يتصف بصفات الحديث القصصي العربي القديم الطلي الممتع. وهذا يعني أنه ليس حكاية ولا قصًا يقلّد القص الأوربي التقليدي.. فماذا هو إذًا؟
يقول في وصف عملية إنتاج القص لديه: ما فعلته هو أنّي أدخلت نفسي في رواية الوقائع، فتحدثت عنها بطريقتي، «عشت بخيالي أحداث تلك الوقائع، وعايشتها، نقلت ما عايشته وتخيلته... أكثر التفاصيل من نسج خيالي القصصي...، لأوحي للقارئ بمغزى واضح أو مضمر يثير فيه تفكيرًا...».
تتمثل عناصـر هذه العمليــة فيمــا يأتــي: 1 - تتمُ العملية من منظور ذاتي، 2 - معايشة وقائع الحياة، 3 - تخيُّل الحدث القصصي منها، 4 - رواية هذا الحدث بطريقته، 5 - اتخاذ الرواية شكل الحديث الطلي، 6 - الموحي بدلالة واضحة أو مضمرة تثير تفكير المتلقي.
وهذا يعني أن العجيلي صاحب طريقة/ «موضة» كما ذكرنا قبل قليل - في تشكيل البناء السردي، فكيف تمثّلت هذه الطريقة، في روايتين من رواياته، تمثّل كل منهما مرحلة من مراحل تشكيل هذا البناء؟

في بناء رواية قلوب على الأسلاك
مادة هذه الرواية الأولية، أو حكايتها، هي: يسافر الشاب الريفي عبدالمجيد عمران إلى أوربا ليتخصص في الهندسة، ويعود إلى سورية مهندسًا، فيعمل في مجال تخصُصه مدة، ثم يؤسس «مؤسسة عمران للهندسة والإنشاءات والتعهدات».
سرعان ما نجحت المؤسسة، وتوسعت في داخل البلاد وخارجها، وغدا صاحبها من كبار رجال الأعمال، ولديه الوسطاء، ومنهم نهاد، زوجة حليم، التي كانت تستقبل في صالونها، كبار رجال الطبقة الثرية ونساءها، والسياسيين ومنهم زكي بيه، عين القاهرة في دمشق، والمثقفين، وتُعقد الصفقات في هذا الصالون، ويكون لها ولزوجها نصيب من العمولات.
يسعى عبدالمجيد إلى تنفيذ مشروع تلفريك يربط ساحة الأمويين في دمشق بجبل قاسيون، يعاونه موظفو شركته، ومنهم محام اسمه إسماعيل وزوجته صفية، يُقتل هذا المحامي في حادث سير.
وإذ يشعر صاحب شركة عمران بأن الوضع السياسي الاجتماعي آيل إلى انقلاب، يُحْضر ابن أخيه طارق من القرية، ليكون خلفًا له. يأتي هذا، وهو شاعر، ويعمل في المؤسسة، وينشئ علاقات مع طبقة رجال الأعمال، ومع أربع نساء هنّ: هدى سكرتيرة عمه وخطيبته غير المعلنة، وأختها الطالبة ماجدة، ونهاد صاحبة الصالون، وصفية زوجة المحامي الذي قتل في حادث سيارة، كما ينشئ علاقات مع الطبقة الشعبية، المتمثلة برواد المقاهي الشعبية، ولا يلبث الانقلاب الذي توقّعه العم، وهو الانفصال، أن يحدث، ويحدث قبله وبعده، ما يسمّيه بالهروب الكبير؛ إذ كان العم قد خرج بأمواله، ويعود هو إلى قريته ليهرب إلى الكتابة.

إثارة وتشويق
تبدأ الرواية بتصديرين: أوّلهما يكتبه الناشر، يفيد بأن الرواية هي رواية غرامية، والهدف منه الإثارة والتشويق، غير أن قراءة الرواية تفيد بأن ما يقدمه هذا التصدير من معلومات غير صحيح، إضافة إلى أن القضية المركزية، في الرواية، ليست الغرام، وإنّما قضية أخرى سنتحدث عنها في سياق البحث.
وثانيهما ما يكتبه طالب عمران الشخصية الرئيسية في الرواية، ويعرف نفسه بأنّه ليس روائيًا، وإنّما شاعر، كما يصنفه بعضهم، يفيد بأن ذاكرته تملي وقائع حياته الشخصية التي جرت في دمشق، أول الربيع وأوائل الصيف سنة 1961، وأن ما كتبه يشبه الرواية، ويفتقد العناصر الفنية للقصة، وليس فيه عقدة قصصية، ولا حبكة الروايات، وإنما هو أحداث سردها، كما تسرد الحياة اليومية، لا تبعد عن الواقع كثيرًا، ولا تنطبق عليه تمام الانطباق (ص7).
يمكن القول: إن وظيفة هذا التصدير، في البناء الروائي، هي الإقناع بواقعية الأحداث وصدقيتها، وتعريف المنظور الذي تُروى منه، وهو منظور شاعر، إضافة إلى أنه ليس في هذه الرواية من عقدة قصصية، أو حبكة روائية، كما في الرواية التقليدية، وإنّما يوجد بناء سردي روائي مختلف لا تنطبق أحداثه على أحداث الواقع تمام الانطباق، مما يعني أن هذا التصدير يمثّل عنصرًا من عناصر البناء السردي الروائي، ويؤدي الوظائف التي تم ذكرها.
ليس، في هذه الرواية، من عقدة أو حبكة كما في الرواية التقليدية، وإنّما نظام ظهور خاص للوحدات القصصية، يمكن تبيُّنه كما يأتي: تتألف الرواية من جزأين، ويتألف كلُ جزء من مقاطع مرقمة.

عنوان دالٌ
يبدأ الجزء الأول بوصول طالب عمران إلى مدينة دمشق، أي في الوقت الذي قرر فيه العم توريث ابن أخيه، والخروج من المدينة، وتنتهي بوقوع الانقلاب والهروب الكبير، وهو ما توقّع العم حصوله. وهذا يعني أمرين: أولهما البدء من زمن قربت فيه الحكاية من نهايتها، وهو زمن بلوغ الأحداث الأزمة، وثانيهما اقتصار زمن أحداث الرواية على أربعة أشهر، في حين بلغ زمن الحكاية سنوات عدة، مما أحدث مفارقة روائية، اقتضت استخدام تقنيات روائية لتقديم الأحداث التي تم تجاوزها، فتعاضدت مختلف المكونات لتشكّل بناء سرديًا روائيًا ينطق بالدلالة.
أول هذه المكونات عنوان الرواية، وهو عنوان دالٌ على قضيتها المركزية، وينطق برؤية إليها، فـ «قلوب على الأسلاك»، تعبيرٌ دالٌ على تلك القلوب المعلّقة «بنياطها على تلك الأسلاك، تعبير شعري وصورة جميلة. أسلاك من فولاذ تمتدّ من قاسيون إلى ساحة الأمويين، وعليها قلوب حيّة، قلوب من لحم ودم، قلوب كل من له اهتمام، أو طمع، بمشروع التلفريك، من دمشق وبراغ وزيوريخ...» (ص 182).
تتعلّق قلوب طبقة أولي الأمر والأثرياء بأسـلاك مشــروع هـــو رمـــز دالٌ علـــى اهتمامات هذه الطبقة، فكلٌ من أصحاب هذه القلوب «يطلب صيدًا، لكنّ الشباك مختلفات» (ص 84).
وحليم وزوجته أنموذجان دالّان، فحليم «يركض وراء العمولة للمؤسسات الأخرى، يبحث عن الصّيد في كل مكان، ويدلي بهذا الصيد بسنّارة جذابة هي امرأته الفاضلة (ص 54)، وسنّارة هذه المرأة شخصيتها، فهي امرأة أثيرة الرُوح، ملائكية الحسن، شاعريّة الإحساس، تركض وراء العمولة، في صالونها، وفي ندوتها الشعرية، فيحوم حولها المعجبون وتحوم حولهم، وتستخدم هي كل ما تملكه من قدرات، ومن ذلك الشّعر.
ويحذو الآخرون حذوها، فالنساء، في صالونها، أدوات: «كنّ كتلة هلامية متداخلة، مزيجًا من الثغور القرمزية، والعيون الكحلية، والسواعد البضّة، لفتهن غمائم العطور، وأنوار الثُريات، فمــا تتميــز منهــن غيــر ربة البيــت (ص 50).

الهروب الكبير
ويرى العمُ، على سبيل المثال، أنّ الفن مجرد وسيلة، وأن الفن للكسب (ص 69)، ويطلب من ابن أخيه أن يوظّف «شاعريته» في «العمل»، من طريق علاقته بـ «نهاد».
وقد لا نبعد عن الصواب عندما نقول: إن تعلُق القلوب بـ «الأسلاك»، وليس بالوطن، هو ما أدى إلى الانقلاب والهروب الكبير.
في هذا الفضاء من صيد الذئاب، في غابة المجتمع، يحاول طالب عمران، وهو الحمل الوديع، ذو المزاج الشاعري، أن يوفّق بين طلبات عمه التي يدلُ عليها قوله له: «ستكون المكيافيلي الثعبان، النمر المفتــرس في غابـــة المجتمــع» (ص 111). وبين إرادته تحقيق شخصه ووجوده في هذا العالم الجديد (ص 45) الذي يجدّد فيه الثريّ سيارته مرتين في الشهر، ويجدد فيه الموظف نصف نعل حذائه ثلاث مرات في السنة (ص 394)، والذي تبدو فيه مشاكله السياسية «مثل كبّة الخيوط المتراكبة» (ص 388).
يدرك طالب أنه، وهو الفتى القروي الساذج، المحدود الاستيعاب، يحيا بين نهاد وترف حُسنها وثراء عيشها، وهدى ورفعة سلوكها وغرابة جمالها، وماجدة الفائرة الثائرة، وصفية التي أحبّها وخُدع بها، وفلسفة الدكتور الرائي إلى سفينة توشك على الغرق، و... (ص 310).

مرحلة مفصليّة
هذا العالم الغريب، وهو عالم مرحلة مفصليّة في تاريخ سورية الحديث، تكتب سيرته هذه الرواية، وقد قلنا إن وظيفة التصدير الثاني الإقناع بواقعية ما ترويه هذه الرواية وصدقيّته، وقد كرر الراوي ما جاء فيه، في نهاية الرواية، مقررًا أنه لا يريد أن يكون مؤرخًا، وإنما كاتبًا يهرب إلى الكتابة، في زمن الهروب الكبير (ص 429).
يصف جاك بيرك، في تقديمه لترجمة هذه الرواية إلى الفرنسية، تحت عنوان: «دمشق القطار المعلّق» بناءها بـ «التقليدي الضخم المحكم، والسيمفوني الزاخر بعشرات اللوحات والأحداث والمحاور».
نلحظ التقاط بيرك دلالة الرواية وصوغها في تعبير وضعه عنوانًا لها، فدمشق، كما بدت، في هذه الرواية، كانت مثل قطارٍ معلّق ينتظر تحديد وجهة سيره.
وإن كنّا نوافقه على أن بناءها محكم وسيمفوني زاخر بعشرات اللوحات والأحداث والمحاور، وعلى الدلالة التي ينطق بها العنوان الذي اختاره، فإننا نرى أنه بناء سرديٍ خاص يتصف بطلاوة الحديث/ الحكاية في التراث العربي، وبإحكام البناء التقليدي، وبخصائص تميزه، منها: مفارقة الزمن الروائي ما اقتضى استخدام الراوي، وهو الشخصية الرئيسية في الرواية تقنيات ما تم تجاوزه، واعتماد القطْع المقطعي الشبيه بالقطْع في الدراما التلفازية، واستخدام القفزات بين المقطع والآخر، وترك ملء الفراغات للقارئ، والوصف الخلّاق للمعنى، والحوار المنمّي السرد، والمؤدي وظيفتي الاسترجاع والاستباق، في كثير من الأحيان، والتناوب بين أداء الراوي للسردين الخارجي والداخلي.

تجربة غنيّة
قد نقول صوابًا عندما نقرر أنها طريقة العجيلي التي أملتها تجربته الحياتية الغنية التي تفيد من قصٍّ تراثي عربي، وقصٍ عربيٍ وعالميٍ وثقافة واسعة وشاملة. يقول بعضهم: إنها تقليدية متجددة. قد يكون هذا صحيحًا إن وضعنا خطًا تحت متجددة لنؤكد خصوصية العجيلي في التجديد.
واللافت أن العجيلي كتب هذه الرواية، بوصفه هاويًا، يقتنص أوقات فراغ قليلة ليكتب. يقول في هذا الشأن، في أحد حواراته: «قلوب على الأسلاك» رواية بدأتها منذ سبعة أعوام، وأتممت كتابة الجزء الأول منها، وبلغ نحوًا من ثلاثمئة صفحة، أعطني شهرين من الوقت، أكون فيه متفرغًا، أعطك الرواية كاملة، وإلا فإنها ستحتاج إلى سبعة أعوام أخرى، على الأقل كي تتم. ويذكر في الهامش أنّه أتمّها بعد إجراء هذا الحوار، ونُشرت سنة 1974. وهذا يعني أن طريقته التي وصفناها طريقة تلقائية أصيلة تُمليها التجربة الروائية الشخصية.

في بناء رواية «أجملهن»
مادة هذه الرواية الأولية، أو حكايتها هي: يلتقي المحامي سعيد، في إحدى رحلاته إلى أوربا، أستاذًا جامعيًا، هو البرفيسور لوك، يساعده في أمرٍ ما، وعندما يعود إلى دمشق، تزوره في مكتبه الراهبة الشابة ندى، لتطلب منه، بتوصية من ذلك الأستاذ، أن يساعدها في إجراء إعداد أطروحة جامعية عن بلدة قريبة من حلب، فيعرّفها بمحام زميل له، اسمه عبدالعزيز، فيساعدها هذا بتسهيل حصولها على المعلومات.
وفي الوقت الذي كادت فيه الراهبة تنتهي من جمع مادة البحث، يأتي عبدالعزيز اتصال هاتفي يطلب منه أن توقف تلك الراهبة عملها وإلّا... يتكرر التهديد، ثم يصلها هي تهديد في مدينة فرنسية توقفت فيها الطائرة التي تقلها إلى باريس، ثم تقتل في حادث سير.
يشعر المحامي سعيد بالذنب، لأنه لم يقم بما يجب لإنقاذ الراهبة، ثم يقوم برحلة إلى النمسا، ويلتقي بالفتاة سوزان، أجملهن، وينشئ معها علاقة تتطور إلى حبٍ متبادل. وفي أثناء تنقلهما في فيينا وسالزبورغ يروي لها قصة الراهبة متقطعة، في تناوب بينها وبين قصة الرحلة. 
وبعد أن يعود إلى دمشق يقرر، بعد استشارة صديقه عبدالعزيز، أن يتزوجها، ويرسل لها رسالة يُعلمها بذلك، فتخبره أنها، بعد وفاة أمها، نذرت نفسها لـ «يسوع»، وغدت راهبة.
يؤدي القص، في هذه الرواية، الراوي العليم، فينشئ بناءً سرديًا يتألف من ثلاثة فصول، يروي الأول منها الأحداث التي جرت في فيينا، ويروي الثاني الأحداث التي جرت في سالزبورغ، ويروي الثالث ما جرى بعد عودته واتخاذه قرار الزواج وإعلامه بقرارها دخول الدير.
ويتألف كل فصل من مقاطع مرقمة، يستخدم فيها الراوي تقنيتي القطع والقفزة، كما في رواية «قلوب...»، ما يذكّر ببناء الدراما التلفازية.

مفارقة زمنية
تبدأ الرواية بقول الراوي: «وأسند ظهره إلى جدار الكنيسة الآجري العالي، ورفع صوته، محدثًا نفسه قائلًا: حسنًا، ما دام الأمر هكذا، فلن أتعرّض، بعد الآن، إلا لأجملهن...» (ص 9).
يفيد هذا البدء بأن الراوي بدأ القص، ليس من بدء زمن الحكاية، بل من بدء زمن الرحلة الأخيرة، وهو زمن، كما تفيد قراءة الرواية، قصير لا يتجاوز الأيام الأربعة، وهذا ينشئ مفارقة زمنية بين الزمنين: زمن الحكاية وزمن الرواية، ما يقتضي استخدام تقنيات روائية لتقديم الأحداث التي تم تجاوزها. كما يفيد هذا البدء أن أحداثًا جرت قبل اتخاذ الشخصية قرارها بألا تتعرّض إلا لأجملهن، بقوله: «ما دام الأمر هكذا...».
يسأل القارئ: ما هو هذا الأمر؟ مما يعني إثارة اهتمامه وتشويقه، واستخدام تقنية الاسترجاع لتقديم ما حدث، فيسترجع لقاء فتاة يطلب منها أن ترافقه، فتعده إلى الغد عصرًا، ثم يسترجع ما حدث قبل ذلك، وهو لقاء فتاة طلب منها أن ترافقه، فتعده إلى الغد صباحًا، فيقرر: ما دام اللُطف طبعًا في فتيات هذه المدينة، وكان الجمال لهنّ طبيعةً، فلن يتعرّض إلا لأجملهن (ص 14).
يلتقي سوزان، أجملهن، تلبّي دعوته إلى المقهى، يتعارفان. وإذ تسأله: «لماذا تعرّضت لي أنا بالذات؟»، فيتبادر إلى ذهنه بيت شعر، فيقوله: «وقفتُ، غداة السفر، أعترض الدُمى/ فلم أرَ أحلى منك، في العين والقلب». تستغرب نطقه بلغة لا تعرفها، فيُترجم بيت الشعر لها، وتُعجب به، وهذا يدلُّ على ملمح من ملامح شخصية سعيد، فهو شاعر أو غاوي شعر (يتكرر الدال على هذا الملمح في الرواية. انظر: ص 23 و97 و138 و145). وهذا ملمح تبيّناه في شخصية عمران، الشخصية الرئيسية في رواية «قلوب...»، مما يذكّر بشخصية المؤلف الشاعر وغاوي الشعر.

قصة رحلة
يمضي القصُ خيطيًا فتعلن أنّها تحبُه، فيشعر بالفرح، ويبادلها الحب، وتتغير نظرته إليها، فبعدما كان يراها «دمية فاتنة الحسن» فحسب، غدت في نظره امرأة فاتنة الشخصية، بمختلف مكوناتها.
تسرع القفزات إيقاع القص، وينمّي الحوار مساره، ويقطع الاسترجاع والتذكر السرد، فيبطئ إيقاعه، كما حدث عندما ذهبا إلى «مارلينغ»، وأدار في ذهنه أحداث فيلم «مأساة مارلينغ» وتذكر انتحار ولي عهد النمسا (ص 28)، ويتمُ التناوب بين السردين الخارجي والداخلي، المتمثّل بحديث النفس، واسترجاع ما حدث وتأمُّله (انظر على سبيل المثال: ص 50 و62 و74 و94 و98). 
وإذ يؤدي الراوي قصة رحلة، فإنه يقدّم معرفة بالأماكن التي تتمُ زيارتها وبالأحداث البارزة التي جرت فيها، ما يضمن الرواية معلومات وحكايات (انظر على سبيل المثال: ص 56 و59 و60 و61 و132 و174)، ثمُ تحفز زيارة دير والتحدُث عن رهبانه وراهباته قص حكاية الراهبة ندى.
تتقطع رواية أحداث هذه الحكاية، وتتناوب مع رواية رحلة الحبيبين. يجيد الراوي القصّ، فيستخدم التناوب المحفز، والإرجاء المشوق (انظر على سبيل المثال: ص 55 و70 و88 و117)، والإعلان عن المفاجآت، كما يؤدي الحوار الكلام على قضايا اجتماعية، ومنها شرعية ممارسة الحب، فتقرر هي أن الحب هو ما يعطي هذه الشرعية (ص 105) وعلى قضايا دينية، فيتمُ تذكُر ما قاله الطيب عبدالعزيز، فتجد فيه شبهًا بما قاله باسكال (ص 114). ويلاحظ أن الراوي يتدخل، فيعلّق أو يشرح (انظر على سبيل المثال: ص 32 و39 و52 و61 و118).

تقنية الرسائل
في الفصل الثالث، يستخدم الراوي تقنية الرسائل، فنقرأ رسالتين، يرسل أولاهما الطبيب عبدالعزيز لصديقه سعيد يجيب بها عن رسالة أرسلها هذا الأخير له، يطلب نصيحته في موضوع زواجه من سوزان، فينصحه بألّا يترّدد في الزواج منها. وترسل ثانيتهما سوزان لتجيب عن رسالة أرسلها لها سعيد يطلب منها أن توافق على الزواج به، فتعتذر، وتخبره بأنها غدت راهبة.
فتقنية الرسائل هذه تقنية متميزة في أداء نهاية الرواية، تأتي بعد قفزة طويلة عن أحداث كثيرة يُترك للقارئ تخيُّلها، كما أنها تعرف مجاز الحذف الروائي، المتمثّل بحذف رسالة سعيد لصديقه ورسالته لحبيبته، وهذا يحرّك خيال القارئ لتخيُّل ما تم حذفه، وفي هذا، كما في التقنيات السابقة جعل الراوي القارئ شريكًا في إنتاج النص الروائي.

بناء سردي خاص محدد
وإذ يستخدم الراوي هذه التقنيات بشكل بناء سردي روائي جديد، يتّصف بخصائص دالة على تميُّز هذا البناء من البناء التقليدي، ومن البناء الحكائي، وعلى تطوُر واضح في طريقة الروائي الخاصة التي تبيّناها في رواية «قلوب...»، مما يتيح القول إن العجيلي صاحب طريقة خاصة في إقامة البناء السردي الروائي، وهي طريقة متطورة، فالعجيلي، كما يبدو، يتجاوز الآخر، ويتجاوز نفسه في آن.
كما أنها طريقة تضيف إلى طرائق القص التقليدية المتجددة تجديدًا خاصًا يسعى منشئه إلى أن يكون مشوقًا للقارئ، محركًا لخياله، ممتعًا له، يتيح له الفرصة إلى أن يشارك في الإبداع، فيكون بذلك القارئ المنتج الذي يتحدث عنه النقد المعاصر.

خاتمة
تم البحث، بهذه الدراسة، في «البناء السردي وتطوُره لدى عبدالسلام العجيلي»، فتمّ التعريف بدءًا بإصدارات العجيلي الروائية، واختيار روايتين من رواياته، هما: «قلوب على الأسلاك»، و«أجملهن»، ليكونا موضوعًا للبحث، بحسبان أن كلًا منهما تمثّل مرحلة من مراحل تطوّر البناء السردي لديه، ثم تعرّفنا إلى تجربته الحياتية الأدبية التي أملت نصوصه القصصية، وإلى تمثُل هذه التجربة نصوصًا قصصية، من منظورين: أولهما منظور النقد الأدبي، وثانيهما منظوره هو. وإذ تبيّن لنا أن العجيلي لا يتبع «موضة» ما ولا يقلدها، وإنما يبدع «موضة»، بوصفه صاحب طريقة، قدّمنا قراءة في الروايتين أفضت إلى تقرير نتيجة مفادها أن العجيلي صاحب طريقة في إقامة البناء السردي، تنشئ بناءً متميزًا ممتعًا يتيح للقارئ الفرصة في أن يشارك بإنتاج النص. وبيّنا، في سياق الدراسة خصائص هذا البناء التي تجعله سرديًا مجددًا■